خالد القيسي
17/05/2006, 09:27 AM
ضياع
فَشِلَ صراخي في الوصول الى أُذنُ أحدهم واستمروا في المسير تسحبُ عيونهم خيوط الأضواء الى البضائع المعلقه في السوق ذات الاقواس المنحنيه والحجارة الكبيرة المربعه , ولم يتمكن بريق الدموع المنهمرة على سحنتي من لفت نظر أحدهم اليَّ بعدما أُنهكت قدماي وبُحَّ صوتي وأنا أبحث عنهم متنقلاً بين سوق القمح الحوراني وسوق التمور الحجازيه وسوق التوابل الهنديه .
أخفقت كل إحتمالاتي بالعثور على عِيرِ أهلي في خانِ "حجازي" الذي تعودوا أن يودعوهُ إبلنا ودوّاَب قافلتنا المنهكةُ من المسير, ضلتني الطريق وملاء الخوفُ كياني فقد شارفت شمسُ نهاري على الأفول وراح العتمُ يلتهم الاضواء عن أكتاف الجدران .
لملم أغلب ُ التجارِ بضائعهم المنتشره على جوانب الطريق وأبواب الحوانيت ليبدأ "المشعلاني" بإنزال الفوانيس المشنوقة عالياً بحبالٍ يَفُكُ عُقَدَها فتنزل اليه ا طائعةً ليعمرها بالزيت ويشعل ذبالتها ثم يعاودُ شنقها قناديلاً الى مشاكيها , بسحب الحبال الى أعلى وإعادة عَقدها من أسفل.
سحبتني أضواء قناديل المشعلاني المرتدي "قيمازه" الرمادي وقد شمَّرَ اكمامه الى ذراعيه المتعضلتين واطراف" قمبازه "إلى حزامه الجلدي العريض.
أمسى كلما دعا أحدى الفوانيس من الاعالي يهديه أنواراً بزيته ويعيد تعليقه ثم يأمرُ دابته التي تجرُ عربةُ الزيت الى القنديل الذي يليه .
فضلت مراقبته عن بعد و نسيتُ ما كنتُ باحثا عنه فاقدا احساسي بالجوع والإعياء المنتشر في بقايا قدماي الناحلتان .
يبدو أنه يحظى بأحترام السوق وتجاره, فكل أصحاب العمامات من أصحاب الحوانيت يحيونه ويقدمون له أشياء تزيد من حمرة خدوده المتورده وبريق عينيه اللامعتين لتتسارع ذراعيه الضخمين بنشاط ٍ جديد ْ .
سرقتني أضواءُ المشعلاني ولذةُ الحلوى التي تفرُ من وجنتيه, لاجدني اتلمظُ مدفوعا بجوعي تحت قبةٍ من ظلام, يعلوني ضوء القمر وقد ذاب صديقي وعربه الأنوار في دهاليز العتم.
قفلت عائداً الى شارع الأضواء علّي أحظى بلقمةِ خبزٍ أو مكعباً من تلك الحلوى توّردُ خدودي الشاحبه وتُنقذَ ما تبقى من نضارةِ وجهيّ الطفولي, إقتربت من حوانيت في السوق الحجازي .
رأيت قِفافَ التمر الحجازي التي أعرفها جيداً...
هذا هو البِرحي وذلك السكري والطائفي ولكنه اليوم في قِفافِهِ أبعد عن يدي منه عندما كان شاهقاً بقطوفه الدانية في البيداء الحجازيه .
أين من كانوا يأمروه بالنزول الى فمي رطباً جنيا؟؟؟!!!!
ها هي عناقيد رطبنا غريبة عني مقابل بضع" ليراتٍ عصملية " تأبى المسير الي خطواتٍ لا تزيدُ في اقصاها عن الأربعة, ولم يبقَ من خياراتٍ أمامي إلا الإستمرار عمّن تناءوا عن الأبصار الزائغة جوعاً وتعباً .
تداخلت أضواء الحوانيت ولم تعد الساقان النحالتان قادرتان على مقاومة بضع أُوقياتٍ من جثة فتى في الرابعة من عمره .
مادت الارض يمنة ويسرة ومعها الانوار المتداخلة في بقايا عيناي وجائت أصواتهم تَحثُ الابل على المسير حتى يصلوا سوق الخميس الذي يجمع تجار الشام بتجار الحجاز ومصر .
