أبو شامة المغربي
15/05/2006, 05:37 PM
حائط البراق وليس حائط المبكى
(الجزء الأول)
*****
أولاً: تمهيد ديني وتاريخي
حائط البراق حائط يحد الحرم القدسي الشريف من الغرب. وترجع هذه التسمية إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم طبقاً لما أشارت إليه مصادر إسلامية عديدة في تفسيرها للآية الكريمة "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله" أن الرسول ركب البراق حتى باب المسجد الأقصى حيث ربط الدابة قرب الباب في مكان بالحائط الغربي للحرم، في الحلقة التي كان يربط فيها الأنبياء من قبل، ودخل المسجد حيث صلى بالأنبياء ثم عُرج به إلى السماوات العلا. (1)
أما حائط المبكى فهو ـ في زعم اليهود ـ جزءٌ من الحائط الغربي للحرم القدسي الشريف وآخر أثر من آثار هيكل سليمان عليه السلام (2) وأقول في زعم اليهود لأنه سوف يتضح من هذه الدراسة أن هذه المقولة لا تستند إلى أي أساس ديني أو تاريخي أو قانوني.
إن أهمية بيت المقدس لدى العرب والمسلمين ترجع إلى عدة أسباب:
أولاً: أن الله خصها بالعديد من الأنبياء ابتداءً من إبراهيم عليه السلام حتى عيسى بن مريم صلوات الله عليه.
ثانياً: أن الله خصها بإسراء ومعراج نبيه الكريم.
ثالثاً: لأن فيها أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. (3)
فقد صلى إليها الرسول والمسلمون بمكة، ثم ستة عشر شهراً بالمدينة، ثم أمره الله أن يتحول إلى الكعبة بقوله تعالى "فول وجهك شطر المسجد الحرام، وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره". (4)
والمسجد الأقصى هو ثاني مسجد على الأرض بعد المسجد الحرام، وهناك عدة روايات حول من بناه، منها أن آدم هو الذي بناه (5) ومنها أن الذي بناه يعقوب ثم جدده داود، وأتمه سليمان عليه السلام.
وأما بالنسبة لهيكل سليمان فقد بناه في أورشليم سليمان عليه السلام ليكون مركز العبادة اليهودية، وكان الغرض من بنائه هو عبادة الله سبحانه وتعالى، حيث كان الهيكل مسجد للموحدين. (6)
وليس هناك دليل على المكان الذي بُني فيه الهيكل، فبينما تذكر بعض المصادر أنه بنى خارج ساحات المسجد الأقصى، تذكر أخرى أن مكانه تحت قبة الصخرة (7) وتذكر المصادر اليهودية أنه تحت المسجد الأقصى.
وطبقاً لما ذكرته المصادر التاريخية، فقد تم بناء الهيكل وهدمه ثلاث مرات، فقد تم تدمير مدينة القدس والهيكل عام 587 ق.م على يد نبوخذ نصر ملك بابل وسُبى أكثر سكانها، وأعيد بناء الهيكل حوالي 520-515 ق.م وهُدم الهيكل للمرة الثانية خلال حكم المكدونيين على يد الملك أنطيوخوس الرابع بعد قمع الفتنة التي قام بها اليهود عام 170ق.م، وأعيد بناه الهيكل مرة ثالثة على يد هيرودوس الذي أصبح ملكاً على اليهود عام 40 ق.م بمساعدة الرومان. وهدم الهيكل للمرة الرابعة على يد الرومان الذين فتحوا مدينة القدس عام 70م ودمروها بأسرها. (ثمانية)
ويروى لنا الكتاب المقدس حالة الهيكل قبل الهدم الثالث، ونبوءة المسيح عليه السلام بخرابه، حيث لم يحافظ اليهود على كون الهيكل مكاناً للموحدين، وحولوا مكان الهيكل إلى مكان للبيع والشراء، فطبقاً لما ورد في إنجيل متى "ودخل يسوعُ إلى هيكل الله، وأخرج جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل، وقلب موائد الصيارفة، وكراسي باعة الحمام، وقال لهم. مكتوب بيتي بيت الصلاة يُدعى، وأنتم جعلتموه مغارةً للصوص…".
"يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين، إليها كم مرةً أردتُ أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا. هو ذا بيتكم يترك لكم خراباً…" (9)
وفي فقرة أخرى من الإنجيل ورد النص التالي "ثم خرج يسوعُ ومضى من الهيكل. فتقدم تلاميذه لكي يروه أبنية الهيكل، فقال لهم يسوع أما تنظرون جميع هذه. الحق أقول لكم أنه لا يُترك هاهنا حجر على حجر لا يُنقض". (10)
ولقد تحققت نبوءة المسيح عليه السلام، فقد تم تدمير الهيكل على يد الرومان وهو التدمير الأخير للهيكل، وبينما تشير بعض المصادر إلى أن الهيكل لم يبق فيه سوى قسم من حائطه الغربي، (11) تشير أخرى إلى أن سائر أجزاء الهيكل لم يبق منها شيء (12).
فعندما حدثت حادثة الإسراء لم يكن بهذا المكان بناءٌ معروف بالمسجد الأقصى، وإنما كان المكان الموجود بين أسوار الحرم الشريف في القدس مكاناً مخصصاً لعبادة الله سبحانه وتعالى، ولم يكن مسجداً بالمعنى الحالي، وإنما سُمي في الآية الكريمة بالمسجد، لأنه مكان العبادة. (13)
ومنذ حادثة الإسراء عرف أهل القدس سواء بالتواتر أو التوارث أنه يوجد مكان في الحائط الغربي للحرم القدسي يسمى البراق. (14)
أما بالنسبة للمسجدين المعروفين الآن باسم المسجد الأقصى ومسجد الصخرة، فقد تم بناؤهم خلال الحكم الأموي، حيث شرع عبد الملك بن مروان في بنائهما عام 65 هـ ويبدو أن بعض أجزاء البناء قد تمت في عهد الوليد بن عبد الملك.
ولإنجاز هذا المشروع الكبير تم رصد خراج مصر سبع سنوات، كان تحمل الأموال خلالها إلى بيت المقدس، حتى تم البناء. (15)
وقد تابع الخلفاء والسلاطين والملوك فيما بعد الاهتمام بهذين المسجدين والإنفاق على صيانتهما، بسبب مكانتهما الدينية، وباعتبارهما من مفاخر العمارة العربية والإسلامية.
وشهدت القدس ثلاث فترات من العمران، الأولى خلال الحكم الأموي، والثانية خلال العصر المملوكي 1250 ـ 1516 والثالثة خلال القرون الأولى من الحكم العثماني (القرن العاشر الهجري والسادس عشر الميلادي) (16)
ومن يتابع التاريخ العثماني سوف يجد عدداً من السلاطين العثمانيين أحسنوا معاملة اليهود قبل ظهور أهدافهم الصهيونية. فقد سمح لهم السلطان محمد الفاتح 1451-1481 بالاستقرار في استنبول، وعندما طُرد اليهود من أسبانيا عام 1493 أصدر السلطان بايزيد الثاني أمراً يقضي بحسن معاملتهم.
وهكذا أصبحت فلسطين وممتلكات الدولة العثمانية في أوائل القرن السادس عشر ملجأً لليهود المطرودين من أسبانيا والبرتغال أو الهاربين من البلاد الأوروبية الأخرى. (17)
فخلال حكم السلطان القانوني 1520- 1566 شهدت الدولة العثمانية صحوة حضارية واستفادت بيت المقدس بصفة خاصة من جهوده الإصلاحية، فقد أمر سليمان بإعادة بناء أسوار المدينة، وبلغ طول السور الذي ما زال قائماً حتى اليوم ميلين وارتفاعه حوالي أربعين قدماً.
ودعا السلطان رعاياه إلى الإقامة في بيت المقدس خاصة اللاجئين اليهود الذين استقروا في الدولة العثمانية بعد طردهم من أسبانيا وكان معظم اليهود يفضلون في ذلك الوقت الإقامة في طبرية وصفد، لكن مجمعتهم في القدس تزايد عدداً في عصر سليمان (كان عددهم في القدس في منتصف القرن الخامس عشر 1650 نسمة).
والذي يهمنا هنا ما حدث من سليمان القانوني بالنسبة للحائط الغربي للحرم الشريف، فقد صدر منذ ثلاث سنوات كتاب هام عن القدس لمؤلفة أمريكية (ثمانية عشر) تذكر فيه أن اليهود لم يظهروا في الماضي أي اهتمام بذلك الجزء من الحائط، وأن المكان في عهد هيرودس بعد أن أعيد بناء الهيكل للمرة الثانية عام 40 ق.م كان جزءاً من مركز تجاري ولم تكن له أهمية دينية، وأن اليهود كانوا يتجمعون للصلاة على جبل الزيتون وعند بوابات الحرم، وأنهم عندما منعوا من دخول المدينة أثناء الفترة الصليبية كانوا يصلون عند الحائط الشرقي للحرم. وتضيف المؤلفة الأمريكية أن سليمان القانوني هو الذي أصدر فرمانا يسمح بمكان لليهود للصلاة عند الحائط الغربي.
