المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أمهات المؤمنين رضي الله عنهن



أبو شامة المغربي
04/06/2006, 04:44 PM
:bism:
*******
أمهات المؤمنين رضي الله عنهن
(1)

*****
خديجة بنت خويلد رضي الله عنها
***

"لقد فضِّلت خديجة على نساء أمتي كما فضِّلت مريم على نساء العالمين".
حديث شريف
"والله ما أبدلني الله خيراً منها...قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدَّقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمنـي الناس
ورزقني الله أولادها، وحرمني أولاد الناس...".
حديث شريف
خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشية الأسدية.
كانت تدعى قبل البعثة الطاهرة.
كانت السيدة خديجة امرأة تاجرة ذات شرف ومال، فلمّا بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق حديثه وعظيم أمانته وكرم أخلاقه، بعثت إليه فعرضـت عليه أن يخرج في مالٍ لها الى الشام تاجراً، وتعطيـه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجـار، مع غلام لها يقال له مَيْسَـرة، فقبل الرسول صلى الله عليه وسلم، وخرج في مالها حتى قَدِم الشام.
وفي الطريق نزل الرسول صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة قريباً من صومعة راهب من الرهبان فسأل الراهب ميسرة:(من هذا الرجل؟).
فأجابه:(رجل من قريش من أهل الحرم)، فقال الراهب:(ما نزل تحت هذه الشجرة قطٌ إلا نبي).
ثم وصلا الشام وباع الرسول صلى الله عليه وسلم سلعته التي خرج بها، واشترى ما أراد، ثم أقبل قافلاً الى مكة ومعه ميسرة، فكان ميسرة إذا كانت الهاجرة واشتدَّ الحرّ يرى مَلَكين يُظلاَّنه صلى الله عليه وسلم من الشمس وهو يسير على بعيره...
ولمّا قدم صلى الله عليه وسلم مكة على خديجة بمالها باعت ما جاء به فربحت ما يقارب الضعف.
وأخبر ميسرة السيدة خديجة بما كان من أمر محمد صلى الله عليه وسلم فبعثت الى رسول الله وقالت له:(يا ابن عمّ ! إني قد رَغبْتُ فيك لقرابتك، وشرفك في قومك وأمانتك ، وحُسْنِ خُلقِك، وصِدْقِ حديثك)، ثم عرضت عليه نفسها، فذكر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك لعمّه الحبيب الذي سُرَّ وقال له:(إن هذا رزقٌ ساقهُ الله تعالى إليك)...
ووصل الخبر الى عم السيدة خديجة، فأرسل الى رؤساء مُضَر، وكبراءِ مكة وأشرافها لحضور عقد الزواج المبارك، فكان وكيل السيدة خديجة عمّها عمرو بن أسد، وشركه ابن عمها ورقة بن نوفل، ووكيل الرسول صلى الله عليه وسلم عمّه أبو طالب...
وكان أول المتكلمين أبو طالب فقال:(الحمد لله الذي جعلنا من ذريّة إبراهيم، وزرع إسماعيل وضئضئ معد، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته، وسُوّاس حرمه، وجعل لنا بيتاً محجوباً وحرماً آمناً، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن ابن أخي هذا، محمد بن عبد الله لا يوزن برجلٍ إلا رجح به، وإن كان في المال قِلاّ، فإن المال ظِلّ زائل، وأمر حائل، ومحمد مَنْ قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد، وقد بذل لها من الصداق ما آجله وعاجله اثنتا عشرة أوقية ذهباً ونشاً -أي نصف أوقية- وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل )...
ثم وقف ورقة بن نوفل فخطب قائلا:(الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت، وفضلنا على ما عددت، فنحن سادة العرب وقادتها، وأنتم أهل ذلك كله لا تنكر العشيرة فضلكم، ولا يردُّ أحدٌ من الناس فخركم ولا شرفكم، وقد رغبنا في الإتصال بحبلكم وشرفكم، فاشهدوا يا معشر قريش بأني قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله)...