وسمعت طرقات احذية على الارض المبلطة بالحجارة ، لم أجرؤ ولم استطع فتح أجفاني لا ستكشف القادم أو القادمين ففشلت أوامري للاقدام بالنهوض أو الهرب أخذ الخوف مني مبلغه لتذهب كل الاصوات والحوانيت والاضواء .
شعرت ببرودةٍ تصفعُ وجهي وأفقتُ على وجههِ ذي الشاربين السوداوين وبدله الكاكي وهوما ينفكُ يسألني بصوته الجش ولسانهِ ثقيل النطق بالعربية
:- ايش" فلد" ؟ انتِ مين ؟ أنت ؟ فين أهل ؟إنتِ سامعني
مسحَتْ عيناي المكان واصحاب بدلات الكاكي وقد تسمر اثنان منهما على الباب الخشبي يحملان "المزندات" نعم انها البنادق التركية التي عرفتها لاحقاً
لم أعرف الاجابة الا على اسمي
فقلت له :-
انا شعيب
- انت ابن مين ( فلد)
بقيت صامتاً
- انت ابن مين (فلد)
عرفت انه يسألني عن عن أهلي فأجبته
انا ابن سليمان الحجازي
فسألني اين هو سليمان هذا
تشجعت واجبته
:- لا أدري
و اتجهت يدي الى بطني والتوى وجهي الصغير جوعاً, مدَ يدهُ الى رأسي وفَرَدَ ابتسامةً زَرَعتْ فيّ الامل بأنه بدأ يستوعب مصيبتي لاجده يقول
انتِ جوعانة حبيبي واكتفيتُ بِهزِ رأسي ليعرفَ انني اتضورُ جوعاً فنادى أحمد أفندي الذي يتكلم العربيه جيداً ليأمره بإحضار عشاء لي ويتعرف اليّ أكثر .
جائني أحمد افندي بوليمة حيرتني من أين أبدأ بها , شربتُ قصعة الحليب ,اجهزت على رقاقات الخبز المشروح والبيض المسلوق قب أن يصل الى مداركي طعم الحلاوة من المكعبات الملفوفة بقطعٍ ورقية لاستمتع يطعمِ لذة جديدة كما المشعلاني, واكتفى الأفندي بملاحظتي حتى أجهزتُ على كل ما طالتهُ يداي.
عادت الحياةُ الى عروقي فعرفتُ انني قي أحد "مخافر الدرك" لأحد المدائن الشامية وايقنتُ ان الأفندي كان له يدٌ بيضاء في انقاذ حياتي من الهلاك.
استخدم الأفندي فِراستهُ العربية ليسكشفني بعدما أشعرني بأماني في جواره ليبدأ استجوابي موحياً لي بأنهُ يلاعبني فأعادَ عليّ نفسَ الأسئلةِ لأردَ بنقس الأجوبة .
أخبرتهُ انني شعيب بن سليمان وأنني كنت برفقة القافلة الحجازية واستنتج انني لم أدرك بعدُ عدد الأيام التي بدأتُ وإياها رحلة التيه ليعلمني باحتمالية العثور على أخبارهم عند شهبندر التجار إذا ما إنبلجَ ليلنا وأطل فجرُ الصباح.
اخيراً طلب من مرافقته الى منامات الأفراد ليُعطيني قسطاً من الراحةِ قبلَ ذهابنا الى حانوت الشهبندر في الصباح , دثرنيعلى أحد الأسرة الفارغة وتمنى لي ليلة هانئةً وصباحاً على خير.
أودعني للفراش وأودعتهُ للسلامة وغط الآخر في فراشهِ قبل ان يسرقني النعاسُ ويطل الفجرُ بصبحٍٍ جديدٍ ومائدةٍ جديدة .
شعيب -الشهبندر
انبلج الليل ودكت نبراتُ صوته الأجش قلاع نومنا المحصنةِ بالإعياء ليدعونا الى صلاة الفجر , أجبرتُ نفسي على الإستيقاظ من دفئ الفراش لأجد الأفندي يحلق ذقنه لإاشر إالي انه بإمكاني البقاء جالسا في الفراش بينما أنهى تلميعَ وجههِ وحذائه الجلدي ذا الساق الطويل ثم أخرجني الى الباحة الأمامية للمنام ليساعدني في غسل يداي وسحنتي وأعادني الى المنام , صلى الفجر وقدم ودعاني للإقتراب من طبق القش المزدان بصحون الزبدة واللبن وزيت الزيتون وابريق الشراب الساخن.
