تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : جامعة عربية إسلامية عتيقة



أبو شامة المغربي
29/05/2006, 12:35 PM
جامعة عربية إسلامية عتيقة

*******

القرويين

من الجامع إلى الجامعة



إذا كانت أول مدرسة اختُطت بالشمال الإفريقي قد نشأت في القيروان بتونس، فقد تبع ذلك بعد قليل بناء أكبر جامع بشمال إفريقيا، وهو جامع القرويين الذي يرجع بناؤه إلى عهد أول دولة إسلامية أسست بالمغرب، وهي مملكة الأدارسة التي اتخذت مدينة

فاس عاصمة لها، ويذكر المؤرخون أن هذه المدينة التاريخية قد عرفت في ذلك العهد نزوح وهجرة بضعة آلاف من عرب القيروان، حيث عمل أميرها على إسكانهم بالضفة الشرقية من وادي فاس، وسماها عدوة القيروانيين، ولكثرة الاستعمال خُففت فأصبحت القرويين.

لكن الحاجة سرعان ما دفعت إلى ضرورة بناء مسجد كبير يقيم فيه سكان الحي الناشئ صلواتهم، فقيض الله لذلك امرأة من نساء القيروانين المهاجرين هي السيدة فاطمة الفهرية (أم البنين)، حيث وهبت كل ما ورثته من أموال في بناء المسجد الذي تم الشروع فيه عام 245هـ، وكان كلما كثر عدد سكان عدوة القرويين سارع المحسنون من أتقياء القوم إلى توسيع المسجد والإنفاق في سبيل إصلاحه وترميمه.

وبعد نحو قرن من تأسيسه أصبح جامع القرويين في حاجة إلى توسعة كبرى، فأضاف الأمراء الزناتيون بإسهام من الأمويين الأندلسيين نحوًا من ثلاثة آلاف متر مربع إلى المسجد القديم، ثم زاد المرابطون فيما بعد مساحة أخرى، فأصبح بذلك يتسع للآلاف من المصلين.

واستمرت الأنشطة الدينية تقام بجامع القرويين منذ نشأته، وكلما تطورت مدينة فاس عمرانيا انصبت جهود المؤمنين والمحسنين فيها على الاهتمام بالمسجد الجامع توسعة، وصيانة، وحفظا، فصار عبر التاريخ المغربي قطبًا ومنارةً لمساجد الدولة المغربية، نظراً لإشعاعه الروحي المتواصل وتوجيهه للحياة الدينية والعلمية عبر أرجاء المغرب.

وتعتبر الصومعة المربعة الواسعة التي لا تزال قائمة إلى اليوم من بناء أحد الأمراء الزناتيين الذي كان عاملا لعبد الرحمن الناصر الأموي الأندلسي على بلاد العدوة، وهي تعد بحق أقدم منارة مربعة ثبتت في الغرب الإسلامي.

وفي عهد المرابطين أضيفت زيادات معمارية وعمرانية أخرى مع الاحتفاظ بالخصائص العامة لما كان عليه الجامع، غير أنه إذا كان الطابع العام للجامع قبل العصر المرابطي يتسم بالبساطة في المعمار والبناء فإنه في عهد المرابطين كان هنالك إبداع كبير في صنع القباب ووضع الأقواس وكتابة الخطوط والكلمات المنقوشة من آيات قرآنية وعبارات دعائية وغير ذلك.

ولعل أبرز ما خلده المرابطون من مآثر هو صنع المنبر الذي لا يزال قائما إلى اليوم، ويعد تحفة نادرة من التحف الإسلامية العريقة، وفي عهد الموحدين تم نصب الثريا الكبرى التي لا تزال إلى اليوم شاهدة على الحضارة الموحدية وروعة الفن والإبداع المغربي.

وللقرويين سبعة عشر بابا وجناحان يتقابلان في طرفي الصحن الذي يتوسط فضاء المسجد الداخلي، ويحتوي كل جناح على مكان للوضوء من المرمر، وهو تصميم معماري مأخوذ من تصميم صحن الأسد بغرناطة.

