PDA

View Full Version : أمير القلم واللسان



بنت الشهباء
31/05/2006, 01:49 PM
أمير القلم واللسان

أهل التطور والفكرة الإنسانية أهل عزيمة وجدّ , تسوقهم أحلامهم إلى الكمال , وجراحاتهم تدفعهم للإبداع , وآمالهم تسوقهم إلى التحدي والصمود ...لن يعرفوا الجمود ورقود الأقلام , بل نذروا حياتهم على أن تكون بواعث للنهضة الفكرية , وآمال الشعوب الخائبة , ورجاء الأجيال القادمة ..
حديثنا اليوم عن أمير الأدباء , وسيد الفصاحة والبلغاء , وصاحب الكلمة المتلألئة بألوان الطيف البديع , وأهل الشعور الدافق الذي يسيل من بين ألفاظه ماء الغدق المنساب من روابي الحكمة ,وسحر جمال البيان واللفظ ..
نجد ذكاؤه يشع في مرمي صفحاته , وعقله يأتلق من معاني بيان وبديع نَفَس روحه , فكان بحقّ أميراً للقلم واللسان ...
إنه الكاتب المبدع الملهم , وأديب العربية الأكبر :

( مصطفى صادق الرافعي ولد في قرية بهتيم , محافظة القليوبية في مصر أوائل محرم 1291 هـ/حزيران 1880 )
وفد جده الشيخ عبد القادر الرفاعي من الشام إلى مصر مع طائفة كبيرة من آل الرافعي في منتصف القرن الثالث عشر الهجري
وقد اشتغلوا في القضاء على مذهب الإمام : أبي حنيفة النعمان .. حتى أوشكت المحاكم ووظائف القضاء في مصر أن تكون حكراً لعائلتهم ..
وقد عرف عن والده الشدة في الحق , والورع الشديد , والعلم الغزير الوافر , والصدق في الكلمة ..وكان يؤم إلى منزله كبار العلماء من كلّ حدب وصوب .. وقد زخرت مكتبته بنفائس الكتب وأزاهير العلم ..
أمه تنتمي إلى أصول حلبية وهي ابنة الشيخ الطوخي , والدها كان يسير بقوافله ما بين الشام ومصر , وقد أقام في قرية بهتيم ..
تزوج من ابنة عائلة البرقوقي عام 1904م من مدينة المنصورة، وعاش معها حياة زوجية نموذجية..
حفظ القرآن قبل العاشرة من عمره , وحصل على الشهادة الابتدائية من مدرسة المنصورة الأميرية وعمره سبع عشرة سنة ..ترك التعليم في المدارس بعدما أصابه مرض لم يتركه حتى أضعف سمعه , وفي سن الثلاثين أضحى أصما تماما ...
فلم يجد أمامه سوى مكتبة والده الزاخرة بكلّ علوم الأدب والعلم لينهل منها , ويرتوي من مشاربها ومنابعها كلّ علوم ونفائس الأدب ..
وفي عام 1899 م عمل ككاتب محكمة في محكمة طخا ثم محكمة طنطا وانتقل بعدها إلى المحكمة الأهلية , ولقي وجه ربه يوم الاثنين العاشر من أيار لعام 1937 بعدما كان يجلس يتلو القرآن بعد صلاة الفجر عن عمر يناهز سبعة وخمسون عاما ..

قبل بلوغه العشرين عاما كان له بدايات مع الشعر, وقد أصدر ديوانه الأول في عام 1903م و كان له صدىً كبيرا بين كبار شعراء مصر البارودي والكاظمي وحافظ إبراهيم , وتنبّأ له الشيخ محمد عبده , وزعيم مصر- مصطفى كمال- مستقبلا باهرا ذاخراً بالأدب..
سجّل لنا من ألوان الأدب العربي الأصيل ما يميّزه عن غيره من أرباب الشعر , وأصحاب الأدب ..
فكان أغرودة الأمل الباسم في فم أدبنا العتيق , وسرّ النشاط الروحي في نهضتنا المرجوة , وصورة معاناة الحبيب الذي يأبى إلاّ أن يترجم لحبيبته مشاعره الدافقة , وآلام جراحه اللاعجة وهو يرمض الحشا , ويذيب لفائف قلبه بالحزن والألم ....

