المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم



نيرفانا
04/06/2006, 08:12 PM
".. لم يكن دوستويفسكي هو كاتب القرن العشرين الأكثر عصرية ومتعة فحسب، بل ثمة كلالمبررات للافتراض بأن القرن الحادي والعشرين سيجري تحت رايات " الجريمة والعقاب" حسب رأي الكثيرين من النقاد والمحللين.‏".


إن لدوستويفسكي روحا ما زالت تتعذب في كل منا، وفي كل مرة نقرأ لهذا الرجل فكأننا نقوم بعملية استحضار لتلك الروح المعذبة، تغوص بنا في أعماق الإنسانية الكالحة، نسبر أغوار أنفسنا نحن، نخرج منها شبه مخنوقين، ولعلنا نصل إلى نتيجة سبقنا إليها بقوله " أنا إنسان مريض "! .
وكم كان -هذا الرجل المصروع - جريئا حين تكلم عن أكثر أفكاره شذوذا، ليثبت أن لاشيء أعمق من الإنسان، وأن البعض ،على علّاتهم، لا بأس بهم في النهاية!


في هذا الموضوع سنُنهض الروح الدوستويفسكية ذاتها ليس بأقلامنا بل بأقلام وعيون أولئك الذين كتبوا عنه مستهلين الحديث بسرد طويل ذو شجون لقصة حياته كما تقدمت روايته الأكثر خلودا " الجريمة والعقاب "، نسرد بعدها قراءات ومقالات أو حتى دراسات عن بعض رواياته الشهيرة، وملامح شخصياته المشهورة التي تحمل في طياتها ملامح العابرين به كوالدته المصدورة، أو والده السكير، ولعلنا نكمل حديثنا بتأثيره على الأدب العربي بصفة عامة...


يرى توماس مان أن دوستويفسكي هو "أول مبدع نفساني في الآداب العالمية على مر العصور"...‏
إن الاهتمام العالمي بإبداع دوستويفسكي ليس وليدالمصادفة. فهذا الإبداع يتميز باندفاع إنساني جارف وشعور عميق بالرأفة "بالمذلين والمهانين". إنه مامن شك في أن دوستويفسكي هو منشد الأمل وداعية لبث روح الثقة والإيمان بالإنسان. كما يرى كثير من النقاد بأنه مؤسس للتيارات الأدبية المتصلة بعلم النفس في القرن العشرين مستشهدين بذلك، بالفرويديين والوجوديين وغيرهم"..‏


سيبقى الأدب الروسي خالدا بكتّابه العظــام، وستبقــى بصمــاته مادام فينـا..

نيرفانا
04/06/2006, 08:20 PM
( المقدمة ) بقلم الدكتور فؤاد أيوب
من رواية ( الجريمة والعقاب ) مترجمة عن النص الروسي
ترجمة فايز نقش الكردي
الصادرة عن دار مكتبة الحياة





http://anoutsider.jeeran.com/Dostoyevsky.JPG





إن دوستويفسكي، هذا الذي ليس ما يعادل موهبته الفنية قوة إلا موهبة شكسبير وحده على حد تعبير غوركي، ليشكل بحد ذاته عالما شاسع الأرجاء، عميق الأغوار، متكامل العناصر، تضطرم وتتصارع فيه الأفكار والعواطف المتضاربة، أفكار أصبحت أقوى من البشر، بل ليس البشر أنفسهم إلا تجسيدا لها، وعواطف امتزج فيها الحب بالحقد، والكبرياء بالتواضع، والثورة بالاستسلام، والرحمة بالقسوة، والإيمان بالإلحاد، حتى ضاعت الحدود ما بينها فتداخلت وانصهرت. ههنا يكتشف المرء اللانهاية ، فيستولي عليه تلقاءها القنوط. هذا العالم لن يستطيع قط أن نسبر أغواره، إذ تسود قوة سحرية غريبة عنا، وهو يعرض علينا فكرة تضيع في لانهاية سديمية، ويبشرنا برسالة لعلها ليست موجهة إلينا في الأصل، فنحن نحار في فهم مغزاها.



وهكذا فإن انطباعنا البدائي حيال هذا العالم هو القنوط من جهة، والهلع من جهة أخرى. إلى أين يريد أن يقودنا هذا الإنسان، هذا العملاق، هذا المستنير، هذا النبي؟ لكننا إذا ما سرنا معه حتى خاتمة المطاف تحول انطباعنا الأول، البدئي والسطحي، على شعور جديد، شعور بالعظمة اللامحدودة. ذلك أننا سنكون قد حفرنا في أعماقنا في هذه الأثناء، فنستطيع أن نكتشف في هذه الأعماق، في خفاياها المطوية، الرباط الذي يجمعنا إليه. أجل، يجب أن نفعل مثله، أن ندفع حتى الحد الأقصى ما لا نجرؤ أن نبلغ به أكثر من منتصف الطريق، وأن ننحني أمام اللانهاية، وأن نتمرس بسائر صنوف العذاب التي تمرس بها، فنستطيع عندئذٍ أن نفهمه، أن نحبه.


ذلك أن مختلف أدوات التعذيب قد مزقت هذا الجسد البالي طوال ستين عاما، كما أن العوز الذي لا يرحم قد انتزع من صباه ومن شيخوخته جميعا كل عذوبة وكل نتفة من الهناءة. وكانت الرغبة تلتهمه في الوقت نفسه، وهي رغبة مزدوجة، روحية وجسدية معا، تنخسه مثل الإبر، وتتركه أبدا ظمآن لا يرتوي. ذلك هو القدر يطارده، يقسو عليه حتى درجة السخف، ولا يقسو عليه هذا الغرار إلا كي ينتزع الإبداع منه، ولا يفرط في إيلامه إلا ليجعله أهلا له وكفؤا.


وان الشك ليعذبه أيضا، وعلى الرغم من سائر جهوده ومحاولاته فإنه لن يعرف اليقين قط يخيل إليه، هو الذي يتعثر في الألم مع كل خطوة من خطواته، أن الله لا يعاقبه من أجل شكوكه إلا بسبب من محبته إياه. وهكذا فإنه لا يترك له لحظة واحدة من الراحة أو السعادة، بل يطارده أبدا على طريق اللانهاية. وإذا ما رق قلب القدر له يوما، فغض الطرف عنه برهة، وابتسمت الأيام له قليلا، فما ذلك غلا ليسرع فيقذف به من جديد بين الأشواك، ويدفعه نحو الحضيض، فاتحا عينيه أكثر فأكثر على اتساع اليأس والإشراق على حد سواء، ولن يرحمه قط إلا مع إغماضة الجفنين الأخيرة.>>

هذه القسوة الغزيرة بالمعاني تجعل من حياة دوستويفسكي أثرا فنيا قائما بذاته، ومن سيرته مأساة كاملة الفصول، بحيث لا تعدو مؤلفاته كلها أن تكون صورا متفرقة عن مصيره الذاتي. ولقد كانت البداية نفسها رمزا لهذه الحياة بمجموعها على حد تعبير ستيفان زفايج، إذ ولد فيودور ميخائيلوفيتش دوستويفسكي يوم الثلاثين من شهر تشرين الأول عام 1821 في مستشفى الفقراء في موسكو. وهكذا حدد له مكانه، منذ فتح عينيه للنور، في موضع خارج المجتمع، بين أولئك الذين هم موضع الازدراء، بين " المذلين والمهانين"، وفي اتصال دائم بالألم والموت جميعا. وهل المصير الإنساني برمته، في واقع الأمر، إلا تراكيب من الألم والموت.

كان أبوه طبيبا عسكريا معدما، إذا قيست الثروة بمقاييس تلك الأيام، ترك الخدمة ليعمل في مستشفى الفقراء، فنشأ الطفل في بيئة تعاني الضيق المادي، وفي جو تسيطر عليه روح الثكنة التي لم يستطع الأب، أو لم يحاول، التخلص منها. ولعله كان يعاني ضجرا خبيثا، ضجرا سببه العوز في المحل الأول، مما جعل أخلاقه شرسة قاسية، ومعاملته لزوجه وأولاده رديئة ظالمة. كان هذا الرجل يخجل من فقره، فيعيش وعائلته في انطواء على النفس يكاد يضعهم خارج حدود الحياة، فلا مسرح، ولا نزهات، ولا صداقات. وهكذا نشأ دوستويفسكي بعيدا عن كل احتكاك بالعالم الخارجي، محروما من الأصدقاء، ومن التجارب، ومن الحرية، إن الإناء مغلق بإحكام على هذه النبتة المتعطشة إلى الهواء، بحيث أن هذا الحرمان سيدمغه طوال حياته : " نحن جميعها قد فقدنا عادة الحياة" . أجل، إن دوستويفسكي لم يستطع فيما بعد أن يعتاد الحياة.

وأن حاجزا حديدا مشبكا ليفصل حديقة المنزل عن باحة المستشفى الواسعة حيث يتنزه المرضى في ساعات النهار، وقد ارتدوا مناماتهم وغطوا رؤوسهم بطاقيات قطنية. وكان فيودور يحب، متجاوزا في ذلك أوارم أبيه، أن يتعرف إلى هؤلاء المرضى، وأن يبادلهم الحديث من خلال الحاجز المشبك. إن هذه الإنسانية المعذبة القبيحة لا تنفره- وهل عرف الإنسانية حتى الآن إلا على هذه الصورة؟- بل تثير في قلبه حنانا وفضولا وتجتذبه إليها. أجل إن هذا البرجوازي الصغير المتوحد يسعى على صحبة هؤلاء الناس المقهورين- وهل أقهر من الفقر والمرض مجتمعين؟ - الخجولين، اليائسين، المرفوضين من قبل عالم لا يعرف عنه هو شيئا. ما هي مأساتهم يا ترى؟ وأي قدر ظالم رهيب أودى بهم على هذا الحال؟ وكيف يحسهم غير غرباء عنه، رغما عن فارق السن والوضع الاجتماعي؟ وكان الأب، إذا فاجأ ولده في صلته مع هؤلاء المساكين، يوبخه بشدة، بل يعاقبه بقسوة أحيانا.

هذه الطفولة المخنوقة لا يتحدث دوستويفسكي عنها مطلقا، ولا ريب أن هذا الصمت العنيد من قبله ينطوي على الخجل. بيد أننا نستطيع أن نلمس مشاعره الحقيقية من خلال أحاسيس أبطاله الصغار. لابد أنه كان مثل ( نيللي )، هذه الصبية المرهفة الحس حتى الدرجة القصوى، التي انتهى بها البؤس والحرمان والاضطهاد إلى الصرع فالموت، أو مثل ( أيليوتشكا ) ابن الكابتن السكير، الذي يخجل من بؤس عائلته، ومن تصرفات أبيه التي يمليها البؤس عليه، فيموت كمدا وقهرا. أو مثل ( كوليا )، هذا الفتى الناضج باكرا، الواسع الخيال، المتأجج رغبة في الصيرورة شيئا عظيما، المتشرب بذلك الهوس العنيف، هوس دوستويفسكي نفسه، الذي يريد من المرء أن يتجاوز نفسه كي يتألم مع الإنسانية بأسرها...


.

.


يتبــــع

نيرفانا
04/06/2006, 08:21 PM
ويهرب دوستويفسكي من ظلمات هذا العالم الحالك، ملتجئا إلى حيث يلتجئ عادة الناقمين، على الكتب. إنه يقرأ ليل نهار، ولا يرتوي له ظمأ، يلتهم ولتر سكوت، وديكنز، وجورج صاند، وهوغو، حالما بأروع المغامرات، بالسفر على البندقية، أو القسطنطينية، أو البلدان الشرقية النائية حيث الأسرار التي لا حلول لها، تراوده صور الانتصارات العظيمة، وعواطف الحب المتفاني.

وتموت أمه، مصدورة، عام 1837م ، فيفقد بفقدها سنده الروحي الوحيد في الحياة. وتجعل الحاجة منه جنديا فينتسب إلى مدرسة المهندسين بيد أنه لا يبرح، حتى في عالم الجندية الصاخب، منزويا بعيدا عن الناس. إن خجله المرضي، وما يؤدي إليه مثل هذا الخجل من حب مفرط للذات وانطواء متصل عليها، يبعد الرفاق عنه. إذ يلتهب شوقا إلى بذل الذات، إلى منحها لأول قادم، لكنه يعود منذ الوهلة الأولى فيتكوم على بعضه. إنه يخاف أن يعيش. وماذا يجمع لين هؤلاء الفتيان المرحين اللعوبين وبينه هو الذي تئيد كآبة ثقيلة على وجود؟ وما وجه الشبه بين مطامحه الرومانتيكية ورغباته الغامضة في المجد والعظمة وبين تصرفات زملائه السخيفة؟ إن مثل هذه الحياة لتنفره : " لقد أرسلوني مع أخي ميشيل، البالغ السادسة عشرة، إلى سان بطرسبرغ، إلى مدرسة المهندسين، وبذلك أفسدوا مستقبلنا، تلك كانت خطيئة بالنسبة إلي".

ويخاطب أخاه ميشيل في إحدى رسائله قائلا : " إن الحياة مثيرة للاشمئزاز هنا، فما خلص من المادية ومن السعادة الأرضية هو وحده جميل". بيد أن سائر ما يجري حوله وجميع تصرفات زملائه تذكره بهذه " المادية " وهذه " السعادة الأرضية " بالضبط. الوصول، الارتقاء في الرتب، المستقبل الزاهر .. وهو، أتراه يفكر في مستقبله؟ إنه يتيه في الأروقة، وحيدا، يائسا، مظلم القسمات، وفي يده كتاب، يتجنب الطلاب والأساتذة على حد سواء. لكنه يقوم في الوقت ذاته بالواجبات المترتبة عليه خير قيام، فهو مجد، ينفذ كل الأوامر الصادرة إليه، ولا يحتج مطلقا : " كائن يعتاد كل شيء، هذا في رأيي أفضل تعريف يمكن أن يعطى عن الإنسان".

لكن أصعب ما يعانيه هو العوز. فلتمطر السماء، وهو لا يملك ما يبتاع به كأسا حارة من الشاي وبعض الملابس الداخلية الدافئة. فلتحرق الشمس الأرض، وهو لا يملك أن ينظف جسده من العرق الناتج عن لبقيظ الشديد. وإن أباه الذي ترك عمله في المستشفى ليقيم في الملكية الصغيرة التي ابتاعها في الريف بفضل تقتيره، لا يبرح على بخله القديم الذي أضيف إليه حاليا تعشق شديد للخمرة، وقد رفع بينه وبين العالم، بما فيه أبناؤه، حاجزا لا سبيل إلى اجتيازه. ويتوسل فيودور إليه : " أرسل لي شيئا بأسرع وقت ممكن، وسوف تنقذني من جحيم لا يطاق! أواه، ما أفظع أن يكون المرء في حاجة!" ومرة أخرى : " يا أبي العزيز الطيب، لا تحسب أن ابنك يطالبك بشيء فائض حين يسألك معونة مالية .. إن لي رأسا، وذراعين . ولو كنت طليقا لما سألتك كوبيكا واحدا .. كنت أعتاد البؤس إذن. لكن تذكر يا أبتي العزيز أني في هذا الوقت " أقوم بخدمتي " بكل معنى الكلمة، ولا بد لي شئت أم أبيت أن أتكيف مع قواعد المجتمع الذي أعيش فيه..
وبالفعل، فإن حياة المعسكر تكلف كل طالب 40 روبلا على الأقل ( إني أكتب إليك كل ذلك لأني أتحدث إلى أبي ) ولست أحسب في هذا المبلغ قيمة السكر والشاي. ومع ذلك، فهذه أشياء لا غنى عنها، حين يكون المرء مبتلا بالأمطار حتى عظامه، تحت خيمة من القش، أو حين يعود من تدريب مضنٍ، فتجمد أطرافه من البرد ولا يجد قليلا من الشاي، فإنه قد يقع مريضا – وهذا ما جرى لي في المناورات في العام الفائت- ومهما يكن من أمر، فإني سآخذ بعين الاعتبار ما تعانيه من ضيق وأستغني عن الشاي، إني سأطلب منك الضروري فحسب.. ما ابتاع به زوجين من الأحذية العادية" .


إلا إن الأب لا يعير طلباته أذنا صاغية، بل يعاتبه ويعنفه لجرأته على رفع صوته أمام أبيه، ويروح يشكو الضيق المادي الشديد، مدعيا أنه لا يملك هو نفسه فلسا واحدا، ويتعاظم رأس فيودور أكثر فأكثر: " من المحزن أن يحيا المرء دون رجاء يا أخي.. إني أنظر أمامي، فأرتاع للمستقبل. وإني لغارق في جو جليدي، قطبي، حيث لا يلمع شعاع شمسي واحد. ومنذ زمن طويل لم أعرف همهمات الإلهام، وبالمقابل فما أكثر ما عانيت أحاسيس سجين شيللون في زنزانته، بعد موت أخوته..">>
ومرة أخرى: " لا أدري ما إذا كانت أفكاري الكئيبة ستتبدد يوما.. إن لدي مشروعا.. أن أصبح مجنونا .."

إنه تائه، تائه في دروب الحياة المظلمة، يقرأ بلزاك وغوته وشيللر حينا، ويرتمي في تيار الحياة الصاخب حينا، محاولا أن يقتل يأسه بالانغماس في الرذيلة. بيد أنه يظل، حتى في أمواج الرذيلة المتلاطمة، وحيدا على الدوام، اللهم إلا من حس الاشمئزاز من لذته العابرة، ومن الشعور بالخطيئة في ملء السعادة الكاذبة. إنه مثل سائر أبطال كتبه، وحيد لا صديق له، ومثلهم جميعا يحلم، ويفكر، ويتذوق رذائل الفكر والحواس على حد سواء. ويعزيه قليلا ما يحسه من أن فيه قوة كامنة، قوة توشك أن تنفجر، وهو يخاف منها. إنهيرقة لا تبرح عديمة الشكل، ولا يدري إلام ستصير ومتى ستصير. إنه فريسة التشاؤم، طريد الخوف من الحياة، والخوف من نفسه، والخوف من الموت، والخوف من الفوضى الهائلة السائدة في قليه.

وفي ملء هذه الفوضى يأتيه خبر مقتل أبيه على يد بعض فلاحيه الذين لم يطيقوا صبرا على معاملته الفظة. قبل شهر واحد من ذلك كان قد كتب إليه يطالبه بمبلغ من المال دون أن يتلقى جوابا، ومما لا ريب فيه أنه كان يلعن كل ليله بخل هذا الأب وقسوة قلبه، ولعله كان يتمنى موته في نفس تلك الليلة التي قتل العجوز فيها. افلم يهتف إيفان كارامازوف، ولعله يعبر في ذلك عن مشاعر دوستويفسكي نفسه: " من منا لا يتمنى موت ابيه؟" وتنعكس جريمة الفلاحين القذرة في وجدان فيودور ميخائيلوفيتش، فيتهم نفسه بما لم ترتكبه يداه قط. إنه هو المسؤول الأول عن هذه الجريمة، ومسؤوليته لا يمكن أن يفهمها أحد سواه، وهي جسيمة بحيث تبتلع مسؤوليات الآخرين. إنه مذنب بصورة تتجاوز القوانين البشرية. ويهزه هذا الكشف بلك قسوة الحقيقة الواقعة، فإذا انتفاضة هائلة تهزه وتصرعه أرضا، مزبدا متحشرجا : تلك هي نوبة الصرع الأولى منذ كان في السابعة من عمره. ولن يتحدث في رسائله عن حادث القتل مطلقا، لكن أبطاله يتحدثون نيابة عنه بطلاقة عجيبة. إن إيفان لم يقتل أباه، ومع ذلك فإنه مقتنع بكونه القاتل الرئيسي، كما يعالنه بذلك الأجير سميردياكوف الذي يعتبر نفسه مجرد الأداه المنفذة، ولا يفعل إيفان شيئا لينفي عنه هذه التهمة. وكذلك يقبل ستافروغين في " الأبالسة "، مسؤولية قتل زوجته التي ذبحها شخص آخر. إن قبولا ضمنيا، مهما يكن غير واع، يكفي لجعلنا شركاء في الجريمة. " أكنت أرغب في موت أبي حتى هذه الدرجة؟ " وإن هذا السلطان الغريب الذي يتمتع به الفكر على المادة، وهذا التجاوز للمادة من قبل الفكر، ليئيدان على ذهن دوستويفسكي. أجل إن هناك نواميس الطبيعة واستنتاجات العلوم الطبيعية، كما أن ثمة تراكيب العلوم الرياضية الباردة، بل والقوانين الاجتماعية الجامدة أيضا. وإنها لتتراكب جميعا كي تشكل " جدارا حجريا "عاتيا. وما العمل حيال هذا الجدار؟ " من المؤكد أني لن استسلم لمجرد كونه جدارا حجريا". ولن يستسلم دوستويفسكي، بل سيحاول أن يتخطى ذلك الجدار. وأما يتخطاه، فإنه سيقع في ميدان لا منطقي هو الموطن الحقيقي لأبطاله، ميدان عجيب، لا هو بالواقع ولا هو بالعدم، حيث الأبرياء وفقا للقوانين الأرضية هم مذنبون وفقا لقوانين أخرى غير مخطوطة، وحيث الأفعال لا تتعلق بفاعليتها، وحيث المشاعر تقوم مقام الأدلة، وحيث الأفكار تتبخر، وحيث لا يوجد شيء ثابت، مؤكد، معروف سلفا. إن كل طعنة جديدة يوجهها إليه القدر ستبعده أكثر فأكثر عن الواقع كي تقربه أكثر فأكثر من السر الدفين " ثمة أشياء يخشى المرء أن يكشفها حتى لنفسه".

ومهما يكن الأب بخيلا، فقد كان يرسل إلى ولده بعض المال من وقت لآخر، أما الآن فلابد أن يلجأ إلى الغرباء في حاجته. وتتراكم عليه الديون مع مرور الأيام، يحاول أن يفيها بديون جديدة، مناضلا متذللا، متوسلا كي لا يسحقه تيارها الجارف. بيد أنه لا يعرف، مع ذلك، أية قيمة للمال، وإذا وجد أن خادمه، أو خياطه، يسرقانه لم يأبه للأمر مطلقا، ولم يطرد الخادم أو يغير الخياط. وينكب على ( أوجيني غرانديه ) يرتجمها في محاولة يائسة لتحسين أوضاعه المالية: " ترجمت أوجيني غرانديه لبلزاك. يا لها من رائعة! إن ترجمتي مدهشة، وأقل ما يدفعونه لي ثمنا لها هو 350 روبلا ورقيا. إن بي رغبة لاهبة في بيعها، لكن المليونير المقبل الذي هو أنا لا يملك مالا من أجل نسخها، ولا وقتا أيضا. بحق ملائكة السماء، أرسل 350 روبلا أجرة النسخ..." وبعد ستة أشهر: " إذا تواني الخنازير الموسكوفيون، فقد ضعت. ولسوف يجرونني في كثير من الجد إلى السجن. يا له من وضع مضحك حقا. إنك تتحدث عن القسمة العائلية، ولكن أتعرف ماذا أطلب؟ التنازل عن كل مشاركة حقيقة في حقوق الملكية، والتنازل التام عند حلول الساعة، مقابل 500 روبل فضي دفعة واحدة، وخمسمائة روبل آخر تدفع على أساس عشرة روبلات من الفضة شهريا – هذا كل ما أريده.. أعترف بأنه قليل، وبأنه لا أسرق أحدا.. وإذا كانوا لا يملكون هذه الإمكانيات، فإن سبعمائة وحتى ستمائة روبل تكون مناسبة في وضعي. وقد أرجع بعد رأيي، أكفلني أنت.. وأن لدي أملا، فأنا أنهي رواية في حجم أوجيني غرانديه، إنها رواية نسيج وحدها، وأنا حاليا أنسخها، ولا ريب أني سأحصل على جواب بشأنها حوالي 14 كانون الثاني. سوف أعطيها إلى ( حوليات الوطن ). إني راضٍ عن عملي، وسأتناول عنه حوالي 400 روبل. هذه كل آمالي!"

.

.

.


يتبــــــــــع

نيرفانا
04/06/2006, 08:23 PM
تلك هي ( المساكين ) هذه الرائعة، هذه الدراسة العميقة للنفس الإنسانية! إن دوستويفسكي في الرابعة والعشرين حاليا، ولقد كتبها، هو الوحيد، بنار هواه المحرقة وبدموعه اللاهبة. ذلك أن الإذلال الأقسى الذي يمكن أن يتعرض له الإنسان، ألا وهو الفقر، قد أوحاها إليه، تدعمه القوة العظمى في هذا العالم، أعني بها حب أولئك الذين يتعذبون.

