PDA

View Full Version : ابن خلدون.. عروبي أم شعوبي؟ ومن هم العرب الذين حمل عليهم في مقدمته؟!



طارق شفيق حقي
18/06/2020, 11:30 PM
بيروت ـ جهاد فاضل
بصورة من الصور، ولو مع بعض التحفظ، يمكن النظر الى ابن خلدون على انه أول عربي تحدث عن القومية بمعناها المعروف اليوم، فقد تحدث في مقدمته الشهيرة، عما سماه 'بالعصبية'، وضرورة بناء الدول على أساسها. و'العصبية' هذه ليست سوى القومية التي نعرفها الآن، وبصرف النظر عما اذا كانت 'العصبية' كفكرة، من ابتكاره أو من ابتكار الآخرين، (وهذا ما يشير اليه أو يؤكده الدكتور لويس عوض في دراسته عنه، اذ يقول انه متأثر في الكثير مما انتهى اليه، ومنه فكرة العصبية، بالثقافة اللاتينية الأوروبية التي كانت سائدة في الأندلس في زمانه)، فإنه أول عالم عربي يبث هذه الفكرة في المكتبة العربية أو في التراث العربي في زمانه، فقبله لم تعرف الثقافة العربية فكرة بناء الدولة على أساس قومي بحت، وانما كانت الدولة تؤسس على اساس ديني، ولم تكن فكرة الدولة القومية قد عرفت بعد. وابن خلدن قومي عربي من حيث أفقه الجغرافي على الأقل، فأصل الأسرة، بنظر عدد وافر من الباحثين، وبنظره هو قبل سواه، من حضرموت، نزحت الأسرة من حضرموت الى تونس وانتقلت فيما بعد الى الاندلس لتقيم فيها زمنا طويلا نعمت فيه بالجاه والنفوذ لتعود لاحقا وتستقر في تونس. وفي تونس بالذات ولد ابن خلدون، ولكن ليجوب بعد ذلك اقطارا كثيرة في المغرب والمشرق وليتبوأ مناصب ادارية رفيعة، ففي غرناطة عمل وزيرا كما عمل سفيرا لملكها لدى ملك اشبيليا بطرس الرهيب، ونجحت سفارته بدليل انه عند عودته الى غرناطة منحه ملكها محمد الخامس قرية ألفيرا وما يحيط بها من الأراضي المروية، في منطقة فيفا الغنية التابعة لمملكته. وعمل ابن خلدون بعد ذلك وزيرا أول (أو رئيسا للوزراء بلغتنا المعاصرة) في مدينة فاس المغربية، عند حاكمها المريني، لينتقل لاحقا الى بجاية وتلمسان في الجزائر حيث عمل أيضا وزيرا أول لدى حاكم كل منهما، وفي الجزائر يقضي اربع سنوات من حياته، (1375 ـ 1378) ينصرف خلالها الى كتابة كتابه الضخم في التاريخ، ليعود بعد ذلك الى مسقط رأسه تونس منصرفا الى الدرس والتعليم، وفي سنة 1382، وخشية ان يورطه سلطان تونس في بعض العمليات السياسية، حصل على السماح بالتوجه الى القاهرة حيث مارس القضاء والتعليم، كما استمر في كتابة التاريخ، ومن مصر يتوجه لاحقا الى الشام، حيث يقابل تيمور لنك، والى الحجاز بعد ذلك. حياة متنقلة وتأسيسا على هذه الحياة المتنقلة بين أقطار المشرق والمغرب، يمكن النظر الى ابن خلدون على انه هو بالذات، وليس فخري البارودي، واضع النشيد القومي العربي الذي كان سائدا في البلاد العربية في الخمسينات من القرن الماضي ومطلعه 'بلاد العرب أوطاني'. فقد قضى 24 سنة من حياته في تونس، و26 منها في المغرب الأوسط والاقصى والأندلس، و24 سنة منها في مصر والشام والحجاز، ولم يبق خارج مسارح حياته ومجالات نشاطه قطر عربي غير قلب الجزيرة العربية والعراق. ولكن المؤسف ان هذا 'العربي القومي'، على النحو الذي