إذا كانت القرويين قد عرفت زيادات معمارية وعمرانية اتَّسمت بطابع التوسعة في البناء خلال القرون الأولى، فإنها ابتداء من عهد المرابطين والموحدين قد طالها الاهتمام على مستوى التأثيث والزيادة في المرافق الضرورية، فازدانت عبر العصور اللاحقة بمختلف أنواع وأشكال الثريات والساعات الشمسية والرملية، وابتهج فناؤها بالخصة الحسناء، واكتسبت غرفا ومرافق جديدة مثل غرفة المؤقتين، ومقصورة القاضي، والمحراب الواسع، وخزانة الكتب والمصاحف وغير ذلك.

وقد زُين كل ذلك بروائع الفن المزدوج الأندلسي – المغربي الذي امتزجت فيه رقة ورشاقة الفن الأندلسي، وهيبة وروعة الحِرَف المغربية.

ومهما اختلف الباحثون في بداية تاريخ التعليم في جامعة القرويين فإن طبيعة تأسيسها كجامع كانت تفرض على العلماء أن يلقنوا فيه المعرفة الإسلامية والعلوم الشرعية، ولهذا وجدوا فيه أكبر منتدى تزدهر فيه حرية التفكير والتعبير.

وبفضل الاهتمام البالغ الذي كان يحظى به جامع القرويين فإنه ما لبث أثناء عصور متتالية وعهود متتابعة أن استجمع عناصر النهضة ومقومات التطور، حيث توفرت له خصائص ومميزات الجامعة، وتحققت له شخصيتها العلمية والمعنوية، وذلك في إطار استقدام الأساتذة واستقبال الطلبة، وتقرير المواد والعلوم المدروسة، وتسليم الإجازات وتوفير الكراسي العلمية المتخصصة وتكوين خزانة علمية متنوعة التخصصات، كل ذلك أضفى على الجامع صفة الجامعة وأسبغ عليه طابع المؤسسة الجامعية في المفهوم الحديث.

وهكذا لم تمض فترة طويلة على إنشاء الجامع ووضع منبر خطبة الجمعة به حتى رافق ذلك بروز حلقات ومجالس علمية محدودة تلقى من خلالها دروس علمية في شتى العلوم والفنون، يلقيها نخبة من علماء مدينة فاس في الصباح والمساء وبين العشاءين، الأمر الذي حول الجامع من مسجد تقام فيه الصلوات إلى مركز علمي ذي إشعاع ما فتئ يتعاظم ويكبر لينافس بذلك المراكز العلمية الذائعة الصيت بقرطبة وبغداد وغيرهما.

ومع مرور الزمن وتعاقب دول المغرب أصبحت أهمية ومكانة الجامع تظهر بوضوح وأضحى الاهتمام به يقوى ويشتد، فكانت كل دولة تسعى إلى الإسهام في تشييد صروحه وترميم جوانبه وتوسيع بناياته وتوفير كل الوسائل الضرورية التي تتيح الفرصة لأكبر عدد من رواده من تلقي دروس العلم والمعرفة.

وقد عرف العهد المرابطي نزوح كثير من العلماء وطلبة العلم إلى مدينة فاس بعد أن ذاع أمر القرويين بها واشتهرت فاس كعاصمة علمية تُشَد إليها الرحلة لطلب العلم من داخل المغرب وخارجه، ويمكن القول بأن القرويين قد انتقلت ابتداء من العصر المرابطي من مرحلة الجامع إلى مرحلة البداية الجامعية، لأن المرحلة الجامعية المكتملة حسب النصوص المتوفرة لم تنضج بصورة كاملة سوى في العصر المريني عندما عُزِّز جامع القرويين بمجموعة من المدارس والكراسي العلمية والخزانات، فأصبحت فاس بذلك قبلة أنظار الملوك والأمراء، ومهبط السفراء والكتاب، ومحط كبار العلماء والأدباء، ومأوى أرباب النبوغ من أهلها ومن الآفاق.

