المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : وَلَقَدۡ كَذَّبَ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡحِجۡرِ ٱلۡمُرۡسَلِینَ



طارق شفيق حقي
30/12/2022, 09:58 PM
تفسير القرطبي



الْحِجْرُ يَنْطَلِقُ عَلَى مَعَانٍ: مِنْهَا حِجْرُ الْكَعْبَةِ. وَمِنْهَا الْحَرَامُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَحِجْراً مَحْجُوراً"(ظ،) أَيْ حَرَامًا مُحَرَّمًا. وَالْحِجْرُ الْعَقْلُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" لِذِي حِجْرٍ(ظ¢) "وَالْحِجْرُ حِجْرُ الْقَمِيصِ، وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ. وَالْحِجْرُ الْفَرَسُ الْأُنْثَى. وَالْحِجْرُ دِيَارُ ثَمُودَ، وَهُوَ الْمُرَادُ هنا، أي المدينة، قال الْأَزْهَرِيُّ. قَتَادَةُ: وَهِيَ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَتَبُوكَ، وَهُوَ الْوَادِي الَّذِي فِيهِ ثَمُودُ. الطَّبَرِيُّ: هِيَ أَرْضٌ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ، وَهُمْ قَوْمُ صَالِحٍ. وَقَالَ:" الْمُرْسَلِينَ" وَهُوَ صَالِحٌ وَحْدَهُ، وَلَكِنْ مَنْ كَذَّبَ نَبِيًّا فَقَدْ كَذَّبَ الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ، لِأَنَّهُمْ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ فِي الْأُصُولِ فَلَا يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمْ. وَقِيلَ: كَذَّبُوا صَالِحًا وَمَنْ تَبِعَهُ وَمَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ أَيْضًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ رَوَى الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ï·؛ لَمَّا نَزَلَ الْحِجْرَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَهُمْ أَلَّا يَشْرَبُوا مِنْ بِئْرِهَا وَلَا يَسْتَقُوا مِنْهَا. فَقَالُوا: قَدْ عُجْنَا وَاسْتَقَيْنَا. فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ï·؛ أَنْ يُهْرِيقُوا الْمَاءَ وَأَنْ يَطْرَحُوا ذَلِكَ الْعَجِينَ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّاسَ نَزَلُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ï·؛ عَلَى الْحِجْرِ أَرْضِ ثَمُودَ، فَاسْتَقَوْا مِنْ آبَارِهَا وَعَجَنُوا بِهِ الْعَجِينَ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ï·؛ أن يُهْرِيقُوا مَا اسْتَقَوْا وَيَعْلِفُوا الْإِبِلَ الْعَجِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنَ الْبِئْرِ الَّتِي تَرِدُهَا النَّاقَةُ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَرَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ï·؛ عَلَى الْحِجْرِ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ï·؛: لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ حَذَرًا أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ ثُمَّ زَجَرَ»
فَأَسْرَعَ. قُلْتُ: فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي بَيَّنَ الشَّارِعُ حُكْمَهَا وَأَوْضَحَ أَمْرَهَا ثَمَانِ مَسَائِلَ، اسْتَنْبَطَهَا الْعُلَمَاءُ وَاخْتَلَفَ فِي بَعْضِهَا الْفُقَهَاءُ، فَأَوَّلُهَا- كَرَاهَةُ دُخُولِ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ، وَعَلَيْهَا حَمَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ دُخُولَ مَقَابِرِ الْكُفَّارِ، فَإِنْ دَخَلَ الْإِنْسَانُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ وَالْمَقَابِرِ فَعَلَى الصِّفَةِ الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ ï·؛ مِنْ الِاعْتِبَارِ وَالْخَوْفِ وَالْإِسْرَاعِ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ï·؛: "لَا تَدْخُلُوا أَرْضَ بَابِلَ فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ". مَسْأَلَةٌ: أَمَرَ النَّبِيُّ بِهَرْقِ مَا اسْتَقَوْا مِنْ بِئْرِ ثَمُودَ وَإِلْقَاءِ مَا عُجِنَ وَخُبِزَ بِهِ لِأَجْلِ أَنَّهُ مَاءُ سُخْطٍ، فَلَمْ يَجُزْ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِرَارًا مِنْ سخط الله. وقال "اعلفوه الإبل".
