المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ليلة هند الأخيرة



د. حسين علي محمد
12/06/2006, 07:22 AM
ليلة هند الأخيرة

قصة قصيرة، بقلم: د. حسين علي محمد
.....................................

نظرة حزينة تبدو في عيْنيْها، ترنو إلى ممدوح بحقد وكراهية .. يستبقها الحزن في ولوج دوائر مغلقة.

لحظات شاحبة تكتنفها .. تحوطها أكثر من علامة تعجُّب، لا تدري سبباً لها!

تكاد رأسها لا تستقر على إحساس واحد!

تعبث أصابعُها بشعر رأسها .. أسود وناعم .. لكنها تحس به إحساساً مُغايراً الآن فقد تخللته بعض الشعيرات البيض .. لم تضع الصبغة منذ عشرين يوماً .. كأن شعرها صار عارها .. أحست كأنه أسلاك هاتف عانت في العراء طويلاً من الصدأ والمطر وبيض الذباب!

هل هذا شعرك الجميل الذي كنت ترينه فخرك وسر جمالك؟

تحسُّ بصداعٍ يكاد يفلق رأسها، وبنهر ألمٍ يتدفّق في عينها اليسرى.

سترك يا كريم!!

هل من حقي أن أبحث عن الستر الآن؟!!

نظرت في المرآة فوجدت عينيها ملتهبتيْن!

أجّلت الرحيل إلى القرية، حيث الدار الكبيرة التي تعيش فيها أرملة أخيها إلى صباح الغد.

أرادت أن تُحدِّث ممدوحاً عن نفسها، وعن شوقها إلى العودة إلى القرية التي تركتها من ثلاثة عشر عاماً، وتلاشت في المدينة الكبيرة .. أرادت أن تكلمه لأول مرة .. ليتعرّف على مشاعرها .. مرة واحدةً .. لكنها أبعدت الفكرة، وقالت: ما فائدة المعرفة؟

ضحكت هند ضحكة ميتة الروح!.

كيف يكون الآخر جحيمك، وكيف تكون الكلمة سيفاً تقتل وتسفك الدماء؟! .. هاهي أختها قالت لها أمس في لحظة غضب، عندما زارتها، لتجلس معها ومع ابنيها فترةً تنعم فيها بالدفء العائلي:

ـ ظللتِ طول عمرك ساقطة وسافلةً، فهل تتوبين الآن قبل أن تموتي .. فيقبل اللهُ توبتك؟!

كانتا فرعي شجرة، وافترقتا!

تعلمت «عائشة»، وحصلت على بكالوريوس تجارة، وتزوجت وأنجبت ولديْن: أحدهما في الصف السادس الابتدائي والثاني في الرابع.

أورقت شجرتُها ..

أما شجرة «هند» فلم تثمر إلا الشوك والحنظل!

أين الحب والتآزر والرحمة بينهما؟

الكلمات تنفذ في أعماقها كالخنجر.

هاهو ممدوح ينام سعيداً بفتوِّته المهراقة على فراشه الوثير.

هل تذكِّره ببداية السقوط؟.

قال لها ممدوح (في سخرية ذات صباح):

ـ ما هذا الذي تفعلين يا هند؟! .. أراك تُصلين؟!

لماذا يخشى هذا الخرتيت من صلاتها المتقطعة، وهي لا تكاد تصلي إلا الصبح والعشاء؟!! ..

فلتعذرني يا ممدوح .. لم أشعر بالسقوط إلا أمس بعد كلام شقيقتي!

كأننا لا نسقط إلا إذا عرف الناس سقوطنا!

ضحكت عليَّ ـ يا أستاذ ممدوح ـ أول مرة .. وقلت سأتزوجك، زواجاً كزواج الناس، ولكنه بلا عقد ولا شهود ولا ولي! .. يكفي أنني أحبك وأنت تحبينني .. الزواج اختيار، بعد حب .. أليس كذلك؟

أخي الوحيد اعتبرني ميتة .. لأني تزوجتُ بدون علمه! كيف لو عرف أني أعيش مع ممدوح بلا زواج؟! .. ليتني رأيته قبل موته في حادث مروري منذ شهرين!

مرت السنوات معك يا ممدوح! .. الأولى والثانية والثالثة ... والثالثة عشرة!

تعبتِ من العدِّ يا هند!

هل كان هذا الزواج (أو بالأصح هذا السقوط) من مصلحتك ومصلحتي؟! .. أم كان وبالاً عليَّ وعليك؟!!

الثانية هي الإجابة الصحيحة بكلِّ تأكيد!

هاأنت مفصول من عملك منذ شهرٍ تقريباً!

اتهمك السادات ـ وأنت الأستاذ بكلية الزراعة ـ أنك من رموز الفساد الجامعي، اتهمك بإفساد الطلاب، وأخرجك إلى وظيفة إدارية بوزارة الزراعة.

.. أليس من الأفضل أن تصدق معي مرة واحدةً؟!.

هل نحن زوجان؟ .. وإذا كنا زوجين فلماذا أصررت على عدم الإنجاب مني؟ .. ولماذا صار زواجنا عقيماً بلا ثمرات؟

لقد قتلتني يا ممدوح بكلماتك:

ـ أنت مازلت مراهقة يا هند! .. وماذا تريدين من الزواج أكثر مما نحن عليه الآن؟ .. ألا يكفي أننا نعيش معاً من ثلاثة عشر عاماً؟

ـ إننا نعيش هكذا من عام 67.. بلا عقد ولا شهود!

