المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العالم قبل وبعد 1990



د.أسد محمد
27/05/2006, 08:54 PM
بداية، ليس من الصعب معرفة أسباب ونتائج الحروب العالمية في القرن العشرين - الحرب أزمة سلطة - ومن السهولة بمكان استعراض الكثير من الأحداث المتعلقة بتلك الحروب، وما أن يفتح أحدنا كتاب التاريخ باحثا في شأن تلك الحروب حتى يجد نفسه يطالع بأن القرن العشرين، هو أكثر القرون دموية، وحدث فيه أربع حروب عالمية كبرى، الأولى منها جرت ما بين الساعة الحادية عشرة من مساء يوم الرابع من أغسطس عام 1914 وسكتت المدافع عند فجر يوم 11 نوفمبر 1918، والثانية كانت أطول وأكثر تكلفة وانتشارا في أنحاء المعمورة واستمرت ما بين عامي 1939 و 1945، وذهب ضحيتها 2% من سكان المعمورة آنذاك، والثالثة استمرت ما بين أزمة برلين الأولى عام 1949 وحتى تم تحطيم سور برلين في عام 1989، وكانت «باردة» على السطح بين منظومتين : منظومة السلطة الرأسمالية ـ بزعامة الولايات المتحدة، ومنظومة الاشتراكية بزعامة الاتحاد السوفيتي ـ ولكنها كانت "ساخنة" في الأطراف بين دول العالم الثالث، وبينها وبين الدول الكبرى، وأثناءها حدثت حرب الكوريتين، وحرب فيتنام، وحرب السويس، وحرب الجزائر، وسلطة إسرائيل مع العرب،. وأخيرا الحرب العالمية الرابعة التي نعيشها اليوم،ولا تزال في مراحلها الأولى، لكنها محسومة النتائج، وسنشهد قريبا هزيمة الطرفين المتصارعين، ونعيش أحداثها يوميا منذ بدايتها الرسمية مع انهيار سور برلين عام 1990، الذي دشن مرحلة سقوط السلطة الاشتراكية، لصالح المجتمع العالمي، وبداية لسقوط السلطة الرأسمالية كخطوة تالية لصالح المجتمع الكوني، وبما أن أزمة الرأسمالية المتزايدة، لا يمكن أن تصحح أوضاعها دون حروب، فخلال العقد الأخي من القرن العشرين شنت سلسلة من الحروب المأجورة في الخليج العربي (حرب الخليج الثانية، الحرب اليوغسلافية..) وتاليا الحرب على الإرهاب بعد حادثة ضرب برجي مركز التجارة العالمي يوم 11 أيلول عام 2001، لا يوجد جديد فيما ذكرته أعلاه، لكن الجديد الذي أريد قوله، بأن قراءتي لما حدث ويحدث يرتكز على إشارات مختلفة أود عرضها في هذا المقال السريع، وهي :

• بعد كل حرب تخسر السلطة ( في الحرب العالمية الأولى هزمت السلطة العثمانية ومعها سلطة برلين، وانقلب الحلفاء الذين ساندهم العرب في الثورة العربية الكبرى ضد السلطة العثمانية، فانتهى بنا الأمر إلى دويلات قطرية بعد اتفاقية سايكس- بيكو ) لكن المجتمع الذي تعرض للأزمة استوعبها وخرج منها، ثم تابع مسيرته.

• بعد الحرب العالمية الثانية (سقط المشروع القومي النازي، لكن بقي المجتمع الألماني الذي تابع مسيرته وخرج من أزمة الحرب) وخرجنا نحن خاسرين فلسطين، والدولة القومية، لكن المجتمع العربي الذي هُزمت فيه السلطة( السلطة العربية هزمت في مواجهة السلطة الصهيونية، وأعتبر إسرائيل بمجملها سلطة - أي هي مكون عسكري ومالي قائم على نهب الآخر والتطفل عليه، وليست كيانا اجتماعيا – وكل ما هو غير اجتماعي سيسقط بفعل عوامله الذاتية لأنه غير قادر على الإنتاج وبالتالي على الاستمرار، كانت المواجهة مع سلطة إسرائيل الصهيونية خاسرة، لأنها مجمل قوة إسرائيل أكبر من مجموع قوى السلطات العربية، وما يتم الآن في فلسطين هي مواجهة مجتمع فلسطيني ضد سلطة صهيونية، وأية مواجهة من هذا النوع سينتصر المجتمع بالمطلق)

المجتمع العربي المقموع من قبل سلطتين مركبتين : السلطة المحلية الإقطاعية، التي تؤمن لسلطة الغير الثروة، وهي أداة لنهب المجتمع وخيراته لصالح – سلطة الخارج مقابل حمايتها من هجوم المجتمع عليها، مما أوقع المجتمع العربي في أزمة مركبة لم يستطع الخروج منها خلال صراعه الطويل ضد الخارج والداخل، لكنه ظل يحافظ على وجوده وتمكن من العبور، ولا يزال يكافح، وينتج ويتمسك بوظائفه المختلفة، ويقاوم، وهو في جوهره يقاوم عبر ثباته واستيعابه لما حدث ويحدث.