كما تكلم عمُّهـا عمرو بن أسـد فقال:(اشهدوا عليّ يا معاشـر قريـش أنّي قد أنكحـت محمد بن عبد الله خديجة بنت خويلد)، وشهـد على ذلك صناديـد قريـش.
تزوج النبي صلى الله عليه وسلم السيدة خديجة قبل البعثة بخمس عشرة سنة، وولدت السيدة خديجة للرسول صلى الله عليه وسلم ولده كلهم إلا إبراهيم، القاسم -وبه كان يكنى- والطاهر والطيب -لقبان لعبد الله- وزينب، ورقيـة، و أم كلثـوم، وفاطمـة عليهم السلام.
فأما القاسـم وعبد اللـه فهلكوا في الجاهلية، وأما بناتـه فكلهـن أدركـن الإسلام، فأسلمن وهاجرن معه صلى الله عليه وسلم.
وبعد الزواج الميمون بخمسة عشر عاماً نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم فآمنت به خديجة، وصدقت بما جاءه من الله، ووازرته على أمره، وكانت أول من آمن بالله وبرسوله، وصدق بما جاء منه، فخفف الله بذلك عن نبيه
صلى الله عليه وسلم، لا يسمع شيئاً مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له، فيحزنه ذلك، الا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها، تثبته وتخفف عليه وتصدقه، وتهون عليه أمر الناس، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:(أمرت أن أبشر خديجة ببيت من قَصَب -اللؤلؤ المنحوت- لا صخب فيه ولا نصب).
جاء جبريل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم
فقال:(إن الله يقرأ على خديجة السلام)، فقالت:(إن الله هو السلام، وعلى جبريل السلام، وعليك السلام ورحمة الله).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(خيرُ نسائها مريم، وخير نسائها خديجة).
ولمّا قُضيَ على بني هاشم وبني عبد المطلب عام المقاطعة أن يخرجوا من مكة إلى شعابها، لم تتردد السيدة خديجة في الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لتشاركه أعباء ما يحمل من أمر الرسالة الإلهية التي يحملها.
وعلى الرغم من تقدمها في السن، فقد نأت بأثقال الشيخوخة بهمة عالية وكأنها عاد إليها صباها، وأقامت قي الشعاب ثلاث سنين، وهي صابرة محتسبة للأجر عند الله تعالى.
وفي العام العاشر من البعثة النبوية وقبل الهجرة بثلاث سنين توفيت السيدة خديجة رضي الله عنها، التي كانت للرسول صلى الله عليه وسلم وزير صدق على الإسلام، يشكـو إليها، وفي نفس العام توفـي عـم الرسول صلى الله عليه وسلم أبو طالب، لهذا كان الرسـول صلى اللـه عليه وسلم يسمي هذا العام بعام الحزن.
قد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على السيدة خديجة ما لم يثن على غيرها، فتقول السيدة عائشة:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوماً من الأيام فأخذتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلا عجوزاً قد أبدلك الله خيراً منها، فغضب ثم قال: لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنتْ بي إذْ كفرَ الناس، وصدَّقتني إذ كذّبَني الناس، وواستني بمالها إذ حرمنـي الناس، ورزقني منها الله الولد دون غيرها من النساء)، قالت عائشة:(فقلتْ في نفسي: لا أذكرها بعدها بسبّةٍ أبداً).
**********************
http://www.kl28.com/GreatMuslims.php?book=1&chapterR=5&sectionR=29
*******
د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

