طارق شفيق حقي
28/01/2020, 08:55 PM
■ تركيا أردوغان ، وهي تفجر " نبع السلام " أين تقف ؟ - أ . سعود قبيلات
بالوقائع والأرقام..
انسحبت الولايات المتّحدة فجأة مِنْ شمال شرق سوريا عندما أكملت تركيا استعداداتها للحلول محلّها. وكالعادة، وجد الأكراد أنفسهم في العراء وفي حالة من الخذلان التامّ أمام الاجتياح التركيّ.
القوى الغربيّة، وفي مقدّمتها الولايات المتّحدة، فعلت ذلك مراراً وتكراراً معهم. ورغم ذلك، فقد وثقوا بها مراراً وتكراراً!
ويأتي الاجتياح التركيّ بعد مباحثات أميركيّة تركيّة حثيثة أدَّت إلى إبرام تفاهمٍ في هذا المجال. ونذكِّر هنا بأنَّ الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب كان قد سبق له أنْ أعلن نيّته سحب قوّاته مِنْ سوريا، لكنّ المؤسَّسة الحاكمة الأميركيّة (أو ما يُصطلح على تسميته بـ«الدولة العميقة»، وهو تعبير لا أميل إليه) عطَّلتْ تنفيذ هذه النوايا. والآن، بعد التفاهم مع تركيا على إحلال قوَّاتها في شمال سوريا محلّ القوّات الأميركيّة، ربَّما يتسنَّى له أنْ يكون أكثر قوّة في مواجهة معارضة المؤسَّسة الحاكمة في بلاده للانسحاب.
ونقلت «الجزيرة نت» عن شبكة «إن بي سي» الأميركيّة أنَّ مسؤولين عسكريين أميركيين حاليين وسابقين قالوا إنَّ القوّات الأميركية في شمال شرق سوريا تلقت إنذارا مفاجئا بالانسحاب من مواقعها صباح الاثنين، وإنَّ القرار فاجأ أيضاً مسؤولين في وزارة الدفاع (البنتاغون) ووزارة الخارجيّة وحلفاء واشنطن الأوروبيين والإقليميين.
يأتي الاجتياح التركيّ متزامناً مع ذكرى حرب تشرين. هل كان الجانب التركيّ غافلاً عن هذا التوقيت بينما العديد مِنْ وسائل الإعلام العربيّة كرَّس مساحاتٍ مهمّة فيه للحديث عن هذه الذكرى؟!
ويوم الثلاثاء كتب الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب على صفحته في تويتر، منبِّهاً مَنْ قد يكون غفل عن ذلك، فقال: «ينسى كثيرون بسهولة أنَّ تركيا شريك تجاري كبير للولايات المتحدة، في حقيقة الأمر هم (الأتراك) يصنعون الإطار الهيكلي الفولاذي للمقاتلة الأميركية إف-35، كما أنّ التعامل معهم كان جيداً».
وتابع قائلاً: «لنتذكر دائماً - وعلى وجه الأهمية - أنَّ تركيا عضوٌ مهمّ مِنْ أجل المكانة الجيدة لحلف شمال الأطلسيّ».
وبينما هو يتابع أخبار الاستعدادات التركيّة للهجوم على الأكراد في شمال شرق سوريا، ويمهِّد الطريق لذلك، راح يبدي ثقته بأنَّه رغم كلّ هذا سيحتفظ بصداقة الطرفين المتصارعين معاً. فقال: «ربما نكون بصدد مغادرة سوريا، لكننا لم نتخلَ عن الأكراد بأي حال الذين هم أناس مميزون ومقاتلون رائعون، وكذلك فإن علاقتنا مع تركيا - التي هي شريك في التجارة وفي الناتو - طيبة جداً».
وبحسب أقوال وكالة أنباء الأناضول التركيّة، فإنَّ العمليَّة العسكريّة التي أطلقتها تركيا أمس بمسمَّى «نبع السلام»، تسعى «إلى منع عناصر التنظيم الإرهابيّ (المقصود تنظيم قسد الكرديّ) من الوصول إلى الأراضي التركية وعرقلة فعالياته المسلحة قرب حدود البلاد».
وتهدف العمليّة كذلك – بحسب الأناضول أيضاً – إلى «إنشاء منطقة آمنة لملايين السوريين الذين اضطروا لترك ديارهم بسبب الحرب المستمرة في بلادهم منذ نحو 9 أعوام.»
تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ حكومة حزب العدالة والتنمية التركيَّة كانت قد عيَّنت في شباط/فبراير من العام 2014 حاكماً إداريّاً تركيّاً مربوطاً برئيسها، سمَّته «والي السوريين»، وكلَّفته بالإشراف على السوريين، ليس فقط الموجودين منهم في تركيا، بل أيضاً على «السوريين الموجودين في المناطق (السوريَّة) غير الخاضعة لسيطرة النظام». (المقصود، بالطبع، النظام السوريّ).