انتقيت لقيماتٍ من الصحون المنتشرة في طبق القش وفي الأثناء نتاول ابريق الشراب الساخن وراح يصبُ شرابه الأحمر في الكوب الزجاجي الشفاف ليعبق المكان بالشذى , حملقت به فعرفَ انني سأسأله لإاجاب دون سؤالٍ من انه الشاي بالنعنع وقدم لي كوباً ملأهُ إلا قليلا.
يااااااه ما ألذ الشاي بالنعنع ! وماأجمل انعكاسات الضوء فيه من خلال الكوب الشفاف .
انهينا وجبة الإفطار وأكواب الشاي وتقدم نور الشمس ملتهماً ما تبقى من عتم الزوايا ,ليقودني احمد افندي الى غرفة الضابض التركي" قائد الدرك " , دخلنا غرفته بينما هو غارقٌ بترتيب ريقات على طاولته الخشبية ذات الأرجل التحيلة هي الأخرى .
تسمر الأفندي أمام الطاولة وعرفتُ انهُ رفع يدهُ الى جبينه للتحية وما عرفت لماذا ضربَ بقدمهِ اليمنى الأرض ؟؟!
لعله يريدُ لفت أنظاره الينا!!؟
ردّ التركي تحيتنا وسأل الأفندي ان كان توصل الى معلومات جديدة عني فأجابه بالنفي .
هزَّ راسهُ وقال انني على الأغلب سقطُ متاعٍ من القافلة الحجازية التي غادرت الخليلَ فبيل ايام , فعرفت انني في مدينة خليل الرحمن أحد المدائن الشامية ذائعة الصيت في أوساط الحجازيين .
ساله الأفندي :
- وما العمل مولانا
أجابهُ مولاهُ بسؤالٍ آخر
- وهل عندك مقترحات
- نعم مولانا
- نوِّرنا
- اقترح ان نرسله عند ابي محمد شهبندر التجار
وافق التركي على مقترح الأفندي وجرني الأخير الى حانوت الشبندر ليهتم بأمري ريثما تنجلي حقيقتي و أهلي .
خرجنا من مخفر الدرك قاصديّن سوق المدينة بينما الشمسُ تهدي اكتاف الشوارع العتيقة لوناً وردياً يبعثُ الهيبةَ في النفس الناظرة , ظهرتْ عربة المشعلاني التي ذابت في عتمة الأمسِ وما زال صاحبها يأمر القناديل بالنزول من مشاكيها بفك عقد الحبال فتأتيه الى الحضيض ليقضي على ماتبقى من جذوات لا يمكنها مُقاومة أنوار شمس الضُحى.
فيجهز على كل الذبالات التي انهكت انوارها دياجير العتم ليعيدها الى سباتها بوجود الأضواء الحقيقية للصباح .