ويُقال أن سنان باشا مهندس البلاط الكبير هو الذي قام بتخطيط الموقع وبالحفر كي يتيح للحائط ارتفاعاً أكبر، وقام ببناء حائط مواز له يفصل مصلى اليهود عن حي المغاربة الذي يعتبر وقفاً إسلامياً من أواخر القرن 12م وسرعان ما أصبحت المنطقة مركز الحياة الدينية ليهود القدس.
ويضيف المصدر بأنه لم تكن تقام هناك بعد طقوس رسمية للعبادة، غير أن اليهود كانوا يحبون قضاء فترة ما بعد الظهيرة هناك يقرءون المزامير ويقبلون الأحجار، وسرعان ما اجتذب الحائط الغربي أساطير كثيرة، فقد تم ربط الحائط بأقاويل من التلمود تخص الحائط الغربي للهيكل، وهكذا أصبح الحائط رمزاً لليهود وأصبحوا يشعرون بتواصلهم مع الأجيال الماضية، وبمجدهم الذي ولى.
ومن الواضح أن ما ذكرته المؤلفة الأمريكية من أن سليمان القانوني هو الذي سمح لليهود بمكان للصلاة عند الحائط الغربي للحرم القدسي الشريف قد حدث فعلاً، حيث ورد في بحث مقدم من روحي الخطيب أمين القدس السابق إلى مؤتمر حماية المقدسات والتراث الإسلامي في فلسطين نص أخذه من الموسوعة اليهودية الصادرة في القدس عام 1971م، يقول النص:
"إن الحائط الغربي أصبح جزءاً من التقاليد الدينية اليهودية حوالي سنة 1520م نتيجة للهجرة اليهودية من أسبانيا، وبعد الفتح العثماني سنة 1517م" (19)
ويعني ما ورد في المرجعين الأمريكي واليهودي أن العثمانيين في عهد السلطان سليمان القانوني هم الذين منحوا اليهود حق التعبد والصلاة عند حائط البراق أو الحائط الغربي للحرم القدسي الشريف من قبيل التسامح الديني مع اليهود بعد طردهم من أسبانيا أواخر القرن الخامس عشر الميلادي.
ويدعم هذه الحقيقة نص ورد في تقرير اللجنة الدولية لتحديد الحقوق والادعاءات بشأن الحائط، حيث يذكر أنه وردت إشارة لأحد الباحثين في سنة 1625م تتحدث عن إقامة صلوات منظمة عند الحائط لأول مرة. (20)
ومع أن الأطماع اليهودية لم تكن واضحة في ذلك الوقت، لكن الذي يؤخذ على بعض السلاطين العثمانيين أنهم رغم إصلاحاتهم لم يكونوا على قدر كافٍ من الوعي بقدسية هذا المكان الذي شهد حادثة الإسراء والمعراج، والذي كان أول قبلة للمسلمين.
وخلال الحكم المصري للشام 1831- 1840 كان يُسمح لليهود بالاقتراب من الحائط والبكاء عنده مقابل 300 جنيه إنجليزي كانوا يسددونها سنوياً لوكيل وقف أبو مدين. (21)
ووقف أبو مدين هذا أرض مجاورة للحائط الغربي من المسجد الأقصى أوقفها الملك الأفضل بن صلاح الدين عام 1192م على الحجاج المغاربة حيث تم بناء منازل لهم فيها عرفت باسم حي المغاربة، ثم أطلق عليها فيما بعد اسم "أبى مدين الغوث"؟ وتم توثيق الوقفية عام 1630م. (22)
لكن إبراهيم باشا أصدر مرسوماً في مايو 1840 حظر فيه على اليهود تبليط الممر الكائن أمام الحائط، ورخص لهم بزيارته فقط على الوجه القديم.
ورغم موقف السلطان عبد الحميد من عدم الموافقة على هجرة اليهود إلى فلسطين، لكنه بالنسبة لليهود المقيمين في فلسطين أصدر عام 1889م فرماناً يمنع فيه التعرض للأماكن التي يؤدي فيها اليهود طقوسهم أثناء الزيارة. مما يعنى التسامح مع اليهود الذين يتمتعون بالجنسية العثمانية.