بيد أنه يتطلع إلى هذه الصفحات في شيء من الخشية، لا يريد أن يسأل القدر لأنه يخاف الحكم الذي قد يصدره، وأخيرا يقرأ المخطوطة لصديقه وشريكه في الغرفة، الكاتب غريغوروفيتش، فيرتمي هذا بين ذراعيه باكيا، ويختطف المخطوطة منه ليحملها إلى نيكراسوف. ويقرآنها معا، الليل بطوله، يضحكان حينا ويبكيان أحيانا، حتى إذا لم يعودا يستطيعان صبرا ينطلقان إلى صاحبهما، حوالي الرابعة صباحا، يوقظانه من نومه، يهنئانه ويقبلانه، لأن ذلك " أهم من النوم ".

ويحمل نيكراسوف المخطوطة إلى بيلنسكي، الناقد الشهير، المرهوب الجانب، الباني أمجاد الكتاب الروس والهادم إياها: " لقد ولد لنا غوغول جديد". فيرد الناقد باستنكار: " إن أمثال غوغول عندكم ينبتون مثل الفطور". لكنه يقبل أن يطلع على المخطوطة، حتى إذا ذهب إليه دوستويفسكي في الغداة شاهده مشرقا بالفرح :" هل تدرك ماذا صنعت هنا؟" ويلتهب بيلنسكي حماسة:" إنك لم تكتب مثل هذا المؤلف إلا لأنك بكل بساطة فنان عظيم الحساسية، ولكن هل قدرت كل سعة الحقيقة الرهيبة التي وصفتها لنا؟ يستحيل أن تكون فهمتها وأنت في العشرين من عمرك.. إن الحقيقة تكشف لك وتعلن بوصفك فنانا، أنت تلقيتها هبة، فاعرف كيف تقدر هذه الهبة. ابق أمينا لها، وسوف تصير كاتبا عظيما".

ويصعق دوستويفسكي، وينتشي، ويصيبه الدوار، إنه يريد أن يقبل كل الناس، وأن يشكرهم، وأن يقسم للبشر جميعا صداقة أبدية. ويهبط الدرج مترنحا كأنه في حلم، ويتوقف عند زاوية الشارع عاجزا عن متابعة السير، يتطلع إلى السماء، وإلى صفاء النهار، وإلى المارة الذين يخيل إليه أنه لم تعد تجمعهم به أية رابطة. الم يرتفع إلى الأعلى منهم بصورة مفاجئة. ويتساءل: " أيمكن أن أكون حقا على هذا القدر من العظمة؟" أجل ، إنه ليشعر الآونة بكل وضوح بأن سائر تلك الأشياء الغامضة الخطيرة التي انبثقت من فؤاده هي أشياء عظيمة حقا، ولعلها بالضبط ذلك ( الشيء العظيم ) الذي كان يحلم به في طفولته: الخلود، والعذاب من أجل الإنسانية بأسرها. ويتعثر في مشيته، يمتزج في دموعه الهناءة والألم جميعا.

وهذا هو بين عشية وضحاها، وبطرسبورغ المثقفة كلها تعرفه، والضواحي أيضا. ولقد أنقذه كتابه نوعا ما من ضائقته المادية، إذ تناول عنه 500 روبل ما أسرع أن ابتلعتها ديونه العتيقة والجديدة معا. وهذا هو ذات صباح مدين بستمائة روبل. ما العمل؟ " إن المرء ليمل في هذا العالم يا سادة! ما عسى أن يكون المستقبل، يا ترى؟ " إن هذا المجد يشكل في الوقت ذاته الحلقة الأولى في السلسة التي ستقيده إلى العمل الإجباري، والإبداع لن يكون بالنسبة غليه، من الآن فصاعدا إلا واسطة لكسب المال، ودفع الديون، والخلاص من السندات، رغما عن كل محاولاته لإنكار ذلك. ولن يكون كل كتاب جديد إلا رهينة لسلفة مالية تلقاها، فالجنين مرهون للعبودية منذ الحمل به، قبل الحمل أيضا.
وهذا دوستويفسكي قد حبس إلى الأبد ضمن جدران سجن الأدب، ولن يحرره سوى الموت وحده.

ولو أنه كان إنساناً آخر, لو كانت أعصابه أقل إرهاقاً, وحبه للإنسانية أق عنفاً, فلعله كان يستطيع أن يعيش حياة هادئة, وينتج في جو من الدعة والهدوء. بيد أن شيطانه يدفعه دون هوادة, أو قل هو القدر يقف له بالمرصاد, إن الحياة لا يمكن أن تكون بمثل هذا اليسر, بل إن حياة سهلة على هذا الغرار هي حياة ميتة. أما هو فيجب أن يعرف الحياة حتى أعمق أعماقها.

ما باله؟ إن صالونات بطرسبورغ مفتوحة له, وبيلنسكي لا يدري كيف يكيل المديح له, وتورجنيف يبدي له كل عطف ومحبة, والجميع من حول يرددون كل كلمة تسقط من فمه. بيد أنه يشعر بالضيق, ويدفعه هذا الإحساس إلى الانطواء, والتكبر. إنه يحس أن مكانه ليس ههنا, بين هؤلاء القوم السعداء, الأثرياء الرافلين في أبهى الحلول, غير العارفين كيف يزجون الوقت. إنه غريب بينهم, يهاجمهم خوفاً أن يهاجموه, ولا يفكر طوال الوقت. إلا في الفرار بأسرع وقت والعودة إلى غرفته الصغيرة, السيئة الإنارة, الغاضة بدخان التبغ, المزدحمة بالكتب والأوراق. إن الوحدة هي ملجأه الأوحد.

وإنه ليتخبط في بؤسه ـ هذا البؤس الذي أصبح مركب نقص بالنسبة إليه ـ ويريد أن يتحرر منه. إنه لمقتنع بأنه لا بد في سبيل ذلك من فعل اجتماعي يحرره مع سائر إخوته المعذبين في الأرض, بحيث تمنحه هذه الحرية أخيراً الثقة بالنفس, والإيمان بالمستقبل, واليقين بالقدرة على فعل الخير, هو الذي تضيع عليه فوضى حياته كل خير.

وهكذا ينضم إلى حلقة بتراشيفسكي الثورية, حالماً بتحرر روسيا الأم من القيصرية والعبودية والفقر, ورفع البائسين فيها إلى مستوى إنساني حقاً. وإنه ليقرأ في اجتماعات (( الثوار )) السرية صفحات من الشعراء الروس الكبار, ورسالة بيلنسكي إلى غوغل, ويحرر (( اتهامات )) ضد النظام القائم, بل يكاد أن (( ينزل إلى الشارع حاملاً علماً أحمر)).

وهذا هو ذات صباح موقوف بتهمة التآمر على سلامة القيصر.. وتنطبق عليه جدران زنزانة ضيقة في قلعة بطرس وبولس طوال أربعة أشهر, ثم يصدر عليه مع رفاقه الحكم الصاعق: الإعدام رمياً بالرصاص.

ويخيم الموت بجناحه عليه.. إنه يساق مع تسعة من رفاقه مع خيوط الفجر الأولى, وقد رميت الأكفان على أكتافهم, إلى ساحة سيميونوفسكي حيث يقيدون إلى الأعمدة وتغطى عيونهم. هذه هي آخر مرة يرى فيها نور الحياة, وفي هذه الثانية القصيرة, مع انطلاق الرصاص الغدار, يتركز مصيره كله. إنه يصغي إلى قرار الحكم يتلى عليه, وإلى الطبول تقرع لحن الموت, بيد أن رغبته في الحياة مجتمعة, كل قوتها الجارفة, في تلك البرهة من الانتظار, انتظار الموت, في تلك الهنيهة التافهة من الزمان الذي لا حدود له. ولكن هذا الضابط المكلف بحكم الإعدام يلوح بمنديل أبيض في يده, فتتوقف الطبول عن القرع, ويخيم صمت رهيب على الساحة. أهو صمت الموت؟ كلا, بل هذا قرار الرحمة القيصرية يتلى عليهم, مستبدلاً حكم الإعدام بالأشغال الشاقة في سيبيريا لمدة تسعة أعوام.

وتتلقفه الهاوية. إن ألفا وخمسمائة وتد خشبي تشكل طوال أربع سنوات حدود أفقه, وهو يعد عليها أيام سجنه الباقية. إن رفاقه ههنا ـ وقد كانوا في بطرسبورغ نيكراسوف وبيلسنكي وتوجنيف ـ قتلة ومجرمون ولصوص, وبعض البولونيين الذين يكرهون كل ما هو روسي, هؤلاء جميعاً يمنعون عليه, هو المثقف السجين السياسي, صداقتهم الرخيصة. وإن عمله, هو الذي صنع (( المساكين)), صقل الرخام ونقل الأجر ورفع الثلوج. ههنا ليس له من رفيق سوى الكتاب المقدس, وقد دفعته بين يديه على الطريق إلى سيبيريا محسنة طيبة وفي طياته ورقة من فئة الخمسة وعشرين روبلاً, وليس له أصدقاء سوى كلب جربان ونسر كسير الجناح مثله. وتتوالى عليه نوبات الصرع: (( كنت أشرب الشاي, وأكل أحياناً قطعة اللحم الخاصة بي, وهذا ما أنقذني. وإن انهيار أعصابي قد أدى إلى إصابتي بالصرع. إني أحيا في تهديد دائم من العقاب, والقيود, في خنق دائم للفكر. إلام صارت نفسي, ومعتقداتي, وذكائي, وقلبي؟ ذلك حديث طويل جداً. بيد أن التركز الأبدي في ذاتي من الواقع المرير قد آتى ثماره )). ويبقى هكذا أربع سنين في (( بيت الموتى )) في الجحيم, ضائعاً بين الأخيلة, مجرد رقم ليس غير, قد أنكرت عليه سائر صفات الإنسانية على الإطلاق.

وحين رفعت القيود أخيراً من قدميه, وأدار ظهره إلى تلك الأوتاد, لم يعد الشخص نفسه. لقد ذهب مجده هباء, ولم يعد ثمة من يذكره في بطرسبورغ, كما دمرت صحته, فنوبات الصرع تنتابه على أشد ما يكون. لكن فرحته بالحياة بقيت له, بلى زادت تأرثاً في جسده الناحل الممروض. ولا تبرح أمامه سنوات أخرى يقضيها في سيبيريا, جندياُ بسيطا بادئ الأمر, ثم ضابطاً برتبة ملازم ثانٍ, بعيداً عن الجو الأدبي, ممنوعاً من نشر أي مؤلف. ولم يكن البعد عن روسيا عذابه الوحيد, بل إن عوز المال يلاحقه دائماً. ويحب أن يتزوج, لكن الزواج يكلف في حسابه ستمائة روبل. ومن أين له هذا المبلغ؟ ويمد يده, ويستجدي (( إني أتصرف بجيبك فكأنه جيبي, لكن السبب في ذلك جهلي بأوضاعك المالية. إن فيليبوف قد أهداني خمسة وعشرين روبلاً فضة )) . وإنه ليكتب أثناء ذلك, بل ينشر أحياناً بأسماء مستعارة, لكنهم لا يدفعون له كما ينبغي: (( أنا لا أجهل أني أكتب بصورة أسوأ من تورجنيف, وآمل ألا أظل كذلك في المستقبل. ولماذا لا أنال, أنا فقير جداً, سوى مائة روبل عن كل ملزمة مطبوعة, بينما ينال تورجنيف, وهو رجل غني يملك ألفي نفس, أربعمائة روبل عن كل ملزمة؟ إن فقري يجبرني على السرعة أبداً. إني أكتب من أجل المال, وأفسد عملي. بحق اليسوع أنقذني )).

.
.
.
.

يتبـــــع

طارق شفيق حقي
04/06/2006, 10:57 PM
أكثر من رائع



التنسيق المربدي يعتمد الخط الكبير




واكثر من لون




كم يعتمد المباعدة بين الفقرات

نيرفانا
05/06/2006, 09:52 AM
الأستـاذ طارق

أتعبني التنسيق هنا ;)


المفروض أن يعرف تنسيقي على الوورد بألوانه، لكني فوجئت بأنه يهضم ثلاثة أرباع المكتوب!


لذلك اضطررت لهذا...أنسخه في النوت باد وأغيره هنا...

وهو منقول بهذ الطريقة

تستطيع أن تجد في الساخر شكل الموضوع بالتحديد


شكرا لك

سعيدة بنشر الثقافة عموما وعدم تخصيصها بأماكن معينة، فنحن نريد الفائدة للكل


دمت بود

نيرفانا
05/06/2006, 07:33 PM
ويعود إلى بطرسبورغ وقد نسيه الناس, وهجره رفاق القلم, وتبعثر أصدقاءه. وفي العاصمة لا بد له أن يعيش, ولا بد من المال في سبيل ذلك. ولذا يجب ن يكتب, أن يشرع القلم, منفساً بذلك في الوقت نفسه عن نشوة الحرية التي تعبئ طاقته العصبية.



ويرسل كتابه عن (( بيت الموتى )), هذه اللوحة الخالدة عن حياة إنسان في سجن الأشغال الشاقة, عاصفة من الحماسة في كل روسيا وينتزعها من لا مبالاتها الناعسة. إن الأمة بأسرها تكشف أن السطح الساكن الهادئ للعالم الروسي يخفي عالماً آخر, عالماً يكدس كل العذابات الممكنة. ويبلغ لهيب الاتهام حتى الكرملين, فيروح القيصر نفسه ـ ويا للسخرية! ـ يسقي صفحات الكتاب بدموعه. وهذا اسم دستويفسكي من جديد على كل لسان: إن سنة واحدة قد كانت كافية لبعثه, لإرجاع إكليل الغار إلى جبينه أعظم بهاء منه قبلاً. ويؤسس مع أخيه مجلة هو محررها الوحيد تقريباً, فتنال نجاحاً عظيماً. أليس مؤلف (( بيت الموتى )) من ورائها؟ وإنه لينهي رواية في الوقت نفسه. أليس من حقه أن يطمئن الآن, وقد ابتسم القدر له قليلاً, وأصبح مستقبله في أمان كما يبدو, وثروته مؤكدة بعد اليوم؟



ولشد ما كان مخطئاً. إن كل شيء يتهدم وينهار في لحظة واحدة, إذ تمنع المجلة دون سبب, وتموت الزوجة وقد كانت مريضة على الدوام, ويلحق بها الأخ, وهذا الصديق الوفي الناصح الأمين, فتتراكم الديون من جديد, ديونه الخاصة وديون الأخ الراحل, فينحني ظهره تحت وطأة هذه الضربات المتلاحقة وإن ظل يناضل بتلك القوة التي يبعثها اليأس في الإنسان, فيشتغل ليل نهار, يكتب وينسخ بيده كي يقتصد أجرة النسخ في محاولة يائسة لتسديد وإنقاذ شرفه وسمعته.



بيد أن التيار أقوى من أن يستطيع مقاومة له, فيفر إلى أوروبا ورفيقه الوحيد فتاة في العشرين, عدمية العقيدة, قد أعجبت بموهبته وتيم بهواها. وهذا هو تائه في دروب العالم الأوروبي الغريبة, بعيداً عن الوطن الأم حيث تغرق جذوره, ويعذبه الحنين إلى روسيا, الأرض المقدسة, مصدر حياته وينبوع إلهامه, وإن الحاجة لتلاحقه ههنا أيضاً دونما هوادة, تدفعه نحو مائدة القمار حيث يغامر بكل شيء, متحدياً قدره. لكن هيهات أن يواتيه الحظ, فالهوة تحت قدميه لا تزداد إلا اتساعاً.



إنه مجبر على الحياة في بلاد أجنبية لا يحبها، بل يبغضها ويبغض سكانها أيضا، لا يعرف فيها أحدا ولا يعرفه أحد، وحيدا تماما بعدما هجرته عشيقته، محاطا بطغمة من البقالين وأصحاب الدكاكين الألمان الذين لا يفقه كلمة واحدة من حديثهم، مقيما في غرفة حقيرة، طعامه الرئيسي الشاي، وبذلته المهترئة لا يملك بديلا لها، وألبسته الداخلية قذرة لا يملك أن يخلعها، لأنه لا يملك سواها، يقصد المقاهي طلبا للدفء وقراءة الصحف الروسية، أو موائد القمار طلبا ( للمائة ألف فرنك )، يربح حينا ويخسر أحيانا، ويعود دائما في آخر الليل وقد نقصت محفظته بضعة روبلات ما كان أعظم حاجته إليها، أو يقف الساعات الطوال أمام شباك المصرف، ينتظر حوالة مالية كتب من أجلها عشرات رسائل السؤال المهين إلى عشرات الأشخاص الذين لا يردون عليه، أو يذهب إلى محلات الربا، يرهن ساعته أو بعض أثاثه القليل أو ثيابه لقاء دريهمات قليله تقيم أوده، أو تشبع حنينه المحرق إلى الأحمر والأسود.

" لقد كنت أسعد حالا في سيبيريا، في السجن "



وأنه ليشتغل طوال النهار والليل دونما كلل، بينما الصرع يصعقه دونما رحمة، وأحيانا أكثر من مرة واحدة في اليوم، ثم يتركه أياما بكاملها في حالة من الخدر التام، لا يستطيع إلى مجرد الحركة البسيطة سبيلا.



لكنه لا يكاد يحس دبيبا من القوة في جسده حتى يزحف من جديد إلى مكتبه. إن العمل هو خلاصه الوحيد، وهو سبيل العودة إلى الوطن.



إنه يكتب " الجريمة والعقاب" و " الأبله" و " المقامر " و " الأبالسة "، هذه الآثار التي هزت القرن التاسع عشر، ولا تبرح غذاء روحيا غنيا لعشرات الملايين في القرن العشرين.



وأخيرا، في ساعة الحزن الأعظم، تأتيه رحمة الأقدار. إنه في الثانية والخمسين، لكنه قد عانى خلال هذه السنوات القليلة قرونا من العذاب.

ولقد مهدت له كتبه أن يعود إلى وطنه، إذ كسفت تولستوي وتورجنيف، وجعلت عيون روسيا كلها تتجه إليه. إن " مذكرات كاتب " قد جعلت منه رسول بلاده، وهو حاليا يكرس قواه وكل فنه فيما يمكن تسميته وصيته الأخيرة " الإخوة كارامازوف ".



إن البذرة قد أتت ثمارها، ولم تيبس وتمت. ذلك أنها بذرة حية قد ألقيت في تربة خصيبة جدا. ويوم تداعى الكتاب الروس إلى الاحتفال بالذكرى المئوية لميلاد الشاعر الأكبر بوشكين، استقبل الجمهور دوستويفسكي، حين انحنى بوجهه الرمادي المتعب، المحفور بسنوات العذاب الطويل، بعاصفة حادة من التصفيق، بعدما كان استقباله بالأمس لتورجنيف، أول المتحدثين، فاترا نوعا ما. ووقف ينتظر ، وبين أصابعه العقدة أوراق محاضرته، إذ استمر الهتاف طويلا رفع يده يلوح بها بخرقة، طالبا الهدوء، ثم بدأ حديثه بصوت لاهث راح يرتفع شيئا فشيئا حتى سيطر على القاعة الواسعة الأرجاء. من أين واتته القوة، هو العجوز المنهك القوى، على الصراخ بكل هذا العنف من أعلى منبر؟ وأي عنفوان عجيب يكهرب هذا الجسد ويلهب تلك النظرة. إنه يعلن، بواسطة بوشكين، عن الرسالة المقدسة لروسيا، رسالة المصالحة العمومية. وفي الحقيقة من هو بوشكين؟ إن بوشكين هو تجسد الروح القومية مع قابليتها العجيبة لالتقاط عبقريات الشعوب الأخرى. إن بوشكين هو روسيا بكل ما تتضمنه من شمول، فهو اسباني في " دون جوان " وانكليزي في " الحفل أثناء الطاعون " و ألماني في " مقطع من فاوست " وعربي في " محاكاة القرآن " وروسي في " بوريس غودونوف ". ولأن بوشكين هو كل هذا، لأنه يعرف كيف يكون كل هذا، فهو روسي. إن مغزى الإنسان الروسي قبل كل شيء مغزى أوروبي وعالمي، فإن يكون المرء روسيا حقيقيا، أن يكون روسيا كليا، ذلك إنما يعني أن يكون أخا لسائر البشر، إنسانا كليا إذا جاز التعبير. وأن سائر شعوب الغرب القديمة عزيزة على الشعب الروسي الفتي، ولسوف ينقذها، لأنه يظل بفضل سذاجته الرائعة الملجأ الأخير للمسيح " لم لا نكون نحن الذين نحتوي على كلمة المسيح الأخيرة؟".



إن القاعة بأسرها ترتعش تحت انفجار الغبطة المنطلق من الجمهور المستمع، ويخر الرجال ساجدين، وتنحني النسوة على يدي دوستويفسكي يقبلنهما، ويغمى على طالب عند قدميه. ويتنازل بقية الخطباء عن حق الحديث، فليس لهم ما يقولون بعد دوستويفسكي. ومنذ تلك اللحظة الفريدة، أصبح المجد مؤكدا، وتم العمل وتحققت الرسالة. ومن ثم، فقد أينعت الثمرة، فسقطت عنها القشرة، الجافة وكان ذلك في العاشر من شباط عام 1881.



وتتدفق الوفود، التي هزها النبأ الفاجع، من سائر الأنحاء، القريبة منها والبعيدة، ومن داخل الحدود وخارجها، لتقدم إلى الراحل العظيم الواجب الأخير. إن الجميع يريدون أن يشاهدوا الميت الذي أجمعوا على نسيانه طوال حياته، فالشارع الذي سجى جثمانه في أحد منازله يغص بالناس الذين يرتقون سلم البيت المتواضع على مهل، ويتكدسون حول النعش يختلسون إليه النظرة الأخيرة، نظرة الوداع.



وتتلاشى الزهور عن سرير الميت، قد تخاطفها الناس كأثر ثمين يعتزون به. وتنطفئ الشموع في الغرفة التي أصبح جوها خانقا، ويكاد النعش أن يقع أرضا، فتسنده بوهن الأرملة الثكلى وأولادها اليتامى.



ويريد مدير الشرطة أن يمنع الجنازة العامة، إذ ترامى إليه أن في نية الطلاب أن يسيروا خلف النعش حاملين سلاسل المحكوم بالأشغال الشاقة، لكنه لايجرؤ على مجابهة هذه الحماسة التي لا بد أن تفرض نفسها بقوة السلاح إذا اضطرت. ويتحقق حلم دوستويفسكي لساعة من الزمان على الأقل، حلو قبره: اتحاد جميع الروس. إن الألم يذيب في كتلة واحدة مئات ألوف الناس السائرين بقلب وجيع خلف نعشه. إن الأمراء ورجال الإكليروس، والضباط والعمال، والطلاب، والأُجراء، يبكون جميعا، تحت سماء من الأعلام والرايات، الراحل العزيز على قلوبهم جميعا.





" يا أبنائي، لا نًحنِنْ إلى حياة أبدية مقبلة! يا أبنائي .. ما لم نتوصل إلى الخلود على هذه الأرض، فإننا لن نبلغه إذن أبدا.. إن الخلود ههنا، وفي هذا الوقت بالذات .. وثمة لحظات ينبغي الوصول إليها، وهي لحظات من الوجود الأمتع والأسمى، وذلك حين يقف الزمان جامدا، وتذوب كل حياة بشرية في حياتكم الخاصة.. تلك هي لحظات الخلود.. وأن الجنس البشري بكاملة لما يتحرك نحو هذه اللحظة الكاملة، هذه اللحظات الخارجة عن نطاق الزمان. ذلك أن معنى الحياة ليس في استمرار الإنسان من جيل إلى جيل، بل في استحالته من وحش إلى ملك رفيع، من خاطئ إلى قديس! إن الحياة صعود مستمر من المستويات المنخفضة إلى المستويات المرتفعة من الوعي حتى صيرورتها لحظة القديس الأسمى وحقيقة الخاطئ الأبدية، وعندها تنتقل الخليقة بأسرها من الدياجير إلى النور".



.





.



.



يتبــــــــع

طارق شفيق حقي
06/06/2006, 10:43 PM
مازلنا مع ال .... يتبع

نيرفانا
07/06/2006, 09:47 PM
مازلنا مع ال .... يتبع

وسنتمنى أن تنتهــــــــي



لكن بخيـــــــر



وبعد مدة :)



شكرا للمتابعة

نيرفانا
07/06/2006, 09:49 PM
يقول الناقد الروسي ميريجكوفسكي، في معرض حديثه عن دوستويفسكي، ما يلي : " إن تورجنيف وليون تولستوي و دوستويفسكي هم زعماء القصة الروسية الثلاثة. وتورجنيف هو الفنان بكل معنى الكلمة، ههنا تكمن قوته، كما يكمن سر ما يعانيه من ضيق الأفق النسبي. وأن ما يستقيه من ينبوع الجمال من ملذات يصالحه بسهولة عظيمة مع الحياة. لقد سبر روح الطبيعة بصورة أشد عمقا وأعظم نفوذا من دراسته قلب أشباهه من البشر، فهو أقل قدرة من تولستوي و دوستويفسكي على الدراسة السيكولوجية. ولكن أي فهم بالمقابل لحياة الكون بأسره، هذا الكون الذي لا يشكل البشر الفانون إلا جزءا يسيرا منه، وأي نقاء في الخطوط، وأية موسيقى في اللغة. إن من يستسلم طويلا لجاذبية هذا الشعر الرقيق يميل إلى الاعتقاد بأن الحياة ذاتها لم توجد إلا في سبيل هذه الغاية الوحيدة، ألا وهي الاستمتاع بجمالها وفتنتها".