قُلْتُ: وَهَكَذَا حُكْمُ الْمَاءِ النَّجِسِ وَمَا يُعْجَنُ بِهِ. وَثَانِيهَا: قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ مَا لَا يجوز استعماله من الطعام والشراب يجوز أتعلفه الْإِبِلُ وَالْبَهَائِمُ، إِذْ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ قَالَ، فِي الْعَسَلِ النَّجِسِ: إِنَّهُ يُعْلَفَهُ النَّحْلُ. وَثَالِثُهَا- أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ï·؛ بِعَلْفِ مَا عُجِنَ بِهَذَا الْمَاءِ الْإِبِلَ، ولم يأمر بطرحه كما أمر لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَحْمَ الْحُمُرِ أَشَدُّ. فِي التَّحْرِيمِ وَأَغْلَظُ فِي التَّنْجِيسِ. وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ï·؛ بِكَسْبِ الْحَجَّامِ أَنْ يُعْلَفَ النَّاضِحَ(ظ£) وَالرَّقِيقَ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِتَحْرِيمِ وَلَا تَنْجِيسٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يُطْعِمَهُ رَقِيقَهُ، لِأَنَّهُ مُتَعَبَّدٌ فِيهِ كَمَا تُعُبِّدَ فِي نَفْسِهِ. وَرَابِعُهَا- فِي أَمْرِهِ ï·؛ بِعَلَفِ الْإِبِلِ الْعَجِينَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ حَمْلِ الرَّجُلِ النَّجَاسَةَ إِلَى كِلَابِهِ لِيَأْكُلُوهَا، خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَقَالَ: تُطْلَقُ الْكِلَابُ عَلَيْهَا وَلَا يَحْمِلَهَا إِلَيْهِمْ. وَخَامِسُهَا- أَمْرُهُ ï·؛ أَنْ يَسْتَقُوا مِنْ بِئْرِ النَّاقَةِ دَلِيلٌ عَلَى التَّبَرُّكِ بِآثَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَإِنْ تَقَادَمَتْ أَعْصَارُهُمْ وَخَفِيَتْ آثَارُهُمْ، كَمَا أَنَّ فِي الْأَوَّلِ دَلِيلًا على بعض أَهْلِ الْفَسَادِ وَذَمِّ دِيَارِهِمْ وَآثَارِهِمْ. هَذَا، وَإِنْ كَانَ التَّحْقِيقُ أَنَّ الْجَمَادَاتِ غَيْرُ مُؤَاخَذَاتٍ، لَكِنَّ الْمَقْرُونَ بِالْمَحْبُوبِ مَحْبُوبٌ، وَالْمَقْرُونَ بِالْمَكْرُوهِ الْمَبْغُوضِ مَبْغُوضٌ، كما كُثَيِّرٌ:
أُحِبُّ لِحُبِّهَا السُّودَانَ حَتَّى ... أُحِبُّ لِحُبِّهَا سُودَ الْكِلَابِ
وَكَمَا قَالَ آخَرُ:
أَمُرُّ عَلَى الدِّيَارِ دِيَارِ لَيْلَى ... أُقَبِّلُ ذَا الْجِدَارَ وَذَا الْجِدَارَا
وَمَا تِلْكَ(ظ¤) الدِّيَارُ شَغَفْنَ قَلْبِي ... وَلَكِنْ حُبُّ مَنْ سَكَنَ الدِّيَارَا
وَسَادِسُهَا- مَنَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الصَّلَاةَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ وَقَالَ: لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا لِأَنَّهَا دَارُ سُخْطٍ وَبُقْعَةُ غَضَبٍ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَصَارَتْ هَذِهِ الْبُقْعَةُ مُسْتَثْنَاةً مِنْ قَوْلِهِ ï·؛: "جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا" فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِتُرَابِهَا وَلَا الْوُضُوءُ مِنْ مَائِهَا وَلَا الصَّلَاةُ فِيهَا. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ï·؛ نَهَى أَنْ يُصَلَّى فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ: فِي الْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ وَالْمَقْبَرَةِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَفِي الْحَمَّامِ وَفِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ وَفَوْقَ بَيْتِ اللَّهِ. وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي مَرْثَدٍ وَجَابِرٍ وَأَنَسٍ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ إِسْنَادُهُ لَيْسَ بِذَاكَ الْقَوِيِّ، وَقَدْ تُكَلِّمُ فِي زَيْدِ بْنِ جُبَيْرَةَ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ. وَقَدْ زَادَ عُلَمَاؤُنَا: الدَّارَ الْمَغْصُوبَةَ وَالْكَنِيسَةَ وَالْبِيعَةَ وَالْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ تَمَاثِيلُ، وَالْأَرْضَ الْمَغْصُوبَةَ أَوْ مَوْضِعًا تَسْتَقْبِلُ فِيهِ نَائِمًا أَوْ وَجْهَ رَجُلٍ أَوْ جِدَارًا عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مَا مُنِعَ لِحَقِّ الْغَيْرِ، وَمِنْهُ مَا مُنِعَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْهُ مَا مُنِعَ لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ الْمُحَقَّقَةِ أَوْ لِغَلَبَتِهَا، فَمَا مُنِعَ لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ إِنْ فُرِشَ فِيهِ ثَوْبٌ طَاهِرٌ كَالْحَمَّامِ وَالْمَقْبَرَةِ فِيهَا أَوْ إِلَيْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ. وَذَكَرَ أَبُو مُصْعَبٍ عَنْهُ الْكَرَاهَةَ. وَفَرَّقَ عُلَمَاؤُنَا بَيْنَ الْمَقْبَرَةِ الْقَدِيمَةِ وَالْجَدِيدَةِ لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ، وَبَيْنَ مَقْبَرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهَا دَارُ عَذَابٍ وَبُقْعَةُ سُخْطٍ كَالْحِجْرِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ: لَا يُصَلِّي فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ وَإِنْ فَرَشَ ثَوْبًا، كَأَنَّهُ رَأَى لَهَا عِلَّتَيْنِ: الِاسْتِتَارَ(ظ¥) بِهَا وَنِفَارَهَا فَتُفْسِدُ عَلَى الْمُصَلِّي صَلَاتَهُ، فَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً(ظ¦) فَلَا بَأْسَ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ ï·؛ يَفْعَلُ، فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُصَلَّى عَلَى بِسَاطٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ إِلَّا من ضرورة. وكره ابن الصَّلَاةَ إِلَى الْقِبْلَةِ فِيهَا تَمَاثِيلُ، وَفِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، فَإِنْ فَعَلَ أَجْزَأَهُ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ لَا تُجْزِئُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَذَلِكَ عِنْدِي بِخِلَافِ الْأَرْضِ. فَإِنَّ الدَّارَ لَا تُدْخَلُ إِلَّا بِإِذْنٍ، وَالْأَرْضُ وَإِنْ كَانَتْ مِلْكًا فَإِنَّ الْمَسْجِدِيَّةَ فِيهَا قَائِمَةٌ لَا يُبْطِلُهَا الْمِلْكُ.