وقد ورد في مؤلفات مختلفة معاصرة أن السياح الذين زاروا الأرض المقدسة خاصة خلال القرنين 19، 20 ذكروا أن اليهود استمر ذهابهم إلى الحائط وجواره لتقديم تضرعاتهم. (23)
واضح إذن أن عادة الصلاة عند الحائط تم تقنينها خلال الحكم العثماني وخاصة خلال القرن 16 على يد سليمان القانوني، كما أن عادة البكاء عند الحائط تم تقنينها خلال الحكم المصري للشام في ثلاثينيات القرن 19.
أما بالنسبة لما تذكره المصادر اليهودية عن علاقة اليهود بالحائط بعد هدمه فتروى أن اليهود اعتادوا بعد خرابه للمرة الثانية الذهاب إلى أطلاله لكنها لم تشر إلى البكاء عند الأطلال، كما يذكر عدد من المؤرخين اليهود في القرنين 10، 11 أن اليهود كانوا يذهبون إلى الحائط لإقامة شعائرهم الدينية خلال الحكم العربي، وأنه في الطور الأخير من الاحتلال الصليبي للقدس كان اليهود يقيمون صلاتهم الدائمة عند الحائط، (24) فالمصادر اليهودية وحدها هي التي ذكرت ذلك، وليس هناك أدلة أو شواهد على صدق قولها.
ثانياً: كيف أثيرت مشكلة الحائط بين العرب واليهود وكيف تطورت؟
لقد بدأت جذور المشكلة قبل الحرب العالمية الأولى عندما احتج متولي الأوقاف أبى مدين الغوث في 12 تشرين الثاني 1327هـ
(1911م) أن أفراد الطائفة اليهودية الذين جرت عادتهم بزيارة الحائط وقوفاً أخذوا مؤخراً يجلبون معهم كراسي للجلوس عليها أثناء الزيارة. وطلب متولي الأوقاف ايقاف هذه الحالة تجنباً لادعاء اليهود في المستقبل بملكية المكان.
وبناءً على ذلك أصدر مجلس إدارة لواء القدس تعليمات تنظم زيارة اليهود للحائط، وتمنع جلب أي مقاعد أو ستائر عند الحائط،(25)
ومنذ انتهاء الحرب العالمية الأولى واعتماداً على تصريح بلفور الذي يعد بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، أخذ اليهود يسعون إلى تثبيت حقوق واسعة لهم في هذا المكان عن طريق تغيير الحالة الراهنة التي كان عليها الحائط قبل الحرب. حيث بدأوا تحركهم عام 1919م بما قدموه من عرائض رسمية ونشروه من مقالات، ووصل الأمر إلى نشر صور لهيكل يهودي جديد مكان مسجد الصخرة ونشر صور لهذا المسجد يعلوها العلم الصهيوني والكتابات العبرانية، وأخذ اليهود يساومون على شراء المنطقة الوقفية الواسعة المحيطة بالحائط، وعرضوا أرقاماً باهظة للشراء. (26)
وعندما وضع صك الانتداب على فلسطين الذي صودق عليه من قبل عصبة الأمم في 24 يوليو 1922 تضمنت مواده الثمانية والعشرون عدداً من المواد المتعلقة بالأماكن المقدسة كان أهمها المادة 14التي تنص على ما يلي:
"تؤلف الدولة المنتدبة لجنة خاصة لدرس وتحديد وتقرير الحقوق والادعاءات المتعلقة بالأماكن المقدسة والحقوق والادعاءات المتعلقة بالطوائف الدينية المختلفة في فلسطين، وتعرض طريقة اختيار هذه اللجنة وقوامها ووظائفها على مجلس عصبة الأمم لإقرارها، ولا تعين اللجنة ولا تقوم بوظائفها دون موافقة المجلس المذكور (27) لكن هذه اللجنة لم تعين إلا عام 1930م بعد أن أوصت لجنة التحقيق في أسباب انتفاضة البراق عام 1929م بسرعة تعيينها. (ثمانية وعشرون)، وطوال السنوات22، 23، 25، 26، 28، كان هناك محاولات يهودية لجلب مقاعد عند الحائط لكنهم في عام 1928م حاولوا استخدام خزانة ومصابيح وحصر وستائر للفصل بين الرجال والنساء، وأرسل مفتي فلسطين رسائل إلى حاكم القدس ينبهه إلى تلك المخالفات(29)، وصدرت التعليمات من الإدارة المنتدبة في أكثر من موقف بمنع اليهود من جلب كراسي أو ستائر إلى الحائط. (30).