على أيَّة حال، الدور الذي يضطلع به أردوغان الآن ليس طارئاً، بل له جذور قديمة تعود إلى حبيب الإسلاميين (الأتراك والعرب)، رئيس وزراء تركيا الأسبق عدنان مندريس، الذي حكم تركيا خلال الفترة ما بين 22 أيَّار/مايو 1950 و27 أيَّار/مايو 1960؛ فمندريس هو مَنْ ألحق تركيا بحلف الأطلسيّ وليس الأتاتوركيين. وكان ذلك في 18 شباط/فبراير من العام 1952.
وقبل ذلك (في شهر تشرين الأوّل/أكتوبر 1950)، كان مندريس قد بادر إلى المشاركة في الحرب الأميركيَّة على كوريا الديمقراطيّة (الشماليّة)؛ حيث أرسل إلى هناك ما مجموعه 15 ألف جندي وضابط، قُتِلَ منهم ألف وخمسة.. بحسب ما صرَّح به سفير كوريا الجنوبيّة لدى أنقرة بونسو جو لوكالة الأناضول التركيّة في تاريخ 9 آذار/مارس 2017. وقد جاء ذلك ضمن تقرير للوكالة احتفت بوساطته بالذكرى السابعة والستّين للمشاركة التركيّة في الحرب الكوريّة.
كانت المشاركة في الحرب على كوريا عربوناً قدَّمه مندريس بطيب خاطر لكسب ثقة الولايات المتّحدة مِنْ أجل قبول حكومته في حلف الأطلسيّ. قال التاي أتلي، خبير آسيا في مركز السياسات في جامعة سابانجي في إسطنبول: «لم يكن الأميركيون (قبل ذلك) متأكدين حقاً من قيمة تركيا، لذلك كان على تركيا أن تثبت قيمتها للدفاع الجماعي عن التحالف الأطلسي».
وبالفعل، «أثبتت تركيا قيمتها» بتنفيذها لتلك المهمّة، بل إنَّها نجحت في امتحان الكفاءة الأميركيّ الأطلسيّ هذا نجاحاً باهراً. وذلك بأدائها المتفاني في تلك الحرب الإمبرياليّة العدوانيّة؛ حيث نال جنودها تقدير الجنرال والتون والكر، قائد الجيش الثامن الأميركيّ؛ وأنعم قائد قوّات الولايات المتّحدة وحلفائها، الجنرال دوغلاس ماك آرثر بلقب «اللواء التركيّ بطل الأبطال» على أوَّل لواء تركيّ وصل إلى كوريا. بل وأيضاً نالت القوّات التركيّة في كوريا تقدير الرئيس الأميركيّ هاري ترومان الذي عبّر عن ذلك بمنح الجنود الأتراك وسامPresidential Unit Citation ، الذي يُمنح عادةً لوحدات الجيش الأميركيّ ولجيوش الدول المتحالفة مع الولايات المتّحدة. وأهمّ مِنْ ذلك كلّه، تمكّنت حكومة مندريس مِنْ «نيل» عضويّة حلف الأطلسيّ في العام التالي، وكانت المشاركة في الحرب على كوريا عاملاً حاسماً في ذلك.
في مؤتمر صحفيّ مشترك لوزير الخارجيّة التركيّ مولود جاويش أوغلو والأمين العامّ لحلف الأطلسيّ ينس ستولتنبرج عُقِدَ في أنقره يوم الاثنين 16 نيسان/أبريل 2018، قال ستولتنبرج: «تركيا تعتبر شريكاً أساسياً وهاماً بالنسبة للناتو، ونتواجد براً وبحراً وجواً في تركيا، ولدينا أنظمة دفاعات جوية قرب الحدود مع سوريا، كما أن طائرات المراقبة التابعة للحلف تجري طلعات في الأجواء التركية».
وأبعد مِنْ ذلك، كان ريتشارد ويتز، مدير مركز التحليل السياسيّ - العسكريّ في معهد هادسون، قد قال في مقالٍ له نشرَتْه جريدة «الجريدة»الكويتيّة مترجماً في تاريخ 31 تمّوز/يوليو 2012، إنَّ «تركيا اليوم تتعاون مع الولايات المتحدة لترويج الديمقراطية في الشرق الأوسط».
نعم، هذا واضح، وهو ما رأينا ملامحه (ونتائجه) خلال السنوات الماضية في سوريا ودول عربيّة أخرى!
ونعود إلى مندريس بوصفه الجذر والقدوة لأردوغان وحزبه..
