المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : دَيْن



د.أسد محمد
07/06/2006, 05:59 PM
دَيْن














كانت يداه تمرر دفئا مستعارا من جيبه المثقوب ، سحب قماشته ونظر إليه في حالة من حسرة ظلت طي كتمانه الخاص << تفه ، اللعنة على أبو الحاجة وساعتها .. >> تمخط بطرف كمه ، وافتعل حركات أراد منها أن يتناسى ما هو عليه من ضيق .. أفرط في الضغط على نفسه ، ذبلت شفتاه وتبلد من تباين الأفكار العديدة التي أوحت له بضرورة التصرف قبل فوات الأوان ، انتصب قلقه فوق ساقين من تردد عبثي في أحشاء ضميره ، أزاح سؤالا كاويا حول الجدوى من الفضيلة ومعانيها ، وأعقبه بكلام ممزوج بتنهيدة : << نعم ، قبلت بنصف الفوائد ، لكنه يريد فائدة على الفوائد ، إنه ابن حفيانة ، وإذا لم أعطه ولا نكلة لا يستطيع فعل أي شيء ، ما في بيننا أي عقد يثبت له حقوقه عليّ ، لكن أنا زلمة صاحب ذمة وضمير .. وسأدفع له الدَّين ..! >>




في الوقت الضائع من محاكمة جدية وتأنيب للذات اتخذ قرارا فيه طعم الحنظل ، ثم استدار على جسد فكرة ، طحنها برحى التكرار ، ومضى باتجاه بيته بعدما كان قد اقترب من منزل الرجل الذي ديّنه ، انحرف ، ثم خطا خطوات وئيدة ، وكان عقله لا يزال معلقا إلى طرف هلوسة منعته من النوم طوال الليل ، وهي التي جعلته ينهض قبل أفول نجمة الصبح ، ويخرج من بيته خلسة كي لا يحس به أحد من أفراد عائلته ، الذين لا يعرفون عن أمر الدَّين أي شيء ، خاصة زوجته التي لا تتوانى كعادتها عن إثارة أسئلة حادة تزعجه ، وهو العارف جيدا بأمر المرابي الذي سيحضر هذا اليوم ويفضحه وسط الجميع إذا تأخر ساعة واحدة عن التسديد ..




وقف عند منعطف ينتصف المسافة بين بيته ومنزل الرجل ، استوقفته أفكار مستجدة ، ليست على الخاطر ولا البال ، وفيها رائحة شجاعة : << ليش أخفي هذا السر عن زوجتي ، صحيح أن الدين مشكلة لكنه ليس عيبا ، وسيفضحني إذا لم أرد له ما يريد ، العمه بعيونه خمسون بالمئة فائدة ، مبلغ كبير ، طيب شو عليه ، وليفضحني ، ما راح أردها له إلا على كيفي وكيف كيفي .. >>




أنزل يده عن صدغه الذي أحس بحرارة تقتات بداية نهاره وتحوله إلى عبد لوضع حرج أقحمه ولأول مرة في حياته أمام مشكلة من نوع الذل ، أحس بطعم العوز ومرارته ، اشتبك داخله مع تردد سقيم ، وانبرى يغمغم : << سأغير شرط الاتفاق الشفهي بيننا ، لن أدفع له الخمسين بالمئة فائدة ، راح أدفع له بس 25بالمئة ، عجبه أم لا .. فليضرب رأسه بالحيط ، تباً له ولأمثاله .. >>




اتسق فوق قامته ، شدّ صدره ليستند إلى بطنه المنفوخ ، حطت على كتفيه أنفة ، حزّم قراره بمزيد من التحدي وأحقيته باتخاذ مبادرة جادة باسم كافة المظلومين الذين يستغلهم هذا المرابي الخسيس " - ليش يفضحني ؟ أنا سأفضحه .. هو ما عنده شرف ولا كرامة ، سأعطيه حقه وحبة مسك ، لكن لن أتركه يضحك علي ّ وعلى غيري ..




- لا تكذب على نفسك ، أنت ما عندك ترد له الدين لذلك تراوغ مثل ثعلب بري .