أبو شامة المغربي
04/06/2006, 05:29 PM
:bism:

*******

أمهات المؤمنين رضي الله عنهن

(2)



*****

عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها

***





"أنزل الله براءتك من فوق سبع سماواته

فليس مسجد يُذكر الله فيه إلا وشأنك يُتلى

فيه آناء الليل وأطراف النهار".

ابن عباس

هي عائشـة بنت أبي بكر الصديـق، عبد الله بن أبي قحافـة عثمان بن عامر

من ولد تيـم بن مرة، ولدت السيـدة عائشـة بعد البعثة بأربع سنين، وعقد

عليها رسـول اللـه صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة بسنة، ودخـل عليها

بعد الهجرة بسنة أو سنتيـن، وقُبِضَ عنها الرسول الكريم وهي بنـت ثمان

عشرة سنة، وعاشت ست وستين سنة، وحفظت القرآن الكريم في حياة الرسول

وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم ألفي حديث ومائتي وعشرة أحاديث.

قال الرسـول صلى الله عليه وسلم:(أُريتُـكِ - وهو يخاطب عائشـة - في المنام ثلاث ليالٍ، جاءني بك الملك في سَرَقةٍ من حرير، وهو الحرير الأبيض، فيقول:(هذه إمرأتك)، فاكشف عن وجهك فإذا أنت هي؟ فأقول:(إن يكُ هذا من عند الله يُمضِهِ).

عندما ذكرت خولة بنت حكيـم لرسـول الله صلى الله عليه وسلم اسم عائشة لتخطبها له، تهلل وجهه الشريف لتحقق الرؤيا المباركة، ولرباط المصاهـرة الذي سيقرب بينه وبين أحـب الناس إليه.

دخلت خولة إلى بيت أبي بكر، فوجدت أم عائشة فقالت لها:(ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟)، قالت أم عائشة:(وما ذاك؟،أجابت:(أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطبُ له عائشة)، فقالت:(ودِدْتُ، انتظري أبا بكر فإنه آتٍ ).

وجاء أبو بكر فقالت له:(يا أبا بكر، ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة؟ أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطبُ عائشـة)، فذكر أبو بكر موضعـه من الرسـول صلى الله عليه وسلم وقال:(وهل تصلح له؟ إنما هـي ابنة أخيه؟)، فرجعت خولة الى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالت له ذلك، فقال:(ارجعي إليه فقولي: أنت أخي في الإسلام، وأنا أخوك، وبنتك تصلحُ لي).

فذكرت ذلك لأبي بكر فقال:(انتظريني حتى أرجع)، فذهب ليتحلل من عِدَةٍ للمطعم بن عدي، كان ذكرها على ابنه، فلما عاد أبو بكر قال:(قد أذهبَ الله العِدَة التي كانت في نفسـه من عدِتِه التي وعدها إيّـاه، ادْعي لي رسـول الله صلى الله عليه وسلم)، فدعتْه وجاء، فأنكحه، فحصلت قرابة النسب بعد قرابة الدين.

وبعد أن هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الى المدينة، وحين أتى الميعاد أسرع الأصحاب من الأنصار وزوجاتهم الى منزل الصديق حيث كانت تقوم فيه العروس المباركة، فاجتمعت النسوة إلى آل الصديق يهيئن العروس لتزفّ إلى زوجها (سيد الخلق)، وبعد أن هيَّئْنَها وزفَفْنها، دخلت (أم الرومان) أم عائشة بصحبة ابنتها العروس الى منزل الرسول صلى الله عليه وسلم من دار أبي بكر، وقالت:(هؤلاء أهلك، فبارك الله لك فيهنّ، وبارك لهن فيك)، وتنقضي ليلة الزفاف في دار أبي بكر (في بني الحارث بن الخزرج )، ثم يتحوّل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهله إلى البيت الجديد، وهو حجرة من الحجرات التي شُيّدت حول المسجد.

ثم إن حديث الإفك خطير أفظع الخطر في مضمونه ومحتواه، فمضمونه: العداء للإسلام والمسلمين، ومحتواه: قذف عرض النبي صلى الله عليه وسلم وإشاعة مقالة السوء في أهله الأطهار، وأغراضه: إكراه الرسول صلى الله عليه وسلم والمهاجرين على الخروج من المدينة، وأهدافه: إزالة آثار الإسلام والإيمان من قلوب الأنصار.