لقد اتَّخذ مندريس سياسات إسلامويَّة مناهضة للعلمانيَّة، في الداخل، وأخرى موالية للغرب، في الخارج.
وقد خاضت تركيا في عهده، بالنيابة عن الغرب، حرباً شعواء ضدّ المدّ اليساريّ (والقوميّ) العربيّ في خمسينيّات القرن الماضي، وخصوصاً ضدّ الرئيس جمال عبد الناصر، كما أنَّها حشدتْ قوّاتها على حدود سورية وهدَّدت بالعدوان عليها.. بخلاف موقفها من إسرائيل الذي سنبيّن صورته لاحقاً.
وفي ما يتعلَّق بالسياسة الاقتصاديّة، ألغى مندريس النهج الدولتيّ (المنحاز للقطاع العامّ) الذي كان يتبنّاه أتاتورك وتيّاره، واِتَّبع نهجاً ليبراليّاً منحازاً للقطاع الخاصّ ولأثرياء «البزنس» ولكبار المُلّاك العقاريين على حساب العمّال وفقراء الفلّاحين. الأمر الذي ألحق بالاقتصاد التركيّ أفدح الأضرار، حيث خلت الخزينة من النقد الأجنبيّ، وارتفعت الأسعار بشكلٍ كبيرٍ جدّاً، وتراكمت الديون على الدولة إلى حدّ أنَّها عجزتْ عن سدادها.
وكما هو معروف، فإنَّ الآثار القاسية التي تتركها السياسات الاقتصاديّة الليبراليّة على حياة الناس تؤدّي بالضرورة إلى لجوء السلطات إلى التضييق على حُرّياتهم. وهذا ما جرى فعلاً مِنْ عدنان مندريس، وقاد في النهاية إلى سقوطه بشكلٍ مدوٍّ على يد العسكر.
وفي العام 1954، وقَّعتْ تركيا مندريس مع الولايات المتَّحدة الأميركيّة اتفاقيّةً تتيح للقوّات الجويَّة الأميركيَّة استخدام قاعدة أنجرليك التركيّة، ولا تزال هذه القاعدة قاعدةً أميركيّة حتَّى الآن. ومِنْ المهامّ الأساسيَّة غير الخافية لها، حماية إسرائيل.
وفي العام 1955، كانت تركيا مندريس الركن الأساسيّ في مؤامرة «حلف بغداد» الإمبرياليّ، سيّئ الصيت، الذي رعته الإمبرياليّة الأميركيَّة، والذي تصدَّت له الشعوب العربيَّة ومِنْ ضمنها (بل وفي طليعتها) – آنذاك –الشعب الأردنيّ.. إلى أنْ أسقطته.
ومنذ العام 1956، بدأ سلاح الجوّ الأميركيّ يستخدم قاعدة ديار بكر الجويّة التركيّة التي تُعرف باسم «القاعدة الجوية الثامنة». وقد ظلَّ الأميركيّون يستخدمونها حتَّى العام 1997، حيث قرَّروا مغادرتها في إطار خطَّة خاصَّة بهم لخفض عدد قواعدهم العسكريّة.
وفي العام 1958، وقَّع عدنان مندريس مع ديفيد بن غوريون، رئيس الوزراء الأسبق للكيان الصهيونيّ، اتفاقية تعاون ضدّ ما أسمياه «التطرف ونفوذ الاتحاد السوفييتيّ في الشرق الأوسط». والمقصود، طبعاً، مصر الناصريَّة وسورية والعراق. ومنذ ذاك، ارتبطت تركيا وإسرائيل بعلاقات اقتصادية وعسكريّة تحالفيّة وثيقة لا تنفصم.
وقبل حوالي سنتين، جرى الحديث عن تسوية العلاقات التركيّة مع«إسرائيل»، كما لو كانت حدثاً استثنائيّاً. وفي الواقع، فإنَّ كلّ مَنْ «يفكّ الخطّ» في السياسة ويتابع شؤونها، يعرف أنَّ التنسيق العسكريّ بين تركيا وبين «إسرائيل» لم يتوقَّف، مطلقاً، وأنَّ العلاقات بينهما لم تنقطع. فهذا مستحيل أصلاً ما دامت تركيا عضواُ في حلف الأطلسيّ، وما دامت«إسرائيل» - كما هو معروف – هي الابنة المدلَّلة لذلك الحلف.
نعم، يحدث بين الحلفاء، أحياناً، بعض الإشكالات وبعض أنماط سوء التفاهم.. ولكن الحليف يبقى حليفاً والعدوّ يبقى عدوّاً مهما جرى حولهما من التحوّلات والتغيّرات.