مخرنا عباب الشارع المكتظ بالفلاحين ودوابه حتى وصلنا حانوت الشهبندر صاحب العمامة البيضاء وشاربين السوداويين المرتدي قمبازه الرمادي وعمامته البيضاء بينما هو يتفقد قفاف التمر الحجازي وأكياس القمح الحوراني وقماش مصر وتوابل الهندية في بهو حانوته الواسع0
طرح احمد أفندي تحية الصباح فرد الشهبدر بابتسامة عريضة وتابع بسؤاله عني فاخبره قصتي وسأله إن كان احدهم عاد ليأخذني فأجاب الشهبندر بالنفي , فما كان أمام الافندني إلا أن يودعني إلى الشهبندر أمانة حتى يعود احدهم
نده الشهبندر على احد العاملين في البهو لاستلامي وإطعامي شيئا لعلي لم أذق الزاد, جرجرني احدهم إلى احد أجنحة البهو الكبير وطلب مني الجلوس إلى احد أكياس القمح وغاب برهة ليعود برغيف ساخن وعليه مكعبا من الحلوى طلب مني تذوقه قائلا إنها حلاوة السمسم وقال إنها ستعجبني 0
التهمت ما قدم لي من الحلاوة عجيبة الطعم لدرك حينها كم هي رغيدة عيشه أهل الشام 0
افلت سحابة ذلك اليوم دون أن يسال احدهم عني ، فلملم الأعمال أشلاء نهار كان الذي مسح على راسي قائلا انك بركة من بركات الحجاز أهداه الله إياها هذا الصباح واستشارني إن كنت ارغب بمرافقته إلى منزله لقضاء بعض الوقت مع زوجته لعلي أؤنس وحدتها 0
أتم حمدان وخليل القائمون على الحانوت ترتيب البضائع بينما هو يراقب ويتابع من على كرسيه الزان وطاولته المزركشة بالخزف 0
اقتادني الشهبندر بيده وبالأخرى حمل احد الفوانيس التي تهدينا إلى سواء السبيل بعدما قفلت الشمس أضوائها على صاحب العربة فوانيسه في الطرقات القديمة 0
وصلنا إلى باب عال ذو قوس كبير من الحجارة الرومانية الضخمة لعلي صديق صوته قائلا يا ساتر وطرق الباب ثلاثا قبل أن نسمع صوت زوجته المخملي من وراء الباب قائله له باللهجة الخليلية
: أهلا وسهلا .... تفضلوا
دلفنا الباب الخشبي إلى بهو الدار المكونة من صف الغرف وأمامها ساحة شرنا قرابة الخمسة عشر خطوة قبل أن ندخل إلى احد الغرف 0
نجدها باستقبالنا مرتدية ثوبا مطرزا بأوراق النباتات دقيقة الصنعة وغطاء رأس ابيض كانت ما زالت توازنه لتغطى شلال الليل المنسدل المتكامل سواد المخمل المطرز مرحبة ً بناِ 0
: أهلا بأبي محمد
:وبمن قال أهلاً
: أرأيت ما أحضرت لكِ
: من
هذه البركة يا امرأة!
وراح يخبرها قصتي وأنني تقطعت بي السبل , وأنني كنت بركته هذا اليوم وها هو أحضرني اليها علي أساعدها في أعمال منزلها الكبير 0
يتبع الحلقة الثانية
فَشِلَ صراخي في الوصول الى أُذنُ أحدهم واستمروا في المسير تسحبُ عيونهم خيوط الأضواء الى البضائع المعلقه في السوق ذات الاقواس المنحنيه والحجارة الكبيرة المربعه , ولم يتمكن بريق الدموع المنهمرة على سحنتي من لفت نظر أحدهم اليَّ بعدما أُنهكت قدماي وبُحَّ صوتي وأنا أبحث عنهم متنقلاً بين سوق القمح الحوراني وسوق التمور الحجازيه وسوق التوابل الهنديه .
أخفقت كل إحتمالاتي بالعثور على عِيرِ أهلي في خانِ "حجازي" الذي تعودوا أن يودعوهُ إبلنا ودوّاَب قافلتنا المنهكةُ من المسير, ضلتني الطريق وملاء الخوفُ كياني فقد شارفت شمسُ نهاري على الأفول وراح العتمُ يلتهم الاضواء عن أكتاف الجدران .
لملم أغلب ُ التجارِ بضائعهم المنتشره على جوانب الطريق وأبواب الحوانيت ليبدأ "المشعلاني" بإنزال الفوانيس المشنوقة عالياً بحبالٍ يَفُكُ عُقَدَها فتنزل اليه ا طائعةً ليعمرها بالزيت ويشعل ذبالتها ثم يعاودُ شنقها قناديلاً الى مشاكيها , بسحب الحبال الى أعلى وإعادة عَقدها من أسفل.
سحبتني أضواء قناديل المشعلاني المرتدي "قيمازه" الرمادي وقد شمَّرَ اكمامه الى ذراعيه المتعضلتين واطراف" قمبازه "إلى حزامه الجلدي العريض.
أمسى كلما دعا أحدى الفوانيس من الاعالي يهديه أنواراً بزيته ويعيد تعليقه ثم يأمرُ دابته التي تجرُ عربةُ الزيت الى القنديل الذي يليه .
فضلت مراقبته عن بعد و نسيتُ ما كنتُ باحثا عنه فاقدا احساسي بالجوع والإعياء المنتشر في بقايا قدماي الناحلتان .