• بعد الحرب الباردة سقطت سلطة موسكو الشيوعية، وبدأت تتهاوى الأنظمة العربية التابعة لها ( سقوط سلطة صدام حسين، سلطة عدن الاشتراكية ..) في كل مرة تسقط السلطة ويبقى المجتمع، المجتمع الذي يتجاوز أزمته ويضمد الجراح، بينما تتهاوى السلطة ( السلطة هي قوى طفيلية غير اجتماعية تقوم على نهب مُنتج المجتمع، بوسائل عسكرية، ومالية احتكارية، ولا يمكنها أن تكون من دون ذلك، لا مجتمع - لا سلطة، لكن المجتمع كقوى قادرة على الإنتاج، يتمكن من العبور ) بينما السلطة تسقط وتتبدل، ولا يمكن لأية سلطة في التاريخ أن تبرز دون نهب قوى المجتمع ( الجيش والمال ) وهي غير قادرة على إنتاجهما، وإنما تسلبهما من قوى المجتمع فيحدث صراع داخلي لأن المجتمع يقاوم نهبه، وعندما يقترب من الانتصار على السلطة، تنقل أزمتها إلى الخارج عبر حروب من أجل :

1- التمكن من ضبط المجتمع الداخلي وإشغاله عنها

2- سرقة الخارج لتعويض احتياجاتها وتلبية حاجات جيشها وجهازها الإداري المتزايدة لكنها تفشل والدليل كل السلطات عبر التاريخ سقطت، بينما بقيت المجتمعات، وبالنسبة للسلطة، السلام هو فترة هدنة استعدادا لحرب تالية، وهذه كارثة اجتماعية مستمرة. لم يتوقف المجتمع عن المواجهة، وبرزت قواه التي تجسدها وظائفه، كحقيقة مؤثرة ومتبلورة، تعمل ضد تلك الأزمات المختلفة من حروب وصراع وتناحر.

إثر سقوط جدار برلين، بدأ المجتمع مرحلة جديدة بعد عام 1990 جوهرها التخلص من مركزية السلطة، والتحكم بقواه المادية والروحية ونشرها بين القطعان الاجتماعية - المعرفية التي يستحيل على أحد الاستحواذ عليها، إذن مرحلة مختلفة، لن تتمكن السلطة من توظيف قواها لإخضاع المجتمع، بسبب جملة من العوامل حققها ( انتقال قواه المُنتجة المادية والروحية من التمركز وسهولة انقضاض السلطة عليها، إلى التشعب والانتشار والذوبان بأيدي القطعان الاجتماعية المالية ، وهذا من طبيعة السلعة المعرفية، من الكل وبأيدي الكل، وبالتالي يستحيل على السلطة الاستحواذ عليها، وتم تحرير السلعة من صفتها القومية إلى السمة الاجتماعية - شركات متعددة الجنسيات لعبت دورا في هذا المجال ) كما يستعد المجتمع لحسم الكثير من الأزمات الكبرى، لأنه وصل إلى مرحلة جديدة من تطوره لا يمكنها أن تتواجد فيه ( نرى الهدوء والسلام، والسلام الاجتماعي يعم قارات أسيا وأمريكا اللاتينية وأوربا، والحرب موجودة في مناطق لا تزال تسعى وتؤمن بإمكانية تحقيق التمايز القومي أو الديني )، مع الملاحظة بأن المجتمع بدأ يمارس فعل كوني واضح وصريح يتعلق بالحفاظ على وظائفه الاجتماعية ( التواصل، الخلق، الاستمرار، الاستيعاب، التحول والتطور ) بقوة لا مثيل لها من قبل، وكأنه بدأ يعلن انتصاره سلفا في معركة الإرهاب، لأنه استمر رغم كل الحروب السابقة، فبعد هذه الحرب لن يستمر وحسب، لكنه سيحسم الصراع لصالحه، وسيؤسس لمرحلة قادمة عمرها حسب ظني لمئات السنين القادمة، ستخبو فيها أصوات العنف والعنف المضاد، وسبب استنتاجي هذا :