ولم تختلّ علاقة أردوغان وحزبه بحلف الأطلسي حتَّى عندما تمّ تعيين رئيس وزراء الدنمارك السابق اندرس فوغ راسموسن أميناً عامّاً للحلف وهو المعروف بموقفه السلبيّ في قضيَّة الرسوم المسيئة للرسول الكريم.
وفي تقرير لموقع «ترك برس» عن العلاقات التركيّة الإسرائيّليّة، نُشِرَ في تاريخ 17 شباط/فبراير 2017، جاء إنَّ تطور العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الطرفين قد زاد منذ سنة 2010 (التي وقع فيها حادث سفينة مرمرة) وحتى سنة 2014 بنسبة 69.5% (من 3 مليارات دولار و440 مليون سنة 2010 إلى 5 مليارات دولار و832 مليون سنة 2014).
وتقول جريدة «زمان» التركيّة (15 أيّار/مايو 2018) إنَّ بيانات وزارة الاقتصاد التركيّة توضّح «أنه في عام 2002 الذي تولى فيه حزب العدالة والتنمية حكم تركيا كان حجم التبادل التجاري بين تركيا واسرائيل يبلغ 1.4 مليار دولار واعتباراً من عام 2014 ارتفع حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 5.8 مليار دولار بزيادة بلغت 4 أضعاف ما كانت عليه».
وتنسب الجريدة نفسها لوزير الطاقة النووية والمخابرات الإسرائيليّ يسرائيل كاتز قوله لصحيفة إيلاف السعوديّة في وقت سابق «إنَّ تصريحات أردوغان المعادية لا تؤثر على العلاقات بين البلدين» و«إنَّ 25 في المئة من صادرات تركيا إلى دول الخليج تمر عبر ميناء حيفا الإسرائيلي».
وفي السياق نفسه، تستعيد «زمان» التركيّة تصريحاً لأردوغان قبل عامين مِنْ تاريخه قال فيه: «إسرائيل بحاجة إلى بلد مثل تركيا في المنطقة. وعلينا أيضاً القبول بحقيقة أننا نحن أيضاً بحاجة لإسرائيل. إنها حقيقة واقعة في المنطقة».
زعيم حزب الشعب الجمهوريّ التركيّ المعارض كمال كليجدار أوغلو، اتّهم أردوغان باستغلال القضية الفلسطينية، وطالبه متحدّياً بـ«افتتاح سفارة لتركيا في القدس الشرقية إن كان يتحلى بالشجاعة الكافية».
إنَّ ما طلبه كليجدار أوغلو مِنْ أردوغان هو «أضعف الإيمان»؛ فهو لم يطالبه، مثلا، بتزويد «حماس» بالسلاح اللازم كما تفعل إيران وحزب الله وكما كانت تفعل سوريا قبل الحرب عليها.
في شهر أيّار/مايو 2017 وصل وفد اقتصادي تركي ضخم، هو الأرفع والأكبر منذ عشر سنوات، إلى إسرائيل وضمَّ أكثر من 120 من رجال الأعمال، بينهم مصدّرون ومديرون لشركات تركيّة كبرى في مجالات الطاقة والبناء والطيران والغذاء والزراعة.
ترأس الوفد هذا إلى فلسطين المحتلّة الاقتصاديّ التركيّ محمد بيوكيكس، الذي يشرف على إدارة شؤون مجلس المصدّرين في بلاده.
وأشار بيوكيكس في حديث أدلى به لصحيفة «جيروزاليم بوست»الإسرائيليّة إلى أن الوقت قد حان «لتغيير نظرة الإسرائيليين تجاه الأتراك، وكذلك الأتراك تجاه الإسرائيليين».
كما أنَّه أعرب عن ثقته بأن التجارة بين البلدين يمكن أن تنمو إلى أنْ تبلغ أكثر من 10 مليارات دولار خلال السنوات الخمس المقبلة.
وأوضح أن تعزيز العلاقات بين رجال الأعمال الإسرائيليين والأتراك، لا يؤثر إيجابا في السوق التجارية فقط، بل أيضاً في العلاقات السياسية، وعلى نحو متزايد.
ونُشِرَتْ في حينه بياناتٌ اقتصاديّةٌ تشير إلى أنَّ الصادرات التركيّة إلى إسرائيل ارتفعت في الربع الأول مِنْ ذلك العام (2017) بنسبة 20 في المئة، بينما ارتفعت الصادرات الإسرائيليّة إلى تركيا بنسبة 45 في المئة.
دوَّن كاتب هذا المقال، على صفحته في الفيسبوك، في تاريخ 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2016، تعليقاً مختصراً قال فيه إنَّ «تركيا أردوغان تتمدَّد، برعونةٍ غريبة، بين فكّيْ فَخٍّ كبير لن يلبث أنْ يُطبِقَ عليها. وإنَّ غداً لناظره قريب».