أدبه يمتاز بفيض الشعور , وعفو البديهة , وقوة العزيمة الشابّة الدافقة ..
فكره مستقيما لا ينحرف , سطور كلماته مستقيمة لا اعوجاج فيها ولا زيغ..
وهنا يكمن سرّ الإبداع ..
في كلّ واد نجد له صرخة حية , وفي كل أرض رفعت له راية شامخة , وفي كل مكان دوّن له تاريخ أدب عريق ..
يفجر بصوته ينابيع فصاحة لغتنا العربية التي كادت أن تتيه وتقول لأهلها أين هو الطريق !!؟؟..
وراء كل كتاب أتى به إلينا كان له فيه قصة ..
وقد جمعني بكتبه نبض الحنين لطرق حِسان شعره ونثره , وأحببت منذ صغري أن ألج واحة صفحاته البديعة , بعد أن تهاوت مواكب أقزام الأدب , وتهويم زيف مواسم الفهم والعلم .
وسألت النفس كيف بي أن أنهض وأحدو العزيمة والهمة !!؟؟..
ومن أين لي أن أشهد الفن والإبداع لأهذّب سطوري ولسان قلمي !!؟؟..
وأنا منذ طفولتي هائمة في البحث عن تاريخ الأجداد وأدب الأدباء ..
حقا والله لم أجد أمامي سوى كتابه وحي القلم , لأنهل من سطوره نفحة البيان , ودفْقة السحر في الكلم ..
أثار كياني , وهاجت من بين سطوره فيض خواطري وأحزاني , ليأتي لساني هاويا يردد كيف لي أن لا أشهد هذا الفنّ البديع الذي أثار أطياف مشاعري !!؟؟..
حملني وحي القلم لحسّ مرهفٍ متدفق ما يزال حياّ صارخا في وجداني , وأنا أتجول بين كلّ قصة ومقالة بين جنبات صفحاته ..
وقد أجمع الأدباء والنقاد على أنّ وحي القلم كتابه لهو أبدع ما كُتِب في الأدب العربي الحديث والقديم الذي بدأ بنشر ما كتبه في مجلة الرسالة عام 1934 ومن ثم جمعها في كتابه وحي القلم..

وناداني كتابه المساكين لمواقع الألم والحزن , وكيف كان يعيش العامل المسكين في ظل الحرب العالمية الأولى التي لم تعرف سوى إراقة الدماء والخراب والدمار , والقوي يأكل الضعيف , وهو يصور فيه ضحايا الجوع والفقر والبؤس في مختلف أشكاله وألوانه , وعينيه تكاد تحتبس الدمع وهو يردّد:
(( حكيمٌ أنتَ يا رب ! ليتهم وليتني ... ليتهم يعلمون شيئا من حكمة الله في شيء من أغلاظ الناس ! .. كل شيء في هذا الكون العظيم يجري على قدَر منك وتدبير حكمتك !))

ودعاني حديث القمر الذي كتبه في لبنان عام 1912م لمشاعر الشاعر الهيمان , وهو يحاول أن يضبط النسبة ما بين الحلم والخيال , ويمازج القلب بضعف صناعة الحب , وقوة سحر البيان في أسلوب رمزي تربّع على ضرب من النثر الشعري لصفة الملهم البارع الفنان..
وهو يناجي القمر بأحلام تطرح أشعتها على قلبه بمعان رقيقة , و يستلطف حبيبته – مي زيادة - التي عرفها في ربوة من لبنان بأن لا تدع قلبه في لجج الهم, وتتركه قطعة مثلمة من الأحزان الدفينة بعد أن كشف لها سر قلبه, ولسان روحه ..
فكانت قصة حب استفرغت من نفسه كل خواطر الحب المتكبر لتداعبه في أحلامه , وتغشاه في خلوته , ولم يفرغ من تلك الحادثة التي أصابت صميم قلبه إلا أن يملأها بالشعر والحكمة , وبديع اللفظ والبيان ..

وقذفني أوراق الورد لرسائل الحب الذي أسمعنا فيها بحنو ورفق لحن العاشق الولهان , وهو يصف لنا وقار اليأس في الهجر وقسوة الحرمان , ولم أجد بين سطوره إلاّ ظلالا تمتد بوارف حُسن بديعها وهي تبحث عن صمت قلب الحب الهائم المتألّم ..
ورغم أن الرافعي كان يفهم شخصية تلك الفتاة التي جذبته بسحرها الأدبي الفكري النبيل لكنه كان يعلم بأنها لا تبادله نفس المشاعر والحسّ , ومع ذلك فمن وراء قصة حبه هذا استطاع أن ينتج لنا أدباً دافقا غزيرا حيّا بمشاعر الحب والشوق والهيام ..

وتجولت مع السحاب الأحمر لأتلمس فيه أعنف سيرة حبّ زينّها قلب الكاتب العاشق , وهو يحاول أن يجاهد بخطرات فكره , ويروي لنا قصة وحي فلسفة الحب , وطيش البعد, وهجر الأحبّة عنه والخلاّن ...