"أما ليون تولستوي فقوة عملاقة بالمقارنة مع الصفر البسيط. إن الانسجام ينقطع هنا، فيزول الاستمتاع التأملي المستبشر الهانئ ولا يبقى سوى الحياة وحدها، بكل عظمتها الفائقة، وكمالها البدائي، وطراوتها المتوحشة قليلا، لكن العاتية في الوقت نفسه. لقد فر هذا الرجل من وجه المجتمع بمحض إرادته، وعزل نفسه عنه طائعا مختارا:



غمرت بالرماد رأسي

وهربت، في أطماري، من المدن العامرة...



" ولكن هذه القسوة في إنكار ثقافة يعود تاريخها إلى آلاف الأعوام ينفع خيال الألم والعذاب، مثله مثل تحجر تورجنيف – هذا السائح في تأمل الطبيعة- نفسا جليديا في وجه الفانين العاديين، وجه أولئك الذين لا ينتسبون إلى زمرة الأنبياء.إن هذين الكاتبين يبتعدان عن الحياة كي يتأملاها، فيلجأ أحدهما على سلام مصنعه كفنان، بينما يعتصم الآخر بقمم الأخلاق المجردة.



" أما دوستويفسكي فأوثق بنا صلة وأقرب منا. لقد عاش فيما بيننا، في مدينتنا الكئيبة الباردة، ولم يخف تعقيدات الوجود الحديث، وقضاياه العضالة، ولم يتهرب من عذاباتنا، ولا من عدوى العصر. إنه يحبنا بكل بساطة، كصديق، كند لنا، ليس من أعماق بعد شعري كتورجنيف، ولا بسمو المبشر مثل تولستوي. إنه ملك لنا بكل أفكاره وبكل عذاباته. " لقد شرب معنا كأسا مشتركة، وهو مثلنا جميعا قد أصيب بالعدوى رغما عن سموه". إن تولستوي يضمر ازدراء عظيما للمجتمع الفكري، " هذه النفاية "، إنه يغذي حقدا شديدا على ضعف الخطاة من أشباهه، إنه ينفر ويخيف باحتقاره، وبالقسوة التي يلجأ إليها كي يدين ما هو باق على قلوب البشر مقدسا في أنظارهم رغما عن كل شيء، دون أي اعتبار لسائر التهجمات عليه، وأن دوستويفسكي ليؤثر فينا أحيانا أكثر مما يفعل الأشخاص من أقاربنا وأصدقائنا الذين نحيا فيما بينهم والذين نحبهم. إنه يجعل من نفسه رفيقا لنا في أمراضنا، شريكا لأفعالنا السيئة والحسنة، وليس ما يجمع البشر مثل العيوب المشتركة. إنه يعرف أفكارنا الأكثر خفاء ويعرف مطامح قلوبنا الأكثر إحراجا. وليس من النادر أن ينتاب القارئ الذعر تجاه معرفته الشاملة، تجاه هذا النفوذ العميق بصورة لا متناهية إلى وجدان الآخرين. وأنك لتلقى عنده بعضا من تلك الأفكار الدفينة التي لا تجسر على الإسرار بها حتى لنفسك، وأقل من ذلك لصديق قريب. وعندما يمنحك هذا الرجل الذي اعترفت له بكل أعماقك غفرانه رغما عن ذلك، عندما يقول لك" آمن بالخير، آمن بالله، آمن بنفسك "، فمن المؤكد أن في ذلك شيئا يسمو على تحليق الفنان أمام الجمال، شيئا يتجاوز عظات ذلك النبي المتجبر، المنعزل عن الجميع.



" إن دوستويفسكي يفتقر إلى الانسجام، ينقصه ذلك التناظر القديم في ترتيب الأجزاء – ميراث الجمال البوشكيني- ينقصه كل ما أفعم به مؤلف " الآباء والبنون " من تراث مدهش، كما تعوزه تلك القوة البدائية، تلك الصلة المباشرة مع الطبيعة، التي نجدها عند ليون تولستوي. هذا إنسان خرج حديثا من الحياة، قد تألم لتوه وبكى، ولم تجف الدموع بعد عن أجفانه، كما لا يزال صوته يرتجف ويداه ترتعشان بفعل انفعاله. يجب ألا نقرأ مؤلفات دوستويفسكي، بل يجب أن نعيشها، أن نتلمس عذاباتها كي نفهمها، وعندئذ فإنها لن تغادر ذاكرتنا إلى الأبد!".







.



هنا ينتهي الجزء المنقول من رواية "الجريمة والعقاب"...





و..





بالطبـــــــع يتبـــع :)

نيرفانا
11/06/2006, 11:01 PM
مــن كتاب "الرواية الروسية في القرن التاسع عشر"

تأليف: د. مكارم الغمري

من سلسلة "عالم المعرفة"





دستويفسكي أحد أئمة الرواية الروسية الكلاسيكية، فإنتاجه الروائي يشغل مكانة هامة وخاصة لا في تاريخ الرواية الروسية فقط بل وفي الرواية العالمية أيضا.

تشكل تجاه دستويفسكي إلى الرواية كفن تحت تأثير التجربة الروائية لكل من بوشكين و جوجول، كما أشار الكثير من الباحثين أيضا إلى أهمية رواية كل من بلزاك وجورج صاند و فيكتور هوجو وديكنز بالنسبة لروايات دستويفسكي.

برز دستويفسكي في الساحة الأدبية في أربعينيات القرن الماضي، واتسم إنتاجه الروائي منذ أول رواية له وهي " المساكين بالمنهج الفني الجديد، فنجده يبتعد عن الخط الهجائي المميز لرواية معلمه جوجول الذي كان يجذب اهتمامه وصف الحياة الموضوعية المعيشية بأنماطها المتعددة، واتجه دستويفسكي إلى البحث العميق في نفس أبطاله حيث يعطي الكاتب من خلاله صورة للواقع والحياة "الجارية".

كتب دستويفسكي القصة والرواية، وكانت أشهر رواياته " المساكين ( 1845 )، "المحقرون والمهانون" (1861)، "الجريمة والعقاب" (1866)، "الأبله" (1869)، "الشياطين" (1822)،"المراهق"(1875)،"الإخوة كارامازوف" (1880).

ويعتبر وصف حياة فقراء المدينة من أكثر الموضوعات المحببة عند دستويفسكي الروائي وقد اتجه إلى هذا الموضوع في العديد من رواياته، من ذلك "المساكين" "المحقرون والمهانون"،"الجريمة والعقاب".

ودستويفسكي في تصويره لحياة الفقراء ينحو نحوا جديدا، فهو لا يهتم بتصوير اللوحات المعيشية التي تعكس الفقر والتناقضات الاجتماعية التي تحكم وجود الفقراء قدر اهتمامه بتصوير العالم الروحي والأخلاقي للفقراء، والذي يبرز في ارتباط وثيق بوجودهم المادي، فالمشكلة الاجتماعية للفقر تبرز في روايات دستويفسكي من خلال المشكلة الأخلاقية والنفسية. والعالم الداخلي لفقراء دستويفسكي هو عالم صعب ومعقد، فرغم ما يظهر فيه من غيظ وحنق وأنانية ورغم ما يسيطر عليه من أفكار كاذبة أو وعي مريض، فهو مع ذلك عالم الخير والمشاعر الطاهرة ومبادئ الإنسانية والأخوة والضمير الحي والنفس القادرة على التضحية والمعاناة والتصحيح.

حملت روايات دستويفسكي بصمة الواقع المعاصر، فهي تصور الكثير من أحداثه الجارية ومشاكله الملحة كالجريمة، والركض وراء المال، ووقوع الإنسان ضحية الإغراءات والأفكار الشريرة، والانفصام بين الشخصية والمجتمع وبين الطبقات الحاكمة والشعب، وتفكك وسقوط الركائز العائلية التقليدية وأزمة الحياة الاجتماعية المعاصرة، ومشكلة وجود الإنسان بها وخلافه، كما اهتم دستويفسكي أيضا في ستينات وسبعينات القرن الماضي برسم نمط البطل المفكر ذي العقل المتأمل والاتجاه التحليلي تجاه الواقع، وهو الذي برز في أشهر رواياته "الجريمة والعقاب" و "الإخوة كارامازوف". لكن بطل دستويفسكي هذا – ورغم ما يملكه من إمكانات عقلية وفكرية كبيرة- يظهر فريسة للأفكار الكاذبة المضللة ويبدو بعيدا عن الشعب ولا يشارك في الحركة التحريرية لبلاده مع أن فكره يتيه في البحث عن مخرج من أزمة الحياة، وهذا البطل يسيطر عليه شك عميق تجاه المثل الثورية الاشتراكية والليبراليه. ويتأرجح بين الاتجاهات الفوضوية المدمرة وبين الأفكار الدينية التي تدعو إلى الخنوع.

ورغم أن دستويفسكي حاول أن يربط بين هذا النمط من الأبطال وممثلي الحركة الاشتراكية الثورية وأن يسخر ويشوه بشكل أو بآخر ممثلي هذه الحركة، إلا أن روايات دستويفسكي على الرغم من ذلك اعتبرت ذات أهمية بالنسبة لتطور الحركة الثورية في روسيا، فقد كان هؤلاء الأبطال بمثابة تجسيد للأقلية الصغيرة من شباب الحركة الثورية ممن وقعوا تحت تأثير أفكار ونظريات مضللة، وقد أوضحت الدراسة النقدية للأشكال المختلفة لهذه الحركة عدم صلاحيتها وقوتها المدمرة، ومن ثم اكتسبت رواية دستويفسكي قوة تطهيرية كبيرة، وعلاوة على ذلك فأهمية رواية دستويفسكي ترتبط بسماتها العامة وفي مقدمتها الروح الديمقراطية والإنسانية، فدستويفسكي يرفض في رواياته ويهاجم الشر الاجتماعي ويرسم لوحة مريعة للتناقضات بين الأغنياء والفقراء، ويحدق في ألم وتعاطف في مصير الإنسان البسيط المضطهد من الشعب والذي كان يؤمن به إيمانا كبيرا.

كما حملت روايات دستويفسكي حلما حارا بالتغيير وإيمانا بالبعث وبمستقبل مشرق للوطن بغض النظر عن تصورات الكاتب تجاه سبل التغيير. ورواية دستويفسكي هي أيضا نموذج للرواية الاجتماعية النفسية الفلسفية، فإلى جانب الخط الاجتماعي البارز لروايته نجدها أيضا ذات اتجاهات "أيديولوجية" ونفسية في ذات الوقت، فدستويفسكي المفكر كان يسعى في تصويره للحياة الواقعية إلى فهم القوانين التي تحركها، وكان يحاول النفاذ إلى مغزى المشاكل الجوهرية لتطور الإنسانية، ولذا فإن دستويفسكي يصور مصير شخصياته في ارتباط لا ينفصم بالموضوعات الفلسفية والأخلاقية والدينية التي يطرحها في رواياته والتي يضعها في مركز اهتمامه وبحثه، ويتحدد تبعا لها بنيان الرواية وخصائصها، ولذا نجد أن رواية دستويفسكي تتميز بالديالوج الحار وعنصر الإثارة الشكلية الذي يخفف من حدة اصطدامات الشخصيات ومن الديناميكية المتوترة للأحداث التي تنبع من صراع الشخصيات حول ( نعم ) أو ( لا ) حيال الأفكار الواردة في الرواية والتي ترتبط بكل الأحداث وبكل خطوط المضمون والتي تفسر تصرفات الأبطال أنفسهم. وقد أكسبت ديناميكية الحدث وتوتره رواية دستويفسكي طابعا دراميا، ويتدعم هذا الطابع من جهة أخرى بمأساة وجود الشخصيات وبالمصير التراجيدي للإنسان في ظروف التناقضات القاسية. وأيضا بمأساة وجود آلاف العائلات التي يصرعها التناقض الداخلي ، ودراما الانفصام الداخلي للشخصية. إن دستويفسكي قد قدم حقيقة –كما أشار العديد من النقاد- رواية جديدة أطلق عليها لقب " الرواية المأساوية" أو " الرواية المفجعة".

بالإضافة فإن دستويفسكي – كما أشرنا آنفا- أحد رواد الرواية النفسية، فروايته تتسم بتوتر حاد في إحساسات الشخصية وبدقة في تصوير أفكارها ومشاعرها، وبعمق في النفاذ إلى التناقضات الداخلية للإنسان الذي يتكشف في أكثر لحظات حياته الصعبة ومن خلال صراعات عنيفة مع نفسه وتوتر حاد للرغبات، فبطل دستويفسكي لا يتضح جوهره الداخلي في الحالات النفسية العادية بل وهو في قمة معاناته وفي وقت الاهتزازات الروحية المعذبة. ودستويفسكي المحلل النفسي يستند في تحليله لنفسية أبطاله إلى معيار " الشعبية" فنجده يقارن بين أفكار ومعاناة أبطاله الرئيسيين وبين الوعي الأخلاقي للجماهير الذي يقيس به صحة أو خطأ تصرفات الأبطال، وبالإضافة إلى ما ذكرنا فقد اتسمت روايات دستويفسكي بالعديد من الخصائص الفنية الأخرى التي ارتبطت بمهمة تجسد أفكار الكاتب والتي سنتناولها بإيضاح أكثر عند تحليلنا لأهم روايتين لدستويفسكي وهما: "الجريمة والعقاب" و " الإخوة كارامازوف" وهما الروايتان اللتان تظهر من خلالهما أبرز السمات الفكرية والفنية لروايات دستويفسكي..

.


.



.



يتبـــــــع "الجريمـــة والعقــاب" :o

طارق شفيق حقي
12/06/2006, 09:14 PM
رائـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع

نيرفانا
16/06/2006, 10:40 AM
تنــويه يبري الــذمة!:



على الرغم من كون رواية " الجريمة والعقاب"، كما ورد باكرا، ليست بالرواية البوليسية، ( الأخوة كارامازوف فيها تورية للقاتل )، لكن من الحكمة أيضا أن نقول لمن لم يقرأ الرواية بعد، أن يحترس إن كان من الذين لا يحبون أن يؤخــذوا غيلة!..فمن هنا، سيكون الحديث عن الرواية ( وما بعدها من روايات ) فضائحيــا!

أقصد سيحكيهــا حتى النهاية، ولعله سيقدم أيضا وجهات نظر مطبوخـة قد تلوث تلك التي بعد فطرية فيكم!

وعلى الرغم من كوني أؤكد مسألة روائعية الرواية حتى بعد ذلك، لكني جَبنُـت عن قراءة هذا وغيره حتى اشتريت الرواية وأتممتها ;)



لذلك جرى التنويـــه بالحذر، وقد أعذر من أنـــذر :)







" الجـــريمة والعقــــاب"





نتناول في هذا الجزء رواية دستويفسكي الشهيرة " الجريمة والعقاب" التي تشغل مكانة هامة في تاريخ الرواية الروسية، وينقسم تحليلنا إلى أربعة مقاطع، سنتناول في المقطع الأول الأفكار الرئيسية في الرواية، أما في المقطع الثاني فسنعرض لأهم الأحداث بها، أما المقطع الثالث فسنكرسه للحديث عن شخصية البطل الرئيسي رسكولينكوف الذي أثار حوله جدلا طويلا والذي يعتبر مفتاحا للكثير من القضايا التي تعرض لها الكاتب في روايته، وسنحاول في هذا المقطع أن نتوقف بالذات عند الدوافع المختلفة التي دفعت به إلى الجريمة، أما المقطع الرابع والأخير فسنخصصه لحديث سريع عن الخصائص الفنية للرواية.



الأفكـــار الرئيسية:



تتطرق " الجريمة والعقاب " لمشكلة حيوية معاصرة ألا وهي الجريمة وعلاقتها بالمشاكل الاجتماعية والأخلاقية للواقع، وهي المشكلة التي اجتذبت اهتمام دستويفسكي في الفترة التي قضاها هو نفسه في أحد المعتقلات حيث اعتقل بتهمة سياسية، وعاش بين المسجونين وتعرف على حياتهم وظروفهم.

وتتركز حبكة الرواية حول جريمة قتل الشاب الجامعي الموهوب رسكولينكوف للمرابية العجوز وشقيقتها والدوافع النفسية والأخلاقية للجريمة.



ولا تظهر " الجريمة والعقاب" كرواية من روايات المغامرات أو الروايات البوليسية، بل هي في الواقع نموذج لكل تأملات الكاتب في واقع الستينات من القرن الماضي بروسيا، وهي الفترة التي تميزت بانكسار نظام القنانة وتطور الرأسمالية، وما ترتب على ذلك من تغيرات جديدة في الواقع الذي ازداد به عدد الجرائم، ولذا نجد الكاتب يهتم اهتماما كبيرا في روايته بإبراز ظروف الواقع الذي تبرز فيه الجريمة كثمرة من ثماره. ومرض من الأمراض الاجتماعية التي تعيشها المدينة الكبيرة بطرسبرج ( ليننجراد حاليا ) وهي المدينة التي أحبها الكاتب وبطله حبا مشوبا بالحزن والأسى على ما تعيشه من تناقضات، ولهذا السبب بالذات نجد الكاتب كثيرا ما يخرج بإحداثه للشارع ليجسد من خلاله حياة الناس البسطاء والمدينة الممتلئة بالسكر والدعارة والآلام.

إن حياة الناس البسطاء أمثال البطل الرئيسي رسكولينكوف وأمه وأخته وعائلة مارميلادوف أحد معارف رسكولينكوف وابنته سونيا، تبدو مظلمة وقاتمة يشوبها اليأس والعذاب والفقر وسقوط الإنسان الذي سُدت أمامه كل السبل حتى لم يعد هناك " طريق آخر يذهب إليه" وهي الكلمات التي ساقها الكاتب في أول الرواية على لسان مارميلادوف في حديثه مع رسكولينكوف.

ويجعل هذا الواقع القاسي من مارميلادوف فريسة للخمر ويدفع بابنته سونيا إلى احتراف الدعارة لإطعام أخوتها الصغار الجائعين، ويجعل زوجته عرضه للجنون، كما يدفع هذا الواقع بالشاب الجامعي الموهوب رسكولينكوف إلى الجريمة ويجعل أخته عرضة للإساءة بالبيوت التي تلتحق بخدمتها، إن شخصيات الرواية تبدو مقسمة إلى مجموعتين تمثلان مواقع اجتماعية متعارضة: مجموعة تمثل الشعب المضغوط الذي يطحنه الفقر والحاجة والحرمان، وتتمثل في كل من رسكولينكوف وسونيا وعائلاتهما، ومجموعة أخرى تمثل أصحاب المال الذين تعطيهم ثروتهم "حق" الإساءة إلى المحتاجين، وفي مقدمة هذه المجموعة تبرز المرابية العجوز الشريرة التي تمتص دماء الناس وتقتص منهم والداعر المجرم سفيرديجالوف التي تمكنه ثروته من الإساءة إلى المعوزين بلا رادع ولا عقاب.

وإلى جانب وصف الواقع المعاصر تطرق الكاتب في الرواية من خلال بطله المجرم غير العادي صريع "الفكرة" على نقد الفكر الاشتراكي والليبرالي المعاصر له وانعكست من خلال ذلك مثل دوستويفسكي العليا ومبادئه ونظرته على سبل التغيير وهو ما سنتناوله بالتفصيل عند حديثنا عن رسكولينكوف. ورغم أن دستويفسكي قد رفض شتى الأفكار التي كانت تنادي بالتغيير إلى أنه قد هاجم بشدة الظلم الاجتماعي والمجتمع الذي تعج فيه بكثرة " المنافي والسجون والمحققون القضائيون والأشغال الشاقة"، كما ندد بظروف الواقع الذي تهدر به كرامة الناس والذي تراق به الدماء " التي كانت تراق مثل الشمبانيا" ، وبالإضافة إلى هذه الموضوعات فقد انعكست في الرواية نظرة الكاتب للجريمة كوسيلة من وسائل الاحتجاج ضد الظلم الاجتماعي، كما تجسد فيها تقييم الكاتب للدوافع المختلفة للجرائم والجذور الاجتماعية والنفسية لها وهو ما سنتناوله بإسهاب عند الحديث عن شخصية البطل الرئيسي.



.

.

.

.

.

.



يتبــــــع (أهم الأحداث بالرواية)

نشيد الربيع
17/06/2006, 09:25 PM
أتابع هنــــا وهنــــاك ..

شكرا لك .. واكثر

نيرفانا
18/06/2006, 11:56 PM
نشيــــــد الربيــــــع


شيللـــر :)


أهلا بك دومــــا


شكرا

نيرفانا
19/06/2006, 12:02 AM
2- أهم الأحداث بالرواية:



( أ ) الجريمــة:





هاهو الشاب رسكولينكوف يخطط لجريمته المزمعة، أو لتلك " الفكرة" التي تختمر برأسه، وهو يرتب ويعد لها بمهارة ودقة وعناية شديدة، فهو يقوم بزيارة استطلاعية لمكان الجريمة وهو بيت المرابية العجوز، لكن على ما يبدو لم يكن قد قرر نهائيا في تلك اللحظة تنفيذ الجريمة، وهو ما نعرفه من المونولوج الداخلي للبطل:"يا إلهي إن كل هذا لكريه، أحقيقة، أحقيقة أنا...لا،إنه لهراء، إن هذا لسخف، أحقيقة يمكن لهذا الهول أن يخامر رأسي"

كان رسكولينكوف يشعر في الفترة الأخيرة بالنفور الشديد تجاه شيء، وها هو هذا الشعور يتفاقم وهو في طريقه على بيت المرابية، توجه رسكولينكوف إلى بيت المرابية لزيارتها وليرهن ساعته وبالصدفة –وهو مار بالطريق على بيتها- قابل شقيقتها الوحيدة ليزافيتا التي تعيش معها في نفس الشقة، وفهم من حديث ليزافيتا مع الآخرين أن ليزافيتا لن تكون بالمنزل الساعة السابعة مساء وأن المرابية بالتالي ستكون بمفردها في هذا الوقت، وفي التو راودت رسكولينكوف بشدة فكرة الجريمة، فالفرصة في هذا الوقت ستكون سانحة لتدبيرها وقد لا يكون هناك بديل لهذه الفرصة. وعاد رسكولينكوف إلى حجرته بعد أن صمم على تنفيذ الجريمة "كالمحكوم عليه بالموت" "ولم يكن يفكر في شيء، ولم يستطع على الإطلاق أن يفكر بل أحس بكل كيانه فجأة بأنه لم يعد عنده حرية البصيرة والإرادة وأن كل شيء قد حسم فجأة ونهائيا".

ويصف الكاتب بوم الجريمة بأنه كان ذلك اليوم "الذي قرر كل شيء مرة واحدة، فقد اثر عليه بطريقة آلية، وكما لو كان قد أخذه أحد ما من يده وجذبه خلفه بلا مقاومة، بعناء بقوة غير طبيعية، بلا اعتراضات". قبل أن يتوجه رسكولينكوف إلى بيت المرابية فكر في أن يعرج على مطبخ صاحبة الدار التي يقيم بها ويأخذ من هنالك بلطة، ولكن بالصدفة كانت الخادمة هناك تؤدي عملها فلم يتمكن من ذلك، لكنه وجد عند البواب بفناء المنزل بلطه أسفل المقعد، فأخذها وخبأها في ردائه، وسار على بيت المرابية في خطى هادئة ودون أن يتعجل كي لا يثير الشكوك به، وكان ينظر قليلا إلى المارين محاولا ألا يحدق على الإطلاق في الوجوه، وأن يكون ما أمكن غير ملحوظ.

صعد رسكولينكوف على شقة المرابية، ودق جرس الباب، في البداية لم تجبه العجوز، فقد كانت وحيدة وهي شكاكة بطبعها، وهو يعرف عن عاداتها بعض الشيء، الصق رسكولينكوف أذنيه بالباب وأصغى جيدا فسمع حركة يدها الخفيفة بالباب فأصغى جيدا، وبدا له أنها أيضا بالداخل كانت تنصت غليه، وأخيرا فتحت له العجوز الباب وهي تحدق نحوه بنظراتها الحادة المرتابة، مما جعل رسكولينكوف يقبض على الباب بشدة تجاهه خشية أن تعود فتقفله مرة أخرى، وسمحت له العجوز بالدخول غليها بعد أن أخبرها بأنه ندم لإعطائها بعض الرهن. إلى أن نظرات العجوز الغريبة أثارت خوف رسكولينكوف، الشيء الذي أوقعه في خطأ كلفه الكثير، فقد نسي رسكولينكوف من ورائه الباب مفتوحا.