ذكرنا، مطعون في عروبته وقوميته عند بعض الباحثين، والى حد اعتباره شعوبيا، وبرأي هؤلاء الباحثين، فإن ابن خلدون هو الذي اساء الى عروبته عندما كتب ما كتب في كتبه عن العرب، ومما كتب: 'كل بلد احتله العرب، ما عتم ان دمر، الخراب أثناء حكمهم عم كل شيء، فاليكم البلدان التي احتلها العرب منذ أقدم العصور: لقد زالت حضارتها كما زال سكانها، الأرض ذاتها تبدلت طبيعتها.. العرب عاجزون عن انشاء امبراطورية'. تتضمن 'المقدمة' فقرات كثيرة من نوع هذه الفقرة جعلت بعض الباحثين الكبار مثل طه حسين وأحمد أمين ومحمد عبدالله عنان وسامي الكيالي يتهمونه بانه يعبر عن 'وجدان شعوبي وحقد بربري'، وقد اعاد بعض هؤلاء نسبه لا الى الحضارمة (أهل حضرموت) بل الى البرابرة، أو البربر، (وهم السكان الأصليون للشمال الافريقي)، وقد وصل الأمر بأحد الباحثين، وهو سامي شوكت مدير معارف العراق في حينه، الى الدعوة الى نبش قبر ابن خلدون وحرق مؤلفاته. دفاع قوي ولكن باحثين عربا آخرين، على رأسهم أبو خلدون ساطع الحصري، دافعوا عن ابن خلدون دفاعا قويا، اذ اعتبروا ان 'العرب' الذين حمل عليهم حملته الضارية، ليسوا سكان المدن أو الحواضر، وانما هم سكان البادية، أو البدو، فشتان بين الاثنين. وقبل سنوات خطا الدكتور محمد عابد الجابري خطوة أخرى الى الأمام في الدفاع عن ابن خلدون في كتاب صدر له عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، اعتبر فيه ان ابن خلدون انما قصد 'بالعرب' ليس البدو بوجه عام، وانما قصد بدوا معينين على وجه التحديد، هم فرع من عرب بني هلال كانوا يكسبون عيشهم من نيران الفتنة التي كانوا يوقدونها باستمرار. فهؤلاء كانوا العنصر المسؤول عن نكبته ونكبة أميره صاحب بجاية. وهؤلاء هم الذين خصهم بأقسى النعوت، فهم امة وحشية يخربون السقف وينتهبون الاموال، وباختصار 'ان العرب اذا تغلبوا على اوطان اسرع اليها الخراب'. ولكن ابن خلدون لم يعدم من دافع عنه وفند حجج خصومه ضده. فقد قال ساطع الحصري ان كل ما هو معلوم وثابت عن حياة ابن خلدون لا يبرر مطلقا وصف نشأته بالبربرية لأنه نشأ في بيت علم هاجر من الأندلس الى تونس، وحافظ على مكانته العلمية جيلا بعد جيل. ومن المعلوم ان تونس كانت، ولا تزال، بعيدة عن البربرية. ليس كلهم هذا هو رد ساطع الحصري على اتهام محمد عبدالله عنان لابن خلدون بالنشأة البربرية. ويضيف ابو القاسم محمد كرو ان ابن خلدون ولد ونشأ في تونس عاصمة دولة بني حفص، في وسط حضاري كبير، بل في عائلة توارثت الجاه والرفاه قرونا عديدة. فأين يوجد اذن الوسط القبلي او البربري الذي تأثر به ابن خلدون؟ ولئن انتقل بين امراء المغرب ودويلاته، فإن مستقره كان دائما في العواصم والمدن. ولا يعرف احد نزعة ضد العرب كانت فيها، بل انها كانت مستقر العروبة ومنبع الثقافة العربية والمشاعر العربية. ويناقش ساطع الحصري الفقرات التي زعم الزاعمون ان ابن خلدون يهاجم فيها العرب، في حين ان المقصود بها هم الاعراب، او سكان البادية، لا اكثر ولا اقل. يقول الحصري: الفصل الذي يقول فيه ابن خلدون 'ان العرب اذا تغلبوا على