1. هزيمة المشروع الإمبراطوري الليبرالي الأمريكي ( تجليات هزيمته بدأت مع عجزه عن تشكيل المركزية القومية، انفلات الاقتصاد من يده عبر السلعة المعرفية، اللاقومية، اللاعنفية، المتاحة للجميع، الفكرية، والحركة الاجتماعية العالمية التي يستحيل عليه ضبطها )، وانقسام مراكز القوى فيه إلى : واشنطن – عاصمة السلطة السياسية، نيويورك – عاصمة السلطة المالية، و

2. هزيمة المشاريع التمايزية المرتكزة على النقاء والحق المطلق و والقوة لمطلقة في العالم ( نرى كل قوة في العالم سعت وتسعى لتحقيق التمايز قد سقطت في موسكو الشيوعية، والمشاريع الدينية بكل أشكالها، الإسلامية والمسيحية، فالإسلام شيع وطوائف لها طابع سياسي- اقتصادي أكثر منها روحي، والمسيحية كذلك ).
لأتكلم قليلا عن البديل الذي صفى حساباته ويصفيها مع الكتل التمايزية، طبعا البديل الاجتماعي، هذا البديل الزاحف بقوة، ويتميز بأنه لا عنفي، لا يسعى إلى تشكيل سلطة ذاتية - تمايزية، لا قومي ولا عرقي ولا ديني، أهدافه إنسانية شاملة، هذا هو القادم الكوني : حركة اجتماعية - كونية - سلمية - لا تمايزية، يحقق فيها الفرد ما يصبو إليه في إطار اجتماعي طبيعي، ويستعيد ما سُلب منه.

يدعمه المجتمع المنتصر سلفا لأنه حافظ وقادر على الحفاظ على وظائفه وتنوعه (المجتمع يستوعب الدين بكل أشكاله، ويستوعب الأغنياء والفقراء، ويستوعب حتى الأزمات الكبرى، لكن الدين الواحد لا يستوعب الأديان الأخرى، أو لا يستوعب المجتمع، ولا يحتمل التناقضات الكبرى كما يحتملها المجتمع، فالمجتمع يقبل التحول، بينما الذي يحمل سمة التمايز النهائي لا يمكنه أن يستوعب الآخر) لا أغمز من قناة الدين، بل للدين وظيفة في سياق المجتمع، فإذا لم يكن المجتمع موجودا فلا وجود للدين، ولا يمكن للجزء - الديني أن يسيطر على الكل الاجتماعي، لكنه يُستغل في إطاره الروحي ليخدم السلطة التي عملت وتعمل على تخريبه وتحوله من دين له وظيفة اجتماعية إلى دين له وظيفة خادمة للسلطة، - سلطة الدين - وبالتالي تجعله السلطة متعارضا مع المجتمع، والسلطة تفتعل أكثر من ذلك بكثير كي تستمر. ومن هذا المنطلق، لابد من الدخول في المواجهة السلمية المطروحة عالميا ضد كل مشاريع التمايز التي تقوم في جوهرها على العنف، لتحل محلها مشاريع اجتماعية (هيئات، مؤسسات، نقابات، منظمات، تجمعات، أفراد، تعاونيات..) فاقدة لأدوات العنف : الجيش والاحتكار الاقتصادي.

وبعد هذا العرض السريع، أخشى أن نبدأ من جديد قوميا كما فعلنا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث المشروع القومي كان قد انتهى عالميا وتبين فشله، وأخشى أن نبدأ ليبراليا كما أرى الآن من صيحات خطرة تدعو إلى الليبرالية كمنظومة سلطوية تجسدها العولمة المتوحشة والتي تتهاوى، أو نبدأ دينيا، على أنقاض دين تم إفساده من قبل السلطة عبر مئات السنين على الأقل بجعله ركيزة من ركائز الحكم، فالدين لا يقود المجتمع، بل المجتمع هو الذي يقود الدين (لا مجتمع، لا دين)، فمن الصحيح أن نبدأ اجتماعيا، من المؤسسة الاجتماعية المفتوحة التي لم تُخرب، وبقيت عصية على كل محاولات السلطة تدميرها وإفسادها، فالمجتمع يستوعب الكل بمن فيهم أعدائه، فمثل هذه أقوى الحية الموجودة علينا أن نندفع إليها بقوة وشجاعة، ونحن بحاجتها ونعيش فيها ومعها ومنها وإليها، تستوعبنا رغم كل تناقضاتنا، وتشعباتنا المتباينة، فما الذي دفع مثلا الأوربي في استكهولم للتظاهر من أجل إسقاط ديون العالم الثالث؟ ومن طالب، ولماذا طالب، وكيف طالب ؟ ولماذا يتظاهر الأرجنتيني ضد سلطة بوش؟.. هذه أسئلة غير معقدة، ومجرد قراءة سريعة يمكن الإجابة على أن ذلك الحراك يخص كل شخص في العالم الثالث وبشكل مباشر، مثلا، اجتمعت الدول الثماني الكبرى في جنوى بإيطاليا عام 2001 ـ وهي تعقد دوراتها منذ عام 1973 - ولاقى اجتماعها مظاهرات عنيفة , وهنا ولد مصطلح شعب سياتل " هذا الشعب الذي لعب دوراً كبيراً في مظاهرات سياتل عام 1999، حيث تظاهر 200 ألف شخص يمثلون 1170 جماعة ونقابة وتنظيم غير حكومي , ومن الوجوه البارزة في هذه المظاهرات جوزيه بوفيه الفرنسي وفيتوريو انجوليتو من إيطاليا , وقدمت هذه الحركة أول شهيد لها وهو الإيطالي كار لو جو لياني / 23 سنة /
وكان الهدف الأساسي للمتظاهرين هو شعارهم : " ضد تسليع الحياة " وكشفت هذه الحركة عن قوتها وتناميها وتواجدها في كل مكان وأسماها الشاعر الإيطالي داريو فو الحاصل على جائزة نوبل بـ " معركة جنوى " معركة جنوى السلمية، أليس هذا مشرع أمل لنا جميعا، أليس من الأهمية أن نمنح أنفسنا فرصة البدء من جديد إلى مشروعنا الاجتماعي وإنقاذ ما تم ويتم تخريبه سلطويا وهذا متاح لنا، وأمامنا فرصة عظيمة لتجاوز مراحل لم نتمكن من تحقيقها، مثال:

