طارق شفيق حقي
29/12/2022, 11:42 PM
افتقد رسول الله صلى الله عليه و سلم كعب بن مالك في غزوة تبوك من العام التاسع للهجرة وكان يسمى جيشها جيش العسرة فقال : ما فعل كعب بن مالك ؟
فقال رجل من بني سلمة : يا رسول الله ! حبسه برداه والنظر في عطفيه
فقال له معاذ بن جبل : بئس والله ما قلت ! و الله يا رسول الله ما علمنا منه إلا خيرا !
فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم و أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بتبوك بضع عشرة ليلة يقصر الصلاة و لم يجاوزها ثم انصرف قافلاً إلى المدينة
و كان المسلمون يقولون : لا جهاد بعد اليوم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا ينقطع الجهاد حتى ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام ]
ثم قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة و كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاء المخلفون فيهم كعب بن مالك و مرارة ابن الربيع و هلال بن أمية و غيرهم فجعلوا يعتذرون إليه و يحلفون له و كانوا بضعة و ثمانين رجلا فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقبل منهم على نيتهم و يكل سرائرهم إلى الله حتى جاء كعب بن مالك فسلم عليه فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم تبسم المغضب ثم قال : [ تعال ] ! فجاء كعب بن مالك يمشي حتى جلس بين يديه فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : [ ما خلفك ! ألم تكن ابتعت ظهرك ] ؟ قال : بلى يا رسول الله ! و الله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر و لقد أعطيت جدلا و إن لي لسانا و لكن و الله ! لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثا كاذبا لترضين به عني و ليوشكن الله أن يسخطك علي و لئن حدثتك حديثا صادقا تجد علي فيه و إني لأرجو عقبى الله فيه لا و الله ما كان لي عذر ! و الله ما كنت قط أقوى و أيسر مني حين تخلفت عنك ! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أما هذا فقد صدق قم حتى يقضي الله فيك ] فقام و ثار معه رجال من بني سلمة و اتبعوه و قالوا : ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا و لقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم كما اعتذر إليه المخلفون و قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه و سلم لك و جعلوا ينوبونه حتى أراد أن يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و يكذب نفسه ثم قال لهم : هل لقي هذا أحد غيري ؟ قالوا : نعم رجلان قالا مثل ما قلت و قال لهما مثل ما قال لك قال : و من هما ؟ قالوا مرارة بن الربيع و هلال بن أمية الواقفي
ثم نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن كلام هؤلاء الثلاثة فأما مرارة و هلال فقعدا في بيوتهما و أما كعب بن مالك فكان أشب القوم و أجلدهم وكان يخرج و يشهد الصلاة مع المسلمين و يطوف في الأسواق و لا يكلمه في الأسواق و لا يكلمه أحد و يأتي رسول الله صلى الله عليه و سلم و يسلم عليه و هو في مجلسه بعد الصلاة و يقول في نفسه : هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ! ثم يصلي قريبا منه و يسارقه النظر فإذا أقبل كعب على صلاته نظر إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم و إذا التفت نحوه أعرض عنه حتى طال ذلك عليه من جفوة المسلمين
ثم مر كعب حتى تسور جدار أبي قتادة ـ و هو ابن عمه و أحب الناس إليه ـ فسلم عليه فلم يرد عليه السلام فقال له : يا أبا قتادة ! أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله و رسوله ؟ فسكت فعاد ينشده فسكت فعاد ينشده فقال : و الله و رسوله أعلم ففاضت عينا كعب و وثب فتسور الجدار ثم غدا إلى السوق فبينا هو يمشي و إذا نبطي من نبط الشام يسأل عنه ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة و هو يقول : من يدل على كعب بن مالك ؟ فجعل الناس يشيرون إليه حتى جاء كعبا فدفع إليه كتابا من ملك غسان في سرقة حرير فيه : أما بعد فإنه بلغنا أن صاحبك قد جفاك و لم يجعلك الله بدار هوان و لا مضيعة فالحق بنا نواسك فلما قرأ كعب الكتاب : و هذا من البلاء أيضا قد بلغ بي ما وقعت فيه أن طمع في رجل من أهل الشرك ثم عمد بالكتاب إلى تنور فسجره به ثم أقام على ذلك حتى إذا مضى أربعون ليلة أتاه رسول رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمرك أن تعتزل امرأتك ! فقال كعب : أطلقها أم ماذا ؟ قال : بل اعتزلها و لا تقربها و أرسل إلى مرارة و هلال بمثل ذلك فقال كعب لامرأته : الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما هو قاض و جاءت امرأة هلال بن أمية فقالت : يا رسول الله ! إن هلال بن أمية شيخ كبير ضائع لا خادم له أفتكره أن أخدمه قال : [ لا و لكن لا يقربنك ] ! قالت : و الله يا رسول الله ما به من حركة إلي ! و الله ما زال يبكي منذ كان أمره ما كان إلى يومه هذا و الله لقد تخوفت على بصره فلبثوا بعد ذلك عشر ليال حتى كمل خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم المسلمين عن كلامهم فصلى كعب بن مالك الصبح على ظهر بيت من بيوته على الحال التي ذكر الله منه : ضاقت عليه الأرض و ضاقت عليه نفسه إذا سمع صوت صارخ أوفى على سلع يقول بأعلى صوته : يا كعب بن مالك ! أبشر فخرج كعب الله ساجدا و عرف أنه قد جاء الفرج و أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم بتوبة الله عليهم حين صلى الصبح ثم جاء كعبا الصارخ بالبشرى فنزع ثوبيه فكساهما إياه ببشارته و استعار ثوبين فلبسهما ثم انطلق يؤم رسول الله صلى الله عليه و سلم و تلقاه الناس يتهنأونه بالتوبة و يقولون : ليهنك توبة الله عليك ! حتى دخل المسجد و رسول الله صلى الله عليه و سلم جالس حوله الناس فقام إليه طلحة بن عبيد الله فحياه و هنأه فلما سلم كعب على رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم و وجهه يبرق بالسرور : [ أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ] ! فقال كعب : أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال [ بل من عند الله ] ! ثم جلس بين يديه فقال : يا رسول الله ! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله و رسوله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك ] فقال : إني ممسك سهمي الذي بخيبر ثم قال : يا رسول الله ! إن الله قد نجاني بالصدق فإن توبتي إلى الله أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت فتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم { لقد تاب الله على النبي و المهاجرين و الأنصار } ـ إلى قوله : { إن الله هو التواب الرحيم }
كتاب السيرة لابن حبان
فقال رجل من بني سلمة : يا رسول الله ! حبسه برداه والنظر في عطفيه
فقال له معاذ بن جبل : بئس والله ما قلت ! و الله يا رسول الله ما علمنا منه إلا خيرا !
فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم و أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بتبوك بضع عشرة ليلة يقصر الصلاة و لم يجاوزها ثم انصرف قافلاً إلى المدينة
و كان المسلمون يقولون : لا جهاد بعد اليوم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا ينقطع الجهاد حتى ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام ]
ثم قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة و كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاء المخلفون فيهم كعب بن مالك و مرارة ابن الربيع و هلال بن أمية و غيرهم فجعلوا يعتذرون إليه و يحلفون له و كانوا بضعة و ثمانين رجلا فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقبل منهم على نيتهم و يكل سرائرهم إلى الله حتى جاء كعب بن مالك فسلم عليه فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم تبسم المغضب ثم قال : [ تعال ] ! فجاء كعب بن مالك يمشي حتى جلس بين يديه فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : [ ما خلفك ! ألم تكن ابتعت ظهرك ] ؟ قال : بلى يا رسول الله ! و الله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر و لقد أعطيت جدلا و إن لي لسانا و لكن و الله ! لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثا كاذبا لترضين به عني و ليوشكن الله أن يسخطك علي و لئن حدثتك حديثا صادقا تجد علي فيه و إني لأرجو عقبى الله فيه لا و الله ما كان لي عذر ! و الله ما كنت قط أقوى و أيسر مني حين تخلفت عنك ! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أما هذا فقد صدق قم حتى يقضي الله فيك ] فقام و ثار معه رجال من بني سلمة و اتبعوه و قالوا : ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا و لقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم كما اعتذر إليه المخلفون و قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه و سلم لك و جعلوا ينوبونه حتى أراد أن يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و يكذب نفسه ثم قال لهم : هل لقي هذا أحد غيري ؟ قالوا : نعم رجلان قالا مثل ما قلت و قال لهما مثل ما قال لك قال : و من هما ؟ قالوا مرارة بن الربيع و هلال بن أمية الواقفي