وفي غزوة المصطلق سنة ست للهجرة، تقول السيدة عائشة:(فلما فرغ الرسول صلى الله عليه وسلم من سفره ذلك وجّه قافلا حتى إذا كان قريبا من المدينة نزل منزلا فبات به بعض الليل، ثم أذّن في الناس بالرحيل، فارتحل الناس، وخرجت لبعض حاجاتي وفي عنقي عقد لي، فلما فرغت أنسل من عنقي ولا أدري، فلما رجعت الى الرحل ذهبت ألتمسه في عنقي فلم أجده، وقد أخذ الناس في الرحيل، فرجعت الى مكاني الذي ذهبت إليه، فالتمسته حتى وجدته، وجاء القوم خلافي، الذين كانوا يُرَحِّلون لي البعير، وقد فرغوا من رحلته، فأخذوا الهودج وهم يظنون أني فيه كما كنت أصنع، فاحتملوه فشدوه على البعير، ولم يشكوا أني فيه، ثم أخذوا برأس البعير فانطلقوا به، فرجعت إلى العسكر وما فيه من داع ولا مجيب، قد انطلق الناس.

فتلففت بجلبابي ثم اضطجعت في مكاني، وعرفت أن لو قد افتقدت لرُجع إلي، فوالله إني لمضطجعة إذ مر بي صفوان بن المعطّل السُّلَمي، وقد كان تخلف عن العسكر لبعض حاجته، فلم يبت مع الناس، فرأى سوادي فأقبل حتى وقف علي، وقد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب، فلما رآني قال:(إنا لله وإنا إليه راجعون، ظعينة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وأنا متلففة في ثيابي، قال:(ما خلّفك يرحمك الله؟)،فما كلمته، ثم قرب البعير فقال:(اركبي)، واستأخر عني، فركبت وأخذ برأس البعير فانطلق سريعاً يطلب الناس، فوالله ما أدركنا الناس وما افتُقدت حتى أصبحت، ونزل الناس، فلما أطمأنوا طلع الرجل يقود بي، فقال أهل الإفك ما قالوا، فارتعج العسكر، ووالله ما أعلم بشيء من ذلك).

وفي المدينة مرضت السيـدة عائشـة مرضاً شديداً، ولم تعلم بالحديـث الذي وصل للرسـول صلى الله عليه وسلم وأبويها، إلا أنها قد أنكرت من الرسول صلى الله عليه وسلم بعض لطفه بها، وحين رأت جفاءه لها استأذنت بالإنتقال الى أمها لتمرضها فأذن لها.

وبعد مرور بضع وعشرين ليلة خرجت مع أم مِسْطح بنت أبي رُهْم بن المطلب بن عبد مناف، فعلمت بحديث الإفك، وعادت الى البيت تبكي، وقالت لأمها:(يغفر الله لك، تحدّث الناس بما تحدّثوا به وبلغك ما بلغك، ولا تذكرين لي من ذلك شيئاً).

قالت:(أي بُنَيَّة خفِّضي الشأن، فو الله قلّما كانت امرأة حسناء عند رجل يُحبها لها ضرائر إلا كثّرن وكثّر الناس عليها ).

وقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم في الناس يخطبهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:(أيها الناس، ما بال رجال يؤذونني في أهلي، ويقولون عليهم غير الحق؟ والله ما علمت منهم إلا خيراً، ويقولون ذلك لرجلِ، والله ما علمت منه إلا خيراً، وما دخل بيتاً من بيوتي إلا وهو معي)، فلمّا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المقالة، قال أسيْد بن حُضَيْر:(يا رسول الله، إن يكونوا من الأوس نكفكهم، وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج فمُرْنا بأمرك، فو الله إنهم لأهل أن تضرب أعناقهم).

فقام سعد بن عُبادة فقال:(كذبت لعمر الله لا تُضرَب أعناقهم، أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا)، قال أسيد:(كذبت لعمر الله، ولكنك منافق تجادل عن المنافقين).

وتساور الناس حتى كاد أن يكون بين هذين الحيّين من الأوس والخزرج شرّ، ونزل الرسول صلى الله عليه وسلم فدخل على عائشة.

