المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العين من النظرة إلى الدمعة في الشعر العربيّ ...



الدكتور مروان الظفيري
01/06/2006, 05:53 AM
العين من النّظْرة إلى الدّمعة في الشّعر العربيّ



العين عضو عجيب، ومركز لأهمّ حاسّة من حواسّ الإنسان الخمس؛ بها تدرك المرئيّات بأحجامها وأشكالها وألوانها.

والعين هي الباصرة، وتطلق على الحدقة، أو على مجموع الجفن، كما تطلق أيضاً على حاسّة البصر، نقول: "هو قويّ العين" أي حاسّة بصره قويّة، وتسمّى العين أو ما دار بها محجر بفتح الميم أو كسرها، وقد تطلق عليها كلمة مقلة، وهي شحمة العين أو السواد والبياض منها، فتتكون للعين ذاتها. وإنسان العين ما يُرى في سوادها أو سوادِها نفسه، واللَّحْظ باطن العين، أو النظر بمؤخرّتها، ويتبع المحجرَ الجفن، وهو غطاء من أعلى إلى أسفل، ويُسمّى رَمْشاً، أمّا الرَّمش فهو تَفتّل في أصول شعر الجفن، وهو غير مُستحبّ، والهُدْب أو الهُدُب فهو شعر أشفار العين، ويكون جماله في وَطفه: أي طول أشفاره وتمامها، والحاجب: العظم فوق العين بلحمه وشعره، وقد ذمّ فيه كثافة الشعر واتصال الحاجبين، وهناك معانٍ كثيرةٌ على المجاز وليس على أصل الوضع، ولا حاجة لتتبعها هنا.

العين فيها أو منها أو ممّا يتبعها آياتٌ من السحر والجمال تصوغها أجزاؤها أو ألوانها أو صفاؤها وبريقها أو سعتها أو نظراتها أو دموعها أو بسمتها.

إنّها أكثر الأعضاء تأثراً وتأثيراً، فهي تتأثّر بما تقرؤه في الآخرين، وتؤثّر فيهم حين تقرؤها عيونهم، تتأثر فتخلف في ذات صاحبها الحزن أو السرور، وتؤثر، فتهيج ما كان دفيناً في الآخرين، بل لها قدرةٌ قويّة على اختراقهم لتصل إلى مكنونات نفوسهم؛ إضافة إلى أنّها هي نفسُها تكشف عمّا في نفس صاحبها من المعاني والدّلالات الكثيرة،

إنّها تملِك قدرة عجيبة على التعبير عن المشاعر والمعاني المتضادّة: الحبِّ والبغض، الحنان والقسوة، الألفة والجفوة، الحزن والفرح، الغضب والرضا، القبول والرفض، السعادة والتعاسة، الحسد والقناعة، الصدق والرياء. إنها تبتسم: "عيناك حين تبسمان... تورق الكروم"([1]) وتضحكان:

تضحك عيناك وإن جدّتا

لا سحر في عينين لا تضحكان([2])

وهي تحزن، فتستنزفها الدمعة حتى الدنف والعمى، قال تعالى: )وتولّى عنهم وقال يا أسفي على يوسف وابيضّت عيناه من الحزن وهو كظيم(([3]). وهي قادرة على بعث الأمل والحياة، وقادرة على بَذر الموت والردى، وهي المخلوق الضعيف، وقد خصّوها بلغة هي لغة العيون، إنّها لغة ليست ككلّ اللّغات، لغة يقرأ بريق سطورها العشّاق والمحبّون وأصحاب القلوب المتيّمة، ومن أوتي حظاً من رهافة الحسّ، فتميت أو تحيي، لكنّ لغتها أحياناً تكون فاضحة إذا ما وقعت عليها عيون الكاشحين، حتّى عيون هؤلاء لها لغتها المؤذية، فتصيب الإنسان بالعين، فإذا أمِنَ شرّها بات قرير العين، فكنّوا بقرّة العين عن الفرح والحبور، قال تعالى: )...هل أدلّكم على من يكفله فرَجَعْناك إلى أمِّكَ كي تَقَرَّ عينها(([4]). أي تفرح وتسرّ بلقائك، وقد يكنّى بها عن الرياء، فيقال: "هو عبد عين أو صديق عين". يخدمك أو يصادقك رياء، أنشد الجاحظ([5]):

ومولى كعبد العين أمّا لقاؤه

فيُرضى، وأمّا غيبه فظنون

وقد يكنّى بها عن التجسّس، فيقال: "فلان عين على فلان". أي ناظر عليه.