ثم نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن كلام هؤلاء الثلاثة فأما مرارة و هلال فقعدا في بيوتهما و أما كعب بن مالك فكان أشب القوم و أجلدهم وكان يخرج و يشهد الصلاة مع المسلمين و يطوف في الأسواق و لا يكلمه في الأسواق و لا يكلمه أحد و يأتي رسول الله صلى الله عليه و سلم و يسلم عليه و هو في مجلسه بعد الصلاة و يقول في نفسه : هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ! ثم يصلي قريبا منه و يسارقه النظر فإذا أقبل كعب على صلاته نظر إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم و إذا التفت نحوه أعرض عنه حتى طال ذلك عليه من جفوة المسلمين
ثم مر كعب حتى تسور جدار أبي قتادة ـ و هو ابن عمه و أحب الناس إليه ـ فسلم عليه فلم يرد عليه السلام فقال له : يا أبا قتادة ! أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله و رسوله ؟ فسكت فعاد ينشده فسكت فعاد ينشده فقال : و الله و رسوله أعلم ففاضت عينا كعب و وثب فتسور الجدار ثم غدا إلى السوق فبينا هو يمشي و إذا نبطي من نبط الشام يسأل عنه ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة و هو يقول : من يدل على كعب بن مالك ؟ فجعل الناس يشيرون إليه حتى جاء كعبا فدفع إليه كتابا من ملك غسان في سرقة حرير فيه : أما بعد فإنه بلغنا أن صاحبك قد جفاك و لم يجعلك الله بدار هوان و لا مضيعة فالحق بنا نواسك فلما قرأ كعب الكتاب : و هذا من البلاء أيضا قد بلغ بي ما وقعت فيه أن طمع في رجل من أهل الشرك ثم عمد بالكتاب إلى تنور فسجره به ثم أقام على ذلك حتى إذا مضى أربعون ليلة أتاه رسول رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمرك أن تعتزل امرأتك ! فقال كعب : أطلقها أم ماذا ؟ قال : بل اعتزلها و لا تقربها و أرسل إلى مرارة و هلال بمثل ذلك فقال كعب لامرأته : الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما هو قاض و جاءت امرأة هلال بن أمية فقالت : يا رسول الله ! إن هلال بن أمية شيخ كبير ضائع لا خادم له أفتكره أن أخدمه قال : [ لا و لكن لا يقربنك ] ! قالت : و الله يا رسول الله ما به من حركة إلي ! و الله ما زال يبكي منذ كان أمره ما كان إلى يومه هذا و الله لقد تخوفت على بصره فلبثوا بعد ذلك عشر ليال حتى كمل خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم المسلمين عن كلامهم فصلى كعب بن مالك الصبح على ظهر بيت من بيوته على الحال التي ذكر الله منه : ضاقت عليه الأرض و ضاقت عليه نفسه إذا سمع صوت صارخ أوفى على سلع يقول بأعلى صوته : يا كعب بن مالك ! أبشر فخرج كعب الله ساجدا و عرف أنه قد جاء الفرج و أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم بتوبة الله عليهم حين صلى الصبح ثم جاء كعبا الصارخ بالبشرى فنزع ثوبيه فكساهما إياه ببشارته و استعار ثوبين فلبسهما ثم انطلق يؤم رسول الله صلى الله عليه و سلم و تلقاه الناس يتهنأونه بالتوبة و يقولون : ليهنك توبة الله عليك ! حتى دخل المسجد و رسول الله صلى الله عليه و سلم جالس حوله الناس فقام إليه طلحة بن عبيد الله فحياه و هنأه فلما سلم كعب على رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم و وجهه يبرق بالسرور : [ أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ] ! فقال كعب : أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال [ بل من عند الله ] ! ثم جلس بين يديه فقال : يا رسول الله ! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله و رسوله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك ] فقال : إني ممسك سهمي الذي بخيبر ثم قال : يا رسول الله ! إن الله قد نجاني بالصدق فإن توبتي إلى الله أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت فتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم { لقد تاب الله على النبي و المهاجرين و الأنصار } ـ إلى قوله : { إن الله هو التواب الرحيم }
كتاب السيرة لابن حبان