اوطان اسرع اليها الخراب'، ان غاية الاحوال العادية كلها عندهم هي الرحلة والتغلب، وذلك مناقض للسكون الذي به العمران ومناف له. فالحجر مثلا حاجتهم اليه لنصبه أثا في للقدر. فينقلونها من المباني، ويخربونها عليه، ويعدونه لذلك. والخشب ايضا، انما حاجتهم اليه ليعمروا به خيامهم ويتخذوا الاوتاد منه لبيوتهم فيخربون السقف عليه. ومن البديهي ان مدار البحث هنا لا يتعدى البدو الذين يعيشون تحت الخيام. فلا مجال للشك في ان ابن خلدون عندما كتب هذه العبارات وقال: 'لا يحتاجون الى الحجر الا لوضع القدور، ولا الى الخشب الا لنصب الخيام'، لم يفكر قط بأهل دمشق او القاهرة، ولا سكان طرابلس او تونس او فاس، بل قصد اعراب البادية وحدهم. فإذا انتقلنا الى الفصل الذي يقول 'ان جيل العرب في الخلقة طبيعي' فإن عنوان الفصل وحده يدعو الى التأمل لتعيين المقصود من كلمة العرب فيه. فإذا قرأنا الفصل المذكور وجدنا اولا بعض التفاصيل عن وسائل المعيشة، وعن تأثير هذه الوسائل في الحياة الاجتماعية. ثم نصل الى العبارات التالية: 'واما من كان معاشهم من الابل فهم اكثر ظعنا وابعد في القفر مجالا. فكانوا لذلك اشد الناس توحشا وينزلون من اهل الحواضر منزلة الوحش غير المقدور عليه، والمفترس من الحيوان العجم. وهؤلاء هم العرب وفي معناهم ظعون البربر وزناتة بالمغرب، والاكراد والتركمان والترك بالمشرق. الا ان العرب ابعد نجعة واشد بداوة لانهم مختصون بالقيام على الابل فقط'. الاعراب وليس العرب يفهم من هذه العبارات، ولا سيما العبارة الاخيرة، بصراحة ما بعدها صراحة، ان ابن خلدون يستعمل كلمة العرب في هذا الفصل ايضا بمعنى أعراب البادية الذين يعيشون خارج المدن، ويرحلون من محل الى محل وفقا لحاجات الابل التي يقوم معاشهم عليها. وهكذا حيث نجد كلمة 'عرب' مقترنة بمثل هذه الآراء، نجد ان المقصود بها انما هم الاعراب سكان البادية، ونلاحظ هنا بصورة خاصة الفصول التي يقول فيها ابن خلدون: 'ان العرب لا يستولون الا على البسائط'، و'ان العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك'، و'ان العرب لا يحصل لهم ملك الا بصفة دينية'.. كل هذه الفصول مدرجة في اقسام الباب الثاني من المقدمة، وهو الباب الذي يبحث في 'العمران البدوي' وفي كل واحد من هذه الفصول قرائن قاطعة كثيرة على استعمال كلمة العرب بمعنى البدو. هذا فضلا عن عنوان الباب نفسه. وهكذا يدل التحقيق على ان كلمة العرب في جميع الفصول التي ظن نفر من الباحثين العرب الكبار ان ابن خلدون يتحامل فيها على العرب، انما كانت تدل على الأعراب، اي سكان البادية، او البدو، ويمكن لاي باحث ان يراجع 'المقدمة' كلها ليتأكد من صحة هذه الحقيقة، وبصورة خاصة في الفصول التي يدور حولها الخلاف والجدل. ففي جميع هذه الفصول وفي كل مكان من 'المقدمة' نجد فيه شدة في الرأي، يكون قصد ابن خلدون دائما هو الأعراب، فهل يجوز لنا بعد ذلك ان نقول انه يتحامل على العرب، او انه نشأ بين البربر فحمل في نفسه 'أحقادهم على العرب وبغضهم اياهم'. ولكن ما هو السبب الذي جعل ابن خلدون يستعمل كلمة العرب بمعنى الاعراب؟ برأي بعض الباحثين ان الفرق بين العرب والاعراب كان غير واضح تمام الوضوح منذ فجر الاسلام، فان كلمة العرب كانت تشمل الاعراب، فهي اذن اعم منها. وهذا الخليفة عمر يقول: 'العرب مادة الاسلام' وهو بلا شك انما يقصد بالدرجة الأولى هؤلاء المحاربين الاقوياء وهم سكان البادية. ولكن بما لا شك فيه ايضا انه قصد معهم سكان الحواضر، غير ان القرآن الكريم كان دقيقا في استعماله وتعبيره عن سكان البادية فهو لا يسميهم الا بالاعراب. وقد اجمع المؤرخون والباحثون المعاصرون من اوروبيين وغيرهم، على ان كلمة 'عرب' كان استعمالها الاول 'البدو' وان هذا المعنى قد رافقها في جميع العصور التاريخية، وان معنى الحضر لم يتصل بها الا في فترة قليلة زمن الرسول والخلافة الاموية، وانها حتى هذه الفترة لم تتجرد من معناها الاصلي، بل كانت تطلق على البدو والحضر في وقت واحد، وبعد هذه الفترة كان استعمالها غالبا بمعنى البدو. وقد استمر هذا الى العصر الحديث، ولم تأخذ حدود معنى الامة، استعمالا دقيقا، الا عندما دخلت معاني هذه الكلمة (الأمة)، ومفاهيم الوطنية والقومية، الى افكار المثقفين العرب المعاصرين. ويرى ابو القاسم محمد كرو ان ابن خلدون لم يستعمل كلمة العرب الا اثناء الحديث عن سكان البادية. اما سكان المدن فكان يسميهم بالحضر، او باهل الامصار، وهو تحديد واضح لمن يدرس 'المقدمة' ويريد استخراج الحقائق منها. الصواب والخطأ تبقى مسألة مدى الصواب والخطأ في آرائه عن الاعراب. فمما لا شك فيه ان اكثر ارائه صادق وقوي. وهذا ما يعترف به حتى اولئك الذين اتهموه بالتحامل، الا ان هؤلاء قد غاب عنهم ان عقلية ابن خلدون عقلية علمية حرة لا تتأثر بعوامل البيئة والعواطف المحلية، فهو يبحث بالملاحظة والمقارنة والاستنباط وفق منهج علمي منظم يدل عليه تبويب مقدمته وعرض الافكار فيها. وهذا ما كان ينتهي به غالبا الى ابتكار نظريات ومفاهيم في فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع. وقد وجد كبار الباحثين والعلماء الغربيين عمل ابن خلدون واعتبروه حدثا فريدا في الذهن العربي والثقافة العربية، لاسيما ان عصر ابن خلدون كان عصر انحطاط شامل وتفكك تام في جميع البلاد العربية. ويبدو ان بعض الباحثين الاوروبيين المعاصرين قد 'استكثروا' ابن خلدون على العرب، فارادوا ان ينزعوه من تراث العرب وضمه الى تراثهم هم.. فقد اعتبر فرانز اوزنتال ان ولاء ابن خلدون الاساسي كان لاسبانيا وحضارتها (يقصد الاندلس) فهي التي كونته وليس صلاته بالعرب وحضارتهم. ويجزم فوتيه ان ابن خلدون اسباني، او كوسموبوليتي مجتث من جذوره، وبانه لم يشعر يوما بانه كان في بلده في أي مكان من الغرب العربي، ومن هنا تنبعث برأيه عزلته التي طبعت قدره، ومعارضته لوسطه العربي وتنافره وعدم تلاؤمه معه. وهكذا يخرج ابن خلدون، استنادا الى آراء بعض الباحثين العرب والاجانب، من عروبته ليدخل حينا في الشعوبية، وحينا اخر في اسبانيا وثقافتها اللاتينية. في حين انه - في واقع الامر- جوهرة ثمينة في ثقافتنا العربية، ومحطة بارزة في تطور الثقافة الانسانية.

عن القبس