• السماح لمجتمعنا بإنقاذنا، لأن العالم لن ولم يعد يقبل وجود قوى متمايزة، في عالم يقوم على السلام والأمن والتواصل لا وجود للإرهاب الليبرالي والإسلامي - السياسي فيه.

• إمكانية بناء اقتصاد معرفي، فمن السهل أن نبني مصانع لأجهزة الاتصال والالكترونيات، لكن من المستحيل أن نبني مصنعا للطائرات، أمامنا فرص متاحة للتواصل الاجتماعي الكوني، هذا هو الأمل الذي أرى فيه مخرجا لأزمتنا، وهذا متاح، وصراع الإرهاب الليبرالي - المتمايز مع الإسلام السياسي المتمايز - سيسقطان معا في حرب العراق الرابعة وسينتصر المجتمع العالمي، سيكون للمجتمع العربي فيه دورا عظيما، وفي إطاره سيتحقق مشروعنا الاجتماعي وبالتالي إذا شئنا القومي - الإنساني، أو الحضاري الإنساني، مع الإشارة إلى أن بعد كل صراع كوني كانت مصائرنا تحددها أفراد، لكن الآن يجب أن ننتبه جيدا ونعمل على نقل تلك المصائر من أفراد يتمثلون قسرا إرادة المجتمع، إلى مجتمع يتمثل قواه، وهنا أتكلم عن الممكن الكوني في إطاره المجتمعي.
الليبرالية ليست الحل (ما تفعله سلطة واشنطن ضد المجتمع مثال صارخ على فساد هذا النموذج السلطوي البشع)، الدين ليس الحل (لأنه جزئية اجتماعية تم تجريبها واستغلالها من قبل السلطة السياسية خلال قرون عديدة، ولم تجلب سوى الخراب الاجتماعي (طوائف متناحرة، تطفل صريح على المجتمع عبر الوقف...)، القومية ليست الحل (لأنها تؤدي إلى صراع – قومي – قومي – نحن والآخر) وكل ما يؤدي إلى ترسيخ المعادلة – داخل – خارج هو ضد المجتمع وهي السلطة وحدها من يفعل ذلك، بينما معادلة داخل – داخل، هي الصيغة الاجتماعية المطروحة، أي المجتمع يحدد خياراته، وهو الذي يختار، ولا يمكن أن يختار ما هو ضد الطبيعة وضد ذاته، فالمكون الاجتماعي الحر الخالي من السلطة هو البديل الوحيد لما يحدث من أزمات مختلفة.

قبل 1990 مرحلة صراع غير اجتماعية، وبعد هذا التاريخ، أدخل المجتمع قواه في عملية تحقيق مكاسب خاصة به ضد السلطة المتوحشة، ويعمل على ضبطها، فقبل هذا العام كان التاريخ سلطويا، وبعده سيكون التاريخ اجتماعيا، بدأ التاريخ الاجتماعي، وأهم ميزاته :
- سلمي.
- كوني،
- خال من السلطة وتأثيراتها.
- تعاوني، تواصلي، تعايشي.
- العالم يتجه ليكون داخل – داخل.
- تجاوز الحدود الوطنية والهوية للصالح الاجتماعي عبر الثورة المعرفية.