د. عادل حسن غنيم
*****
د. أبو شامة المغربي
kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)
(الجزء الأول)
*****
أولاً: تمهيد ديني وتاريخي
حائط البراق حائط يحد الحرم القدسي الشريف من الغرب. وترجع هذه التسمية إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم طبقاً لما أشارت إليه مصادر إسلامية عديدة في تفسيرها للآية الكريمة "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله" أن الرسول ركب البراق حتى باب المسجد الأقصى حيث ربط الدابة قرب الباب في مكان بالحائط الغربي للحرم، في الحلقة التي كان يربط فيها الأنبياء من قبل، ودخل المسجد حيث صلى بالأنبياء ثم عُرج به إلى السماوات العلا. (1)
أما حائط المبكى فهو ـ في زعم اليهود ـ جزءٌ من الحائط الغربي للحرم القدسي الشريف وآخر أثر من آثار هيكل سليمان عليه السلام (2) وأقول في زعم اليهود لأنه سوف يتضح من هذه الدراسة أن هذه المقولة لا تستند إلى أي أساس ديني أو تاريخي أو قانوني.
إن أهمية بيت المقدس لدى العرب والمسلمين ترجع إلى عدة أسباب:
أولاً: أن الله خصها بالعديد من الأنبياء ابتداءً من إبراهيم عليه السلام حتى عيسى بن مريم صلوات الله عليه.
ثانياً: أن الله خصها بإسراء ومعراج نبيه الكريم.
ثالثاً: لأن فيها أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. (3)
فقد صلى إليها الرسول والمسلمون بمكة، ثم ستة عشر شهراً بالمدينة، ثم أمره الله أن يتحول إلى الكعبة بقوله تعالى "فول وجهك شطر المسجد الحرام، وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره". (4)
والمسجد الأقصى هو ثاني مسجد على الأرض بعد المسجد الحرام، وهناك عدة روايات حول من بناه، منها أن آدم هو الذي بناه (5) ومنها أن الذي بناه يعقوب ثم جدده داود، وأتمه سليمان عليه السلام.
وأما بالنسبة لهيكل سليمان فقد بناه في أورشليم سليمان عليه السلام ليكون مركز العبادة اليهودية، وكان الغرض من بنائه هو عبادة الله سبحانه وتعالى، حيث كان الهيكل مسجد للموحدين. (6)
وليس هناك دليل على المكان الذي بُني فيه الهيكل، فبينما تذكر بعض المصادر أنه بنى خارج ساحات المسجد الأقصى، تذكر أخرى أن مكانه تحت قبة الصخرة (7) وتذكر المصادر اليهودية أنه تحت المسجد الأقصى.
وطبقاً لما ذكرته المصادر التاريخية، فقد تم بناء الهيكل وهدمه ثلاث مرات، فقد تم تدمير مدينة القدس والهيكل عام 587 ق.م على يد نبوخذ نصر ملك بابل وسُبى أكثر سكانها، وأعيد بناء الهيكل حوالي 520-515 ق.م وهُدم الهيكل للمرة الثانية خلال حكم المكدونيين على يد الملك أنطيوخوس الرابع بعد قمع الفتنة التي قام بها اليهود عام 170ق.م، وأعيد بناه الهيكل مرة ثالثة على يد هيرودوس الذي أصبح ملكاً على اليهود عام 40 ق.م بمساعدة الرومان. وهدم الهيكل للمرة الرابعة على يد الرومان الذين فتحوا مدينة القدس عام 70م ودمروها بأسرها. (ثمانية)
ويروى لنا الكتاب المقدس حالة الهيكل قبل الهدم الثالث، ونبوءة المسيح عليه السلام بخرابه، حيث لم يحافظ اليهود على كون الهيكل مكاناً للموحدين، وحولوا مكان الهيكل إلى مكان للبيع والشراء، فطبقاً لما ورد في إنجيل متى "ودخل يسوعُ إلى هيكل الله، وأخرج جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل، وقلب موائد الصيارفة، وكراسي باعة الحمام، وقال لهم. مكتوب بيتي بيت الصلاة يُدعى، وأنتم جعلتموه مغارةً للصوص…".
"يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين، إليها كم مرةً أردتُ أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا. هو ذا بيتكم يترك لكم خراباً…" (9)
وفي فقرة أخرى من الإنجيل ورد النص التالي "ثم خرج يسوعُ ومضى من الهيكل. فتقدم تلاميذه لكي يروه أبنية الهيكل، فقال لهم يسوع أما تنظرون جميع هذه. الحق أقول لكم أنه لا يُترك هاهنا حجر على حجر لا يُنقض". (10)
ولقد تحققت نبوءة المسيح عليه السلام، فقد تم تدمير الهيكل على يد الرومان وهو التدمير الأخير للهيكل، وبينما تشير بعض المصادر إلى أن الهيكل لم يبق فيه سوى قسم من حائطه الغربي، (11) تشير أخرى إلى أن سائر أجزاء الهيكل لم يبق منها شيء (12).
فعندما حدثت حادثة الإسراء لم يكن بهذا المكان بناءٌ معروف بالمسجد الأقصى، وإنما كان المكان الموجود بين أسوار الحرم الشريف في القدس مكاناً مخصصاً لعبادة الله سبحانه وتعالى، ولم يكن مسجداً بالمعنى الحالي، وإنما سُمي في الآية الكريمة بالمسجد، لأنه مكان العبادة. (13)
ومنذ حادثة الإسراء عرف أهل القدس سواء بالتواتر أو التوارث أنه يوجد مكان في الحائط الغربي للحرم القدسي يسمى البراق. (14)
أما بالنسبة للمسجدين المعروفين الآن باسم المسجد الأقصى ومسجد الصخرة، فقد تم بناؤهم خلال الحكم الأموي، حيث شرع عبد الملك بن مروان في بنائهما عام 65 هـ ويبدو أن بعض أجزاء البناء قد تمت في عهد الوليد بن عبد الملك.
ولإنجاز هذا المشروع الكبير تم رصد خراج مصر سبع سنوات، كان تحمل الأموال خلالها إلى بيت المقدس، حتى تم البناء. (15)
وقد تابع الخلفاء والسلاطين والملوك فيما بعد الاهتمام بهذين المسجدين والإنفاق على صيانتهما، بسبب مكانتهما الدينية، وباعتبارهما من مفاخر العمارة العربية والإسلامية.
وشهدت القدس ثلاث فترات من العمران، الأولى خلال الحكم الأموي، والثانية خلال العصر المملوكي 1250 ـ 1516 والثالثة خلال القرون الأولى من الحكم العثماني (القرن العاشر الهجري والسادس عشر الميلادي) (16)
ومن يتابع التاريخ العثماني سوف يجد عدداً من السلاطين العثمانيين أحسنوا معاملة اليهود قبل ظهور أهدافهم الصهيونية. فقد سمح لهم السلطان محمد الفاتح 1451-1481 بالاستقرار في استنبول، وعندما طُرد اليهود من أسبانيا عام 1493 أصدر السلطان بايزيد الثاني أمراً يقضي بحسن معاملتهم.
وهكذا أصبحت فلسطين وممتلكات الدولة العثمانية في أوائل القرن السادس عشر ملجأً لليهود المطرودين من أسبانيا والبرتغال أو الهاربين من البلاد الأوروبية الأخرى. (17)
فخلال حكم السلطان القانوني 1520- 1566 شهدت الدولة العثمانية صحوة حضارية واستفادت بيت المقدس بصفة خاصة من جهوده الإصلاحية، فقد أمر سليمان بإعادة بناء أسوار المدينة، وبلغ طول السور الذي ما زال قائماً حتى اليوم ميلين وارتفاعه حوالي أربعين قدماً.
ودعا السلطان رعاياه إلى الإقامة في بيت المقدس خاصة اللاجئين اليهود الذين استقروا في الدولة العثمانية بعد طردهم من أسبانيا وكان معظم اليهود يفضلون في ذلك الوقت الإقامة في طبرية وصفد، لكن مجمعتهم في القدس تزايد عدداً في عصر سليمان (كان عددهم في القدس في منتصف القرن الخامس عشر 1650 نسمة).
والذي يهمنا هنا ما حدث من سليمان القانوني بالنسبة للحائط الغربي للحرم الشريف، فقد صدر منذ ثلاث سنوات كتاب هام عن القدس لمؤلفة أمريكية (ثمانية عشر) تذكر فيه أن اليهود لم يظهروا في الماضي أي اهتمام بذلك الجزء من الحائط، وأن المكان في عهد هيرودس بعد أن أعيد بناء الهيكل للمرة الثانية عام 40 ق.م كان جزءاً من مركز تجاري ولم تكن له أهمية دينية، وأن اليهود كانوا يتجمعون للصلاة على جبل الزيتون وعند بوابات الحرم، وأنهم عندما منعوا من دخول المدينة أثناء الفترة الصليبية كانوا يصلون عند الحائط الشرقي للحرم. وتضيف المؤلفة الأمريكية أن سليمان القانوني هو الذي أصدر فرمانا يسمح بمكان لليهود للصلاة عند الحائط الغربي.