نعم، إنَّ غداً لناظره قريب!
* كتب ونشر هذا المقال منذ عدة أشهر
بالوقائع والأرقام..
انسحبت الولايات المتّحدة فجأة مِنْ شمال شرق سوريا عندما أكملت تركيا استعداداتها للحلول محلّها. وكالعادة، وجد الأكراد أنفسهم في العراء وفي حالة من الخذلان التامّ أمام الاجتياح التركيّ.
القوى الغربيّة، وفي مقدّمتها الولايات المتّحدة، فعلت ذلك مراراً وتكراراً معهم. ورغم ذلك، فقد وثقوا بها مراراً وتكراراً!
ويأتي الاجتياح التركيّ بعد مباحثات أميركيّة تركيّة حثيثة أدَّت إلى إبرام تفاهمٍ في هذا المجال. ونذكِّر هنا بأنَّ الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب كان قد سبق له أنْ أعلن نيّته سحب قوّاته مِنْ سوريا، لكنّ المؤسَّسة الحاكمة الأميركيّة (أو ما يُصطلح على تسميته بـ«الدولة العميقة»، وهو تعبير لا أميل إليه) عطَّلتْ تنفيذ هذه النوايا. والآن، بعد التفاهم مع تركيا على إحلال قوَّاتها في شمال سوريا محلّ القوّات الأميركيّة، ربَّما يتسنَّى له أنْ يكون أكثر قوّة في مواجهة معارضة المؤسَّسة الحاكمة في بلاده للانسحاب.
ونقلت «الجزيرة نت» عن شبكة «إن بي سي» الأميركيّة أنَّ مسؤولين عسكريين أميركيين حاليين وسابقين قالوا إنَّ القوّات الأميركية في شمال شرق سوريا تلقت إنذارا مفاجئا بالانسحاب من مواقعها صباح الاثنين، وإنَّ القرار فاجأ أيضاً مسؤولين في وزارة الدفاع (البنتاغون) ووزارة الخارجيّة وحلفاء واشنطن الأوروبيين والإقليميين.
يأتي الاجتياح التركيّ متزامناً مع ذكرى حرب تشرين. هل كان الجانب التركيّ غافلاً عن هذا التوقيت بينما العديد مِنْ وسائل الإعلام العربيّة كرَّس مساحاتٍ مهمّة فيه للحديث عن هذه الذكرى؟!
ويوم الثلاثاء كتب الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب على صفحته في تويتر، منبِّهاً مَنْ قد يكون غفل عن ذلك، فقال: «ينسى كثيرون بسهولة أنَّ تركيا شريك تجاري كبير للولايات المتحدة، في حقيقة الأمر هم (الأتراك) يصنعون الإطار الهيكلي الفولاذي للمقاتلة الأميركية إف-35، كما أنّ التعامل معهم كان جيداً».
وتابع قائلاً: «لنتذكر دائماً - وعلى وجه الأهمية - أنَّ تركيا عضوٌ مهمّ مِنْ أجل المكانة الجيدة لحلف شمال الأطلسيّ».
وبينما هو يتابع أخبار الاستعدادات التركيّة للهجوم على الأكراد في شمال شرق سوريا، ويمهِّد الطريق لذلك، راح يبدي ثقته بأنَّه رغم كلّ هذا سيحتفظ بصداقة الطرفين المتصارعين معاً. فقال: «ربما نكون بصدد مغادرة سوريا، لكننا لم نتخلَ عن الأكراد بأي حال الذين هم أناس مميزون ومقاتلون رائعون، وكذلك فإن علاقتنا مع تركيا - التي هي شريك في التجارة وفي الناتو - طيبة جداً».
وبحسب أقوال وكالة أنباء الأناضول التركيّة، فإنَّ العمليَّة العسكريّة التي أطلقتها تركيا أمس بمسمَّى «نبع السلام»، تسعى «إلى منع عناصر التنظيم الإرهابيّ (المقصود تنظيم قسد الكرديّ) من الوصول إلى الأراضي التركية وعرقلة فعالياته المسلحة قرب حدود البلاد».
وتهدف العمليّة كذلك – بحسب الأناضول أيضاً – إلى «إنشاء منطقة آمنة لملايين السوريين الذين اضطروا لترك ديارهم بسبب الحرب المستمرة في بلادهم منذ نحو 9 أعوام.»
تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ حكومة حزب العدالة والتنمية التركيَّة كانت قد عيَّنت في شباط/فبراير من العام 2014 حاكماً إداريّاً تركيّاً مربوطاً برئيسها، سمَّته «والي السوريين»، وكلَّفته بالإشراف على السوريين، ليس فقط الموجودين منهم في تركيا، بل أيضاً على «السوريين الموجودين في المناطق (السوريَّة) غير الخاضعة لسيطرة النظام». (المقصود، بالطبع، النظام السوريّ).