ودعا الرسول صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد، فاستشارهما، فأما أسامة فأثنى خيراً وقال:(يا رسول الله، أهلك، ولا نعلم عليهن إلا خيراً، وهذا الكذب والباطل)، وأما علي فإنه قال:(يا رسول الله، إنّ النساء لكثير، وإنك لقادر على أن تستخلف، وسلِ الجارية تصدُقك).

فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم (بريرة) ليسألها، فقام إليها علي ... وهو يقول:( اصدقي رسول الله )، فقالت:(والله ما أعلم إلا خيراً، وما كنت أعيب على عائشة إلا أني كنت أعجن عجيني، فآمرها أن تحفظه فتنام عنه، فيأتي الداجن فيأكله).

تقول السيدة عائشة:(ثم دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي أبواي، وعندي امرأة من الأنصار، وأنا أبكي وهي تبكي معي، فجلس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:(يا عائشة، إنه قد كان ما قد بلغك من قول الناس، فاتّقي الله، وإن كنت قارفت سوءاً مما يقول الناس فتوبي إلى الله، فإن الله يقبل التوبة من عباده).

قالت:(فو الله ما هو إلا أن قال ذلك، فقلص دمعي، حتى ما أحس منه شيئاً، وانتظرت أبَوَيّ أن يجيبا عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يتكلما، فقلت لهما:(ألا تجيبان رسول الله ؟)...فقالا لي:(والله ما ندري بماذا نجيبه).

قالت:( فلما أن استعجما عليّ استعبرت فبكيت ثم قلت:(والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبداً، والله إني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس، والله يعلم أنّي منه بريئة، لأقولن ما لم يكن، ولئن أنا أنكرت ما تقولون لا تُصدِّقونني، ولكني أقول كما قال أبو يوسف:( فصبرٌ جميلٌ والله المستعان على ما تصفون).

قالت السيدة عائشة:(فو الله ما بَرِحَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه، فسُجِّي بثوبه، ووضِعت له وسادة من أدم تحت رأسه، فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت، فو الله ما فزعت كثيرا ولا باليت، قد عرفت أني بريئة، وإن الله غير ظالمي، وأما أبواي فو الذي نفس عائشة بيده ما سُرّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فَرَقاً أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس.

ثم سُرِّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس، وإنه ليتحدّر منه مثل الجُمان في يومٍ شاتٍ، فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول:(أبشري يا عائشة، فقد أنزل الله براءتـك)، فقالت:(بحمـد الله وذمّكم).

ثم خرج إلى الناس فخطبهم، وتلا عليهم ما أنزل اللـه عز وجل من القرآن - سورة النور (11-19)، وبدايتها:

قال تعالى:(إنَّ الذين جَاؤُوا بالإفكِ عُصْبَةُ منكم، لا تحسبوه شراً لكم بلْ هو خيرُ لكم، لكل امرىءٍ منهم ما اكتسبَ من الإثم، والذي تولَّى كِبْرَهُ منهم له عذابٌ عظيمٌ، لولا إذ سمعتُموه ظنَّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً).

ثم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بمسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش وكانوا ممن أفصح بالفاحشة فضربوا حدَّهم.

قالت السيدة عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم:(يا رسول الله، كيف حبّك لي؟)، قال صلى الله عليه وسلم:(كعقد الحبل)، فكانت تقول له:(كيف العُقدةُ يا رسول الله؟)، فيقول:(هي على حالها)، كما أن فاطمة رضي الله عنها ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تذكر عائشة عنده فقال:(يا بُنية: حبيبة أبيك).

قال ابن عباس رضي الله عنهما لأم المؤمنين عائشة:(كنتِ أحبَّ نساء النبي صلى الله عليه وسلم إليه، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحبُّ إلا طيّباً)، وقال:(هلكت قلادتُك بالأبواء، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتقطها فلم يجدوا ماءً، فأنزل الله عزّ وجل:(فتيمموا صعيداً طيباً).