ويُقال أن سنان باشا مهندس البلاط الكبير هو الذي قام بتخطيط الموقع وبالحفر كي يتيح للحائط ارتفاعاً أكبر، وقام ببناء حائط مواز له يفصل مصلى اليهود عن حي المغاربة الذي يعتبر وقفاً إسلامياً من أواخر القرن 12م وسرعان ما أصبحت المنطقة مركز الحياة الدينية ليهود القدس.
ويضيف المصدر بأنه لم تكن تقام هناك بعد طقوس رسمية للعبادة، غير أن اليهود كانوا يحبون قضاء فترة ما بعد الظهيرة هناك يقرءون المزامير ويقبلون الأحجار، وسرعان ما اجتذب الحائط الغربي أساطير كثيرة، فقد تم ربط الحائط بأقاويل من التلمود تخص الحائط الغربي للهيكل، وهكذا أصبح الحائط رمزاً لليهود وأصبحوا يشعرون بتواصلهم مع الأجيال الماضية، وبمجدهم الذي ولى.
ومن الواضح أن ما ذكرته المؤلفة الأمريكية من أن سليمان القانوني هو الذي سمح لليهود بمكان للصلاة عند الحائط الغربي للحرم القدسي الشريف قد حدث فعلاً، حيث ورد في بحث مقدم من روحي الخطيب أمين القدس السابق إلى مؤتمر حماية المقدسات والتراث الإسلامي في فلسطين نص أخذه من الموسوعة اليهودية الصادرة في القدس عام 1971م، يقول النص:
"إن الحائط الغربي أصبح جزءاً من التقاليد الدينية اليهودية حوالي سنة 1520م نتيجة للهجرة اليهودية من أسبانيا، وبعد الفتح العثماني سنة 1517م" (19)
ويعني ما ورد في المرجعين الأمريكي واليهودي أن العثمانيين في عهد السلطان سليمان القانوني هم الذين منحوا اليهود حق التعبد والصلاة عند حائط البراق أو الحائط الغربي للحرم القدسي الشريف من قبيل التسامح الديني مع اليهود بعد طردهم من أسبانيا أواخر القرن الخامس عشر الميلادي.
ويدعم هذه الحقيقة نص ورد في تقرير اللجنة الدولية لتحديد الحقوق والادعاءات بشأن الحائط، حيث يذكر أنه وردت إشارة لأحد الباحثين في سنة 1625م تتحدث عن إقامة صلوات منظمة عند الحائط لأول مرة. (20)
ومع أن الأطماع اليهودية لم تكن واضحة في ذلك الوقت، لكن الذي يؤخذ على بعض السلاطين العثمانيين أنهم رغم إصلاحاتهم لم يكونوا على قدر كافٍ من الوعي بقدسية هذا المكان الذي شهد حادثة الإسراء والمعراج، والذي كان أول قبلة للمسلمين.
وخلال الحكم المصري للشام 1831- 1840 كان يُسمح لليهود بالاقتراب من الحائط والبكاء عنده مقابل 300 جنيه إنجليزي كانوا يسددونها سنوياً لوكيل وقف أبو مدين. (21)
ووقف أبو مدين هذا أرض مجاورة للحائط الغربي من المسجد الأقصى أوقفها الملك الأفضل بن صلاح الدين عام 1192م على الحجاج المغاربة حيث تم بناء منازل لهم فيها عرفت باسم حي المغاربة، ثم أطلق عليها فيما بعد اسم "أبى مدين الغوث"؟ وتم توثيق الوقفية عام 1630م. (22)
لكن إبراهيم باشا أصدر مرسوماً في مايو 1840 حظر فيه على اليهود تبليط الممر الكائن أمام الحائط، ورخص لهم بزيارته فقط على الوجه القديم.
ورغم موقف السلطان عبد الحميد من عدم الموافقة على هجرة اليهود إلى فلسطين، لكنه بالنسبة لليهود المقيمين في فلسطين أصدر عام 1889م فرماناً يمنع فيه التعرض للأماكن التي يؤدي فيها اليهود طقوسهم أثناء الزيارة. مما يعنى التسامح مع اليهود الذين يتمتعون بالجنسية العثمانية.