يبدو أنه يحظى بأحترام السوق وتجاره, فكل أصحاب العمامات من أصحاب الحوانيت يحيونه ويقدمون له أشياء تزيد من حمرة خدوده المتورده وبريق عينيه اللامعتين لتتسارع ذراعيه الضخمين بنشاط ٍ جديد ْ .
سرقتني أضواءُ المشعلاني ولذةُ الحلوى التي تفرُ من وجنتيه, لاجدني اتلمظُ مدفوعا بجوعي تحت قبةٍ من ظلام, يعلوني ضوء القمر وقد ذاب صديقي وعربه الأنوار في دهاليز العتم.
قفلت عائداً الى شارع الأضواء علّي أحظى بلقمةِ خبزٍ أو مكعباً من تلك الحلوى توّردُ خدودي الشاحبه وتُنقذَ ما تبقى من نضارةِ وجهيّ الطفولي, إقتربت من حوانيت في السوق الحجازي .
رأيت قِفافَ التمر الحجازي التي أعرفها جيداً...
هذا هو البِرحي وذلك السكري والطائفي ولكنه اليوم في قِفافِهِ أبعد عن يدي منه عندما كان شاهقاً بقطوفه الدانية في البيداء الحجازيه .
أين من كانوا يأمروه بالنزول الى فمي رطباً جنيا؟؟؟!!!!
ها هي عناقيد رطبنا غريبة عني مقابل بضع" ليراتٍ عصملية " تأبى المسير الي خطواتٍ لا تزيدُ في اقصاها عن الأربعة, ولم يبقَ من خياراتٍ أمامي إلا الإستمرار عمّن تناءوا عن الأبصار الزائغة جوعاً وتعباً .
تداخلت أضواء الحوانيت ولم تعد الساقان النحالتان قادرتان على مقاومة بضع أُوقياتٍ من جثة فتى في الرابعة من عمره .
مادت الارض يمنة ويسرة ومعها الانوار المتداخلة في بقايا عيناي وجائت أصواتهم تَحثُ الابل على المسير حتى يصلوا سوق الخميس الذي يجمع تجار الشام بتجار الحجاز ومصر .
وسمعت طرقات احذية على الارض المبلطة بالحجارة ، لم أجرؤ ولم استطع فتح أجفاني لا ستكشف القادم أو القادمين ففشلت أوامري للاقدام بالنهوض أو الهرب أخذ الخوف مني مبلغه لتذهب كل الاصوات والحوانيت والاضواء .
شعرت ببرودةٍ تصفعُ وجهي وأفقتُ على وجههِ ذي الشاربين السوداوين وبدله الكاكي وهوما ينفكُ يسألني بصوته الجش ولسانهِ ثقيل النطق بالعربية
:- ايش" فلد" ؟ انتِ مين ؟ أنت ؟ فين أهل ؟إنتِ سامعني
مسحَتْ عيناي المكان واصحاب بدلات الكاكي وقد تسمر اثنان منهما على الباب الخشبي يحملان "المزندات" نعم انها البنادق التركية التي عرفتها لاحقاً
لم أعرف الاجابة الا على اسمي
فقلت له :-
انا شعيب
- انت ابن مين ( فلد)
بقيت صامتاً
- انت ابن مين (فلد)
عرفت انه يسألني عن عن أهلي فأجبته
انا ابن سليمان الحجازي
فسألني اين هو سليمان هذا
تشجعت واجبته
:- لا أدري
و اتجهت يدي الى بطني والتوى وجهي الصغير جوعاً, مدَ يدهُ الى رأسي وفَرَدَ ابتسامةً زَرَعتْ فيّ الامل بأنه بدأ يستوعب مصيبتي لاجده يقول
انتِ جوعانة حبيبي واكتفيتُ بِهزِ رأسي ليعرفَ انني اتضورُ جوعاً فنادى أحمد أفندي الذي يتكلم العربيه جيداً ليأمره بإحضار عشاء لي ويتعرف اليّ أكثر .
جائني أحمد افندي بوليمة حيرتني من أين أبدأ بها , شربتُ قصعة الحليب ,اجهزت على رقاقات الخبز المشروح والبيض المسلوق قب أن يصل الى مداركي طعم الحلاوة من المكعبات الملفوفة بقطعٍ ورقية لاستمتع يطعمِ لذة جديدة كما المشعلاني, واكتفى الأفندي بملاحظتي حتى أجهزتُ على كل ما طالتهُ يداي.