وقدم رسكولينكوف للعجوز الرهن، فاستدارت عنه بظهرها وهي تحاول أن تفك الرابطة المعلقة برقبتها، وهنا فك رسكولينكوف أزرار ردائه لكي يستل البلطة، لكن يديه صارتا ضعيفتين لدرجة أنه " كان مسموعا له نفسه كيف كانت تنملان وتتخشبان مع كل لحظة".

لكن رسكولينكوف خشي من ضياع اللحظة المواتية، وفجأة وكما لو كانت رأسه بدأت تدور هوى بالبلطة وبكل قواه على رأس العجوز، فصرخت في ضعف ثم خرت صريعة مضرجة في دمائها. وضع رسكولينكوف البلطة على الأرض بجوار القتيلة وزحف إلى جيبها وهو يحاول ألا "يخدش نفسه بالدم المنسكب منها، فقد كان رسكولينكوف في تلك اللحظة في كامل وعيه وتنبهه، لكن يديه كانتا ما تزالان ترتعدان، واستل المفاتيح من جيب العجوز وكانت في ربطة واحدة وجرى بها على حجرة النوم... وبدأ يفتش بين المفاتيح عن المفتاح الذي يفتح الدولاب الذي تخبئ به العجوز الأموال والأشياء الثمينة التي في حوزتها، وهنا انتابه شعور غريب، فقد شك في أن العجوز لم تمت بعد، فألقى بكل شيء وركض غليها للتأكد، وهنا لاحظ على رقبتها الرابطة المعلقة وتمكن بصعوبة من أن يقطعها، وكان بها صليبان سوى حافظة نقود فأخذها ووضعها بجيبه، ثم عاد مرة أخرى على حجرة النوم ليجرب فتح الدولاب، وفجأة سمع ما يوحي بوجود شخص آخر في الحجرة التي كانت ترقد بها العجوز القتيل فهب رسكولينكوف من مكانه وصمت " كالميت" وخيل له في تلك اللحظة أن شخصا ما يصرخ صرخة خفيفة، وهنا وبدافع من الحفاظ على النفس قبض على البلطة وخرج من الحجرة على مكان الصوت فوجد ليزافيتا شقيقة المرابية والتي حسب من قبل عدم وجودها، وجدها واقفة في منتصف الحجرة تتفحص أختها القتيل وهي مأخوذة بدرجة لا توقى معها على الصراخ، لقد عادت ليزافيتا فجأة ودخلت من الباب الذي تركه رسكولينكوف من ورائه مفتوحا طوال وقت الجريمة.

وارتجفت ليزافيتا حين شاهدت رسكولينكوف. وبال إرادة أخذت تتراجع للخلف دون أن تصرخ، وهو رسكولينكوف على ليزافيتا المسكينة وأرداها قتيلة في الحال هي الأخرى، وارتعدت بعدها أوصال رسكولينكوف من شدة الخوف، فقد اضطر إلى جريمة مفاجئة لم يكن قد حسب حسابها، وإنما اضطر إليها اضطرارا، ومن ثم انتابه شعور شديد بالازدراء. لقد خيل لرسكولينكوف أنه قد خطط بمهارة لجريمته، وأنه قد حسب كل صغيرة وكبيرة، لكن الحياة أعقد من أن تُحسب، فهي دائما أوهى من كل حساباتنا.

فكر رسكولينكوف في الهرب سريعا، فقد كان مضطربا وخائفا لدرجة كبيرة أنسته فتح الدولاب الذي كان يحاول فتحه والذي كانت تحتفظ به العجوز بأهم جزء من ثروتها.

أسرع رسكولينكوف على المطبخ بعد أن أقفل الباب وهناك اغتسل وغسل البلطة وعدل من هيئته ثم اتجه على الباب ليهرب سريعا بعد أن اخذ معه حافظة نقود المرابية وبعض الحلي التي وجدها أسفل سريرها، ولكن كانت هناك مفاجأة تنتظره، فبعد أن فتح الباب وهم بالخروج بلغ مسمعه وقع أقدام أشخاص قادمين إلى شقة العجوز فتراجع للخلف وأوصد الباب في هدوء شديد، واضطر رسكولينكوف أن ينتظر بمنزل العجوز فترة حتى يخلو له الطريق إلى الشارع وحتى ينصرف زبائن العجوز الذين انتابتهم الشكوك في أسباب عدم فتحها لهم، وما إن تمكن رسكولينكوف من الخروج من منزل العجوز حتى سار على حجرته وهو في حالة شديدة من الإعياء وكأنه انتابته حمى شديدة، وقبل أن يصل على حجرته أعاد البلطة على مكانها الذي أخذها منه، أما الأشياء والحافظة التي تمكن من أخذها من عند العجوز فقد ألقى بها في كومة في أحد أركان حجرته وخبأها في فتحة خلف ورق الحائط ودون أن تعتريه أي رغبة في مجرد النظر إلى محتوياتها، بل نجده يفكر في إلقائها جميعا والتخلص من آثار الجريمة، ثم قرر بعد ذلك لإبعاد الشبهات عنه أن يحتفظ بها في مكان مهجور أسفل أحد الأحجار الكبيرة.





( ب ) العقــــاب:





بقتل العجوز وأختها ليزافيتا قتل الكاتب بطله وحطمه تاما،

رسكولينكوف نفسه يتساءل بعد الجريمة " وهل قتلت العجوز؟ لقد قتلت نفسي لا العجوز" ودستويفسكي لم يعاقب بطله بتقديمه إلى حبل المشنقة، فقد بدا العقاب القانوني أخف أشكال العقاب التي لقيها رسكولينكوف، أما العقاب الحقيقي فقد كان من داخل البطل نفسه ومن ضميره حيث ثاب إلى رشده عقب الجريمة، فكما يقول رسكولينكوف نفسه " إن من عنده ضميراً فهو الذي يتعذب إذا وعى الغلطة، وهذا هو عقابه".

وإذا نظرنا إلى صفحات الرواية المخصصة لوصف الجريمة فسنجدها أقل بكثير من تلك المخصصة لوصف العقاب، وعقاب البطل هنا عقاب فريد وقاس يختلف عن أي عقاب تقليدي يناله أي مجرم.

لقد بدأ العقاب النفسي للبطل بعد الجريمة مباشرة، فما أن فرغ رسكولينكوف من محو الآثار المادية لجريمته حتى بات صريع شعور جديد غير محدد بدأ يتعمق تدريجيا بداخله، ألا وهو شعور بالنفور تجاه كل شيء وكل شخص يقابله، أما وجوه الناس فقد كانت تبدو له "قبيحة وكذا مشيتهم وحركاتهم".



لقد بدا لرسكولينكوف أنه قد انفصل تماما عن عالم الأحياء، وأنه كما لو كان قد " قطع نفسه بمقص عن الجميع".

كان رسكولينكوف في تجولاته الكثيرة بشوارع المدينة يبدو شارد الفكر، كانت قدماه كثيرا ما تجرانه بلا إرادة، وكما لو كان يسير بفعل قوة خفية إلى مكان الجريمة، ليعود بعد ذلك إلى حجرته فيسقط في حالة من الغيبوبة والتيه، يتراءى لرسكولينكوف خلالها أحلام مفزعة تمتلئ كلها بالعواء والدموع والدم، ويرقد رسكولينكوف أثناء ذلك يهذي بكلام غير مفهوم يبدو معه أمام القلة المحيطة كالمجنون، وإلى جانب كل هذا العذاب بدأ رسكولينكوف بدأ رسكولينكوف يستشعر شعورا جديدا أحس به لأول مرة بعد تمكنه من الهرب بصعوبة من منزل المرابية، ألا وهو شعور الخوف والاضطهاد عند الإنسان المطارد، وهاهو هذا الشعور يتفاقم بعد معرفة رسكولينكوف بمطاردة الشرطة له، فقد فطن رسكولينكوف إلى ملاحقة المحقق القانوني له الذي كان يسترسل معه في أحاديث طويلة، محاولا الإيقاع به والحصول على اعتراف منه، وقد أثارت هذه الأحاديث غيظ رسكولينكوف الذي شاهد بها محاولة مكشوفة لاستدراجه، فهو يقول "إذن هم لا يريدون أن يخفوا أنهم يطاردونني كقطيع كلاب".

وكان شعور الإنسان المطارد يتفاقم لدى رسكولينكوف مع الأيام، وهاهو شخص يظهر من تحت الأرض ويشير إليه " يا قاتل". واقعة غريبة تحدث مع رسكولينكوف وتثير بداخله المخاوف بدرجة تجعل "قدميه تخوران"، وكما لو كان قد تجمد، ففي إحدى المرات التي خرج فيها رسكولينكوف للتجول شاهد البواب وهو يقف أمام حجرته فلفت نظره مشيرا إلى شخص ما طويل الهيئة، وحين سأل رسكولينكوف البواب عن الموضوع أخبره بأن الرجل كان يسأل عنه، وحينئذ اندفع رسكولينكوف في أعقابه حتى لحق به وسار في محاذاته، وسأله رسكولينكوف عما إذا كان يسأل عنه، فلم يجبه الرجل ولم يرد ولم يعره بالا، حينئذ قال له رسكولينكوف غاضبا: "من أنت..ولماذا إذن حضرت... سالت ثم الآن تسكت...نعم...ماذا يكون هذا؟!"

فرد الرجل عليه بصوت هادئ وواضح " يا قاتل"..لقد أخذ رسكولينكوف بهذه الحادثة، وما أن عاد إلى حجرته حتى رقد بلا حراك على الأريكة، وتمدد عليها وهو يتأوه، فما لبث أن غفا في حلم عن أيام طفولته.. ثم تنبه بعد ذلك على صوت وقع أقدام صديقه "رازوميين" ووضع رسكولينكوف يده على رأسه التي كانت تعتصرها الأسئلة: "من هو، من هو هذا الشخص الذي خرج من تحت الأرض؟ أين كان وماذا شاهد؟ لقد شاهد كل شيء، هذا لا شك فيه، أين كان يقف آنذاك ومن أين كان ينظر؟ لماذا يخرج الآن فقط من تحت الأرض؟ وكيف استطاع أن يرى وهل هذا ممكن؟"

ومالبث أن ضعف جسد رسكولينكوف ووهن مرة واحدة، وأحس لدقائق " كما لو كان يهذي: وسقط في مزاج متهيج منفعل".

لقد وضع الكاتب بطله في مواضع مختلفة من الناس المحيطين به وذلك كي يكشف آلامه وعذابه بعد الجريمة، ورد فعل حالته على هؤلاء الناس، وذلك خلال لقاءات رسكولينكوف مع أمه وأخته اللتين قدمتا إلى بطرسبرج بعد الجريمة وصديقه رازوميين ولوجين الذي يرغب في الزواج من أخته دونيا، وسفيرديجالوف الذي كانت تعمل لديه دونيا كمربية والذي نالت من جرائه إهانات، لقد كان أكثر الناس الذين أحسوا بالتغيير الذي طرأ على رسكولينكوف هم أمه وأخته اللتان انتابتهما الحيرة والحزن لما يعانيه رسكولينكوف من عذاب نفسي. أما رسكولينكوف الذي كان من قبل الجريمة يتجنب الأصدقاء والزملاء فقد أصبح الآن بعد الجريمة يحس بالغربة حتى عن أقرب الناس وأحبهم إليه وهو يقول: " أمي وأختي، كم كنت أحبهما فلم الآن أبغضهما، أبغضهما، ولا أستطيع تحملهما قريبا مني".

لقد استطاع رسكولينكوف أن يهرب بضعة أشهر من الحكم القانوني، ولكنه لم يستطع ولو للحظة واحدة منذ قيامه بالجريمة أن يتخلص من شعور الذنب والخطأ وتعذيب الضمير، وقد كان هذا الشعور هو العقاب الحقيقي المؤلم الذي أوقعه الكاتب ببطله، وكان هذا الشعور هو العقاب الحقيقي المؤلم الذي أوقعه الكاتب ببطله، وكان هذا العذاب يحدث عن وعي من جانب البطل، ففي اعتقاد رسكولينكوف أن : " العذاب والألم ضروريان دائما للوعي الواعي والقلب العميق".

وبعد سلسلة طويلة من العذاب والألم اللذين عاشهما وعي وقلب رسكولينكوف، تقدم بعد ذلك طوعا واعترف بجريمته وأدلى بكل الدقة والوضوح بتفاصيل الجريمة، دون أن يشوه أية حقائق في سبيل مصلحته، كما اعترف بالمسروقات وأوصافها، مما بعث حيرة المحققين والأخصائيين الاجتماعيين في تفسير دوافع رسكولينكوف للجريمة، ولاسيما أنه قد اعترف بأنه لم يستخدم النقود التي أخذها من عند المرابية ولم يحاول حتى أن يتعرف على محتويات المسروقات.

وقد دفعت هذه الملابسات إلى اعتقاد بعض المحققين بأن أسباب الجريمة ترجع على "اختلال عقلي مع ميل انحرافي للقتل والسرقة، بلا أهداف مستقبليه أو حسابات للفائدة"

أما رسكولينكوف فقد كان تبريره للجريمة في وقت المحاكمة يرتبط بوضعه المحتاج ورغبته في التدعيم المادي وبناء أولى خطواته في الحياة بنقود المرابية، وأيضا بسبب بعض الطيش بطبعه وصغير شنه. وحكمت المحكمة بعقاب رسكولينكوف بالأشغال الشاقة لمدة ثماني سنوات فقط، وقد كان هذا الحكم مخففا بالنسبة لشخص ارتكب جريمتي قتل مرة واحدة، وقد نطقت المحكمة بهذا الحكم المخفف لأسباب عديدة، فقد أخذت في الاعتبار كل الظروف الذاتية والموضوعية الخاصة بالمجرم، فهو علاوة على تقدمه طوعا للاعتراف في الوقت الذي لم يكن هناك ثمة أدلة مادية ضده، بل على العكس كان هناك شخص مهتز عقليا ونفسيا كان قد تقدم قبل ذلك واعترف بارتكابه لهذه الجريمة، علاوة على ذلك فقد كانت ظروف رسكولينكوف قبل الجريمة قاسية وصعبة بالفعل، وإلى جانب كل ذلك فقد أخذ المحققون برأي أن رسكولينكوف لم يكن في كامل قواه العقلية وقت ارتكاب الجريمة، فشخص ينسى قفل الباب وقت الجريمة لابد أن يكون في حالة اضطراب غير عادية وبالإضافة إلى كل هذه الظروف والملابسات، فقد قدّم صديق رسكولينكوف إلى المحكمة معلومات وإثباتات تكشف الجانب الإنساني الحسن من رسكولينكوف طالب الجامعة السابق، فقد أعطى بيانات عن رفقاء الجامعة الفقراء الذين كان يساعدهم رسكولينكوف في الوقت الذي كان يرزح هو نفسه تحت وطأة الفقر، كما حكت صاحبة الدار التي كان يسكن لديها عن كيفية تطوع رسكولينكوف بإخراج طفلين من شقة تحترق وكيف نالته حروق من جراء ذلك.



وبعد انقضاء خمسة شهور من محاكمة رسكولينكوف، نقل إلى المنفى في سيبيريا.





.



.



.



.



يتبـــــــع ( رسكولينكــوف )

chatter_lb
05/02/2007, 11:53 AM
السلام عليكم


الاخوة الكرام

لدي سؤال : هل يمكنني ايجاد مؤلفات دستويفسكي منشوة على الانترنت ,لا سيما تلك المترجمة على يد سامي الدروبي او التي نشرتها دار التقدم(رادوغا) موسكو.

يرجى ممن يعرف شيئا عن الموضوع مراسلتي على chatter_lb@hotmail.com
ولكم جزيل الشكر

نيرفانا
14/06/2007, 03:08 PM
<<لدي سؤال : هل يمكنني ايجاد مؤلفات دستويفسكي منشوة على الانترنت ,لا سيما تلك المترجمة على يد سامي الدروبي او التي نشرتها دار التقدم(رادوغا) موسكو.>>

وعليكم السلام..

تفضلــ/ي الرابط هذا :)

http://abooks.tipsclub.com/index.php?act=view&id=5541

توجد المجموعة الكاملة

نيرفانا
14/06/2007, 03:21 PM
3 – رسكولينكــوف:

من هو رسكولينكوف؟ هل هو شخص غير طبيعي كان يعاني من أمراض نفسية تدفعه إلى الانتقام من الناس كي يعيش بعد ذلك كل هذه الآلام من عذاب الضمير؟ أم هو شخص يدعي دور المصلح الاجتماعي الذي يحاول التخلص من الشر دون أن يتفادى هو نفسه هذا الشيء؟ أم هو شخص " غير عادي" كما كتب هو نفسه في مقال عمن أسماهم بالأشخاص "غير العاديين" الذين يحق لهم أن يقولوا كلمتهم حتى ولو اضطرهم ذلك إلى تخطي أي عقبة في الطريق؟
أم هو خليط من هذا وذاك معا في تركيبة متضاربة ومتناقضة معقدة، إن رسكولينكوف ورغم كل الغموض الذي لازم شخصيته إلى أنه في ذات الوقت يمثل نموذجا لأبطال دوستويفسكي المحبوبين، فأبطاله عادة يعيشون حياة روحية مضطربة ويطبعهم الفكر والألم والعذاب. وقد أثارت شخصية رسكولينكوف بالذات من بين أبطال دستويفسكي جدلا طويلا حولها، واختلفت آراء النقاد في تحليلها؟ فقد شاهد البعض فيه نفسا مريضة مهتزة العقل ومن ثم فهو لا يؤاخذ على جريمته، فمثلا الناقد سوفورين يقول:" إن رسكولينكوف شخص مريض، ذو طبيعة عصبية وختل التفكير، ولذا فإن قتل العجوز الشريرة ليس بجريمة".
ومثل هذا التفسير لا يعتبر صحيحا وكافيا، فهو لا يأخذ بعين الاعتبار كل الظروف الموضوعية المحيطة بالبطل والتي كان لها دور كبير في ارتكابه للجريمة.
أما بعض النقاد الآخرين فقد شاهدوا في جريمة رسكولينكوف تعبيرا عن "دراما الفكر التي ظهرت في الغرفة الخانقة الضيقة كالنعش"
ومثل هذا الرأي لا يأخذ في الاعتبار جوانب الضعف بشخص رسكولينكوف والتي كان لها دورها. أما جزء آخر من النقاد فقد رأى في رسكولينكوف والتي كان لها دورها. أما جزء آخر من النقاد فقد رأى في رسكولينكوف " منتقما للإنسانية البائسة ولذل وآلام سونيا مارميلادوف".
وهذا الرأي لا يعطي أهمية " الفكرة" أو النظرية لدى رسكولينكوف والتي كان لها دورها في ارتكاب الجريمة، وإلى جانب هذه الآراء كانت هناك آراء أخرى تربط بين شخصية رسكولينكوف وممثلي الحركة الاشتراكية الثورية، وهو الرأي الذي هوجم بشدة من جانب ممثلي هذه الحركة. وعموما فرسكولينكوف يعتبر من أعقد شخصيات الرواية الروسية، وربما كان رسكولينكوف نفسه لا يفهم نفسه جيدا فأي إنسان هو؟ أشرير؟ أو ×ير؟ أو مصلح بطريقته..؟ أم هو خليط من كل هؤلاء معا.
سنحاول في هذا الجزء أن نتأمل شخصية رسكولينكوف، علنا نجد لها بعض التفسير...

نيرفانا
14/06/2007, 03:25 PM
مـــن هو رسكولينكوف..؟

إن رسكولينكوف شاب جامعي وهب الذكاء والقدرة على التأمل والتحليل فيما يحيط به، وهو شهم بالطبع، كريم يجود بآخر ما في جيبه من أجل مساعدة الآخرين كما أنه مدافع عن الحق والمظلومين.. ورسكولينكوف حساس بالطبع يحب الطبيعة ويعشق الزهور "التي كانت تشغله بوجه خاص" كما أنه يقدس الأطفال.
لم يكن لرسكولينكوف بالجامعة أي أصدقاء، إذ كان حسب وصف الكاتب له يتجنب الجميع، كما لم يكن يتزاور مع أحد ولم يكن يسهم في أي نشاط طلابي أو ترفيهي، لكنه كان يدرس بجد ومثابرة، ورغم تقدم رسكولينكوف في الدراسة، إلا أنه فصل لعدم قدرته على سداد المصروفات الدراسية.
وينغلق رسكولينكوف على نفسه ويعيش وحيدا في صومعته، أو حجرته الحقيرة الكئيبة يجتر فقره وألمه وحرمانه، كان رسكولينكوف يرتدي رث الثياب ويأكل أردأ الأطعمة ويبدو بين شوارع مدينة بطرسبرج كالشحاذ، والكاتب يروي لنا كيف أن رسكولينكوف في إحدى تجولاته بمدينة بطرسبرج اصطدم بعربة سيدة من الأغنياء، فتوقفت العربة، وما أن شاهدته السيدة حتى مدت إليه يدها ببضعة قروش كإحسان، فقد بدا لها من ملبسه وهيئته كالشحاذ. ولكن رغم الفقر الشديد لم يفقد رسكولينكوف كبرياءه وكرامته. وكان ينظر إلى رفقائه بالدراسة " مثلما ينظر على الأطفال، نظره من أعلى، وكان قد سبقهم جميعا في التطور والمعرفة والعقيدة، وينظر غليهم كما لو كان ينظر إلى شيء أدنى.
كان رسكولينكوف يعيش بمفرد في مدينة بطرسبرج بعيدا عن أمه وأخته وكانت أخته على قسط من التعليم، لكنها كانت تعمل في الفترة الأخيرة كمربية لدى إقطاعي غني وهو سفيرديجالوف الذي أساء إليها كثيرا وخرجت من بيته ومن حولها الشائعات مما جعلها تفكر في الإقدام على الزواج من كهل لا تحبه هو المحامي لوجين كمخرج لها ولأسرتها من الأزمة الطاحنة التي تعتصرهم، وكان هذا الموضوع يؤرق ويعذب رسكولينكوف بشدة، فقد كان يحب أمه وأخته حبا كبيرا، أما هما فقد كانتا تحبانه لدرجة العبادة.
إن خطاب أم رسكولينكوف الذي تحكي له بالتفاصيل عن مشروع زواج أخته من لوجين قد أثار بشدة أشجان رسكولينكوف وأحزانه إذ كان يقرأ الخطاب ووجهه "مبلل بالدموع" لقد هال رسكولينكوف تضحية أخته بنفسها من أجل إنقاذهم، وهو ما نتبينه من المونولوج الداخلي لرسكولينكوف:"إنها لن تبيع نفسها من أجل نفسها، أو من أجل راحتها، أو حتى من أجل إنقاذ نفسها من الموت، بل تبيع نفسها من أجل شيء آخر! من أجل الشخص العزيز الذي تعبده ففي هذا يتلخص الموضوع كله، من أجل الأخ، ومن أجل الأم ستبيع نفسها".
ولكن ماذا يملك رسكولينكوف لمساعدة أمه وأخته أو حتى نفسه...؟ ما الذي يستطيع فعله كي يمنع زواج أخته من هذا الرجل..؟ كانت الأسئلة تعتصر ذهن رسكولينكوف دون أن يجد لها جوابا.

