المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ما أجملها!‏



د. حسين علي محمد
12/06/2006, 07:17 AM
ما أجملها!‏

قصة قصيرة، بقلم: د. حسين علي محمد
.................................

هذا أول عيد فطر يقضيه في قريته بعد رحيل زوجته التي لم تكن تطيق مجرد ذكر اسم القرية!
أصبح «عدلي منصور» يقسم وقته بالعدل بين المنصورة (التي كان يعمل فيها وكيلاً لوزارة الزراعة) وقريته.
منذ ستة أشهر ماتت زوجته «آمال» التي لم يُعقِّب منها، فقرّر أن يعيد اتصاله بقريته.
كانت المرحومة تكره القرية، التي تمتلئ بالحفاء والبعوض، ولا تسمع فيها شيئاً «يسر القلب»، وتكره أخته الوحيدة «أم العز»، لأنها تحرضه على الزواج ـ قبل أن يمر العمر ـ لإنجاب وريث؛ يحمل اسم العائلة، ويرث الفدادين العشرة التي ورثها «عدلي» عن والده!
عاش مع المرحومة ثمانيةً وعشرين عاماً .. لم يكن يأخذ عليها إلا كراهيتها لقريته!
صلى العيد في المسجد وعاد إلى بيته القريب.
اكتشف وهو يُصافح الرجال بعد الصلاة أنه لا يعرف إلا القليل منهم، وأن الكثير من أبناء جيله، قد ذهبوا للعمل في الخارج، أو رحلوا من هذه الدنيا!
ظلَّ البيتُ مهجوراً ثمانيةً وعشرين عاماً .. أخيراً أحضر بعض الأثاث من الفيلا التي بناها في المنصورة إلى بيته في القرية، وصار يتردّد عليه .. في الأعياد المواسم والمناسبات الاجتماعية التي كان لا يحرص عليها أيام زوجته!
يُهاتف شقيقته «أم العز» وهو في المنصورة، فترسل ابنتها الموظفة بإدارة التربية والتعليم ـ والتي لم تتزوّج بعد ـ لتُجري لمسات على البيت قبل أن يجيء خالها وكيل الوزارة.
أربع حجرات واسعة يحتويها البيت، وحظيرة، ودورة مياه.
لا ينقصه ـ هو والبيت ـ كما تقول «أم العز» إلا امرأة تعتني بهما، وتُنجب له «الوريث»!
جلس وحيداً في الحجرة البحرية .. ورأى عصافير تتقافز فوق الشجرة العجوز التي زرعها والده أمام البيت منذ ثلاثين عاماً .. وفكر .. من الغد سيهتم ببعض الأشجار في حديقته الصغيرة التي زرعها ابن أخته.
لا أحد يمرُّ عليه .. أو يجلس معه.
بلمحة عابرة تذكّر أن هناك في البيت المقابل امرأة!
إنها «وردة»، ابنةُ خاله.
ما أجملها!
كانت القرية لا تعرفُ بنتاً أجمل منها.
كانت أجمل البنات الست في فصلنا في المدرسة الابتدائية .. أيام الأستاذ صابر عبد الحميد رحمة الله عليه!
كانت في مثل عمره، لكنها لم تُكمل تعليمها، لأنها تزوجت ابن عمها في الرابعة عشرة، وأنجبت له خمسة أولاد!
زوجها ـ ناظر المدرسة الثانوية السابق ـ مات من خمسة أعوامٍ تقريباً.
حدّث «عدلي» نفسه:
ـ إن «وردة» لن تنجب لك الوريث .. هي في الرابعة والستين، مثلك تماماً .. ابنها الصغير «عامر» في السنة الأولى بكلية الصيدلة!
ـ أولاد «وردة» تزوجوا جميعاً ولم يبق إلا «عامر»، وأصبحت المرأة وحيدة .. يمكنك أن تزورها بين الفينة والأخرى .. وتسترجعان ذكريات أيام الطفولة!
ـ أنت لن تتزوّجها! .. استشرها في أن تبحث لك عن امرأة في الخامسة والثلاثين .. لا يهم إن كانت بكراً أم عزبا!
ـ وما الضير في الزواج منها إذا كانت مازالت جميلة؟
...
شرب كوب الشاي في ثلاث جرعات .. اكتشف أنه بارد فقد أعدته «عايدة» ابنة أخته قبل صلاة العيد ..
في دقائق زار أخته وبعض الأقارب ليتخلّص من جملة واجبات أول أيام العيد .. ثم اتجه إلى بيت «وردة».
اكتشف أنها وحدها في البيت.
اقترب منها، صافحها.. قدّمت له بعض البسكويت والشاي. أضاءت الحجرة فاكتشف أنها بلا رقبة تقريباً، أصبحت بدينة جدا، غير قادرة على الحركة. وعرف أن ابنة جارتها هي التي أعدّت الشاي!
رحبت به ترحيباً حارا .. ولم تُنزل عينيها عن وجهه.
زمن؟!
هل يُكلمها عن رغبته في الزواج من امرأة متوسطة العمر؟
رأى أن أسنانها قد سقطت جميعاً، وحدّثته عن مرض السكر الذي أصابها، وكاد أن يضطرها إلى بتر رجلها اليمنى، ولكن الله ستر!
وحدّثته عن عقوق الأولاد، وأن أزواجهم أخذنهم إلى البلاد البعيدة ..
حاول النهوض فلم يستطع، أحس بثقل رجليه .. استأذنها في الرحيل، أمسكت يده وهي تُحاول الوقوف .. والبسمة تغمر وجهها.
عثرت رجله .. فوقع أمامها على الأرض .. وتعجّب عندما وجد أخته «أم العز» تُمسك يده محاولةً إقالته من عثرته!...‏

الرياض 1/10/2004م