عادت الحياةُ الى عروقي فعرفتُ انني قي أحد "مخافر الدرك" لأحد المدائن الشامية وايقنتُ ان الأفندي كان له يدٌ بيضاء في انقاذ حياتي من الهلاك.
استخدم الأفندي فِراستهُ العربية ليسكشفني بعدما أشعرني بأماني في جواره ليبدأ استجوابي موحياً لي بأنهُ يلاعبني فأعادَ عليّ نفسَ الأسئلةِ لأردَ بنقس الأجوبة .
أخبرتهُ انني شعيب بن سليمان وأنني كنت برفقة القافلة الحجازية واستنتج انني لم أدرك بعدُ عدد الأيام التي بدأتُ وإياها رحلة التيه ليعلمني باحتمالية العثور على أخبارهم عند شهبندر التجار إذا ما إنبلجَ ليلنا وأطل فجرُ الصباح.
اخيراً طلب من مرافقته الى منامات الأفراد ليُعطيني قسطاً من الراحةِ قبلَ ذهابنا الى حانوت الشهبندر في الصباح , دثرنيعلى أحد الأسرة الفارغة وتمنى لي ليلة هانئةً وصباحاً على خير.
أودعني للفراش وأودعتهُ للسلامة وغط الآخر في فراشهِ قبل ان يسرقني النعاسُ ويطل الفجرُ بصبحٍٍ جديدٍ ومائدةٍ جديدة .
شعيب -الشهبندر
انبلج الليل ودكت نبراتُ صوته الأجش قلاع نومنا المحصنةِ بالإعياء ليدعونا الى صلاة الفجر , أجبرتُ نفسي على الإستيقاظ من دفئ الفراش لأجد الأفندي يحلق ذقنه لإاشر إالي انه بإمكاني البقاء جالسا في الفراش بينما أنهى تلميعَ وجههِ وحذائه الجلدي ذا الساق الطويل ثم أخرجني الى الباحة الأمامية للمنام ليساعدني في غسل يداي وسحنتي وأعادني الى المنام , صلى الفجر وقدم ودعاني للإقتراب من طبق القش المزدان بصحون الزبدة واللبن وزيت الزيتون وابريق الشراب الساخن.
انتقيت لقيماتٍ من الصحون المنتشرة في طبق القش وفي الأثناء نتاول ابريق الشراب الساخن وراح يصبُ شرابه الأحمر في الكوب الزجاجي الشفاف ليعبق المكان بالشذى , حملقت به فعرفَ انني سأسأله لإاجاب دون سؤالٍ من انه الشاي بالنعنع وقدم لي كوباً ملأهُ إلا قليلا.
يااااااه ما ألذ الشاي بالنعنع ! وماأجمل انعكاسات الضوء فيه من خلال الكوب الشفاف .
انهينا وجبة الإفطار وأكواب الشاي وتقدم نور الشمس ملتهماً ما تبقى من عتم الزوايا ,ليقودني احمد افندي الى غرفة الضابض التركي" قائد الدرك " , دخلنا غرفته بينما هو غارقٌ بترتيب ريقات على طاولته الخشبية ذات الأرجل التحيلة هي الأخرى .
تسمر الأفندي أمام الطاولة وعرفتُ انهُ رفع يدهُ الى جبينه للتحية وما عرفت لماذا ضربَ بقدمهِ اليمنى الأرض ؟؟!
لعله يريدُ لفت أنظاره الينا!!؟
ردّ التركي تحيتنا وسأل الأفندي ان كان توصل الى معلومات جديدة عني فأجابه بالنفي .
هزَّ راسهُ وقال انني على الأغلب سقطُ متاعٍ من القافلة الحجازية التي غادرت الخليلَ فبيل ايام , فعرفت انني في مدينة خليل الرحمن أحد المدائن الشامية ذائعة الصيت في أوساط الحجازيين .