لقد كان لبني مرين وللبيوتات والمدارس التي عاش العلم فيها زمنا طويلا فضل وأثر في ازدهار الحركة العلمية واكتساب الشهرة ،حتى بات من السنن المعتادة عند الناس ولو درسوا بجامعة ابن يوسف بمراكش، أن يرحلوا إلى فاس لالتقاط ما تبقى من جواهر العلوم والفنون، فقد كانت أول المطاف وآخره لكل من تاقت نفسه إلى المزيد من العلم أو التعمق في النظر.

وذكر ابن مرزوق أن "إنشاء المدارس لم يكن معروفا في المغرب إلى حين بناء مدرسة الحلفائيين بفاس، وهي المعروفة اليوم بمدرسة الصفارين، وذلك عام 670 هـ"، ثم تبع ذلك إنشاء مدارس أخرى من أجل إيواء طلاب العلوم وتوفير شروط الراحة والتفرغ لطلب العلم، وتابع الملوك الذين تعاقبوا على حكم المغرب هذه المسيرة العمرانية والعلمية بتوسيع ما ورثوه من منجزات الملوك السابقين، ومن أبرز المدارس المشهورة بفاس بالإضافة إلى مدرسة الصفارين.

-مدرسة فاس الجديد التي بناها أبو سعيد المريني عام 720هـ، وجددها السلطان محمد بن عبد الله العلوي عام 1204هـ.

- مدرسة العطارين قرب جامع القرويين بناها أبو الحسن المريني عام 723هـ.

- مدرسة الصهريج وكانت تسمى بالمدرسة الكبرى كما في رخامة التحبيس التي لا تزال باقية إلى يومنا هذا، أسسها أبو الحسن المريني عام 721هـ، وتوجد غرب جامع الأندلس بفاس.

- مدرسة السبعيين وتعرف بالمدرسة الصغرى تمييزا لها عن المدرسة الكبرى (مدرسة الصهريج) كانت تدرس بها القراءات السبع، أسسها أبو الحسن المريني عام 721هـ.

- المدرسة المصباحية وقد شيدها أيضا أبو الحسن المريني عام 745هـ، وتحمل اسم أول أساتذتها وهو أبو الضياء مصباح بن عبد الله اليالصوتي (ت 750هـ).

- المدرسة البوعنانية، بنيت في عهد أبي عنان المريني عام 757هـ.

- مدرسة الشراطين، بناها السلطان العلوي المولى الرشيد وأكمل بناءها المولى إسماعيل.

وهذه المدارس بنيت في الغالب على نمط واحد لتؤدي الوظيفة التي أنشئت من أجلها وهي إيواء الطلبة وتوفير فضاء للدراسة والتعلم، فهي تتوفر في الغالب على صحن يشغل وسطه صهريج أو نافورة، وتقوم في جوانبه الثلاثة سلسلة من الغرف، وفي الجانب الرابع مسجد ( كما في مدرسة العطارين) أو حجرة للصلاة، وقد تضاف طوابق عليا للسكن أيضا ( كما في المصباحية)، أو يلحق بالمدرسة كتاب لتعليم الصبيان، وقد تتوفر بعض المدارس على منارة للآذان ( صومعة) كما كان الشأن في مدارس الصفارين وفاس الجديد والبوعنانية.

وفضلا عن كل ذلك كانت جميع هذه المدارس تشتمل على خزانة علمية موضوعة لعموم المطالعين من الطلبة. وذكر الأستاذ محمد العابد الفاسي أنه كان لأكثر تلك المدارس زيادة على وظائفها الدينية والتعليمية وظيفة مؤقت، وأستاذ مقرئ.

ومن أشهر الخزانات العلمية التي كانت بمدينة فاس خزانة أبي يوسف المريني، وخزانة أبي عنان المريني وخزانة أحمد المنصور الذهبي السعدي، فضلا عن أكثر من ثلاثين خزانة صغيرة ظلَّت تؤدي وظيفتها لمدة قرون من الزمن.