تناولت بعدها كتابه رسائل الأحزان الذي أنشأه بعد اثنتي عشرة سنة 1924م من ذكريات أيقظها في قلبه, وهو يستطرد معها معاني البغض وقسوة الهجر , والكبرياء وعزة النفس بأسلوب عنيف :

( أيها الجميل الذي يحسب كلّ شيء مَوْطِئَ قدميه.
أن ذلَ لك الحي بدموعه لم يذلّ لك الأموات العظماء الذين استودعوا لألئ كبريائهم الكريمة في الأصداف من عظامه تحت الأمواج الجيّاشة من دمه الحر , ومن لمْ تُعِزّه نفسه فلا يَصلُح إلا أن يكون رجلاً لا يصلُح ..)[رسائل الأحزان ص 136]

ما أشد جراحات لواعجه وهو يسترحم حبيبته أن لا تدعه مع آلام الهجر والحرمان, وتمطر عليه بوابل الألم وقسوة الأحزان ...
ونجده وهو يتنقل بين رسائله كأنّه طير محموم من أثر الجروح الذي أصابته من صاحبته , ومع ذلك بقي مسحورا بكلّ بعض بعضها ,لا ينفك عن سحر هوى حبها ..
(قلت لك إنها شاعرة تملأ سماءً من السموات فتكاد لا ترى فيها من جهات الأرض شيئا , كأنما تركت المادة الإنسانية في أبويها وخرجت من ذلك الحطب والروق .. مخرجَ الزهرة الناعمة , بنيّة من اللون وجسماً من العطر ونسيجاً متماسكاً من الشعاع ) ..
[رسائل الأحزان ص65]

ومن ثمّ أوقفني كتابه تحت راية القرآن لمنطق حكمه وسداد رأيه في معركته التي دارت بين القديم والجديد , وهو يتحدث عن أصالة التاريخ العربي الأصيل الشامخ في ردّه على كتاب الشعر الجاهلي لطه حسين هذا المائل المعوّج المجازف المحتال الذي استعمله الاستعمار ليكون أداة له يسعى إلى إفساد أخلاق الأمة وإبعادها عن الدين والقيم والمبادئ التي فطرها الله عليها ...وسخريته من نبي الله الكريم وأجدادنا وعلماء الأمة ,ودعوته إلى إفساد التاريخ وحرقه , ونقل الأخلاق الفاحشة من الغرب إلى الشرق بهدف التحرر ..فيقول :
( كفرا بالله وسخرية بالناس , فكذّب الأديان وسفّه التاريخ وكثر غلظه وجهله , فلم تكن في الطبيعة قوة تعينه على حمل كلّ ذلك والقيام به إلاّ المكابرة واللجاجة , فمرّ يهذي في دروسه , ولا هو يثبت الحقيقة الخيالية ولا يترك الحقيقة الثابتة , وأراد أن يسلب أهل العلم ما يعلمون كما يسلبك النص ما تملك بالجرأة لا بالحق وبالحيلة ولا بالإقناع , وعن غفلة لا عن بينة .. )

وأوصلني تاريخ الأدب العربي لجلال المعاني وإشراق اللفظ العربي الأصيل ,ونزاهة الهدى وصدق اللسان وهو يدعو للتجديد في أعلى وأرفع صور أساليب الشعر الجاهلي ..فكان بحقٍّ مكتملاً في عدته , وغزيراً في مادته , ونقاء صفاء ذوقه , وحدّة ذكاء فهمه ..

وإعجاز القرآن أرشدني لواضحات لألئ آيات كتاب الله العزيز الحكيم ,
فعرف كيف يصنع من الفنّ قالباً حيّاً , ويضع من اللفظ بيان الكلم , وهو يتصرف بمفردات اللغة بكل ألوان الطيف الملهم المبدع الفنان ..
وقد جاء على لسان سعد زغلول في تعليقه على كتابه إعجاز القرآن فقال :
( ولكنّ أقواما أنكروا هذه البداهة وحاولوا سَترها , فجاء كتابكم إعجاز القرآن مصدّقا لآياتها , مكذّبا لإنكارهم , وأيّد بلاغة القرآن وإعجازها بأدلة مشتقةٍ من أسرارها , في بيان مستمد من روحها , كأنه تنزيل من التنزيل , أو قبس من نور الذكر الحكيم )

فكان حقا والله من عباقرة العلم والأدب , وأصحاب البيان الملهم والفكر المنير الذي اكتسبها من البيئة التي لم تعرف سوى الأدب والعلم والتعلّم لتهذيب المسلم الإنسان العربيّ ..
ستبقى كلماته و لن تموت بل ستروي عطش الأرض الجرداء , وستورث الحب والوفاء لمن أراد أن يستظلّ بوارف تاريخ الأدب والأجداد , لأنه حقا والله كان أميراً للقلم واللسان ...




بقلم : ابنة الشهباء

احمد خميس
09/11/2007, 06:38 AM
http://maxupload.com/img/04090B84.gif

بنت الشهباء
09/11/2007, 09:26 AM
http://maxupload.com/img/04090B84.gif



وبارك الله بك أخي الكريم
أحمد خميس

وجزاك الله خيرا على هذا المرور والدعاء الطيب لأختك


وهل يخفى يا أخي أمير القلم واللسان عن أحد !!!؟؟.......
وما زال وسيبقى أميرا للابداع والقلم واللسان