كان رسكولينكوف يعرف فقط أنه من الضروري عمل شيء ما، أما الأسئلة الأخرى فلم يكن هناك جواب لها بعد، وهي الأسئلة التي يصفها الكاتب بأنها لم تكن جيدة أو مفاجئة " بل قديمة العهد وموجعة" وقد خلقت فيه هذه الأسئلة حسرة كانت تزداد يوما بعد يوم،"أما في الوقت الأخير فقد نضجت وتركزت واتخذت شكل سؤال مفزع وقاس، كان يعذب قلبه وعقله ويتطلب حلا دامغا"
راودت رسكولينكوف فكرة الانتحار كمخرج من عذاب الحياة، لكن حب الحياة كان عنده أقوى، كما فكر رسكولينكوف أيضا في إيجاد عمل يرتزق منه ويساعد به أسرته، لكنه سرعان ما تبين لنفسه عدم جدوى البحث عن عمل فهو في جميع الأحوال لن يحل مشاكله ومشاكل أسرته، ولن يتمكن من الدراسة، ومن جديد دارت "الفكرة" برأسه.
إن هذه الفكرة لابد أن تكون فكرة مريعة فقد كان مجرد تذكرها " يجعل الرعشة العصبية بداخله تتحول إلى حمى، وكان يشعر بقشعريرة ويحس بالبرد في الحر الشديد".
إن دوستويفسكي يبرز "الفكرة" عند البطل في ارتباط وثيق بالظروف البائسة وضغط الحياة من جهة، وحياة الوحدة والعزلة من جهة أخرى، فعزلة الشباب في المدينة الكبيرة كانت تجعلهم فريسة لمختلف الأفكار والنظريات الغريبة والأحلام المريضة والمشاعر الشاذة.
ولكن الوحدة والظروف ليست الأسباب الوحيدة التي تثمر "الفكرة" فهناك أيضا القدر الذي يسيرنا والصدفة التي تلعب دورا في حياتنا.
إن الكاتب كان كمن يتأرجح بين شرح الأسباب الموضوعية التي تحيط بالبطل والتي كان لها دورها في دفعه للجريمة وبين أسباب أخرى غيبية خارجة عن إرادته. فدستويفسكي يحكي كيف أنه في إحدى المرات التي كان رسكولينكوف فيها عائدا إلى بيته قرر بالصدفة أن يعرج على إحدى الحانات، وهناك "بالصدفة أيضا" سمع رسكولينكوف حديثا بين شخصين كانا يجلسان بالقرب منه، يبدو أحدهما طالبا والآخر ضابطا، وكان هذا الحديث كما يصفه الكاتب "غريبا" إذ يدور حول المرابية وأختها، وكان الطالب يحكي عن أن المرابية شريرة ومتقلبة المزاج، وأنها لا تتوانى عن القصاص من زبائنها إذا تأخروا في سداد المطلوب منهم حتى ولو كان عندهم ظروف قاهرة، وأشار الطالب أنه يود لو قتل العجوز وسرق أموالها وأنه إذا ما فعل ذلك فلن يحس حينئذ بأي توبيخ للضمير، لاسيما وأن العجوز بلهاء وتافهة لا معنى لوجودها، كما أنها شريرة ومريضة وفوق كل هذا وذاك ضارة بالجميع، ولا تعرف هي نفسها لماذا تعيش، بالإضافة إلى كل ذلك وحسب رأي الطالب فإن القوى الشابة اليافعة تضيع هباء بلا سند، وهذه القوى بالآلاف في كل مكان، ونقود العجوز التي ستؤول إلى الدير من بعد موتها يمكن أن تؤتي وتدر بالكثير من الفوائد، فهناك عشرات العائلات التي تضيع بسبب الفقر وتتفكك وتموت، وتضطر للدعارة، ونقودها كان يمكن أن تصنع الكثير لمثل هذه العائلات. وهنا صرح الطالب للضابط:"أقتلها وآخذ نقودها، وذلك كي تستطيع بمساعدتها أن تكرس نفسك بعد ذلك لخدمة الإنسانية جمعاء والخير العام" وأضاف الطالب متسائلا:" ألا تكفر آلاف الأرواح المنقذة من العفن والتفكك عن التضحية بحياة واحدة؟".
ويعلق الكاتب على شعور رسكولينكوف ورد فعله على هذا الحديث بأن رسكولينكوف كان بالطبع في اضطراب للغاية، فقد كانت هذه الموضوعات عادية ومكررة وكان قد سمعها أكثر من مرة فقط في أشكال وموضوعات أخرى، ولكن لم تحتم الآن بالذات أن يسمع حديثا كهذا وأفكارا كهذه في الوقت الذي ولدت برأسه مثل هذه الأفكار بالضبط".
إن دستويفسكي يشير على أهمية هذا الحديث وتأثيره فيما بعد على تطوير "فكرة" رسكولينكوف كما لو كان هناك "قدر مسبق وتوجيه"، ولذا فقد عاد رسكولينكوف بعد سماعه الحديث إلى حجرته في حالة شديدة من الإعياء، ورقد بلا حراك، وتراءت له في رقدته أحلام غريبة، كان رسكولينكوف يرى نفسه فيها ضائعا وتائها في بلاد بعيدة.
وهاهو اليوم المشئوم، يوم تنفيذ "الفكرة"، إن الكاتب يصاحب رسكولينكوف لحظة بلحظة ويسجل كل أفكاره ومشاعره، ورغم أن رسكولينكوف كان قد قرر يرم الجريمة بناءا على معرفته بأن أخت المرابية لن تكون بالمنزل وأن المرابية ستكون بمفردها، إلى أن الكاتب يحكي أن يوم الجريمة قد أتى "بالصدفة" أما في الواقع فلم يكن رسكولينكوف يتحرك بعفوية، وبلا إرادة ووعي وتدبير وتخطيط، فقط كان يراجع نفسه في كل صغيرة وكبيرة تخص الجريمة ورسكولينكوف حين يسأل نفسه عن الجريمة وملابساتها، وعما إذا كانت الجريمة تنتج عن مرض المجرم، أو إذا كانت الجريمة تصاحب بشيء ما شبيه بالمرض، فإنه يجيب على ذلك بأنه بإقدامه على تنفيذ الجريمة لا يمكن "أن تكون هناك انقلابات مرضية كهذه،وأن عقله وإرادته حاضران معه بلا تجزئة" وينفذ رسكولينكوف الفكرة ويقتل المرابية، لم يكن رسكولينكوف شريرا أو مجرما بالطبع، فلحظة أن فتحت له العجوز بنظرات شك انتابه خوف وجزع لدرجة جعلته يضيع "ويفكر في الهرب". ومنذ تلك اللحظة لازمه الخوف والعذاب، وكما اشرنا من قبل فقد كانت محاكمة رسكولينكوف الحقيقية أمام ضميره الذي لم يسمح له بأن يحصد ثمار الجريمة ولم يتركه هادئ البال ولا لحظة واحدة، أما المدعي الحقيقي ضد رسكولينكوف فقد كان هو نفسه الذي أثقل روحه وعقله بالأسئلة حول الجريمة، لقد نصب دستويفسكي بطله حكما على نفسه، ومن خلال ذلك تعرض بالحكم على كل النظريات والأفكار التي كان يؤمن بها والتي لعبت دورها في قيامه بالجريمة، ولكن على ما يبدو فرسكولينكوف نفسه تائه في أسباب جريمته ودوافعها ونحن لا نتعرف في الحال ومرة واحدة على هذه الدوافع ولكن نتبينها بالتدريج.

في البداية وكما اشرنا برزت ظروف رسكولينكوف الصعبة كعامل رئيسي دفع به إلى الجريمة لكي يحصل على النقود وكل مشاكله ومشاكل أسرته، لكن ما حدث بعد الرحيمة لم يثبت هذا الدافع، فقد فكر رسكولينكوف في التخلص من المسروقات بإلقائها في البحر، ولم يكلف خاطره مجرد التعرف على هذه المسروقات. ورسكولينكوف المدعي يوجه لنفسه سؤالا بخصوص هذا الموضوع:"لو أن هذا العمل قد صنع حقيقة عن وعي وليس بحماقة،و إذا كان بالفعل عندك هدف محدد وثابت، فلماذا لم تحدق حتى هذا الوقت في الحافظة لتعرف ما الذي حصلت عليه، والذي بسببه نلت كل هذه الآلام وأقدمت على عمل نذل وكريه وحقير كهذا؟ نعم، لقد كنت تريد الآن أن تلقي بالحافظة إلى الماء مع كل الأشياء التي لم ترها بعد...كيف هذا" ولكن إذا كان رسكولينكوف لم يكن قد ارتكب جريمته بدافع السرقة ، فما السبب الكائن وراء هذه الجريمة..؟

إن التعرف على مقال رسكولينكوف عن الجريمة، والذي كان قد كتبه قبل قيامه بالجريمة ونشر له في إحدى الصحف ربما يساعد في الوصول إلى دوافع جريمة رسكولينكوف، لقد لفت مقال رسكولينكوف عن الجريمة اهتمام المحقق القانوني الذي انتابه الشك في رسكولينكوف بسبب مقاله هذا والذي بدأ يناقشه في مضمونه أثناء استجوابه له بصفته أحد الزبائن الذي كان لهم صله بالمرابية القتيل....ورسكولينكوف في مقاله عن الجريمة يقسم الناس على صنفين" على "عاديين" وغلى "غير عاديين". العاديون حسب المقال يجب أن يعيسوا في طاعة وهم لا يملكون الحق في تعدي القانون لأنهم عاديون، أما غير العاديين فلهم الحق في أن يرتكبوا شتى الجرائم وأن يتخطوا القانون بشتى الطرق فهم " غير عاديين"..ويشرح رسكولينكوف بصورة أوشح فكرته هذه بالتالي "إن غير العاديين لهم الحق في أن يسمحوا لضميرهم بإزالة العوائق في حالة وجود "فكرة" يريدون تحقيقها".
ويذكر رسكولينكوف مثالا على ذلك بأن المخترعين العباقرة من كبار العلماء أمثال "نيوتن" لم يكن من الممكن بحال أن تصبح مخترعاتهم معروفة للناس دون التضحية بحياة شخص أو عشرة أو مائة أو غيرهم ممن كانوا يعوقون هذا الكشف أو الذين يقفون في طريقه، وإلا فإن نيوتن كان سيكون له الحق، أو حتى لزاما عليه أن يبعد هؤلاء العشرة أو مائة الشخص لكي تصبح مكتشفاته معروفة للإنسانية كلها، ولكن لا يترتب على ذلك أن نيوتن كان يحق له قتل كل من يخطر له على بال".
علاوة على ذلك ففي رأي رسكولينكوف أن "مشرعي ومنظمي الإنسانية منذ القدم وحتى نابليون كانوا جميعا مجرمين، وذلك لأنهم كانوا وهم "يعطون قانونا جديدا كانوا بذلك يحرقون القديم المبجل في تقديس من جانب الآباء السابقين، وهم في سبيل ذلك لم يتوقفوا أمام الدم لو أن الدم استطاع فقط أن يساعدهم".

ورسكولينكوف لا يدين هؤلاء " الخاصة" من الناس ممن يمتلكون موهبة قول " كلمة جديدة" في بيئتهم إذا ما ارتكبوا الجريمة، وذلك لأن جزءا كبيرا يسعى إلى حل الحاضر من أجل المستقبل ومن ثم فهؤلاء الناس في اعتقاد رسكولينكوف يمكن أن يسمحوا لأنفسهم " بالعبور خلال جثة، خلال الدم".

وينتهي شرح رسكولينكوف لمقاله دون أن يتمكن المحقق من إمساك أية أدلة مادية ضد رسكولينكوف، فرسكولينكوف نفسه دارس للقانون، وهو على درجة عالية من الذكاء تمكنه من المراوغة في الحديث، وكان على يقين من أن هذه الأحاديث الطويلة من جانب المحقق بغرض إيقاعه لا تعني شيئا سوى أنه ليس ثمة "أدلة مادية" ضده، وأنه ليس عندهم " أي حقائق حقيقية أو شكوك لها أساس بقدر ما".
ولكن هل كان رسكولينكوف يعتبر نفسه من " غير العاديين " الذين يسعون إلى " حل الحاضر من أجل المستقبل"، ولو عبر الدماء؟

إن رسكولينكوف نفسه يتيه في دوافعه، ومن الصعب بعد التأكد من دوافع جريمته، فاعترافاته الذاتية متضاربة وهو على ما يبدو ينكر الحقيقة حتى عن نفسه، ويبدأ رسكولينكوف في كشف حقيقة دوافعه بصراحة وصدق أكثر مع سونيا، الشخص الوحيد الذي بقي على صلة به في الفترة التي سبقت توجهه للاعتراف، لقد جمعت رسكولينكوف وسونيا مشاعر العذاب والضياع وتوبيخ الضمير، فكلاهما " ملعونان" كما قال رسكولينكوف نفسه لسونيا.
وتوطدت علاقة رسكولينكوف بسونيا بعد مصرع والدها مارميلادوف الذي كانت تربطه علاقة معرفة برسكولينكوف، قد أسرع لنجدة مارميلادوف بعد أن شاهده قتيلا في أحد الشوارع، ومنذ ذلك الوقت بدأت لقاءات رسكولينكوف وسونيا، لقد تجسد لرسكولينكوف في شخص سونيا كل "عذاب الإنسانية" مما جعله يسجد عند أقدامها وذلك رغم رفضه في البداية لفلسفتها في الحياة. إن لقاءات رسكولينكوف وسونيا بالرواية والجدل الذي كان يدور بينهما تلعب دورا كبيرا في المضمون الفلسفي للرواية، فرسكولينكوف في أحاديثه مع سونيا كان كثيرا ما يربط بين مصيره ومصيرها ويحاول أن يجد في تصرفاتها وآرائها في الحياة حلولا لمشاكل حياته ووجوده.

فسونيا رغم احترافها الدعارة من أجل طعام إخوتها الجياع تبدو في ذات الوقت-على خلاف رسكولينكوف- شديدة التدين ومؤمنة بقدرها وعذابها، وهو ذلك التناقض الذي أشار إليه رسكولينكوف وتعجب منه فهو يقول لها:" كيف يتعايش بك مثل هذا العار وهذه الحقارة جنبا على جنب مع مشاعر أخرى متناقضة ومقدسة؟".

ورسكولينكوف يتعجب بشدة من قدرة سونيا على المعاناة والصمود أمام الحياة المهينة التي تعيشها رغما عنها، فهو لا يستطيع أن يتحمل مثلها هذه المعاناة النفسية، وهو يقول لسونيا بعد ذلك " إنه لأعدل واعقل ألف مرة لو أنك كنت قد ألقيت برأسك مباشرة في الماء وانتهيت مرة واحدة".
لقد كانت سونيا المهانة الذليلة هي الشخص الذي باح له رسكولينكوف بسره واعترف له بجريمته، ورغم تقبل سونيا لهذا الاعتراف ورغم رفضها لإراقة الدم أيا كانت الدوافع إلا أنها لم تنبذه عن طريقها ولم تستدر له.
وها هي سونيا هي الأخرى تبرز في دور المحقق فتسأل رسكولينكوف عن الأسباب التي دفعته للجريمة فيجيبها في البداية: "كي أسرق"، فهل هذه هي الحقيقة؟؟.
إن رسكولينكوف يعرف جيدا أن هذا ليس هو الحقيقة، فهو نفسه يقول لها: لو أنه "قتل بسبب الجوع، لكان عندئذ سعيدا". وسونيا هي أيضا تعرف أن هذا ليس السبب الوحيد، فهي تعلم جيدا أن رسكولينكوف قدم لعائلتها آخر ما بجيبه من نقود..ويحاول رسكولينكوف أن يبرر جريمته أمام سونيا متعللا بنفسه وطبيعتها بعد أن لاحظ أن سونيا لا تصدق أن جريمته بغرض السرقة وهو لهذا يقول لها:" إن قلبي شرير، لاحظي هذا، ولذا يمكن تفسير الكثير" وأضاف بأنه من الممكن أيضا افتراض أنه "محب للنفس وحسود وشرير ورذل وميال للانتقام وأيضا إلى الجنون" ولكن لا، فنفسه الميالة للشر ليست هي السبب المباشر أو الوحيد، إن رسكولينكوف يتراجع في اعترافه هذا، ليبدأ في الإفصاح عن الأسباب الجوهرية التي دفعته إلى الجريمة، فقد أراد "أن يصبح كنابليون" ولم تفهم سونيا البسيطة الساذجة بعض الشيء هذا الكلام، فقد بدا لها غير مفهوم، ولذا فقد بدأ رسكولينكوف يبسط لها "فكرته" التي ولدت في جو "السخط" الذي كان يعيشه، ذلك السخط الذي كان-كما يحكي- نتيجة للحياة الحقيرة التي كان يعيشها، فكما يقول:"إن الأسقف المنخفضة والمجرات الضيقة تضيق على الروح والعقل! آه، كم كنت أكره هذه العيشة! ومع ذلك كنت لا أرغب في الخروج منها، كنت لا أريد عن عمد..كنت لا أخرج أياما ولا أريد العمل، ولم أكن أريد الأكل، وكنت أرقد طوال الوقت، فإذا أحضرت ناستاسيا الطعام ( خادمة الدار ) كنت آكل، وإذا لم تحضر فلا، كان يمر اليوم دون أن أسأل عمدا من السخط! وبالليل لم يكن هناك ضوء، وكنت أرقد في ظلام ولا أرغب في العمل على ضوء شمعة، كان يجب أن أدرس، لكني كنت قد بعت كتبي وكانت المذكرات ترقد عندي على المائدة، نعم والكراسات التي يرقد عليها الآن التراب بعلو الإصبع. وكنت أفضل الرقاد والتفكير، كنت أفكر طوال الوقت...ومع ذلك كانت عندي أحلام غريبة، أحلام مختلفة، لا داعي للكلام، أي أحلام، بيد أنه فقط آنذاك كان قد بدأ يتراءى لي..."

إن رسكولينكوف في رقاده الطويل وتأملاته الكثيرة في الواقع المحيط به قد وصل إلى أن الناس باتوا يعيشون في مجتمع الغابة، فالقوي يلتهم الضعيف، والقوي هو الذي يحكم الناس، وكما يقول " فالجامد القوي العقل والروح هو ذلك الذي له عليهم سلطان! من سيتجرأ كثيرا فهو على حق عندهم، من يستطيع البصق أكثر يكون هو المشرع، من يستطيع التجرؤ أكثر يكون أحقهم جميعا". لقد بات قانون الغاب هذا "عقيدة وقانون" رسكولينكوف، ومن ثم صارت القوة والسلطة مطمعه وحلمه، لكن السلطة والقوة لا توهبان بل يجدر "التجرؤ" وانتزاعهما، ولذا فقد قرر رسكولينكوف كما قال لسونيا " أردت أن أتجرأ وقتلت".



رسكولينكوف بين النظرية والتجربة:

في جو من الحرمان والفقر الشديد الذي يحرم طالبا موهوبا من دراسته وفي الحجرة الكئيبة الخانقة، ولدت عند بطل دوستويفسكي "الفكرة" التي قادته إلى الجريمة، إن الفكرة تعتبر سمة مميزة لروايات دوستويفسكي التي يبرز بها نمط البطل المفكر ذي الأبحاث الفلسفية، ومن ثم فالفكرة عند دوستويفسكي –وكما يقول الناقد تشتشيرين- تصبح في الرواية "مركزا وبدورها بطلا للرواية".

إن رسكولينكوف ذا الشخصية المتأملة المفكرة قد وصل إلى "الفكرة" بناء على نظرية كاملة لخص بعض نقاطها الأساسية في مقالة عن الجريمة والذي سبق أن تناولناه، وبناء على هذه النظرية خطط رسكولينكوف في عناية لجريمته، وقرر أن يجرب "النظرية" أو مفهومه عن الشخصية "غير العادية" التي يحق لها أن تقول كلمتها وأن تجد حلا للحاضر من أجل المستقبل ولو عبر الدمــا..لقد قرر رسكولينكوف أن يقوم بالتجربة ليتأكد عمليا إلى أي من الناس ينتسب، ومن ثم فهو لم يذهب عفويا أو متهورا إلى الجريمة بل "كالذكي"، فقد كان يلزمه أن يعرف كما قال لسونيا هل هو "قملة كالجميع أم إنسان" هل سيستطيع أن يتخطى أم لا؟ هل سيتجرأ على الانحناء وأخذها أم لا..؟ هل هو "مخلوق مرتجف أم يملك الحق".

وفشلت التجربة، وسقط البطل، لقد ظهر انفصال تراجيدي بين "حسبة" رسكولينكوف للجريمة وبين الحياة الحقيقة، فقد خطط رسكولينكوف لقتل المرابية "الهراء" الظالمة، لكنه اضطر لقتل شقيقتها البريئة ليزافيتا والتي لم يحسب حسابا لقتلها، والكاتب كما لو يريد الإشارة بذلك إلى أن الشر عادة ما يجر وراءه شرا آخر. وبالإضافة لذلك فإن قتل ليزافيتا "المسكينة"- كما كان يذكرها رسكولينكوف بعد قتلها-اكتسب معنى رمزيا في الرواية فالكاتب كان يقارن كثيرا بينها وبين سونيا المظلومة الذليلة، ولذا فقد أخطأ رسكولينكوف حين كان يتصور أحيانا أنه بجريمته سينتقم من عالم الظلمة، فقد ضل هو بهذه الجريمة على هذا العالم الظالم الذي يظلم ويضطهد الأبرياء أمثال سونيا وليزافيتا.

والأهم من ذلك كله أن رسكولينكوف كان يتصور وهو يخطط لجريمته أنه سيستطيع أن يقف في جانب الشر دون تهديد للضمير، لكن العكس حدث، إذ لم يستطع أن يتحمل وزر العذاب النفسي الرهيب الذي لازمه بعد الجريمة فهو بطبعه إنسان خير وشهم ومحق، ومن ثم بات واضحا أن طبيعة البطل لم تكن متكافئة مع "الفكرة" وأن هذه "الفكرة" لم تكن سوى مجرد جزء صغير من نفسه، وقد دخل هذا الجزء في تناقض مع طبيعة البطل، وأكدت التجربة لرسكولينكوف وكما قال لسونيا "أنه لم يكن له الحق في الذهاب" لأنه كما يقول "نفس القملة كالجميع".
لقد بات واضحا بالنسبة لرسكولينكوف أن طريقه كان طريقا خادعا، وفكرته كانت خاطئة لم ينل من ورائها سوى الموت الروحي، وتبدل مثل رسكولينكوف الأعلى، ولم يعد يتطلع على "غير العاديين" فهو لم يجد السلوى والطمأنينة على عند "العاديين"، إذ برزت سونيا المحطمة المعذبة كملاذ أخير له، وكانت هي الشخص الذي "نشد فيه الإنسان حين كان يلزمه إنسان"، كما أصبح طريقها طريقة، ألا وهو طريق المعاناة والصبر والبعث الديني، وهو الطريق الذي كان يسخر منه رسكولينكوف من قبل. إن رسكولينكوف قبل أن يتوجه للاعتراف يسجد على الأرض في أحد الميادين وبين "العاديين" ويقبل الأرض "القذرة" في "لذة وسعادة".

ورسكولينكوف لا يبتعد فقط عن نظريته، ولا ينبذها فقط عن طريقه، بل تصبح بالنسبة له مصدرا للاشمئزاز، فحين شاهد رسكولينكوف-عند أمه حيث كان ذاهبا إليها لوداعها قبل التوجه للاعتراف- مقالة عن الجريمة الذي يلخص فيه نظريته، اعتراه الحزن والهم،"وتركز به كل صراعه الروحي في الشهور الأخيرة مرة واحدة، فألقى بالمقال في نفور وهم على المائدة".

ورسكولينكوف رغم معرفته بالحكم الذي سينتظره بعد الاعتراف إلا أنه لم يفقد تفاؤله بالمستقبل، وهو يودع أخته قائلا" سأحاول أن أكون شجاعا وشريفا طوال حياتي، رغم أنني قاتل، وربما ستسمعين اسمي في وقت من الأوقات".

وفي المنفى حيث كان يقضي رسكولينكوف فترة عقوبته في سيبيريا، وحيث كانت سونيا في جواره، يحدث تحول وبعث برسكولينكوف، ويحدث الالتحام بين روحي رسكولينكوف القاتل السابق وسونيا الخاطئة، فقد رحلت سونيا على سيبيريا وراء رسكولينكوف واستقرت هناك لكي تكون قريبة منه، واستطاعت أن تكون لنفسها معارف وأصدقاء، وأن تجد لنفسها عملا شريفا تعيش منه بعد أن امتهنت مهنة الحياكة، إن رسكولينكوف وسونيا يبعثان من جديد، "فقد بعثهما الحب، واحتوى قلب أحدهما على منابع لا نهائية من الحياة من أجل قلب الآخر".

لقد طريق رسكولينكوف صعبا وشائكا، بيد أنه ليس من العسير ملاحظة تعاطف الكاتب مع بطله "المجرم" فرسكولينكوف لم يكن فقد جانيا، بل كان أيضا مجنيا عليه، وإذا حاولنا أن نلخص لدوافع جريمته فسنجد أنها مركب متشابك من الدوافع الذاتية والموضوعية، فمن جهة دفعت الظروف الصعبة اليائسة برسكولينكوف إلى حياة الوحدة والانطاء مما أعطاه فرصة الانغماس في التأملات والأفكار، وكشفت تأملات رسكولينكوف عن واقع يسوده الظلم ويسيره قانون الغاب، ومن ثم اهتدى البطل إلى "فكرته" كمخرج من ضائقته وكحل لآلامه. بيد أن ظروف رسكولينكوف ليست الدافع الوحيد للجريمة فهناك أيضا نفسه المهزوزة المريضة، فهو يبرز كشخصية منطوية منفصلة عن الناس ومغرورة ومتعالية، مما يسمح بتغلغل مثل هذه الفكرة التي خلقت به وعيا مريضا بدا من خلاله كل شيء أمام رسكولينكوف قاتما وشريرا.

وعليه فإن أيا من الأسباب الذاتية البحتة التي ترتبط بنفس البطل وحدها أو الموضوعية الاجتماعية الخاصة بظروفه لا تكفي، فقد كان لكل هذه الأسباب جميعها متضافرة دورها وعلاقتها بارتباكه الجريمة.