أما خزانة القرويين فتعتبر من أهم الخزانات العامة بالمغرب بل في العالم كله، وقد أسسها السلطان أبو عنان المريني حين بنى لها مقرا بالناحية الشرقية من صحن جامع القرويين عام 750هـ، ووقف عليها كتبا شتى في مختلف العلوم والفنون وظلت على حالها إلى أن نقلها أحمد المنصور السعدي في أواخر القرن العاشر الهجري إلى البناية التي توجد فيها الآن ببابها الرئيسية المتصلة بساحة الصفارين.

ومن المؤكد أن جامعة القرويين ما كان لها أن تواكب المد

المعرفي المتنوع وتحقق المستوى العلمي المنشود الذي عرفته عبر القرون إلا بالرافد الأساسي الذي تمثله خزانة علمية غنية بالكتب والمخطوطات، وقد حرص ملوك المغرب وأمراؤه على تزويد خزانة القرويين بنفائس المخطوطات وأجروا جرايات خاصة على صيانتها وحفظها، كما عمدوا إلى استنساخ نفائس المخطوطات الموجودة بها قصد إهدائها إلى إخوانهم ملوك وحكام دول المشرق العربي.

ومن أبرز نفائس خزانة القرويين أجزاء من موطأ مالك (ت179هـ) كتبت لخزانة علي بن يوسف بن تاشفين المرابطي على رق الغزال، وكتاب سيرة ابن إسحاق ( ت 151هـ) كتب سنة 270هـ، وهو أقدم ما يوجد بالخزانة، والمصحف الأكبر الذي حبسه السلطان أحمد المنصور الذهبي على الخزانة عند تدشينها عام 1011 هـ، كما يوجد بها كتاب العبر لابن خلدون ( ت808هـ) الذي ألف باسم السلطان أبي فارس المريني واهدي إلى خزانة القرويين في صفر من عام 799هـ .

وكانت القرويين بجامعها وعلمائها وطلبتها وخزانتها والمدارس المتفرعة عنها والتابعة لها تستفيد من الأوقاف، ويعتبر ذلك أكبر دعامة لاستمرار الجامعة وإشعاعها العلمي، فأموال الأوقاف كانت تصرف للطلبة في الإيواء والمأكل، وكانت تسلم منها رواتب الأساتذة والعلماء، وتجهز بها المدارس العلمية، وما تحتاج إليه الخزانات من الكتب والمؤلفات، وكان يسند إلى مفتي القرويين الذي كان له مقر خاص برحاب الجامعة جانب مهم من الأوقاف يصرفه باجتهاده في المشاريع الإحسانية التي تظهر له من خلال احتكاكه بمشاكل الناس.

وهكذا ظلت جامعة القروييتقوم بواجبها أحسن قيام وبشكل تلقائي واستمر إشعاعها مشعا على العالم الإسلامي وكوَّنت بذلك أجيالا من العلماء الفطاحل الذين طبقت شهرتهم الآفاق، ولا يزال

عطاؤهم وإنتاجهم العلمي والفكري قائما ينهل منه الباحثون جيلا بعد جيل لمدة قرون من الزمن، وبالرغم مما أحدثته الحماية الفرنسية من إحكام قبضتها على القرويين وأساتذتها والتحكم في إدارة الجامعة وتسييرها، بعد أن استشعرت الدور الخطير الذي تقوم به القرويين التي أطلق عليها الجنرال الفرنسي ليوطي وقتئذ اسم "البيت المظلم" في سبيل استنهاض همة الشعب وإرادته ضد المستعمر، فإنه ما إن استرد المغرب استقلاله حتى عادت للقرويين مكانتها كجامعة علمية رائدة في نشر العلم والمعرفة، فانتقلت خلالها من "المسجد الجامع" إلى "المسجد الجامعة".

http://www.isesco.org.ma/Arabic/Culture/Karawiyine/Noubda.htm (http://www.isesco.org.ma/Arabic/Culture/Karawiyine/Noubda.htm)



***************

د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)