والعين من أكثر الأعضاء تعرّضاً للهجوم، فيدعى عليها بالقلع والعمى والفقء، وقد يكون الفقء معنويّاً، فيقال: "فقأ عينه، أي صكّه وأغلظ له، ويكنّى بها عن الغالي المحبّب إلى النفس، فيقال: "أنت عيني"، كما يكنّى بها عن الطاعة والموافقة، فيقال: "على عيني" وهي موطن الرعاية والصون، قال تعالى: )...وَلِتُصْنعَ على عيني(([6]). أي لتربّى بمراقبتي أو بمرأى منّي وحفظي، وعند امرئ القيس في فرسه: "وبات بعيني قائماً غير مرسل". وهي موطن الرؤية اليقينيّة، قال تعالى: )ثُمَّ لترونَّها عين اليقين(([7]). أي مشاهدة العين، كما هي موطن التبصّر والهداية، قال تعالى: )ألم نجعل له عينين(([8]). أي عينان يتبصّر بهما طريقي الخير والشرّ، وقد تكون سبيلاً إلى المحرّمات، فتختَلس النظر إليها، قال تعالى: )ولا تمدّن عينيك إلى ما متّعنا به أزواجاً منهم...(([9]). كما يكنّى بها عن السخرية: "العين تطرقك ما أفهمك".

نلاحظ من هذا التقديم كثرةَ الدلالات المجازيّة في استخدام العين، فماذا يعني المجاز، وماذا تعني كثرة الدلالات؟ إنّ كثرة الدلالات تكشف عن اهتمام واضح بالعين، وعن مكانة رفيعة لها عند الناس، وعن إعجاب كبير بها، فإذا كان هذا شأنها بعامة، فما هو شأنها عند الشعراء؟ وهم الأقدر على استجلائها وكشفها ورصد معانيها، وما تبوح به، وما يأتلق فيها من سحر، أوجعهم، أو أسعدهم: أوجعهم فأحرق مهجهم، فإذا هم صرعى فتنته، أسعدهم ففرش الأمل في درب حياتهم، فإذا هم ينعمون بالسعادة تغمر

قلوبهم. لذلك وصفوا جمال العين، وسحر نظرتها، وفتور طرفها، وما تهمي به من دموع تفعل فعلها في النفس، فتكوي القلوب، أو تذيبها لهفة وشوقاً، وسأقف على ذلك مُصعّداً مع المعنى والصورة.

1ً ـ وصف العين:

1 ـ الاتساع والبريق والصفاء:

راح الشعراء يتلمّسون معاني الجمال الآسرة في العين متتبّعين مظاهرها، فأعجبوا بالعين الواسعة الصافية التي يشعّ بريقها، الواسعة في غير جحوظ، والصافية وقد نفت عنها أيّ قذىً يسيء إلى صفائها، أو يعكّره، وقد تلألأ ضياؤها، قال طرفة في وصف عيني ناقته([10]):

وعينان كالماويّتين استكنّتا

بكهفَيْ حَجاجي صخرة قلتِ موردِ([11])

طحوران عوّار القذى فتراهما

كمكحولتَيْ مذعورة أمّ فرْقد([12])

إنّ عينيها كمرآتين في الصفاء، وهما في غؤور يعلوهما حاجبان صلبان، وقد شبّه صفاءهما بصفاء ماءٍ في نَقرةٍ، وقد نفتا عنهما القذى في شدّة اتّساع، إنّهما كعيني بقرةٍ وحشيّةٍ لها ولد، وقد أفزعها صائد، وبهذا لم يَخْفَ على الشاعر ما ترجمته عيناها من ردّ فعلٍ غريزيٍّ ـ إن صحّ التعبير ـ فيما تنازعهما من الخوف والحنوّ لينعكس ذلك سعة في عينيها مع شدّة بريق، وفي مثل هذه الحال تكون العين أكمل ما تكون عليه من اتّساع وبريقٍ يضفيان عليها سحراً وجمالاً، وقد نفت عنها أيّ قذىً، فسلمت من الحُزن والرَّمدَ، قال جرير في حديثه عن أ طلال الحبيبة([13]):

وقد عهدنا به حُوْراً مُنَعّمة

لم تلق أعينها حُزْناً ولا رَمَدا

عينٌ صفت، فلا احمرار حزن فيها، ولا رمد يذهب بريقها. هذه العين كلّما اتّسعت زادها الاتساع جمالاً لذلك نفروا من العين الحوصاء والخوصاء: الضيّقة في غؤور.