ورسكولينكوف يعتبر بلا شك حلقة جديدة في سلسلة الرواية الروسية التي تصور الشاب المعاصر ومشاكله الاجتماعية والنفسية، وصورة رسكولينكوف ذي التكوين العقلي الفردي النابليوني وذي الأحلام الطائشة ليست بالجديدة على الرواية الروسية فقد سبقتها صور شبيهة، ولعل رسكولينكوف بتجربته الذاتية يذكرنا ببيتشورين بطل ليرمونتوف في رواية "بطل العصر" التي سبق أن تناولناها وبالذات في الجزء من الرواية الذي يذهب فيه إلى "بثامان" مع الفارق في الظروف التي تغيرت بتغير الزمان.

وشخصية رسكولينكوف تتميز بالعمق في التحليل وهي تعتبر بحق-كما أشار العديد من النقاد-ذخيرة عبقرية لدستويفسكي في تطوير الرواية الروسية. وأهمية رسكولينكوف لا ترتبط فقط بالتحليل النفسي البارع وأيضا الفني لأخطاء البطل وتجربته، بل ترتبط أيضا بتلك الموضوعات الفلسفية والأخلاقية الهامة التي تطرق غليها الكاتب من خلال بطله والتي نلخصها فيما يلي:

أولا: فيما يخص استخدام الجريمة كأسلوب من أساليب الاحتجاج ضد الظلم الاجتماعي ومن أجل حل مشاكل الحاضر، فقد رفض الكاتب تماما هذا الأسلوب ولا أدل على ذلك من المأساة التي انتهى إليها البطل بعد الجريمة، وخير شاهد على ذلك أيضا تعليق الكاتب على حالة بطله بعد الجريمة وهو في بيت العجوز، فقد كتب عن رسكولينكوف يقول:" لو أنه فقط تمكن أن يدرك كل صعاب حالته، وكل فظاعتها وسخافتها، ولو أنه تفهم آنذاك كم من الصعاب وربما أيضا الشرور مازال أمامه تخطيها كي يخرج من هنا ويصل على منزله، لربما كان ألقى بكل شيء للتو وذهب بنفسه يعلن عن نفسه، لا بسبب الخوف على نفسه، بل بسبب الرعب نفسه والازدراء من ذلك الذي صنعه".

ثانيا: فيما يخص تفسير الكاتب للجريمة كظاهرة كائنة فقد اختلف دستويفسكي مع علماء الاجتماع الذين يربطون الجريمة بالظروف المحيطة وحدها، فقد شاهدنا الكاتب وهو يحاول أن يجسد تفسيرا لجريمة رسكولينكوف في نفسه هو، إذ كان دستويفسكي يعتبر أن البيئة وحدها لا تكفي لتفسير الجريمة، هي ليست بالمصدر الرئيسي للشر، فهناك أيضا نفس الإنسان ذات الجانبين ( الخير والشر )، وهذه الازدواجية من شأنها أن تكون مصدرا للشر، ولذا نجد الكاتب يسخر صراحة في روايته من الآراء التي "لا تأخذ في الحسبان الطبيعة" وهو لهذا يرى أنه من أجل تحطيم الشر لا يكفي تغيير البنيان الاجتماعي، بل يجب تغيير الإنسان نفسه، وما حدث مع بطله. ومن هنا يصبح واضحا تأرجح الكاتب بين شرحه للمؤثرات الغيبية والموضوعية التي أثرت على البطل.

ثالثا: تعرض الكاتب من خلال نقده "لنظرية" رسكولينكوف أو "فكرته" لموضوعات الفكر الثوري والثقافي الأوروبي المعاصر له، ففيما يخص موقف الكاتب تجاه الفكر الثوري المعاصر له فقد ربط الكاتب بين احتجاج رسكولينكوف الفوضوي بالجريمة وبين الفكر الاشتراكي الثوري، وقد ألمح إلى ذلك وكما أشرنا في مواضع مختلفة بروايته، منها على سبيل المثال أللقطة التي تحكي عن حديث الطالب للضابط وهو الحديث الذي سمعه رسكولينكوف فجأة، وهو الحديث الذي يمثل حسب وصف الكاتب "الأحاديث" و"الأفكار الشابة" والذي كان يدور مثله تماما برأس رسكولينكوف. كما هاج الكاتب أيضا على لسان رسكولينكوف الفكر الليبرالي المعاصر الذي كان ينادي بالتقدم البطيء التدريجي للحياة والحضارة، فبطله يقول " لا، إن الحياة تعطي لي مرة واحدة، ولكن لن تكون أبدا مرة أخرى، وعليه فلست أريد انتظار "السعادة العامة" فأنا نفسي أريد أن أعيش، وإلا فالأفضل ألا أعيش".
وقياسا على ذلك يمكن فهم فلسفة الكاتب ونظرته للتغيير فقد كان يسعى إلى أن يجد "الإنسان بالإنسان"، ومن ثم كان بعثه لبطله بعثا دينيا وأخلاقيا وروحيا.
.

نيرفانا
14/06/2007, 03:37 PM
4- في التكنيك الفني للرواية

تعتبر "الجريمة" والعقاب أول رواية اجتماعية فلسفية لدوستويفسكي وذلك لأن تصوير واقع حياة الشخصيات في الرواية ينفصل عن وصف أبحاثها الفلسفية والأخلاقية.

وتتصف "الجريمة والعقاب" بتلك السمة العامة المميزة لروايات دوستويفسكي ألا وهي الشكل الدرامي، فالرواية تتصف بديناميكية الأحداث وتوترها، وبالجو المحموم الذي تجري به الأحداث التي تحدث في زمن محدود ومكان محدود، فدستويفسكي عادة ما يتجنب في رواياته البسط الواسع للزمان والمكان.
والكاتب لا يبدأ روايته بالحديث عن ماضي وحياة بطله السابقة للجريمة، بل يدخل سريعا بالقارئ إلى الأحداث الهامة في الرواية ويقترب للتو من نقطة حاسمة بالرواية، فنجده بعد سرد سريع لأحداث اليوم الذي سبق الجريمة ينتقل مباشرة بعد ذلك لوصف أحداث الجريمة نفسها التي تمثل حبكة الرواية.

وكما سبق أن أشرنا "فالجريمة والعقاب" تنقسم إلى جزأين: جزء صغير يتناول وصف تنفيذ الجريمة، وجزء أكبر يصف عقاب البطل، وهو الجزء الذي يتسم بالتحليل النفسي العميق، وتغلب عليه السمة التراجيدية فالبطل نتيجة للجريمة التي قام بها موضوع أمام اتخاذ قرار يتوقف عليه كل مصيره التالي ووجوده، وفي جميع الأحوال يبدو هذا المصير مظلما وتعسا.

إن دوستويفسكي يأتي في الرواية كشاهد عيان يسمع كل شيء، وينصت إلى وجهات نظر شخصياته، وينظر إلى العالم بأعينهم، وهو أحيانا يحكي عن بطله الرئيسي بضمير الغائب، وأحيانا أخرى يلتحم صوت الكاتب بصوت بطله، وأحيانا يبدو أن البطل يحكي بنفسه للكاتب عما يحدث.

ودستويفسكي لا يصف الأحداث من وجهة نظر المراقب الخارجي الذي لا علاقة مباشرة له بالأحداث، بل يمر بالأحداث خلال استيعاب بطله الرئيسي وتبعا لحالته النفسية الداخلية، ولذا فإن سرعة أو بطء الأحداث تتغير تبعا لحالة البطل، فنجد الأحداث أحيانا تحدث في بطء وذلك مثلما حدث في لقطة قتل العجوز..وأيضا اللحظات التي تصف المعاناة النفسية لرسكولينكوف، وأحيانا أخرى نجد الكاتب يسرع بزمن الأحداث في كثير من اللقطات التي تصف لقاءات رسكولينكوف لمختلف الشخصيات. ولا يلعب وصف المكان والشخصية عند دوستويفسكي دورا مستقلا، بل يعتبر جزءا من الحدث والمضمون، فمثلا وصف الكاتب لحجرة رسكولينكوف الكئيبة أو للحانة التي يتقابل فيها رسكولينكوف في بداية الرواية مع مارميلادوف والد سونيا..لا يعتبر وصف هذه الأماكن شيئا مستقلا بل هو يلعب دورا مساعدا في كشف صورة العالم المادي المحيط بالبطل والذي بعث فيه النفور والسأم.

وأما وصف الشخصية، فهذا الوصف يساعد كثيرا في تفهم طبيعتها وصفاتها، من ذلك وصف ليزافيتا "المسكينة" أخت المرابية، فقد وصفها الكاتب من خلال استيعاب الطالب الذي كان يجلس بالقرب من رسكولينكوف بالحانة ويتحدث مع الضابط عن المرابية، وصفها بالتالي: "لقد كانت تعمل ليلا ونهارا، وكانت تعمل بمنزلها بدلا من الطباخة والغسالة وعلاوة على ذلك كانت تحيك الملابس وتبيعها وكانت تعمل حتى بالأجر في مسح الأرضيات وكانت تكسب النقود، وكلها لأختها ( المرابية ) ولم تكن تتجرأ أن تأخذ على عاتقها أي قرار كطلب شراء أو أي عمل بدون إذن العجوز....وكان وجه ليزافيتا طيبا وعيونها أيضا طيبة للغاية بدليل أنها كانت تعجب الكثيرين....وهي هادئة ووديعة وحليمة، ومطيعة، مطيعة في كل شيء"
لقد انطبع هذا الوصف لليزافيتا في ذاكرة رسكولينكوف وقت قتله لها، وبعد ذلك كان يتذكر في عذاب فتله لليزافيتا المسكينة التي كانت بلا وعي منه ترتبط صورتها المستغلة المظلومة في ذهنة بصورة سونيا.

وفيما يتعلق برسكولينكوف فالكاتب لا يصف للتو لك حياته وظروفه وأفكاره ومشاعره، بل يدخل بالتدريج في الرواية معلومات عن ظروف حياته وعن تلك الأفكار والمشاعر التي تراوده، فمثلا بالنسبة "لفكرة" رسكولينكوف- وكما شاهدنا – فهي لا تبدو واضحة للقارئ في البداية، كما أن معتقدات البطل المختلفة والتي تناولها في حديثه مع المحقق عن مقالته وفي حديثه حتى مع سونيا لا توضح مباشرة أبعاد "الفكرة" بل نتبين هذه الأبعاد تدريجيا كلما انغمسنا أكثر وأكثر في عالم أفكار رسكولينكوف قد تبدو في نظام لا يتسم بالمنطق والتسلسل بل هي تبدو أو تخفى تبعا لحالته النفسية وطبيعة من يتحدث إليه.

.

.
و......
.

.

يتبــــــع....... http://www.alsakher.com/vb2/images/smilies/rolleyes.gif

طارق شفيق حقي
14/06/2007, 08:28 PM
من أطل الغياب عاد بالغنائم

نيرفانا
14/06/2007, 08:42 PM
من أطل الغياب عاد بالغنائم



آه ياريت :)

أهلا بك

نيرفانا
19/06/2007, 04:54 PM
إضـــافة ليست من الكتاب!..
" سفيدريكايلوف" __ الوجـه الآخـــر!


بعد انتهيت من رواية دوستويفسكي الرائعة جدا "الجريمة والعقاب" سألت أخي الذي سبقني إليها عن أي الشخصيات أثارته فكان رأيه "بروفير بيتروفيتش"، قاضي التحقيق، مبهورا بكونه علم منذ البداية بأن رسكولينكوف هو القاتل الحقيقي للمرابية العجوز..

ولما سألني قلت له بابتسامة من توقع ورغب بالسؤال " سفيدريكايلوف "، فقطب جبينه لثانية وكأنه يتساءل من هو لكنه أبقى تقطيبه ذاك حين عرف من أعني!

يظهر "سفيدريكايلوف"- أو "سفيرديجالوف" بحسب الترجمة- مع الأحداث الأولى للرواية في رسالة موجهة من أم رسكولينكوف لولدها تحكي له عن محاولة إغوائه- "سفيدريكايلوف"- لـ"دونيا" أخت "رسكولينكوف" التي تعمل في منزل الأول، وكيف تحملت الأخت – الشريفة حتى النهاية- ما تحملته من تشهير من قبل الزوجة حتى اعترف لها زوجها بالحقيقة أخيرا، فاعتراها الذنب وراحت تعتذر بطريقة مبالغ فيها إذ لم تترك أحدا إلا وخبرته سواء بالإعلان العام أو بالطرق على الأبواب!.

ثم يظهر بعد ذلك شخصيا مع بداية الجزء الثاني من الرواية*، حين يفيق "رسكولينكوف" من كابوس مرعب شاهد فيه المرابية العجوز فيجده أمامه.
وتكون زوجته قد ماتت، وسبقته الشائعات -التي تصبح كشيء قابل للتصديق بسبب ماهيته، وأحيانا أخرى لا تهم!- بأنه قتلها كما تقول أنه تسبب في موت خادمة وفتاة صغيرة!

باختصار "سفيدريكايلوف" ماجن يهوى النساء، مستغل ويعترف نفسه بفجوره في أحاديث تمت بينه وبين "رسكولينكوف"، بل وله فلسفته الخاصة عن وضعه فيقول: "إن للفجور شيء من الاستمرار يضفيه على الطبيعة، وليس عليه أن يتحمل نزعات خيالاتنا وأهوائنا، إن فيه شيئا دائما أشبه بالشعلة المتوقدة في الدم، على استعداد أبدا لمتابعة اللهيب الذي لا ينطفئ بمرور السنين"
وحين يجيبه "رسكولينكوف" بأنه: " مرض، ومرض خطير"، يرد: " إنني أوافقك على أنه مرض ككل شيء يتجاوز حده، والحدود هنا لا يمكننا إلا أن تتجاوز، لكن الأمر الذي قد يكون على غرار هذا بالنسبة للبعض لا يكون كذلك بالنسبة للآخرين"....
وذلك الحوار تحديدا يصل لنهاية أو استقراء من قبل "رسكولينكوف": " هل أنت على استعداد لقتل نفسك! إذا أخفقت في هذا المضمار؟".. فيشمئز "سفيدريكايلوف" قائلا بأنه يكره الحديث عن الموت!..

ولعله في الحديث أعلاه يكمن الفرق الجوهري بين الاثنين "فرسكولينكوف" كان على طول السرد محتارا من الأسباب الحقيقية التي أدت به إلى القتل، هل هي فكرية كفكرة "الإنسان المتفوق / الغير عادي" المطروحة في إحدى مقالاته، أم اجتماعية للحصول على المال، أم لأنه ببساطة شرير كما يردد، لكنه وبضمير معذب يعترف بأنه قتل نفسه بفعلته تلك، ويشمئز منها وتطارده حد مقاربة الجنون!.
في حين يعتبره سفيدريكايلوف كطبيعة فيه، وإن كانت شرا فهي شر لا بد منه!..

لقد كان دوستويفسكي كريما في وصف الخلفية النفسية والفكرية لكافة الشخصيات وبلسانها، إما عن طريق الحوار أم بسرد حالتها النفسية بتمعن، كأوهام "رسكولينكوف" ومرضه، وكذلك الحال بالنسبة لـ"سفيدريكايلوف".
ولعل القارئ سيلحظ التشابه بين "سفيدريكايلوف" و"رسكولينكوف" كما هو بين "دونيا" التي أحبها "سفيدريكايلوف" ورأى فيها خلاصه، و"سونيا"- العاهرة- التي كانت حب وخلاص "رسكولينكوف"..

إن المفارقة تكاد تبدو ساخرة في الحب المربع أعلاه، تشابه آخر يجري بين الاثنين غير كونهم مثقفين، وهي من جهة مشاهدة الأشباح، أشباح ضحاياهم، خوف الاثنين من الموت، حبهم الكبير للأطفال ومساعدة المحتاجين ولو بكامل ما يملكون!..

كما نقف عند تشابه دونيا من حيث مقاربتها على التضحية بنفسها بالزواج من "لوجين" ،الذي لا يناسبها إطلاقا، في محاولة لمساعدة أمها وأخيها مع إسقاط حساب نفسها لأجلهم، وهو كما يراه الكاتب أو بالأحرى "رسكولينكوف" لا يختلف أبدا عن بيع "سونيا" لجسدها لأجل أسرتها فقط، وإن كان في نواح يعذر للأخيرة فعلتها وأحيانا أخرى يتعمد إهانتها!
و"سفيدريكايلوف" في أحاين يلوم دونيا على ما يظنه تودد له ولو بحسن نية!

وكلا المرأتين تتفقان على رسكولينكوف قد أزهق روحا بشرية من غير حق ودفعتاه للاعتراف، إلا أن قرار المرأتين اختلف بخصوص هذين الرجلين، "فسونيا" بقيت حتى النهاية تدفع "رسكولينكوف" –بحب- للتوبة والاعتراف لإنقاذ نفسه وبقيت متفانية ومخلصة حتى بعد ذلك، في حين رفضت "دونيا" "سفيرديكالوف" رفضا قاطعا أدى به إلى نهايته هو!

كلا المرأتين أحبهما رجلين خاطئين، الأول ،أو لعل كلاهما، قاتل، والثاني عربيد، والاثنان يريان في المرأتين باب أو متنفس للخروج من العفن الذي ولجا فيه لأسباب عديدة..

ويرى الواحد الآخر صورة معكوسة لنفسه، فحين يتعمد "سفيدريكايلوف" على سرد مجونه "لرسكولينكوف" في آخر لقاء لهما يقول فرحا: " هل تصدق أنني أجد رغبة في الاستمرار في سرد هذه القصص لأصغي إلى استنكارك وصياحك. إنه سرور حقيقي!"
يغمغم "رسكولينكوف" :" لست أشك في ذلك، أو لست أنا بنفسي شاذا بنظري في هذه اللحظة؟"

ومن بعدها يفترقان، ليتجه "سفيدريكايلوف" إلى هدفه الوحيد لوجوده في بطرسبرج " دونيا " متسلحا بكونه يعرف حقيقة أخيها القاتل، المرأة التي لعله آمن بأنها ( ستنقذه )! وأنفق كل السبل في سبيل الحصول عليها نبيلة كانت أم غير شريفة!..أو أنه ببســاطة كانت هدف يرغب في الحصول عليه بشتى الوسائل، ولو أنني أميل للسبب الأول بالنظر للنهاية التي انتهى بها!

يلتقي معها، يهددها ثم يغويها من جديد، لكنها ترفض فيقول: " إنك تعرفين بأنك تقتلينني"، لا يتوقف ويطلب حاجته بالقوة، تفاجئه بمسدسه، تنطلق الرصاصة، تخدشه، ومن ثم تلقي بالمسدس مستسلمة! وتلك اللحظة الرهيبة يصفها دوستويفسكي في "سفيدريكايلوف":
" لم يكن قلقا بسبب الموت المرتقب إذ أنه كان من المشكوك فيه أن يكون شاعرا بمثل هذا الإحساس في تلك اللحظة. لقد كان مستغرقا في شعور قاتم متطير كان يحار في تفسيره ومعرفة بواعثه"...
فيقترب من دونيا ويسألها للمرة الأخيرة" على ذلك فلن تحبيني"
ثم بيأس يكرر " ولا... يمكنك أن تحبيني؟ أبدا؟"
وحين يجد الرفض في المرتين يوليها ظهره ويتركها تنصرف وكأنه يتخلى أخيرا عن أمله الوحيد في الحياة، لتبدأ بعد ذلك صفحات مخصصة له في الرواية وربما إحدى أكثرها حراكا وسوداوية، يعرج على "سونيا" يقول لها: " أمام "روديون رومانوفيتش" طريقتين لا ثالث لهما: إما أن ينتحر ، وإما أن يمضي إلى سيبيريا". ويترك لها المال، قائلا بأنه كأنه يتركه "لرسكولينكوف" أساسا، يؤدي ما عليه وما يريد، تنتابه الهواجس والكوابيس، وأمام جندي لا ينفك أن يقول:" ليس هناك المكان الذي تريد" يستل مسدسه ويسدده على صدغه الأيمن ويضغط على الزناد منهيا بذلك دوره في دراما فعلا قوية .
ويتفاجأ "رسكولينكوف"- وهو في قسم الشرطة- و(يرتعد) حين يعلم بمصير "سفيدريكايلوف" ، ويشعر "كأن حملا ثقيلا قد انهار فوقه وسحقه"، ليخرج ويعود في نفس اللحظة ويعترف بالجريمة..

بالطبع ستختلف الآراء والقراءات حول "سفيدريكايلوف" كما حصل و"رسكولينكوف" ولو عمومها سيتجه لكون الأول صورة المجرم بطبيعته يستغل ماله وصلاته في الحصول على مراده وإشباع ميوله الشاذة، وأنه أمثولة لأشخاص كثيرين موجودون حتى الآن بيننا، وأيضا لكونه صورة للعدمية في الرواية..

إن دوستويفسكي لم يقصر أسباب الانحراف على المجتمع والأفكار الثورية فحسب بل أيضا جعل للنفس والشر فيها دورا هاما ومؤثرا، وربما كان هذا السبب في كون "سفيرديكالوف" يمثل دور من يكون الشــر فيه أكثر منها ضغوط مجتمع وأفكار ومثل ثورية، والتي ممكن إصلاحها باعتبارها شيء دخيل على نفس نقية، لكن من يعتبره-شذوذه- طبيعيا فيقول مرة:" أعلنت لها استحالة بقائي مخلصا لها كل الإخلاص" ولعل نهايته الدموية هي رأي آخر للكاتب أن من كان الشر فيه فإصلاحه صعب أو حتى مستحيل، وأنه إما سينتهي للجنون أو الانتحار..

فلم اختلف مصير الاثنين وهل قصد دستويفسكي بذلك كون أنه بذرة الشر هي التي تقضي على الإنسان وليست فقط الظروف الاجتماعية والفكرية وإن أورد لها حسابا هاما في معرض نقده الواضح للأفكار السائدة في ذلك العصر؟!

صحيح أن الإنسان هو عامل متغير بفعل الزمان والمكان، لكن دستويفسكي- المؤمن بالمسيح- لعله يؤكد هنا حيوية جوهر الإنسان وأنه هو فقط يمتلك الحق في اتخاذ قراراته، فدوستويفسكي- كما يوافق الكل- يقوم في نهاية رواياته بعملية تطهيرية لمعظم الشخصيات، فهل كان انتحار "سفيدريكايلوف" تطهير، أم أنها حالة أخرى لعدم جدوى إصلاح بعض النفوس؟!

إلى جانب كون الإيمان يلعب دورا كبير في روايات دستويفسكي فهو وعلى الرغم من مقولة البعض أنه تكلم عن العدمية أو تجاوزوا للقول بأنه عدمي!، إلا أن دستويفسكي ينتهي دوما بأولئك غير المؤمنين في رواياته – "الجريمة والعقاب"، "الأخوة كارامازوف"- إلى الجنون كما حصل لـ"ايفان"، والانتحار كما "سمرد ياكوف" في "الأخوة كارامازوف"، و يمكن أيضا أن ندرج "سفيدريكايلوف" فهو مثل للإلحاد والعدمية وهي التي تقول بأنه "مادام الله غير موجود إذن كل شيء مباح"..وإن كنت لا أذكر إن تحدث "سفيدريكايلوف" عن إيمانه من عدمه أم لا حاليا! :)

الخوض في نفسيات شخوص "الجريمة والعقاب" مغامرة لا تنتهي ولا ينضب معينها!.
قال جوته مرة "أن تكون عظيما يعني أن لا تنتهي" وقد كسب دستويفسكي ذلك بتقدير عالٍ ومستحق ويثني النقاد على ذلك بقولهم أن روح الجريمة والعقاب ستحلق على روايات القرن الواحد والعشرين..


جملة دوما تجتاحني في أمر كهذا ولا أدري هل أنسبها لبوارو بطل أغاثا كريتسي أم اختلفت عليّ الروايات الكثيرة في ذلك الوقت، المقولة هي كــ " الرجل يمكن أن تكون نهايته على يد امرأة (شريفة)"..
ولعل هذه المقولة الآن تنطبق على كل من "رسكولينكوف" و "سفيرديكالوف" الذي اختار كل واحد منهما إحدى نهايتين أو خلاصين قادتهما أو ساعدتهما في ذلك المرأتين التي أحباهما!

ومن ناحية أخرى قال بوارو أيضا لامرأة أو ذات المرأة فيما معناه " يمكن أن تحبي لصا لكن لا يمكن أن تحبي قاتلا"!



