المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اللوحــــــــــــة العنيــــــــــــــــدة



أبو شامة المغربي
11/05/2006, 08:18 PM
اللوحــــــــة العنيدة

*****





لا يستطيع مسعود أن يتأخر لحظة واحدةعن الإحتفال بميلاد لوحاته في هذه الغرفة الضيقة، وبين ألوان جدرانها القزحية، لكنه في هذه الساعة يكاد يفقد الشرارة الأولى من ألوان لوحة جديدة ...

منذ الصباح الباكر اهتز كيانه كالعادة شوقا إلى رسم لوحته العنيدة، وتمثلها وكأنها تهمس بتحديها في أذنيه كلما هم مقتربا بريشته من الصفحة البيضاء الماثلة أمامه..

أما في يومه الجديد هذا، فهو منهمك في رسم لوحة تحكي السعادة بألوان حية متوقدة، تتراقص جذلانة فرحة، وتحكي الشقاء بألوان فاترة منكسرة حزينة .. حركة ساكنة في سكون متحرك ...

كانت الألوان تتحدث بنبضها إلى مسعود على أديم اللوحة الجديدة مسترسلة بلسان فصيح .. يومها كان قد كتب موقعا أسفل اللوحة .. (المفقود من زمن مسعود)

ألقى مسعود بنفسه على السرير، ثم استدار بوجهه إلى مرآة صغيرة، كانت معلقة على الجدار .. حلق بعينيه الدامعتين في فضاء غرفته القزحية ليمسك بهما سقفها الساكن، لكن ضوء المصباح الوهاج أطبق عليهما ...

وغير بعيد كانت ساعة حائطية راسية، فخيل إلى مسعود وكأنها تزحف بدقاتها المتلاحقة من فوق لتجثم على صدره، وأحس بتوقيعات قلبه تصم أذنيه ...

لقد شق عليه في البداية أن يهجر غرفته القزحية لساعات طوال كل يوم، وهو الذي كان لا يطيق فراق نشاطه في رحابها معظم الوقت،

وتمضي السنون كلمح البصر، ومع مرور الأيام انصرف مسعود عن الرسم، وصار ينأى يوما بعد يوم عن لوحاته التي سبق أن رسمها، وأصبحت غرفته القزحية تذكره في كل يوم باللوحة العنيدة، التي طالما اشتاق إلى رسمها منذ زمن بعيد...

كانت يده اليمنى ترتجف كلما أمسك بريشته، وأخذ يترقب بزوغ هلال اللوحة العنيدة، ثم إن ابتسامته ظلت أسيرة وراء قضبان عجزه عن تحقيق ميلاد تلك اللوحة المتحدية في عناد شديد...

وذات يوم جديد، خرج مسعود كعادته من البيت ليعود إليه دون أن يطيل خروجه، لقد أحس وكأنه يكتشف لأول مرة (سقاية الحومة)، وبينما كان يعبر أرضية زقاق عتيق مد مدا طويلا، رأى مباراة في لعبة (الضامة) تجري بين شيخ مسن وشاب في مقتبل العمر، وحولهما جماعة من الشباب، والكهول، والشيوخ تتصايح مشجعة هذا وذاك، وهم يترقبون نهاية مثيرة للمباراة...

غير بعيد من هذا المشهد، وقعت عينا مسعود على رجل استلقى في دكانه الضيق وسط أكوام من الخبز الجاف، وقد توسد يديه تحت قفاه، وأسدل طقيته على عينيه، ثم ترك قدميه تستريحان من وعكة المشي الطويل خارج عتبة الدكان...

كان الزقاق يرثي نفسه في عيني مسعود وفي أذنيه رثاء مريرا، فانتابه إحساس غريب، قد أخذ يسري بحيويته في أوصاله موقظا حماسته، ومبددا ما أحاط ببسمته من وثاق، فما كان من مسعود إلا أن همس بصوت بينه وبين نفسه قائلا: اليوم ستولد لوحتي العنيدة.















د. أبو شامة المغربي


kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)