هذه العين الواسعة أعجب بها الشّعراء، فسمَّوها عيناً نجلاء، وقد اتّسعت في حسن وقلّما سلموا من طعناتها، تلك الطعنات التي أصمّت قلوبهم، قال أبو دريد([14]):

ليس السّليم سليمَ أفعى حَرَّةٍ

لكنْ سليمَ المقلة النجلاء([15])

وكيف للمرء أن يسلم، وهي العين النّجلاء أشدّ فتكاً من أفعى حَرَّةٍ، إنّها تقتل حين ترمي، قال عمر ابن أبي ربيعة([16]):

وأقبلنَ يمشينَ الهوينا عشيّة

يُقتّلنَ من يرمين بالحدق النُّجل

2 ـ اللون:

إذا كان اتساع العين وصفاؤها وبريقها، وقد سلمت من أيّ قذىً أو مرض، هي من معاني الجمال التي استهوت الشعراء، فإنّ في لون العين آياتٍ من السحر تتجاوز كلّ وصف، وقد تباينت أذواقهم في ذلك.

ـ العين الدعجاء:

الدَّعَج والدُّعْجَة السواد، وقد عرّف الثعالبيّ في فقه اللغة العينَ الدعجاء بأنّها شديدة السواد مع سعة، وقد أورد قولَ ذو الرُّمَّة([17]):

حتّى بدت أعناق صبح أبلجا

تَسُور في إعجاز ليل أدعجا

فالبلج لبياض الصبح، والدعج لسواد الليل، وهذا لا يتّفق مع ما أورده الزمخشريّ في أساسه حين عرّف العين الدعجاء بأنّها شديدة السواد شديدة البياض. إنّه الدّعج سيف ينازل العشّاق، قال السلطان النبهانيّ([18]):

لقد سللتِ سيفَ جفنٍ أدعج

على هُمام أروع مُتوَّج

لكنْ على الرغم من أنّه سيف يتمنّى الشعراء نظرة إليه، يقول أيضاً:

راية يا ذات الخِبا والهودج

وربّة الطوق وذات الدُّمْلُج([19])

والخدّ والطرف الكحيل الأدعج

هل نظرةٌ لعاشقِ مُهَيَّج

هذه العين هام الشّعراء بفتنتها، فعند صاحبتها يكون الفرج إن هي أذعنت، أو الموت إن هي دلت وغَنجت، قال الشّاعر:

أمليحة الدَّعَج!

ألديك من فرج؟

أم أنتِ قاتلتي

بالدّلّ والغَنَج([20])

ـ العين الكحلاء:

لم يكن السّواد الفاحم في سواد العين قد سحر الشعراء فحسب، بل ما كان منه أيضاً في جفنها، فسّموها عيناً كحلاء، كحلاء خلقة من غير كحلٍ، قال التّلّعفريّ([21]):

حميتَ شقيق الخدّ بالمقلة الكحلا

وثقفتَ رُمح القدّ بالطّعنة النّجْلا

لقد حمتْ حمرة خدّها بعينها الكحلاء، والقدّ منها مثقف يطعن الطّعنة النجلاء تسحر بجفنها الأكحل الأوطف حيث طول شعر أشفار العين وتمامها، قال بدويّ الجبل([22]):

أطلّ خلف الجفون الوطف موطنه

بعد الفراق فحيّاه وفدّاه

ـ العين الحوراء:

ذكر الثعالبيّ في فقه اللّغة أنّ الحَوَر اتساع السّواد في العين كما في عين الظباء:

وكأنّما دون النّساء أعارها

عينيه أحورُ من جآذرَ جاسم([23])

أمّا الزمخشري: فقال: الحور شدّة السّواد وشدّة البياض في العين، وما أورده الثعالبيّ يتّفق مع عيون الظباء التي يتسع فيها السّواد حتى لا يبقى للبياض في العين إلا القسمُ اليسير، وأضاف الثعالبيّ أنّ البرح في العين هو شدّة السّواد وشدّة البياض([24])، ومهما يكن فالأمر لا يخرج عن سواد العين الذي فتن به الشّعراء، إذ غدوا صرعى بسحره وما يبعثون، قال جرير([25]):

إنّ العيون التي في طرفها حورٌ

قتلننا ثمّ لم يُحيين قتلانا

_ العين الشهلاء:

قال الثّعالبيّ في فقه اللّغة: العين الشَّهلاء هي التي خالط سوادَها حمرة، أمّا الزمخشريّ في أساسه، فقال: هي العين التي خالط سوادَها زرقة، وعلى أيٍّ منهما، فنحن نقول، شَهل اللونان يشهَلان شَهَلاً اختلط أحدهما بالآخر، أمّا لسان العرب فقد أورد المعنيين: الشُّهلة في العين أن يشوب سوادَها زرقة، أنشد الفرّاء بطريق الذّمّ الذي يراد به المدح([26]):