* "الجريمة والعقاب" الترجمة الكاملة_ الجزء الثاني
عن دار مكتبة الحياة


المصدر: هنــــا! :)

نيرفانا
09/07/2007, 08:07 PM
" الأخوة كــــــارمازوف "


ظهرت " الأخوة كارمازوف" آخر روايات دوستويفسكي عام 1880 في جو الأزمة الثورية التي كانت تكتنف حياة روسيا في تلك الفترة التي واكبت عمر غروب شمس الإقطاع في روسيا وزوال نظام القنانة وشهدت نهضة كبرى للحركة التحريرية الشعبية. وتكتسب رواية "الأخوة كارمازوف" أهمية خاصة بين روايات دستويفسكي الأخرى لكونها جاءت خلاصة لفكر الكاتب الاجتماعي الأخلاقي والفلسفي الديني.

وينقسم عرضنا لهذه الرواية إلى ثلاثة أجزاء: نتناول في الجزء الأول عرضنا لأهم أفكار الرواية وأحداثها، أما الجزء الثاني فسنتناول فيه أهم الشخصيات في الرواية، وفي الجزء الأخير نعرض لأهم الخصائص الفنية "للأخوة كارمازوف".

1- أهم الأحداث والأفكار:

تركزت الأحداث الرئيسية لرواية "الأخوة كارمازوف" حول جريمة قتل الإقطاعي العجوز فيودر كارمازوف التي تثير جريمة قتله حيرة شخصيات الرواية وكذا القارئ. بيد أن دستويفسكي يضلل الجميع حين يجعل أصابع الاتهام تشير نحو الابن الأكبر للإقطاعي وهو ديمتري، فجميع الدلائل والقرائن كانت ضده وتؤكد أنه وحده القاتل: فديمتري يتنازع مع أبيه بخصوص ميراثه عن أمه، والأب والكهل وابنه يتنافسان على حب المرأة اللعوب جروشنكا، ويصل بهما الاصطدام إلى حد العراك واعتداء ديمتري على ابيه بالضرب وتهديده إياه بالقتل أمام الكثيرين، وخلاف ذلك من القرائن التي تجعل الشرطة تجزم بذنب ديمتري وتعتقله بتهمة قتل والده ويساق إلى المحكمة.

بيد أن القاتل الحقيقي للأب كارمازوف والذي يظل مجهولا للشرطة حتى نهاية الرواية يظهر فجأة أنه الخادم والابن غير الشرعي للأب فيودر كارمازوف والمدعو في الرواية سمرد ياكوف، والذي ينتحر شنقا. لكن سمردياكوف قبل أن ينتحر نجده يعترف للابن الأوسط لآل كارمازوف وهو إيفان بجريمته، ولكنه يصرح له في اعترافه بجملة تقلب الأوضاع على أعقابها، حين يقول له: "إن القاتل الرئيسي هو أنت، أنت وحدك! أما أنا فلست إلا مساعد قاتل، معاونا ثانويا، رغم أنني قتلته. أما أنت فإنك القاتل الشرعي..."

ويضيف سمردياكوف عند هذا القول مفسرا بأنه حين قتل الأب فيودر كارمازوف، فإنه قد فعل ذلك بوحي من أفكار إيفان القائلة بأن " كل شيء مباح، فمادام الإله الذي لا نهاية له غير موجود فالفضيلة إذن لا جدوى منها ولا داعي لها".

وهذه الكلمات تذكر القارئ بكلمات شبيهة تردد ذكرها أكثر من مرة في الرواية، الشيء الذي يشجع القارئ على استعادة استيعاب ما قرأه بغية التوصل إلى ما وراء هذه الكلمات التي تبرز كمفتاح لبعض أفكار الرواية. لقد ترددت فكرة إيفان هذه في أكثر من موضع في الرواية، ولعلها ذكرت أول مرة في الجزء من الرواية الذي يحمل العنوان "اجتماع في غير محله"، حين تطرق الحديث في الدير بحضرة الابن الأصغر لآل كارمازوف وهو اليوشا إلى مقال منشور لإيفان يلخص فيه أفكاره التي ترفض وجود الله ووجود الخلود ويؤكد بأنه "لا فضائل بغير إيمان بخلود الروح، كل شيء مباح إذا لم نؤمن بخلود الروح"
إن هذه "الفكرة" التي تذكرنا "بفكرة" رسكولينكوف في رواية "الجريمة والعقاب" تلعب هنا أيضا في رواية "الأخوة كارمازوف" وكما يبرزها الكاتب دور المحرك الرئيسي لجريمة سمرد ياكوف تلميذ وتابع إيفان. فالجريمة هنا بمثابة تجربة علمية في يدي إيفان لنظرية " كل شيء مباح"..

وعليه فتصوير جريمة القتل هنا، ومثلما في رواية "الجريمة والعقاب" لا يعد هدفا للكاتب في حد ذاته، بل لا يتعدى كونه غلافا تتستر خلفه الأفكار الرئيسية للرواية، والتي سنحاول أن نلخص أهمها:

أولا: جاء اختيار الكاتب لشخصية سمرد ياكوف بالذات كي يكون هو القاتل، جاء مرتبطا برغبة الكاتب في توضيح مفهومي: الإيمان ودوره في حياة الإنسان، والجريمة والظروف.. فمن جهة كانت الملابسات المتعلقة بجريمة قتل الأب تؤكد أن القاتل سيكون الابن الأكبر ديمتري الذي توجه فعلا- وكما روى في التحقيق- وفي نيته قتل أبيه، لكن فجأة حدثت "معجزة" أمسكت ديمتري عن الجريمة، أو كما قال هو نفسه: إن الله قد "حرسه" ويظهر بعد ذلك أن القاتل الحقيقي أي سمرد ياكوف هو شخص بعيد عن الشبهات، وكان هذا الشخص حر الإرادة في تنفيذه للجريمة، ولكن لم تحدث معه "معجزة" شبيهة بتلك التي حدثت مع ديمتري، لأن القاتل ملحد والله "لا يحرس" أمثاله، فالبعث الطيب للروح الإنسانية، كما أبرزه دستويفسكي ممكن فقط في وجود الإيمان وبهذه الفكرة نفسها عارض الكاتب شرطية الجريمة بالظروف المحيطة والبيئة، وأكد بوجود إرادة الإنسان الحرة وتدخل "المعجزات"، والقوى الغيبية عند حدوث الجريمة.

ثانيا: هاجم دستويفسكي بشدة وذلك من خلال العرض التفصيلي للمحاكمات الخاصة بالجريمة والتي انتهت بالحكم ظلما على الابن الأكبر البريء ديمتري بالأشغال الشاقة لمدة عشرين عاما، هاجم الكاتب المحاكم القائمة التي تستند على الأدلة الشكلية، ولا تبحث عن الظروف الخاصة بالمتهم، ولا تأخذ في الاعتبار الظروف الاجتماعية والنفسية الظاهرة والخفية التي تتعلق بالجريمة، ورفع الكاتب شعار المحكمة الدينية الكنائسية كبديل للمحاكم السائدة.

ثالثا: أبرز الكاتب دراما مقتل الأب كانعكاس لدراما اجتماعية وفكرية أعمق يعيشها المجتمع الروسي في عصر زوال النظام الإقطاعي النبيل، فدستويفسكي في آخر رواياته لم يكن يهتم بتصوير الموضوعات الخاصة قدر اهتمامه بالظواهر العامة للحياة الاجتماعية المعاصرة وبمصير بلاده.
فمن جهة أبرز الكاتب من خلال حياة آل كارمازوف صورة للحرب المكشوفة الدائرة بين أفراد العائلة النبيلة التي يسودها الكره والأنانية، ويتفاقم فيها العداء إلى حد قتل الأب الذي يرمز مصرعه في الرواية إلى سقوط الركائز القديمة داخل العائلة النبيلة. ولذا فإنه ليس من قبيل الصدفة أن يشير الكاتب في أكثر من مكان في الرواية على نمطية آل كارمازوف، وإلى أن آل كارمازوف هم ظاهرة كاملة في الحياة الاجتماعية. فالكاتب على سبيل المثال يشير على ذلك على لسان وكيل النيابة أثناء التحقيق في الجريمة حين يقول: " ما الذي تمثله في الواقع أسرة كارمازوف هذه التي اكتسبت في روسيا كلها-بين عشية وضحاها-شهرة حزينة كهذه؟ قد تظنون أنني أبالغ كثيرا، ولكني أحسب أن صورة هذه الأسرة تعكس بعض العناصر الإنسانية العامة التي يتسم بها مجتمعنا المثقف المعاصر، صحيح أنها تعكسها مصغرة تصغيرا ميكروسكوبيا "كما تعكس الشمس قطرة ماء"، ولكننا نجد فيها قبسات ذات دلالة".

ومن هذا الشمول تكتسب رواية "الأخوة كارمازوف" قوة نقدية ضخمة وتبرز كاتهام صريح للواقع الذي أفرز ظاهرة "كارمازوف" وهو ما يشير إليه الكاتب أيضا على لسان الراهب راكيتين ( أهم الشهود في التحقيق )، فدستويفسكي يصف كيف أن راكيتين أثناء التحقيق، قد "صور الدراما التي أدت إلى الجريمة على أنها ثمرة عاداتنا وأخلاقنا المتخلفة، وثمرة نظام القنانة، وثمرة الفوضى التي تسيطر على بلادنا-روسيا- التي تعاني شقاء كبيرا وتفتقر إلى أنظمة لا غنى عنها".
ومن جهة أخرى فقد عكس الكاتب- من خلال تصوير مأساة قتل الأب- دراما الفكر التي كان يعيشها جزء كبير من الشباب الروسي في تلك الآونة، جزء سقطت المقاييس الأخلاقية في نظره ومن وعيه نتيجة تأثره بأفكار شريرة فوضوية تعتقد بأن "كل شيء مباح" وإلى جانب الأفكار التي أشرنا إليها، فإن دوستويفسكي ومن خلال الجدل الفلسفي العنيف، الذي بسطه من خلال شخصيات رواياته قد تطرق للعديد من القضايا الدينية والأخلاقية والفلسفية القومية والعامة، فشخصيات روايته تتجادل حول وجود الله، وطبيعة النفس البشرية وصراع الخير والشر بالإنسان، ومسئولي الإنسان الأخلاقية تجاه آلام المحيطين، والقوى التي تستطيع أن تقود الحياة الاجتماعية وخلافه من الموضوعات، ودستويفسكي حين يتطرق في روايته لهذه الموضوعات فإنه يقابل في الرواية بين فكرين متعارضين ومتجادلين سائدين في غضون تلك الفترة: فكر ديني مسيحي يبشر بالاشتراكية الطوباوية ويرفع شعارات المعاناة الروحي كسبيل للتغيير، وهو الذي يتبناه في الرواية الراهب العجوز زوسيما وأتباعه وعلى رأسهم أليوشا كارمازوف، وفكر آخر مناقض يرفض الدين ويحض على الثورة واستخدام العنف لتغيير الواقع الاجتماعي، ويتبناه في الرواية إيفان كارمازوف والخادم القاتل سمرد ياكوف.
ودستويفسكي حين يرسم سقوط وفشل فكر إيفان الذي انتهى بصاحبه في النهاية إلى الجنون، وأدى إلى انتحار سمرد ياكوف ومصرع الأب، فدستويفسكي بذلك إنما يعبر عن رفضه للفكر الاشتراكي الثوري الجديد الذي كان يتعارض مع وجهة نظر الكاتب الذي يعتقد بأن الطريق إلى التجديد، إنقاذ البشرية ممكن من خلال التصحيح لكل روح إنسانية على حده على شاكلة المسيح، وهو ما كان ينادي به الراهب زوسيما. لهذا السبب نجد دستويفسكي يجعل الفكر الديني المسيحي أساسا للنشاط العملي لأليوشا كارمازوف وكذلك أساس للبعث الروحي الأخلاقي لديمتري كارمازوف وحظيته جروشنكا، ومجموعة "الأولاد" الذي رمز الكاتب بهم على جيل المستقبل.


.
.
.
.
يتبــــع.. (أهـم الشخصيـات)

نيرفانا
09/07/2007, 08:09 PM
أهــــم الشخصيــــات:

تميزت رواية " الأخوة كارمازوف" بتعدد شخصياتها، فرغم أن الخطوط الرئيسية للمضمون تتركز حول تصوير مصير آل كارمازوف ، أي الأب الإقطاعي فيودر كارامازوف وأبناءه الثلاثة ديمتري وإيفان وأليوشا. إلا أن هذا التركيز لم يحل دون تصوير مصير العديد من الشخصيات الأخرى التي لعبت دورا هاما في إبراز الخط الفكري للرواية وذلك مثل شخصية الراهب العجوز زوسيما، وشخصية سمرد ياكوف الابن غير الشرعي لكارامازوف وخادمه في ذات الوقت، أو الشخصيات ذات المرتبة التالية مثل شخصيتي كاترينا إيفانوفنا خطيبة ديمتري، وجروشنكا المتنازع على حبها كل من الأب كارامازوف والابن ديمتري، وخلافهما من الشخصيات الأخرى.
وقد اهتم دستويفسكي بتصوير طابع ومصير كل من هذه الشخصيات وغيرها على حده، وفي الوقت نفسه فقد كان لكل من هذه الشخصيات التي تتشابك بشكل أو بآخر مع آل كارامازوف دورها في كشف بعض ملامح شخصيات آل كارامازوف..

وتأتي صورة الأب فيودر كارامازوف التي أكد الكاتب نمطيتها حين أشار من خلال كلمات وكيل النيابة التي قال فيها: "يجب أن لا ننسى أن هذا الأب من معاصرينا. أتقولون أنني أهين المجتمع إذا زعمت أنه واحد من عدد كبير من الآباء المعاصرين! واأسفاه ما أكثر الآباء الذين لا يمتازون عليه في عصرنا هذا!".
تأتي صورته تجسيدا لأسوأ ما في الطبقة الإقطاعية من سمات، فهو غارق في الفسق والسكر والفجور، يعميه الجشع والشهوة عن كل ما هو إنساني، وتمتلئ نفسه بالكذب والخداع والأنانية العمياء، وهو لا يأبه بأحد، ولا يعنيه في الحياة سوى إشباع رغباته وملذاته المادية، إنه – كما يصفه الكاتب-إنسان "شاذ" "وعجيب" "وتافه".

تزوج فيودر كارامازوف مرتين، تزوج في المرة الأولى من امرأة غنية، وكان يعيش معها حياة تعسة تمتلئ بالمشاكل والمشاحنات، واستولى على جزء كبير من ثروتها، وبعد أن أنجبا ابنهما ديمتري بثلاث سنوات فرت هاربة مع طالب فقير، وقد توفيت بعد فترة قليلة من هروبها. وبعد موتها حول الأب فيودر كارامازوف بيته إلى مكان للفسق والفجور، وأهمل أمر ابنه ديمتري، الذي انتقل بعد رحيل أمه إلى رعاية خادم وفي أمين يدعى جريجوري. وتزوج فيودر كارامازوف للمرة الثانية من شابة على درجة كبيرة من الجمال، إلا أنه لم يكف بعد زواجه الثاني من خلاعته وفجوره، ولم يراع أدنى درجات اللياقة في علاقته بزوجته الثانية، فكان يأتي بالنساء الساقطات على مرأى ومسمع منها إلى بيت الزوجية. أنجب الأب فيودر كارامازوف من زوجته الثانية ابنيه إيفان وأليوشا اللذين فقدا أمهما، ومازال أصغرهما يبلغ من العمر أربعة أعوام، بعد أن مرضت بمرض عصبي شديد، كانت تنتابها خلال هذا المرض نوبات من الهستريا والهذيان، وبعد موتها انتقل ابناها مثل أخيهما الأكبر على حضانة الخادم جريجوري.

بيد أن الأب فيودر كارامازوف ورغم ما كان يعيشه من حياة كلها فسق وفجور، ورغم إهماله أمر أولاده الثلاثة، غلا أنه مع ذلك لم يهمل تنمية ثروته، التي تضاعفت مع السنين، فهو من هذه الزاوية إقطاعي حاذق ورجل أعمال "ماهر" لا يتورع عن استغلال ابنه وعن استخدام أساليب العنف في إدارة الفلاحين، وذلك لأنهم في رأيه: "أوغاد أوباش، لا يستحقون الشفقة".
وبالإضافة على ذلك ففيودر كارامازوف يبرز كنصير ومؤيد لنظام القنانة فهو يقول: "إنه شيء رائع يشحذ العزيمة أن يعرف المرء أنه سيبقى إلى الأبد في هذا العالم سادة وخدم".

أما ديمتري أكبر الأبناء، فبعد فترة من رعاية الخادم جريجوري له تنقل للعيش عند بعض أبناء عمومة أمه، وقضى فترة المراهقة والشباب المبكر على نحو مضطرب يعوزه الاستقرار، ولم يتمكن من إنها دراسته في المدرسة الثانوية، والتحق بعد ذلك بمدرسة عسكرية أرسل بعد تخرجه منها إلى القوقاز، غلا انه تورط هناك في مبارزة عوقب بعدها بالحرمان من رتبته، وبالطبع فقد كانت علاقة ديمتري بوالده شبه منقطعة، وكانت أول مرة يشاهد فيها ديمتري والده-وحسب وصف الكاتب- " بعد بلوغه سن الرشد، حين قدم عمدا إليه للتفاهم مع بخصوص ممتلكاته".
وقّع ديمتري مع والده اتفاقا يقضي بأن يرسل له والده ريع أرضه التي ورثها عن أمه تباعا، ولكن الأب قد أضمر بينه وبين نفسه خداع ابنه والاستيلاء على ثروته باحتساب الريع الذي يرسله له كثمن لبيع أجزاء من ميراثه وجن عقله، وكان الموضوع-كما أشرنا آنفا-أحد اسباب خلافه مع والده.

ورث ديمتري عن أبيه بعض "الطيش" وعدم القدرة على جمح الشهوات والاندفاع وراء الرغبات الحسية والملذات والمتع الدنيوية، لكن ديمتري-خلافا لوالده الذي كان يمتلئ قلبه بالشر والجبن- كان يتحلى بقلب طيب ويتمتع بكبرياء وعزة نفس. وديمتري أيضا إنسان متقلب المشاعر، سهل الاستثارة، فهو يهجر خطيبته الجميلة الرقيقة كاترين إيفانوفنا التي تحبه حبا صادقا، ويندفع وراء المرأة المجرية جروشنكا محبوبة أبيه، وديمتري-كما أشير آنفا-يتهم ظلما بقتل أبيه، ويحكم عليه بالأشغال الشاقة عشرين عاما بعد ثبات الأدلة الشكلية ضده وبعد أن قدمت خطيبته السابقة-التي كانت تأكلها الغيرة على حبه للمرأة الأخرى- على المحكمة خطابا، كان قد أرسله غليها بخصوص دين من المال يجب عليه سداده لها، وأخبرها في هذا الخطاب نفسه بأنه سيحصل على المال بأي ثمن، حتى لو كلفه ذلك قتل أبيه.

بيد أن ديمتري وبتأثير المحنة التي يقع فيها، تحدث بروحه عملية "تحول كبيرة" تحرر الإنسان الذي كان "حبيسا" بداخله، وتجعله يتقبل عقوبة جريمة لم يقترفها، لأنه رأى في هذا تكفيرا عن ذنوب أخرى صغيرة ارتكبها طوال حياته، لذا فقد قرر أن " يعاقب نفسه بنفسه" كي يصبح "إنسانا آخر".

ورغم ما كان ينتظر ديمتري من سنوات شاقة ومؤلمة في السجن، إلا أن ذلك لم يفقده التفاؤل والإيمان بالمستقبل، ذلك الإيمان الذي يثير دهشة أخيه الأصغر أليوشا الذي يقول عن ذلك مندهشا لكاترينا إيفانوفنا: "رجل محكوم عليه بالسجن عشرين عاما ويريد أن يكون سعيدا! أليس هذا مما ستحق الشفقة"
إن الطريق الذي يعبر بديمتري إلى "الحقيقة" في الرواية هو طريق البعث الديني والكمال الروحي، حقيقة أن ديمتري قد رادته فكرة الهرب من العقوبة إلى أمريكا، ولكن ديمتري الذي يقدس ويحب وطنه حبا جنونيا أكد في ذات الوقت أنه في حالة ما إذا هرب فإنه مع ذلك سيدين نفسه، ويكفر عن الذنب طوال حياته في البلد الذي سيلجأ إليه، وأنه إذا ما هرب فهو يهرب وكما قال لأليوشا عن ذلك "لا لكي أفرح وأسعد، وإنما أهرب لألقي نفسي في سجن آخر مختلف عن السجن الذي كنت سأودع فيه هنا، ولكنه سجن على كل حال، سجن يعادل السجن هنا أو أسوا منه" ( يقصد العيش خارج الوطن).

.
.
.
ووووووووو يتبـــع :)

نيرفانا
24/07/2007, 04:24 PM
إيفان كارامازوف الابن الأوسط لآل كارامازوف:

تربى ونشأ هو الآخر بعد وفاة أمه ( الزوجة الثانية للأب فيودر كارامازوف) في أسرة غريبة، وعانى منذ الطفولة المبكرة من قسوة الأب وجفائه. نشأ إيفان لذلك متجهما منطويا، لكنه كان ميالا للعلم والدراسة، وحين التحق بالجامعة اضطر للعمل والدراسة في ذات الوقت وذلك لأنه كان يلاقي صعوبات مادية في سد احتياجاته الدراسية، كان إيفان يعطي بعض الدروس في المنازل لقاء أجر زهيد، كما كان يكتب بعض المقالات السيارة للصحف والجرائد اليومية. وتعتبر شخصية إيفان أحد أهم الشخصيات في الرواية، رغم أنه لا يقوم بالاشتراك مباشر في الأحداث، وذلك لأن إيفان وكما ذكرنا معلم وموجه سمرد ياكوف القاتل.

وعلى عكس الابن الأكبر ديمتري ذي الطبيعة الفطرية الجياشة، فإن إيفان ذو طبيعة شاكة باردة وعقل تحليلي يتأمل الواقع في عمق. وإيفان ملحد يرفض وجود الله، ووجود الخلود..لكنه ينادي بشعارات الحب للإنسانية، ويبدي استنكاره واحتجاجه على وجود اللا عدالة والظلم والاضطهاد، وهو يخص بالتأمل عالم الأطفال، وهو ما نلمسه من حديثه مع أخيه أليوشا الذي يقول له: " لقد كان في نيتي أن أحدثك عن آلام الإنسانية عامة، ولكنني أحسب أنه من الأفضل أن نقصر الحديث على آلام الأطفال وحدهم. ولئن كان ذلك سيضعف حجتي بتسعة أعشار دلالتها، فإنني أظل أرى أن هذا أفضل. لسوف تكون المناقشة أقل مواتاة لي بطبيعة الحال ولكن الأطفال يمتازون على الأقل بأن المرء يستطيع أن يحبهم من قرب مهما تكن وساختهم ودمامتهم".
ولكن هل كان إيفان صادقا في دعاويه وأفكاره الإنسانية؟ أم كانت مجرد أفكار نظرية لا تنبع عن إيمان وعقيدة وما هو الدور الحقيقي لإيفان في مقتل الأب كارامازوف؟

كان إيفان شاهد عيان للمشادة التي حدثت بين الأب والابن ديمتري وهي المشادة التي اعتدى فيها ديمتري على أبيه وهدده بالقتل، وكان إيفان يشعر بإمكانية حدوث الجريمة،، وهو لهذا نجده يقطع على نفسه وعدا لأخيه الصغير أليوشا بأنه لن يسمح بحدوث هذه الجريمة، لكن في اليوم التالي رحل إيفان عن البيت، وكما لو كان نسى تماما ما قاله لأخيه في هذا الشأن، وكما لو كان "يتمنى" حدوث الجريمة..
وبعد الجريمة، ورغم أن إيفان يظن أن القاتل ليس أخاه المعتقل بل الخادم سمرد ياكوف الطليق، إلا أنه يصمت عن الشهادة بذلك، وعن الإدلاء بمعلومات تظهر القاتل الفعلي، وكما لو يريد أن يظل القاتل أمام العدالة أخيه ديمتري، ولكن ما سبب موقف إيفان هذا من أخيه ديمتري؟
إن الكاتب يشير على كراهية وحقد إيفان على أخيه حين يعلق على مشاعر إيفان تجاه أخيه إذ يقول:"إنه كان يكرهه كرها حقيقيا ولا يشعر نحوه بنوع من شفقة غامضة إلا في القليل النادر، وهي شفقة ترتبط باحتقار عميق يبلغ حد الاشمئزاز. لقد كان إيفان يشعر دائما بنفور نحو ميتيا ( تصغير ديمتري) وكان ينفر حتى من شكله ويسوءه ما تحمله كاترينا إيفانوفنا لهذا الشاب من حب".
لم يكن إيفان يكره أخاه فقط بل كان يكره والده أيضا، وهو لهذا تركه عمدا بلا حراسه، وحرض سمردياكوف بطريق غير مباشر على قتله، وهذا ما أكده سمرد ياكوف نفسه في حديثه مع إيفان بعد الجريمة. وهذا الكره من جانب إيفان لأبيه وأخيه يبدو طبيعيا إذا ما أمعنا النظر في كلماته عن حب الأقربين، والتي يقول فيها: " إنني لم أستطع في يوم من الأيام أن أفهم أن يحب المرء الناس القريبين منه. ففي رأيي أن أقرب الناس إلينا يصعب علينا أن نحبهم أكثر مما يصعب علينا أن نحب غيرهم. إن الإنسان لا يحب إلا من بعد".