فكان ذلك بسببكِ وبركتك ما أنزل الله تعالى لهذه الأمة من الرخصة)، وقال:(وأنزل الله براءتك من فوق سبع سمواته، فليس مسجد يُذكر الله فيه إلاّ وشأنك يُتلى فيه آناء الليل وأطراف النهار). فقالت:(يا ابن عباس دعني منك ومن تزكيتك، فو الله لوددت أني كنت نسياً مِنسياً).

قالت السيـدة عائشـة:(رأيتك يا رسـول الله واضعاً يدك على معرفة فرسٍ، وأنت قائم تكلِّم دِحيـة الكلبي)، قال صلى الله عليه وسلم:(أوَقدْ رأيته؟)،قالت:(نعم)، قال:(فإنه جبريل، وهو يقرئك السلام)، قالت:(وعليه السلام ورحمة الله وجزاه الله خيراً من زائر، فنعم الصاحب ونعم الداخل).

قال عروة:(أن معاوية بعث إلى عائشة رضي الله عنها بمائة ألف، فوالله ما غابت الشمس عن ذلك اليوم حتى فرّقتها، قالت لها مولاتها:(لو اشتريت لنا من هذه الدراهم بدرهمٍ لحماً)، فقالت:(لو قلت قبل أن أفرقها لفعلت).

كانت السيدة عائشة صغيرة السن حين صحبت الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا السن يكون الإنسان فيه أفرغ بالا، وأشد استعداداً لتلقي العلم، وقد كانت السيدة عائشة رضي الله عنها متوقدة الذهن، نيّرة الفكر، شديدة الملاحظة، فهي وإن كانت صغيرة السن كانت كبيرة العقل.

قال الإمام الزهري:(لو جمع علم عائشة الى علم جميع أمهات المؤمنين، وعلم جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل)، وقال أبو موسى الأشعري:(ما أشكل علينا أمرٌ فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها فيه علماً)...

وكان عروة يقول للسيدة عائشة:(يا أمتاه لا أعجب من فقهك؟ أقول زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنة أبي بكر، ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام العرب، أقول بنية أبي بكر وكان أعلم الناس، ولكن أعجب من علمك بالطب فكيف هو؟ ومن أين هو؟ وما هو؟)...قال : فضربت على منكبي ثم قالت:(أيْ عُريّة -تصغير عروة وكانت خالته إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسقم في آخر عمره، فكانت تقدم عليه الوفود من كل وجه فتنعت له فكنت أعالجه، فمن ثَمَّ).

اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه شهراً، وشاع الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد طلّق نساءه، ولم يكن أحد من الصحابة يجرؤ على الكلام معه في ذلك، واستأذن عمر عدّة مرات للدخول على الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يؤذن له.

ثم ذهب ثالثة يستأذن في الدخول على الرسول صلى الله عليه وسلم فأذِنَ له، فدخل عمر والنبي صلى الله عليه وسلم متكىء على حصير قد أثر في جنبه، فقال عمر:(أطلقت يا رسول الله نساءك؟).

فرفع صلى الله عليه وسلم رأسه وقال:(لا)، فقال عمر:(الله أكبر)، ثم أخذ عمر وهو مسرور يهوّن على النبـي صلى الله عليه وسلم ما لاقى من نسائـه، فقال عمر:(الله أكبر، لو رأيتنا يا رسـول اللـه، وكنّا معشر قريش قوماً نغلِبُ النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم، فغضبتُ على امرأتي يوماً، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت:(ما تُنْكِر أن راجعتك؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعْنَهُ، وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل)، فقلت:(قد خاب من فعل ذلك منكنّ وخسِرَتْ، أفتأمَنُ إحداكنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذاً هي قد هلكت؟)، فتبسّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم.

فقال عمر :( يا رسول الله ، قد دخلت على حفصة فقلت:(لا يغرنّك أن كانت جاريتك - يعني عائشة - هي أوْسَم وأحبُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك)، فتبسّم الرسول -صلى الله عليه وسلم ثانية، فاستأذن عمر رضي الله عنه بالجلوس فأذن له.