ساله الأفندي :
- وما العمل مولانا
أجابهُ مولاهُ بسؤالٍ آخر
- وهل عندك مقترحات
- نعم مولانا
- نوِّرنا
- اقترح ان نرسله عند ابي محمد شهبندر التجار
وافق التركي على مقترح الأفندي وجرني الأخير الى حانوت الشبندر ليهتم بأمري ريثما تنجلي حقيقتي و أهلي .
خرجنا من مخفر الدرك قاصديّن سوق المدينة بينما الشمسُ تهدي اكتاف الشوارع العتيقة لوناً وردياً يبعثُ الهيبةَ في النفس الناظرة , ظهرتْ عربة المشعلاني التي ذابت في عتمة الأمسِ وما زال صاحبها يأمر القناديل بالنزول من مشاكيها بفك عقد الحبال فتأتيه الى الحضيض ليقضي على ماتبقى من جذوات لا يمكنها مُقاومة أنوار شمس الضُحى.
فيجهز على كل الذبالات التي انهكت انوارها دياجير العتم ليعيدها الى سباتها بوجود الأضواء الحقيقية للصباح .
مخرنا عباب الشارع المكتظ بالفلاحين ودوابه حتى وصلنا حانوت الشهبندر صاحب العمامة البيضاء وشاربين السوداويين المرتدي قمبازه الرمادي وعمامته البيضاء بينما هو يتفقد قفاف التمر الحجازي وأكياس القمح الحوراني وقماش مصر وتوابل الهندية في بهو حانوته الواسع0
طرح احمد أفندي تحية الصباح فرد الشهبدر بابتسامة عريضة وتابع بسؤاله عني فاخبره قصتي وسأله إن كان احدهم عاد ليأخذني فأجاب الشهبندر بالنفي , فما كان أمام الافندني إلا أن يودعني إلى الشهبندر أمانة حتى يعود احدهم
نده الشهبندر على احد العاملين في البهو لاستلامي وإطعامي شيئا لعلي لم أذق الزاد, جرجرني احدهم إلى احد أجنحة البهو الكبير وطلب مني الجلوس إلى احد أكياس القمح وغاب برهة ليعود برغيف ساخن وعليه مكعبا من الحلوى طلب مني تذوقه قائلا إنها حلاوة السمسم وقال إنها ستعجبني 0
التهمت ما قدم لي من الحلاوة عجيبة الطعم لدرك حينها كم هي رغيدة عيشه أهل الشام 0
افلت سحابة ذلك اليوم دون أن يسال احدهم عني ، فلملم الأعمال أشلاء نهار كان الذي مسح على راسي قائلا انك بركة من بركات الحجاز أهداه الله إياها هذا الصباح واستشارني إن كنت ارغب بمرافقته إلى منزله لقضاء بعض الوقت مع زوجته لعلي أؤنس وحدتها 0
أتم حمدان وخليل القائمون على الحانوت ترتيب البضائع بينما هو يراقب ويتابع من على كرسيه الزان وطاولته المزركشة بالخزف 0
اقتادني الشهبندر بيده وبالأخرى حمل احد الفوانيس التي تهدينا إلى سواء السبيل بعدما قفلت الشمس أضوائها على صاحب العربة فوانيسه في الطرقات القديمة 0
وصلنا إلى باب عال ذو قوس كبير من الحجارة الرومانية الضخمة لعلي صديق صوته قائلا يا ساتر وطرق الباب ثلاثا قبل أن نسمع صوت زوجته المخملي من وراء الباب قائله له باللهجة الخليلية
: أهلا وسهلا .... تفضلوا
دلفنا الباب الخشبي إلى بهو الدار المكونة من صف الغرف وأمامها ساحة شرنا قرابة الخمسة عشر خطوة قبل أن ندخل إلى احد الغرف 0
نجدها باستقبالنا مرتدية ثوبا مطرزا بأوراق النباتات دقيقة الصنعة وغطاء رأس ابيض كانت ما زالت توازنه لتغطى شلال الليل المنسدل المتكامل سواد المخمل المطرز مرحبة ً بناِ 0
: أهلا بأبي محمد
:وبمن قال أهلاً
: أرأيت ما أحضرت لكِ
: من
هذه البركة يا امرأة!
وراح يخبرها قصتي وأنني تقطعت بي السبل , وأنني كنت بركته هذا اليوم وها هو أحضرني اليها علي أساعدها في أعمال منزلها الكبير 0
يتبع الحلقة الثانية