إن مشاعر إيفان تجاه أقرب الناس غليه وتصريحه هذا تبدو في تناقض مع أفكاره عن الحب العام للإنسانية فكيف يستطيع الإنسان أن يحب الناس عامة إذا كان لا يستطيع ولا يقوى على حب الأقربين؟! وعليه فإن أفكار وكلمات إيفان عن الحب العام تبدو مجردة ولا تنم عن إيمان.
وهنا يلمح الكاتب إلى أن جذور الكراهية والأنانية والكبرياء في نفس إيفان ترتبط بفقدان الإيمان بوجود "الله والخلود". فمادام الإنسان قد سمح لنفسه بالاعتقاد بعدم وجود الله فإنه سيسمح لنفسه بأي شيء آخر، ومن هنا تنبع نظرية " كل شيء مباح" كما أوضحها دستويفسكي. إن دستويفسكي يخصص فصولا كاملة من ورايته ( بالذات الفصلان اللذان يحملان العنوانين "التمرد" و "المفتش العظيم" ) لرسم أبعاد رفض إيفان للدين والتي يبرزها في ارتباط وثيق مع افكاره الفوضوية التي ترفض النظم الاجتماعية والحكومية والكنسية، والتي تسخر من عادة الناس الذين لا يملكون توجيه مصيرهم.

إن فكر إيفان لا يؤدي إلا إلى الشر والكوارث....، ولكن الشر في روح الإنسان هو عامل متغير بفعل الزمان والمكان، أما الخير فهو أكثر أصالة وأكثر بقاء، والغلبة له دائما.

ولهذا السبب فإن إيفان بعد أن يسمع بتصريح سمرد ياكوف، ويتأكد من دوره في الجريمة وتبعاتها، تنتابه آلام نفسية رهيبة، وتتملكه حمى وهذيا ويدخل إيفان "الخير" في صراع مع إيفان "الشر"، مع ذلك الشيطان الذي كان يتفق معه في "فلسفة واحدة" والذي كان يحاول جاهدا أن يخمد به كل ما هو طيب ومضيء، لأن "الشيطان" هو تجسيد لكل ما هو قذر وعفن وكريه بداخل نفس الإنسان، إن إيفان بعد أن اكتشف شر " الشيطان" بداخله يحاول الخلاص منه والتحرر من سلطانه، والكاتب يصور لنا هذا الصراع في فصل كامل في روايته أسماه "الشيطان، كابوس إيفان فيودرفيتش".

إن إيفان يحاول أن يكفر عن بعض إثمه بالإدلاء بشهادة تحول من سير المحاكمة، لكن حالة الهذيان والهزال التي كان عليها جعلت المحكمة تعتقد أنه يهذي، وهو يحاول أيضا أن يرتب الأمور لهرب أخيه على أمريكا، لكن عذاب الضمير كان أقوى من قدرة احتمال إيفان مما يؤدي به على الجنون.

أليوشا كارامازوف:

الابن الأصغر لآل كارامازوف، إنه تجسيد للصورة المشرقة التي شاهد فيها الكاتب جيل المستقبل،فقلبه "يفيض بحب البشر" منذ الطفولة المبكرة، وهو قادر على بعث حب ومودة كل من يقابله. نشأ أليوشا شابا منعزلا، كتوما كثير التأمل، لكنه كان صافي النفس عذب الروح كثير العطاء. كان اليوشا ينفق كل ما يقع في يديه من أموال على أعمال الخير، فقد كان زاهدا في الحياة الدنيا، عزوفا عن المسرات. تميز اليوشا هو الآخر بالروح الباحثة عن "الحقيقة" لكن اليوشا-على عكس أخيه ايفان الملحد- كان يؤمن بوجود الله، وبوجود "الخلود". قدم اليوشا هو الآخر فجأة وبعد انقطاع طويل لزيارة أبيه الذي تربى بعيدا عنه كبقية إخوته، وفجأة قرر اليوشا أن يتوجه إلى الدير، لأنه أحس بأنه تنتظره "غاية سامية" ولأنه كان " لا يعرف آنذاك، ولم يكن يستطيع بأي حال أن يشرح تلك القوى التي دبت فجأة في كيانه ثم صعدت إلى سطح نفسه فدفعته دفها لا سبيل على مقامته في هذا الطريق الجديد الذي كان يجهله ولكنه لا يملك أن يتجنبه".

تعرف اليوشا في الدير على الراهب العجوز زوسيما، الذي أحبه حبا جما وتأثر بشدة بأفكاره، لكن الراهب العجوز بعد أن يختبر اليوشا ينصحه بمغادرة الدير قائلا له:"اعلم يا بني العزيز جدا بأن مكانك ليس هنا بعد اليوم.. اترك أنت هذا الدير، واذهب، اذهب تماما..إن مكانك ليس هنا بعد، إنني أبارك بدايتك العظيمة ف هذا العالم. إذ سيتحتم عليك بعدُ التجوال كثيرا".

لقد أدرك الراهب العجوز المحنك أن حب اليوشا للدير وللحياة به هو حب "رومانسي" حالم، تنقصه التجربة والخبرة بالحياة، والإيمان بالله يصبح مقنعا وحقيقيا حين يكون نتيجة "لتجربة الحب العملية"، الحب القائم على النشاط والعمل، وهي التجربة التي يبدو أن اليوشا غير مستعد لها بعد، والراهب لذلك ينصح اليوشا قائلا:" ابحث عن الفرح والحزن، اعمل، اعمل بلا هوادة".

إن كلمات الراهب العجوز هذه تثير "حيرة" اليوشا "وخجله" وأيضا "رعبه" فقد كان اليوشا يحب الراهب العجوز حبا جما، ولا يتصور أن يعيش "دون أن يراه ويسمعه". ومن ذلك فإن اليوشا يطيع أمر معلمه ويخرج إلى الحياة.

ويبدأ عذاب اليوشا مع خروجه من الدير واحتكاكه بالناس. وتتبدل أمام اليوشا صور وقصص من هذا العالم تملأ قلبه بالحزن والألم والعذاب وتبعث الشك في إمكانية الحب الإلهي "اللانهائي"، فالعالم مملوء "بالظلام والإثم" والآثمين. واليوشا يقع فريسة للأغراء والتضليل.

بيد أن " شك" اليوشا، كان في الجوهر، يرتبط بظرفين؟ أولهما مناقشات وجدال اليوشا مع أخيه ايفان الملحد، وثانيهما الحادث "الغريب" الذي حدث بعد موت الراهب العجوز زوسيما إذ سرعان ما تعفنت جثة الراهب بعد موته وصدرت منها رائحة كريهة، فاعتبر هذا الحادث بمثابة إهانة سماوية للشيخ القديس، فالقديسون لا تعفن جثثهم على هذا النحو وبدا لأليوشا أن ما حدث مع الراهب العجوز هو انعكاس "للعدالة السماوية"، وخذلان للقديس.

لكن "شك" و "إغراء" اليوشا ليس مرجعهما هذان الظرفان فقط. بل- وكما ألمح الكاتب-هناك كذلك عامل الوراثة، فأليوشا هو أيضا كارامازوف، "ولا بد أن نؤمن بأن للعرق والوراثة أثرا رغم كل شيء".، ويعبر اليوشا طريقا طويلا ومضنيا وراء "الحقيقة" التي يجدها أخيرا في العذاب والمعاناة وفي تقبل عذاب وآلام الآخرين، وفي الوحدة والالتحام مع الجميع بما في ذلك " الآثمين" أنفسهم، ومن خلال هذا التآلف يمكن التغلي على التناقض بين حب الله وحب الناس.

الراهب العجوز زوسيمــا:

تبرز تعاليم الراهب العجوز زوسيما الأب الروحي والمعلم للابن الأصغر لآل كارامازوف اليوشا في تناقض وتضاد مع شخصية وفكر ايفان كارامازوف الذي يخلط الكاتب بينه وبين ممثلي الفكر الاشتراكي الثوري.
ودعاوى الراهب زوسيما هي في الواقع تفسيرات ومفاهيم عن الحياة والواقع مناقضة لتلك التي قدمها ايفان. ودستويفسكي كي لا يخلع على صورة الراهب وتعاليمه شكلا تجريديا نجده يبسط حياة الراهب الشخصية أمام القارئ مثلها مثل بقية شخصيات الرواية، فنحن نتعرف على ملامح الطفولة وصبا وشباب الراهب، وأهم ذكريات حياته التي سبقت انضمامه إلى الدير وذلك من خلال ما يرويه الراهب نفسه لتلاميذه في الدير عن نفسه، بيد أنه من الواضح أن أكثر ما يعني الكاتب في شخص الراهب هي تعاليمه التي يخصص لها فصولا من روايته والتي كان أهمها الفصل الذي حمل العنوان " بعض التعاليم التي عبر عنها الأب زوسيما في أحاديثه". وسنحاول هنا أن نلخص بعض هذه التعاليم والأفكار:

وتعاليم الراهب زوسيما، وبشكل عام تبرز كظاهرة جديدة في حياة الدير، وهي لهذا السبب لا تثير تعاطف ورضاء أنصار الكنيسة التقليدية القديمة، ولهذا السبب فإن الكاتب يصور الراهب محاطا بالأتباع والمحيطين وأيضا بالراضين والأعداء. إن أكثر ما يلفت النظر في تعاليم الراهب هو رفضه ومهاجمته للفكر الثوري الجديد في روسيا الذي لا يرى فيه سوى جانبه المادي الرافض للروح والأديان، وهو لهذا السبب يستنكر أن يكون لهذا الفكر دور الريادة في المجتمع فهو يقول:" انظروا إلى العلمانيين هؤلاء الذين يعيشون في المجتمع ويعدون أنفسهم أعلى من رجال الدين، ألم يدنسوا نفوسهم ويخونوا الحقيقة الإلهية، هم الذين خلقوا على صورة الرب، إنهم يملكون العلم، ولكن العلم لا يعرف إلا ما تدركه الحواس أما الكون الروحي، أما العنصر الأسمى في الطبيعة الإنسانية، فقد رضوه ونبذوه".
ومن هذا المنطلق فإن الراهب زوسيما يعتبر كل دعاوى الفكر الجديد عن الحرية مجرد "إباحية".

إن قدرة الإنسان على التعرف على الكون ووعي أسراره، في رأي الراهب هي قدرة محدودة، ولذا فإنه يرفض ويستنكر رأي العلمانيين الماديين الذين يرون بأن معرفة الإنسان بالكون لا نهاية لها: "هناك أشياء كثيرة تبقى خافية عنا في هذا العالم، ولكننا في مقابل ذلك قد أوتينا معرفة الحياة الأخرى والصلات التي تربطنا بعالم أعلى وأفضل، والجذور العميقة لعواطفنا وأفكارنا إنما تمتد في السماء لا في الأرض على كل حال. لذلك ليعلم الفلاسفة أن ماهية الأشياء لا يمكن إدراكها في هذه الحياة الدنيا".

إن الإنسان -في رأي الراهب- لا يحق له أن ينتقم أو حتى ضد ظلم أخيه الإنسان، فالعنف لا يؤدي إلا إلى العنف، ولهذا فإن الراهب يهاجم شعارات الثورة التي ينادي بها الفكر الجديد كسبيل لتغيير الظلم الاجتماعي: "إنهم يأملون أن يقيموا العدالة في هذا العالم، ولكنهم قد رفضوا المسيح فسوف ينتهي بهم الأمر إلى إشعال الحرائق وسفك الدم في كل مكان، لأن العنف يستدعي العنف، ومن يشهر السيف يهلك بالسيف".

وكذلك يرفض الراهب أسلوب القصاص كوسيلة للانتقام من الخارجين على القانون والمذنبين، لأنه لا يجوز للإنسان أن يحكم على قرينه الإنسان، فما "من أحد يستطيع أن يجعل نفسه قاضيا على مجرم قبل أن يدرك أنه- وهو القاضي-لا يقل إجراما عن الجاني الماثل أمامه". وبديلا عن الفكر الاشتراكي الثوري الجديد فإن الراهب زوسيما يقدم تصوراته حول مشاكل الواقع وكيفية تغييره مستندا في ذلك على الفكر الديني المسيحي ودعاوي الاشتراكية الطوباوية:

سيكون الخلاص من المشاكل والظلم الاجتماعي على يد رجال الدين المتحدين مع الشعب، وليس على يد الثوار،كما يدعون، "فروسيا المقدسة إنما سينقذها مرة أخرى في يوم من الأيام هؤلاء الرهبان المتواضعون الظامئون إلى العزلة والصلاة...لأن الخلاص سيكون بمشيئة الرب الذي سبق أن خلصها مرارا في الماضي،وسيأتي الخلاص من الشعب،سيأتي الخلاص بما يملكه الشعب من روح الإذعان لمشيئة الله ومن إيمان بوجود الله.".

إن العنف والانتقام، في رأي الراهب لا يأتيان إلا بالشر،أما الصفح والتسامح فهما السبيل الحقيقي للقضاء على الشرور، ولذا فهو يدعوا إلى الصفح عن المذنبين، وإلى حب الجميع بما في ذلك "الآثمين". فأفضل سبيل إلى حماية الإنسان من الشر هو أن يعد نفسه مسئولا عن جميع خطايا البشر، وأن يحب "كل إنسان وكل شيء" ولهذا فهو يدعو الناس إلى أن يحبوا "خلق الله جملة، وأحبوا كل ذرة من الرمل على حدة، وكل ورقة شجرة، وكل شعاع ضوء، أحبوا الحيوانات، أحبوا النباتات، أحبوا كل موجود".

ولحل تناقضات الواقع الاجتماعية فإن الراهب يعرض الحلول التالية:

يمكن الوصول، في رأي الراهب، إلى العدالة الاجتماعية عندما يشعر الأغنياء "بالخجل والعار من ثرواتهم أمام الفقير، ويبرهن الفقير يومذاك بعد أن يرى ندم الغني ومذلته على حسن الفهم هو أيضا، فيترك له خيراته فرحا مستجيبا بالحب للتوبة النبيلة."

فالمساواة الحقيقية في نظر الراهب زوسيما: هي مساواة الشعور والروح وليست المساواة المادية، ولهذا فهو يؤكد أنه " لن تكون هناك مساواة إلا في الشعور بكرامة الإنسان الروحية، وهذه حقيقة غير مفهومة إلا في بلادنا. لسوف تسود الأخوة متى اصبح الشر أخوة بالقلب، وبدون هذه الأخوة لا يمكن أن تكون هناك قسمة عادلة"

كذلك يمكن تحقيق المساواة في المستقبل من خلال " الاتحاد العظيم" حين يصبح الإنسان بدون حاجة "إلى أن يكون له خدم، ويوم يحاول أن لا يرد أقرانه البشر على العبودية كما يفعل الآن، وإنما تطلع بكل نفسه إلى أن يصبح خادما لجميع الناس عملا بروح الإنجيل"

وحتى ذاك "المستقبل" فإن الراهب زوسيما يدعو الناس على الإيمان والعمل والصبر والصفح والتسامح: "لا تقعد عن العمل ولا تدع لهمتك أن تفتر،... إذا رأيت نفسك محاطا بأناس أشرار لا يحسون، ويرضون أن يسمعوا لك، فارتم على أقدامهم واستغفرهم، لأنك أنت الذي تحمل ذنب عنادهم في الحقيقة. وإذا شعرت بأنك عاجز أن تخاطب الأشرار بالحسنى فاخدمهم صامتا متواضعا دون أن تيأس قط. إذا هجرك جميع الناس وطردوك شر طردة فاسجد على الأرض حين تصبح وحيدا واغمرها بقبلاتك. اسق الأرض بدموعك، فتحمل هذه الدموع ثمارا، ولو لم يرك في عزلتك أحد".

هكذا كانت دعاوي الراهب زوسيما، أو دعاوي دوستويفسكي نفسه، وهكذا كانت نبوءتهم وتصورهم لمستقبل روسيا...

نيرفانا
24/07/2007, 04:28 PM
في التكنيــك الفني للرواية:

تعتبر رواية "الأخوة كارامازوف" رواية ذات مضمون اجتماعي نفسي وفلسفي في الوقت ذاته، وذلك رغم ما قد تبدو عليها من سمات شكلية تربط بينها وبين الروايات البوليسية. فرغم أن الموضوع الرئيسي الذي يقود الأحداث في الرواية-كما أشرنا آنفا- هو جريمة القتل التي تتكشف في عناصرها الجوهرية تبعا لنظام الرواية البوليسية، إلا أن الرواية-كما وضح-قد مزجت بين التصوير الواقعي المحدد للواقع والطباع والأحداث وبين الجدل الفكري العميق حول أهم مشاكل العصر، وهو المزج الذي يبدو عاديا ومتجانسا مع نسيج الرواية ويخلو من أي تنافر، وذلك لأن أبطال الرواية وهم يتجادلون حول المسائل والموضوعات التي قد تبدو مجردة، هم بذلك أيضا كانوا يتطرقون إلى الموضوعات والمشاكل الحيوية التي تؤرق وجودهم.

كتب الناقد جروسمان عن خاصية رواية دستويفسكي هذه يقول:
"تعتبر الفكرة نقطة للانطلاق في رواية دستويفسكي. أما الفكرة المجردة ذات الطابع الفلسفي فهي بمثابة ذلك المحور الذي تنتظم عليه الأحداث المتعددة والمعقدة والمختلطة للمضمون. أما المغامرة المختلطة فهي تضفي على سير الرواية قوة وحركة واهتمام خارجي، هي ضرورية هنا بوجه خاص نتيجة للوضع المجرد الذي يسود في كل القصة. إن السر الرئيسي في كل تركيب رواية دستويفسكي يكمن في السعي إلى تعويض القارئ من التوتر الممل الناتج عن اهتمامه بالصفحات الفلسفية مغامرة شكلية مسلية."

ونظرا لأن "الفكرة" هي نقطة الانطلاق في رواية دستويفسكي،فإننا نجد الرواية تمتلئ بالديالوج ذي الطابع الفلسفي والذي تنبسط من خلاله لوحة ضخمة ومعقدة لحرب الأفكار المتصارعة. والديالوج في الرواية يتسم بالطابع الدرامي ويتحلى بقوة التأثير العاطفية، وهو يمتزج بطريقة عضوية بالموضوع ويعتبر عنصرا ضروريا له.

وتنبسط أحداث رواية "الأخوة كارامازوف" على امتداد فترة زمنية قصيرة ومضغوطة وذلك رغم العدد الكبير من الشخصيات التي تمتلئ بها الرواية ورغم تشعب الموضوعات التي تتطرق إليها، وهذه السمة تعتبر قاسما مشتركا بين روايات دستويفسكي كما أشرنا من قبل. والأحداث في الرواية مقسمة زمنيا على ثلاث فترات زمنية تنفصل عن بعضها البعض بزمن قصير جدا، وكل من هذه الفترات تمتلئ بأحداث شديدة التوتر.

وتصور شخصيات رواية "الأخوة كارامازوف" وهي في مرحلة الحركة الداخلية والتطور العقلي والنفسي ( بعض الأشخاص-مثل ايفان والراهب زوسيما-يظهرون في الرواية كأناس مكتملي الفكر والعقيدة). ودستويفسكي في وصفه للشخصية يولي اهتماما كبيرا بتصوير عملية التطور والانعطاف التي تحدث في فكر ووعي الشخصية بتأثير الظروف الخارجية أو العوامل الداخلية مثلما حدث مع ديمتري كارامازوف واليوشا كارامازوف. بيد أن التطور والانعطاف اللذين يحدثان عند شخصيات الرواية لا يصوران في بطء، بل يبرزان في شكل انكسار حاد وسريع.

وبجانب الوصف المستقل للشخصيات من طرق الكاتب، نجد أن الشخصية في الرواية تنكشف أيضا من خلال حديثها عن نفسها وعن معاناتها وآلامها، ولهذا نجد نسيج الرواية يمتلئ بالاعترافات الذاتية والديالوج.

ودستويفسكي يحضر في الرواية بنفسه، فهو يقوم بدور الراوي، وهو ما يشير إليه في مقدمة الرواية التي يعرف فيها بآل كارامازوف كأشخاص يعرفهم تمام المعرفة، وكذلك الحال مع الكثير من شخصيات الرواية الأخرى التي يحكي الكاتب عن دقائق من حياتها كما لو كان يعيش بالقرب منها.
ومع ذلك فدستويفسكي أحيانا مل يترك دور الراوي لأحد الشخصيات كي تروي بنفسها الأحداث التي شاهدتها أو خبرتها بنفسها، لكن دور الكاتب "الراوي" أعمق، فهو يزن كل شيء بميزانه الأخلاقي، وهو أحيانا ما يتدخل بنصائحه وإرشاداته التي قد تبتعد أحيانا عن الموضوع الأساسي. وموقف دستويفسكي تجاه الشخصيات والآراء المختلفة يبدو واضحا، وليس كما أشار بعض النقاد الذي اعتبروا شخصيات الرواية تتسم بالاستقلالية في تحركاتها وأقوالها، وأن الكاتب لا يتدخل ليظهر موقفه تجاهها. فمثلا الناقد "باختين" أحد باحثي إنتاج دستويفسكي يشير إلى أن خاصة تركيب رواية "الأخوة كارامازوف" تكمن في وجود العديد من الأصوات المستقلة التي تمتلك استقلالية فريدة في تركيب المؤلف، وكلمتها كما لو كانت تسمع على جانب كلمة الكاتب".

من السمات المميزة لتركيب رواية "الأخوة كارامازوف" وجود نغمة تكرار في تناول الموضوع أو الفكرة الواحدة في أجزاء مختلفة من الرواية وبأشكال ومغاز ومعان جديدة، وهو ما يتيح فرصة مقارنة الآراء الفلسفية المختلفة والتفسيرات المتنوعة تجاه الموضوع أو الفكرة، كما يضفي في ذات الوقت على تركيب الرواية بعض الرمزية ونستشهد على ذلك بأحد الأمثلة.

يعتبر موضوع "وجود الله" أحد أهم الموضوعات التي تتطرق غليها الرواية. وكما أوضحنا آنفا فإن دستويفسكي قد أبرز اتجاهين متعارضين تجاه هذا الموضوع. اتجاه رافض للدين ولوجود الله ويتزعمه ايفان كارامازوف، واتجاه آخر يؤكد وجود مملكة الله ويتزعمه الراهب زوسيما. ودستويفسكي يتناول بالشرح والجدال هذا الموضوع في أجزاء متفرقة من الرواية ومن زوايا مختلفة. ففي أحد الأجزاء نجد الكاتب يرود تأملات ايفان حول عذاب ودموع الأطفال وهو العذاب الذي لا يجد له تبريرا مع وجود العدالة السماوية، وهو لهذا يرفع شعار الانتقام من الظلم. ولكن دستويفسكي يجادل هذا الرأي في موضوع آخر تماما وبشكل مستتر وذلك من خلال إحدى القصص التي يرويها الراهب زوسيما والتي يستند فيها على نصوص الإنجيل، وهي القصة التي تحكي عن أن الله ذات مرة يختبر قوة إيمان عبده المخلص أيوب فأرسل إليه إبليس ومكنه منه، فضرب إبليس قطعان أيوب، وأهلك أولاده ودمر ثرواته، وأرسل إليه جميع المصائب دفعة واحدة. فما كان من أيوب إلا أن ارتمى على الأرض ساجدا لله ومسبحا باسمه.
فرد الرب السعادة إلى أيوب ووهبه ثروات جديدة وأولادا آخرين. ولكن هل يستطيع الإنسان أن يعيش في الشقاء ثم يسعد بعد ذلك؟ إن دستويفسكي يطرح هذا السؤال في معرض رواية الراهب حين يتساءل وهل استطاع نوح أن يحب أولاده الجدد في غياب أبنائه الأول إلى غير رجعة؟
فيرد الشيخ مؤكدا بأن ذلك "ممكن" لأن العدالة السماوية تظلل الجميع. والناس جميعهم مذنبون أمام الله
وأمام الجميع، ولذا فإنه لا يهم من من الناس يقع عليه العذاب، وهل كان يستحقه أم لا، لأن العذاب ضروري لكل إنسان كي يطهر نفسه ويكفر عن أخطائه وأخطاء الآخرين، وبهذا العذاب يختبر الله إيمان الإنسان ومن ثم فالانتقام والاحتجاج ضد اللا عدالة ليس من حق الإنسان على الأرض لأن الحقيقة الإلهية فوق الجميع...



.
.
.
(إنتهى أخيرا الجزء المخصص لدستويفسكي في الكتاب ولي عودة مع مقالات أو كتاب آخر )