وكان صلى الله عليه وسلم أقسم أن لا يدخل على نسائه شهراً من شدّة مَوْجدَتِهِ عليهنّ، حتى عاتبه الله تعالى ونزلت هذه الآية في عائشة وحفصة لأنهما البادئتان في مظاهرة النبي صلى الله عليه وسلم، والآية التي تليها في أمهات المؤمنين.

قال تعالى:(إِن تَتُوبَا إلى اللهِ فقد صَغَتْ قُلُوبُكُما وإن تَظَاهرا عَلَيه فإنّ اللهَ هوَ مَوْلاهُ وجِبريلُ وَصَالِحُ المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهيرٌ عسى رَبُّهُ إن طلَّقَكُنَّ أن يُبْدِلَهُ أزواجاً خَيْراً منكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانتاتٍ تائباتٍ عابداتٍ سائِحاتٍ ثَيَّباتٍ وأبكاراً)- سورة التحريم آية (4-5).

فما كان منهن وآيات الله تتلى على مسامعهن إلا أن قلنَ.

قال تعالى:(سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير).

لم يكن يوم الجمل لعلي بن أبي طالب، والسيدة عائشة، وطلحة والزبير قصد في القتال، ولكن وقع الإقتتال بغير اختيارهم، وكان علي رضي الله عنه يوقر أم المؤمنين عائشة ويُجلّها فهو يقول:(إنها لزوجة نبينا صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة).

وكذا السيدة عائشة كانت تُجِلّ علياً وتوقره، فإنها رضي الله عنها حين خرجت، لم تخرج لقتال، وإنما خرجت بقصد الإصلاح بين المسلمين، وظنّت أن في خروجها مصلحة للمسلمين ثم تبيـن لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى، فكانـت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبلّ خمارها.

فعندما أقبلت السيدة عائشة وبلغت مياه بني عامر ليلاً، نبحت الكلاب، فقالت:(أيُّ ماءٍ هذا؟)، قالوا:(ماء الحوْأب)، قالت:(ما أظنني إلا راجعة)، قال بعض من كان معها:(بل تقدمين فيراك المسلمون، فيُصلحُ الله ذات بينهم)، قالت:(إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال ذات يوم:( كيف بإحداكُنّ تنبُحُ عليها كلاب الحَوْأب).

وبعـد أن انتهى القتال وقـف علي رضي اللـه عنه على خِباء عائشـة يلومها على مسيرها فقالت:(يا ابن أبي طالب، ملكْتَ فأسْجِحْ -أي أحسن العفو-)، فجهَّزها الى المدينة وأعطاها اثني عشر ألفاً رضي الله عنهم أجمعين.

لمّا قدِم معاوية المدينة يريد الحج دخل على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ومولاها ذكوان أبو عامر عندها فقالت له عائشة:(أمِنتَ أن أخبِّىء لك رجلاً يقتلك بقتلك أخي محمداً؟)...قال معاوية:(صدقتِ)، فكلّمها معاوية فلمّا قضى كلامه، تشهدت عائشة ثم ذكرت ما بعث الله به نبيه من الهدى ودين الحق، والذي سنّ الخلفاء بعده، وحضّتْ معاوية على اتباع أمرهم، فقالت في ذلك، فلم تترِك.

فلمّا قضت مقالتها قال لها معاوية:(أنتِ والله العالمة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المناصحة المشفقة، البليغة الموعظة، حَضَضْتِ على الخير وأمرت به، ولم تأمرينا إلا بالذي هو لنا، وأنتِ أهلٌ أن تطاعي)، فتكلّمت هي ومعاوية كلاماً كثيراً، فلمّا قدم معاوية اتكأ على ذكوان، قال:(والله ما سمعت خطيباً ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلغ من عائشة).

توفيت عائشة بنت أبي بكر الصديق سنة ثمان وخمسين في شهر رمضان لسبع عشرة ليلة خلت منه، ودُفنت في البقيع...

*******





د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com