على أيَّة حال، الدور الذي يضطلع به أردوغان الآن ليس طارئاً، بل له جذور قديمة تعود إلى حبيب الإسلاميين (الأتراك والعرب)، رئيس وزراء تركيا الأسبق عدنان مندريس، الذي حكم تركيا خلال الفترة ما بين 22 أيَّار/مايو 1950 و27 أيَّار/مايو 1960؛ فمندريس هو مَنْ ألحق تركيا بحلف الأطلسيّ وليس الأتاتوركيين. وكان ذلك في 18 شباط/فبراير من العام 1952.
وقبل ذلك (في شهر تشرين الأوّل/أكتوبر 1950)، كان مندريس قد بادر إلى المشاركة في الحرب الأميركيَّة على كوريا الديمقراطيّة (الشماليّة)؛ حيث أرسل إلى هناك ما مجموعه 15 ألف جندي وضابط، قُتِلَ منهم ألف وخمسة.. بحسب ما صرَّح به سفير كوريا الجنوبيّة لدى أنقرة بونسو جو لوكالة الأناضول التركيّة في تاريخ 9 آذار/مارس 2017. وقد جاء ذلك ضمن تقرير للوكالة احتفت بوساطته بالذكرى السابعة والستّين للمشاركة التركيّة في الحرب الكوريّة.
كانت المشاركة في الحرب على كوريا عربوناً قدَّمه مندريس بطيب خاطر لكسب ثقة الولايات المتّحدة مِنْ أجل قبول حكومته في حلف الأطلسيّ. قال التاي أتلي، خبير آسيا في مركز السياسات في جامعة سابانجي في إسطنبول: «لم يكن الأميركيون (قبل ذلك) متأكدين حقاً من قيمة تركيا، لذلك كان على تركيا أن تثبت قيمتها للدفاع الجماعي عن التحالف الأطلسي».
وبالفعل، «أثبتت تركيا قيمتها» بتنفيذها لتلك المهمّة، بل إنَّها نجحت في امتحان الكفاءة الأميركيّ الأطلسيّ هذا نجاحاً باهراً. وذلك بأدائها المتفاني في تلك الحرب الإمبرياليّة العدوانيّة؛ حيث نال جنودها تقدير الجنرال والتون والكر، قائد الجيش الثامن الأميركيّ؛ وأنعم قائد قوّات الولايات المتّحدة وحلفائها، الجنرال دوغلاس ماك آرثر بلقب «اللواء التركيّ بطل الأبطال» على أوَّل لواء تركيّ وصل إلى كوريا. بل وأيضاً نالت القوّات التركيّة في كوريا تقدير الرئيس الأميركيّ هاري ترومان الذي عبّر عن ذلك بمنح الجنود الأتراك وسامPresidential Unit Citation ، الذي يُمنح عادةً لوحدات الجيش الأميركيّ ولجيوش الدول المتحالفة مع الولايات المتّحدة. وأهمّ مِنْ ذلك كلّه، تمكّنت حكومة مندريس مِنْ «نيل» عضويّة حلف الأطلسيّ في العام التالي، وكانت المشاركة في الحرب على كوريا عاملاً حاسماً في ذلك.
في مؤتمر صحفيّ مشترك لوزير الخارجيّة التركيّ مولود جاويش أوغلو والأمين العامّ لحلف الأطلسيّ ينس ستولتنبرج عُقِدَ في أنقره يوم الاثنين 16 نيسان/أبريل 2018، قال ستولتنبرج: «تركيا تعتبر شريكاً أساسياً وهاماً بالنسبة للناتو، ونتواجد براً وبحراً وجواً في تركيا، ولدينا أنظمة دفاعات جوية قرب الحدود مع سوريا، كما أن طائرات المراقبة التابعة للحلف تجري طلعات في الأجواء التركية».
وأبعد مِنْ ذلك، كان ريتشارد ويتز، مدير مركز التحليل السياسيّ - العسكريّ في معهد هادسون، قد قال في مقالٍ له نشرَتْه جريدة «الجريدة»الكويتيّة مترجماً في تاريخ 31 تمّوز/يوليو 2012، إنَّ «تركيا اليوم تتعاون مع الولايات المتحدة لترويج الديمقراطية في الشرق الأوسط».
نعم، هذا واضح، وهو ما رأينا ملامحه (ونتائجه) خلال السنوات الماضية في سوريا ودول عربيّة أخرى!
ونعود إلى مندريس بوصفه الجذر والقدوة لأردوغان وحزبه..
لقد اتَّخذ مندريس سياسات إسلامويَّة مناهضة للعلمانيَّة، في الداخل، وأخرى موالية للغرب، في الخارج.