ولا عيبَ فيها غيرَ شُهْلةِ عينها

عتاق الطير شُهْلٌ عيونها

إنه÷ يمدح فيها شُهْلة عينها، ويشبّهها بشهلة عيون عتاق الطّير التي خالط سوادَها الزّرق. وقال أيضاً: والشُّهلة في العين أن يكون سوادها بين الحمرة والسّواد، وقيل هي أن تُشرب الحدقة حمرة ليست كالشُّهلة في بياض العين، ولكنّها قلة سواد الحدقة حتّى كأنّ سوادها يضرب إلى الحمرة، قال ذو الرُّمَّة:

كأنّي أشهل العينين بازٍ

على علياء شَبَّهَ فاستحالا

ـ العين الزّرقاء:

إذا كان التّغنّي بالعين السّوداء كثر في شعرنا القديم فإنّه ـ مع خروج العرب من صحرائهم ـ وهنا اللّون الأسود مرتبطٌ بالبيئة، وباحتكاكهم بالأعاجم وبالمناطق المعتدلة وبالحضارة والساحل، بدأت الألوان الفاتحة في العين تحتلُّ شعرهم حيث أعجبوا بتلك الألوان، فلم تعد العين السّوداء وحدها ـ وإن بقيت فتنة النّاظرين ـ تتربّع عرش قلوب الشّعراء، بل راحت تستهويهم العيون الزّرق، فأخذت بمجامع قلوبهم، قال عمر بن أبي ربيعة([27]):

سحرتني الزّرقاء من مارون

إنّما السّحر عند زرق العيون

فإذا كانت سحراً عند عمر فهي سماواتٌ لا حدود لفضاء زرقتها عند البدويّ([28]):

في مقلتيك سماواتٌ يهدهدها

من أشقر النور أصفاه وأحلاه

ـ العين الخضراء:

إنّها الربيع الأخضر، تغري، فيتعلّق الناس بفتنتها، ويروح الشعراء يتأمّلونها، يفتّقون هذا اللّون، فمرّة عيونٌ خضر، يقول نزار([29]):

قالت: ألا تكتب في مِحْجَري

انهض لأقلامك.. لا تعتذر

مَنْ يعص قلب امرأة.. يكفر

يَلذُّ لي.. يلذّ لي.. أن أرى

خضرة عينيَّ.. على دفتري










يا عينُ.. يا خضراء.. يا واحة



خضراءَ ترتاح على المرمر

أفدي اندفاق السّيل في مقلةٍ

خيّرةٍ كالموسم الخيّر.

ومرّة زيتيّة، أو فستقيّة، وكلّها شِعاب ترتدّ إلى أصلها الأخضر، يقول نزار:

زيتيّة العينين.. لا تغلقي

يسلم هذا الشّفق الفستقي

رحلتنا في نصف فيروزة

أغرقت الدنيا ولم تغرق

ومرةً عسليّة، والعَسَلُ اضطراب في لون العين، يقول نزار:

كنت أسافر يوماً

في الأحداق الخضر

وفي الأحداق العسليّة

هذه العين على اختلاف ألوانها، وما حباها الله من سعة وصفاء وبريق لا يكون تمام جمالها إلا بحاجبٍ خطٍّ يكلّلها، يحنو عليها في رفق وخِفَّةٍ، لقد أعجب الشُّعراء بزَجَج الحاجب وبَلجه([30]) وذمّوا القَرَن الزَّبَب فيه، قال السّلطان النّبهانيّ([31]):

راية يا ذات الخِبا والهودج

وربّة الطوق وذات الدُّمْلُجِ

والدّلّ والصَّلْتِ الجبين الأبلج

والحاجبِ المُستحسَن المُزجَّجِ

وقال عمر في تغزُّله بذات العيون الزّرق:

وجبينٌ وحاجبٌ لم يصبْه

نَتفُ خطٍّ كأنّه خطُّ نون

إنه منتوف خلقة، خطٌّ كحدِّ السَّيف.
(مجلة الموقف الأدبي
العدد 394 شباط 2004 م)



يتبع ـ بمشيئة الله ـ

بنت الشهباء
01/06/2006, 01:53 PM
راااائع ما تنثره لنا من كنوز ودرر أستاذنا الفاضل الدكتور مروان الظفيري

نسأل الله أن يفتح بصيرتكَ , ويزيدكَ من علمه وفضله

إنه سميع مجيب



نتابع معكَ أستاذنا الكريم