ـ ألسنا متزوجين؟

ـ نعم .. زواج بلا وثيقة زواج، ولا شهود، ولا فرح!

أخلى للتعجب مكاناً في تعابير وجهه السمين الأسمر المجعّد:

ـ لقد فرحنا بما فيه الكفاية، طوال عقد ونصف من السنوات الجميلة!

ـ لم أفرح أبداً.

ـ أية أفكار مجنونة تُطاردك الآن يا هند؟!

ـ أنا أقترب الآن من السادسة والثلاثين! .. ولم أنجب بعد .. وأريد أن يكون زواجاً شرعيا لأنجب طفلاً!

ـ ماذا تقصدين؟

ـ أن نذهب إلى المأذون .. بحضور أختي عائشة، وأن نكتب وثيقة أدعها عندها!

قال في ثورة حاول أن يداريها:

ـ هل جُننتِ؟

ردت بشدة:

ـ وهل الذي يُطالب بالشرع مجنون؟

قال وهو يمزج كلامه بسخرية مرة:

ـ أنت بعدُ مازلتِ صغيرة؟

قالت كأنها تتوسل:

ـ أريد الستر يا ممدوح .. وأن نعيش مثل الناس .. عيشة يرضاها الله ورسوله .. فربما تُغفر لنا خطايانا، ولو كانت مثل زبد البحر!

ـ الناس متخلفون يا هند! .. وقلت لك قبل أن نعيش معاً: سارتر يعيش مع رفيقته بلا زواج!

ـ أذكر .. قلت لي هذا في مارس 67 قبل الهزيمة!

ـ حينما زار مصر زيارة رسمية مع عشيقته سيمون دي بوفوار .. والجميع يعرفون ذلك!

نعم، وهو ذلك الوقت التعيس الذي عشنا فيه معاً في شقة واحدة بلا زواج!

ـ ماذا تقصد بالجميع؟

ـ الذين دعوْه من المسؤولين وصناع القرار، والذين احتفوْا به من القراء!!

ـ وما علاقتنا بسارتر؟!

ـ ألسنا مثقفين كبيريْن مثلهما يا هند، ونقرأ أعمالهما بلذة وجنون، وكنا ممّن حضر محاضراتهما حينما كنا ندرس أنا وأنت في باريس في أوائل الستينيات؟!

قالت في نفسها:

ـ النقاش غير مجد معك .. وأنت يجب أن تموت بيديَّ .. هذه هي العدالة المطلقة.

انفعل لما سمع جملتها الأخيرة .. قال:

ـ أية عدالة مطلقة يا هند؟!

ـ ...

صرخ في وجهها:

ـ أنتِ لست أكثر من طفلة صغيرة لم تفهمي الوجودية التي ظللنا طوال عمرنا نبحث عنها، وندرسها، ونطبقها.

وكأنه يُخاطب نفسه:

ـ هل هذه هند .. التي كنتُ أشعر معها بالسعادة طوال ثلاثة عشر عاماً؟!



إنها تشعر بعذاب لم تجربه من قبل.

يكاد يقتلها السؤال:

ـ كيف عشتُ معه كل هذه السنوات بلا عقد زواج؟ ..

هل أصبحتِ بلا دين يا هند؟!! .. هل عشت معه كل هذه السنوات عاهرة؟! .. ألا تخشين سخط الله وعذابه؟! .. وكيف عشتِ في هذه الغيبوبة مع هذا المجرم كل هذه السنوات؟

لماذا لم تُراجعي نفسك من قبل وأنت أستاذة الفلسفة في الجامعة؟، ولماذا مشيت وراء هذا الكلب العاهر؟! .. لقد كفرت بالوجودية وكفرت بماركس، لكن كفرك بهما جاء متأخراً .. كان ينبغي أن تُراجعي نفسك بعد علاقتك الآثمة به بثلاثة أشهر، وليس ثلاثة عشر عاماً .. منذ ضُربتْ الطائرات في صباح الخامس من يونيو الحزين وهي رابضة في المطارات! ولم تقم بطلعة واحدة. فلماذا تعيشين السقوط مع ممدوح؟!

.. نسيتِ الصلاة كل هذه السنوات، ثم عدت لتتذكّريها في فرضيْن فقط: الصبح والعشاء؟!!

تكاد رأسها تنفجر!

تعرّفت عليه في باريس في أوائل الستينيات .. فأحببته .. وكانت حياتي غير الطبيعية معه سلسلة من العذاب والإخفاق، تتخللها لحظات من المتعة التي يعقبها العذاب.

إنه شيطان كبير.

هل هو الذي كان وراء تركي العرض الذي قدمته لي جامعة السربون للعمل بها .. والتحاقي بجماعات التمرد التي سارت وراء سارتر كالقطيع؟

ابتسمت ابتسامة حزينة، وهي تقول لنفسها:

ـ إن الله غفور رحيم.

أخلت للشوق مكاناً في قلبها:

ـ هل يُقَدَّر لي أن أتوب .. وأن أُواظب على الصلاة .. وأذهب إلى الأراضي الحجازية لأحج أو أعتمر؟!!

....

.. في الصباح تسرب خط من الدماء من تحت الباب، وعلى باب الشقة كانت أصابع يد هند الخمس المضمّخة بالدم مازالت معلقة!

وعندما فاحت بعد يوميْن رائحة ممدوح النتنة، اتجهت هند إلى نقطة الشرطة في قريتها .. لتعترف بكل شيء!




الرياض 12/3/2006م