وقد خاضت تركيا في عهده، بالنيابة عن الغرب، حرباً شعواء ضدّ المدّ اليساريّ (والقوميّ) العربيّ في خمسينيّات القرن الماضي، وخصوصاً ضدّ الرئيس جمال عبد الناصر، كما أنَّها حشدتْ قوّاتها على حدود سورية وهدَّدت بالعدوان عليها.. بخلاف موقفها من إسرائيل الذي سنبيّن صورته لاحقاً.
وفي ما يتعلَّق بالسياسة الاقتصاديّة، ألغى مندريس النهج الدولتيّ (المنحاز للقطاع العامّ) الذي كان يتبنّاه أتاتورك وتيّاره، واِتَّبع نهجاً ليبراليّاً منحازاً للقطاع الخاصّ ولأثرياء «البزنس» ولكبار المُلّاك العقاريين على حساب العمّال وفقراء الفلّاحين. الأمر الذي ألحق بالاقتصاد التركيّ أفدح الأضرار، حيث خلت الخزينة من النقد الأجنبيّ، وارتفعت الأسعار بشكلٍ كبيرٍ جدّاً، وتراكمت الديون على الدولة إلى حدّ أنَّها عجزتْ عن سدادها.
وكما هو معروف، فإنَّ الآثار القاسية التي تتركها السياسات الاقتصاديّة الليبراليّة على حياة الناس تؤدّي بالضرورة إلى لجوء السلطات إلى التضييق على حُرّياتهم. وهذا ما جرى فعلاً مِنْ عدنان مندريس، وقاد في النهاية إلى سقوطه بشكلٍ مدوٍّ على يد العسكر.
وفي العام 1954، وقَّعتْ تركيا مندريس مع الولايات المتَّحدة الأميركيّة اتفاقيّةً تتيح للقوّات الجويَّة الأميركيَّة استخدام قاعدة أنجرليك التركيّة، ولا تزال هذه القاعدة قاعدةً أميركيّة حتَّى الآن. ومِنْ المهامّ الأساسيَّة غير الخافية لها، حماية إسرائيل.
وفي العام 1955، كانت تركيا مندريس الركن الأساسيّ في مؤامرة «حلف بغداد» الإمبرياليّ، سيّئ الصيت، الذي رعته الإمبرياليّة الأميركيَّة، والذي تصدَّت له الشعوب العربيَّة ومِنْ ضمنها (بل وفي طليعتها) – آنذاك –الشعب الأردنيّ.. إلى أنْ أسقطته.
ومنذ العام 1956، بدأ سلاح الجوّ الأميركيّ يستخدم قاعدة ديار بكر الجويّة التركيّة التي تُعرف باسم «القاعدة الجوية الثامنة». وقد ظلَّ الأميركيّون يستخدمونها حتَّى العام 1997، حيث قرَّروا مغادرتها في إطار خطَّة خاصَّة بهم لخفض عدد قواعدهم العسكريّة.
وفي العام 1958، وقَّع عدنان مندريس مع ديفيد بن غوريون، رئيس الوزراء الأسبق للكيان الصهيونيّ، اتفاقية تعاون ضدّ ما أسمياه «التطرف ونفوذ الاتحاد السوفييتيّ في الشرق الأوسط». والمقصود، طبعاً، مصر الناصريَّة وسورية والعراق. ومنذ ذاك، ارتبطت تركيا وإسرائيل بعلاقات اقتصادية وعسكريّة تحالفيّة وثيقة لا تنفصم.
وقبل حوالي سنتين، جرى الحديث عن تسوية العلاقات التركيّة مع«إسرائيل»، كما لو كانت حدثاً استثنائيّاً. وفي الواقع، فإنَّ كلّ مَنْ «يفكّ الخطّ» في السياسة ويتابع شؤونها، يعرف أنَّ التنسيق العسكريّ بين تركيا وبين «إسرائيل» لم يتوقَّف، مطلقاً، وأنَّ العلاقات بينهما لم تنقطع. فهذا مستحيل أصلاً ما دامت تركيا عضواُ في حلف الأطلسيّ، وما دامت«إسرائيل» - كما هو معروف – هي الابنة المدلَّلة لذلك الحلف.
نعم، يحدث بين الحلفاء، أحياناً، بعض الإشكالات وبعض أنماط سوء التفاهم.. ولكن الحليف يبقى حليفاً والعدوّ يبقى عدوّاً مهما جرى حولهما من التحوّلات والتغيّرات.
ولم تختلّ علاقة أردوغان وحزبه بحلف الأطلسي حتَّى عندما تمّ تعيين رئيس وزراء الدنمارك السابق اندرس فوغ راسموسن أميناً عامّاً للحلف وهو المعروف بموقفه السلبيّ في قضيَّة الرسوم المسيئة للرسول الكريم.