وقد ورد في مؤلفات مختلفة معاصرة أن السياح الذين زاروا الأرض المقدسة خاصة خلال القرنين 19، 20 ذكروا أن اليهود استمر ذهابهم إلى الحائط وجواره لتقديم تضرعاتهم. (23)
واضح إذن أن عادة الصلاة عند الحائط تم تقنينها خلال الحكم العثماني وخاصة خلال القرن 16 على يد سليمان القانوني، كما أن عادة البكاء عند الحائط تم تقنينها خلال الحكم المصري للشام في ثلاثينيات القرن 19.
أما بالنسبة لما تذكره المصادر اليهودية عن علاقة اليهود بالحائط بعد هدمه فتروى أن اليهود اعتادوا بعد خرابه للمرة الثانية الذهاب إلى أطلاله لكنها لم تشر إلى البكاء عند الأطلال، كما يذكر عدد من المؤرخين اليهود في القرنين 10، 11 أن اليهود كانوا يذهبون إلى الحائط لإقامة شعائرهم الدينية خلال الحكم العربي، وأنه في الطور الأخير من الاحتلال الصليبي للقدس كان اليهود يقيمون صلاتهم الدائمة عند الحائط، (24) فالمصادر اليهودية وحدها هي التي ذكرت ذلك، وليس هناك أدلة أو شواهد على صدق قولها.
ثانياً: كيف أثيرت مشكلة الحائط بين العرب واليهود وكيف تطورت؟
لقد بدأت جذور المشكلة قبل الحرب العالمية الأولى عندما احتج متولي الأوقاف أبى مدين الغوث في 12 تشرين الثاني 1327هـ
(1911م) أن أفراد الطائفة اليهودية الذين جرت عادتهم بزيارة الحائط وقوفاً أخذوا مؤخراً يجلبون معهم كراسي للجلوس عليها أثناء الزيارة. وطلب متولي الأوقاف ايقاف هذه الحالة تجنباً لادعاء اليهود في المستقبل بملكية المكان.
وبناءً على ذلك أصدر مجلس إدارة لواء القدس تعليمات تنظم زيارة اليهود للحائط، وتمنع جلب أي مقاعد أو ستائر عند الحائط،(25)
ومنذ انتهاء الحرب العالمية الأولى واعتماداً على تصريح بلفور الذي يعد بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، أخذ اليهود يسعون إلى تثبيت حقوق واسعة لهم في هذا المكان عن طريق تغيير الحالة الراهنة التي كان عليها الحائط قبل الحرب. حيث بدأوا تحركهم عام 1919م بما قدموه من عرائض رسمية ونشروه من مقالات، ووصل الأمر إلى نشر صور لهيكل يهودي جديد مكان مسجد الصخرة ونشر صور لهذا المسجد يعلوها العلم الصهيوني والكتابات العبرانية، وأخذ اليهود يساومون على شراء المنطقة الوقفية الواسعة المحيطة بالحائط، وعرضوا أرقاماً باهظة للشراء. (26)
وعندما وضع صك الانتداب على فلسطين الذي صودق عليه من قبل عصبة الأمم في 24 يوليو 1922 تضمنت مواده الثمانية والعشرون عدداً من المواد المتعلقة بالأماكن المقدسة كان أهمها المادة 14التي تنص على ما يلي:
"تؤلف الدولة المنتدبة لجنة خاصة لدرس وتحديد وتقرير الحقوق والادعاءات المتعلقة بالأماكن المقدسة والحقوق والادعاءات المتعلقة بالطوائف الدينية المختلفة في فلسطين، وتعرض طريقة اختيار هذه اللجنة وقوامها ووظائفها على مجلس عصبة الأمم لإقرارها، ولا تعين اللجنة ولا تقوم بوظائفها دون موافقة المجلس المذكور (27) لكن هذه اللجنة لم تعين إلا عام 1930م بعد أن أوصت لجنة التحقيق في أسباب انتفاضة البراق عام 1929م بسرعة تعيينها. (ثمانية وعشرون)، وطوال السنوات22، 23، 25، 26، 28، كان هناك محاولات يهودية لجلب مقاعد عند الحائط لكنهم في عام 1928م حاولوا استخدام خزانة ومصابيح وحصر وستائر للفصل بين الرجال والنساء، وأرسل مفتي فلسطين رسائل إلى حاكم القدس ينبهه إلى تلك المخالفات(29)، وصدرت التعليمات من الإدارة المنتدبة في أكثر من موقف بمنع اليهود من جلب كراسي أو ستائر إلى الحائط. (30).
د. عادل حسن غنيم
*****
د. أبو شامة المغربي
kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)