- حتى 25بالمئة نسبة كبيرة ؟




- ما عندك أي شيء تدفعه له ، ولا قرش واحد ..




- إذا اتفقنا فسأرجع له المبلغ فورا ، أبيع قسم من القمح والتبن ، وأجوع أولادي ، بس أخلص ، آهههه.. أخلص منه..




- لن يصدقه أحد ، حتى ولو حاول تشويه سمعتي ، فأنا معروف بصدقي وسمعتي الطيبة ..




- لكنه فرّج كربتي ، ولازم أشكره ، وتفه على شوارب رجل أكل مالا حراما .."




انتبه إلى نفسه وهو يتمتم جملا أخرى ليس لها معنى ، ابتلع ريقه وأحس بجفاف صحراوي في فمه ، ووصل إلى طريق مسدودة ، وهو على مفترق متعدد الاحتمالات ، لا يعرف كيف يتصرف ، وماذا يفعل بالضبط .. ضرب يدا بيد ، ثم دعك جفنيه لإبعاد غشاوة ضباب هذا الصباح الطويل..




كان بجانب بيته ، وهو لا يزال بين مد إعادة المال وجزر عناده بتحدّي الرجل ، وعن غير قصد توارى خلف جدار جانبي ، مثل خائف من فعلة مشينة ، اقترب من زاوية ، واختفى فيها كفار من متتبع له ، جلس على حجر مرتفع عن الأرض ، تذكر أبو معروف الذي شاكس المرابي ولعنه أمام الناس ورفض أن يرجع له المبلغ رغم وجود عقد بينهما ، ويومها قال رجلٌ من القرية " إنهما مثل بعضهما البعض .." زادته هذه المقارنة غماً ، وحشر جسمه في الزاوية أكثر ، لكن ظله الذي تطاول بفعل صعود الشمس المقابلة له أثار حفيظته ، نظر حوله خشية أن يراه أحد وهو يتصبب عرقا..استند إلى الجدار بهدف تغيير وضعيته ، استفزته حركاته المضللة.. << إذا تصرفت كما يتصرف فيعني أنني أصبحت مثله >> .. بعد أخذ ورد ثقيلين على القلب قرر العودة للرجل والتفاهم معه ، وتعهد أمام الله وأمام نفسه بعدم تكرار ما حدث له أبدا .. عدّ سني عمره ، حتى وصل إلى الخامسة والخمسين ، لم يجد فيها ما يلوثها ، ولم يستدن خلالها قرشا واحدا .. همّ بالعودة ثانية إلى منزل الرجل ، غذ أولى خطواته في الأرض ، واستعجل الرجوع إليه ، بانت أمامه درب مكشوفة يكسوها الضوء الطالع من وراء ظلال أشجار قريبة ، صاحت زوجته الواقفة على سطح البيت الترابي ، وطلبت منه الحضور لأمر هام ..




عاد ووقف أمامها كتلميذ مقصر أمام أستاذه :




- رايح لعنده ؟




- لعند من ؟!




- ما في مشكلة ، جاء البارحة ، وما صادفك وطلب الدين..




كاد يسقط على الأرض ، ويحيل شحوبا فاضحا إلى ابتسامة ماكرة ، مع كل كلمة قالتها زوجته ، ازداد ارتباكا ، وبالغ في ردة فعله ، و بصمت ممزوج بوجع خفي.. قال : اللعنة على الشيطان .. إنها الحاجة يااااااا..!




تابعت زوجته بهدوء :




- أنت على حق .. لا تقلق ..




أخذت من عبها كيسا وناولته إياه ..




- تدبرت أمري ، وهذا هو المبلغ كاملا ، خذه إليه حالا ، قبل أن يدعي أنك تأخرت عنه ..




- أنا ما تأخرت ، هو كذاب وابن واطية .. واتفقنا ألا يخبر أحدا ..




وضعت يدها على فمه ، أسكتته ، وأضافت :




- ليس هذا هو الوقت للكلام ، الرجل ساعدنا ولازم نرد له الدّين ..




دسّت له المبلغ في جيبه ، أخذه ، وابتعد عنها مسرعا..