وفي تقرير لموقع «ترك برس» عن العلاقات التركيّة الإسرائيّليّة، نُشِرَ في تاريخ 17 شباط/فبراير 2017، جاء إنَّ تطور العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الطرفين قد زاد منذ سنة 2010 (التي وقع فيها حادث سفينة مرمرة) وحتى سنة 2014 بنسبة 69.5% (من 3 مليارات دولار و440 مليون سنة 2010 إلى 5 مليارات دولار و832 مليون سنة 2014).
وتقول جريدة «زمان» التركيّة (15 أيّار/مايو 2018) إنَّ بيانات وزارة الاقتصاد التركيّة توضّح «أنه في عام 2002 الذي تولى فيه حزب العدالة والتنمية حكم تركيا كان حجم التبادل التجاري بين تركيا واسرائيل يبلغ 1.4 مليار دولار واعتباراً من عام 2014 ارتفع حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 5.8 مليار دولار بزيادة بلغت 4 أضعاف ما كانت عليه».
وتنسب الجريدة نفسها لوزير الطاقة النووية والمخابرات الإسرائيليّ يسرائيل كاتز قوله لصحيفة إيلاف السعوديّة في وقت سابق «إنَّ تصريحات أردوغان المعادية لا تؤثر على العلاقات بين البلدين» و«إنَّ 25 في المئة من صادرات تركيا إلى دول الخليج تمر عبر ميناء حيفا الإسرائيلي».
وفي السياق نفسه، تستعيد «زمان» التركيّة تصريحاً لأردوغان قبل عامين مِنْ تاريخه قال فيه: «إسرائيل بحاجة إلى بلد مثل تركيا في المنطقة. وعلينا أيضاً القبول بحقيقة أننا نحن أيضاً بحاجة لإسرائيل. إنها حقيقة واقعة في المنطقة».
زعيم حزب الشعب الجمهوريّ التركيّ المعارض كمال كليجدار أوغلو، اتّهم أردوغان باستغلال القضية الفلسطينية، وطالبه متحدّياً بـ«افتتاح سفارة لتركيا في القدس الشرقية إن كان يتحلى بالشجاعة الكافية».
إنَّ ما طلبه كليجدار أوغلو مِنْ أردوغان هو «أضعف الإيمان»؛ فهو لم يطالبه، مثلا، بتزويد «حماس» بالسلاح اللازم كما تفعل إيران وحزب الله وكما كانت تفعل سوريا قبل الحرب عليها.
في شهر أيّار/مايو 2017 وصل وفد اقتصادي تركي ضخم، هو الأرفع والأكبر منذ عشر سنوات، إلى إسرائيل وضمَّ أكثر من 120 من رجال الأعمال، بينهم مصدّرون ومديرون لشركات تركيّة كبرى في مجالات الطاقة والبناء والطيران والغذاء والزراعة.
ترأس الوفد هذا إلى فلسطين المحتلّة الاقتصاديّ التركيّ محمد بيوكيكس، الذي يشرف على إدارة شؤون مجلس المصدّرين في بلاده.
وأشار بيوكيكس في حديث أدلى به لصحيفة «جيروزاليم بوست»الإسرائيليّة إلى أن الوقت قد حان «لتغيير نظرة الإسرائيليين تجاه الأتراك، وكذلك الأتراك تجاه الإسرائيليين».
كما أنَّه أعرب عن ثقته بأن التجارة بين البلدين يمكن أن تنمو إلى أنْ تبلغ أكثر من 10 مليارات دولار خلال السنوات الخمس المقبلة.
وأوضح أن تعزيز العلاقات بين رجال الأعمال الإسرائيليين والأتراك، لا يؤثر إيجابا في السوق التجارية فقط، بل أيضاً في العلاقات السياسية، وعلى نحو متزايد.
ونُشِرَتْ في حينه بياناتٌ اقتصاديّةٌ تشير إلى أنَّ الصادرات التركيّة إلى إسرائيل ارتفعت في الربع الأول مِنْ ذلك العام (2017) بنسبة 20 في المئة، بينما ارتفعت الصادرات الإسرائيليّة إلى تركيا بنسبة 45 في المئة.
دوَّن كاتب هذا المقال، على صفحته في الفيسبوك، في تاريخ 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2016، تعليقاً مختصراً قال فيه إنَّ «تركيا أردوغان تتمدَّد، برعونةٍ غريبة، بين فكّيْ فَخٍّ كبير لن يلبث أنْ يُطبِقَ عليها. وإنَّ غداً لناظره قريب».
نعم، إنَّ غداً لناظره قريب!
* كتب ونشر هذا المقال منذ عدة أشهر