د.أسد محمد
19/04/2006, 07:01 PM
جزء - 2
بين مشروعين : روما - واشنطن
هاتان الوسيلتان سهلتا عليها إمكانية التوسع وتطويع الخارج أكثر ومنحتاها فرصة الاستمرار الذي يبدو وكأنه معجزة للسلطة الرأسمالية ـ المادية المدججة بالسلاح, لكن سقوط العدو (الاتحاد السوفييتي) عام 1990م, أفقدها كثيراً من مبررات استمرارها وحججها أمام المجتمع الذي شكلته بدواعي حمايته, بعد هذه اللعبة مباشرة انكشفت أوراقها, وأصبحت إدارة رأس المال عاجزة عن تلبية احتياجات الجيش الذي أصبح من الضخامة والقوة قادراً على الإمساك بالسلطة وهذا ما فعله مجبراً كي يلبي احتياجاته, وعلى غرار روما ـ أغسطس انقلب على مؤسسة الملاك وشكّل السلطة التوليتارية, ثم راح يعمل على تأمين احتياجاته بشكل ذاتي, ومشكلاً خارجه الخاص. يعود سبب ذلك إلى:
ـ عجز السلطة في واشنطن عن تلبية احتياجاته كونها متأزمة وغارقة في الديون (تجاوزت بعد عام 2000 الـ 450 بليون دولار) لذا اختطفها وراح يستخدم قواه لتحقيق المزيد من الثروة لتلبية احتياجاته من السلطة ذاتها ويجعلها تدعم وتشتري ما ينتج في مؤسسات التصنيع العسكري. ـ بيع أسلحته ومنتجاته للدول الأخرى التي يسيطر على حكوماتها الضعيفة (سرقة المجتمعات الأخرى) وفرض إرادته عليها. ـ إثارة الحروب بين الدول وتغذيتها بالسلاح وتأمين عوائد جيدة لميزانيته. ـ احتلال دول غنية بالثروات. ـ فرض اتفاقيات غير متوازنة على الدول الضعيفة يؤمن من خلالها مكاسب مجانية (كالسكوت عن ممارسة السلطة القمعية فيها, ودفع تلك السلطات مبالغ مقابل حمايتها). ـ أسلوب القرصنة المباشرة لإمكانات الآخرين ودعم مافيا التهريب المختلفة للمخدرات والدعارة والهجرة وسرقة العقول, وزعزعة الأمن في الدول... ـ الاتهامات المبرمجة للأنظمة تحت شعارات مختلفة (حقوق الإنسان, الحريات..), ثم قبض مبالغ مقابل السكوت عنها. ـ استغلال المؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي..) من أجل ضبط حركة الأموال وعوائد الديون وخدمتها لصالحه.
العوامل التي سرّعت ظهور السلطة التوليتارية في واشنطن: 1 ـ انقسام البلاد إلى ثلاثة عواصم, أي تبدو وكأنها محاولة لإنقاذ السلطة من الانهيار.
2 ـ عجز السلطة المركزية عن تأمين احتياجات المؤسسة العسكرية التي تضخمت, فاضطرت الثانية للسيطرة على الأولى لتأمين احتياجاتها بنفسها في خطوة لتوحيد أداتي السلطة في أداة واحدة هي الجيش, أي إضعاف للسلطة الذي يبدو وكأنه عنصر قوة لها.
3 ـ اختلال التوازن بين السلطة المالية والعسكرية لصالح الثانية التي انقضّت للحفاظ على مكاسبها, والعمل على استمرار السلطة لأطول فترة ممكنة, يعني ذلك أن البلاد أصبحت مرهونة تماماً للسلطة العسكرية, وأغلب ما يحدث في العالم من أزمات تُدار في كواليس هذه المؤسسة التي تعمل على الاستفادة القصوى منها.
وبانتظار حدوث ـ أزمة كاملة ـ على غرار ما حدث لروما (تنهار سلطة واشنطن وتزاح) على المجتمع أن يستعد لبناء مستقبل جديد يتمتع فيه بسماته كاملة.
قراءة حول انقسام أمريكا إلى ثلاثة عواصم:
العواصم هي:
1 ـ واشنطن : عاصمة عسكرية وسياسية.
2 ـ نيويورك : عاصمة مالية.
3 ـ لوس أنجلوس : عاصمة معرفية.
كانت تُدار أمريكا من خلال واشنطن التي تتحكم بكل شيء وتتمتع بمركزية هي التي هيأت الظروف لخوض ثلاثة حروب كونية في القرن العشرين: حرب كونية أولى وحرب كونية ثانية وحرب كونية باردة.. هذه الحروب مكنتها من إخضاع بقية عواصم الولايات والمدن والأطراف لها, وهي التي قادتها إلى تشكيل كتلة عسكرية ضخمة في ظاهرها مقوية وداعمة لها, لكن في جوهرها هي التي ستدمرها. تشكل العاصمة واشنطن معقل العسكريين الذين استولوا على السلطة بانقلاب عسكري سلمي بعد عام 1990م, ولم يكن أمامهم إلا أن يفعلوا ذلك (هي مرحلة هامة من مراحل موت السلطة) تحت ضغط مطالبهم المتزايدة للثروة والمال, وبما أن العاصمة المالية أصبحت مرتبطة مالياً مع عواصم المال في الخارج ومع الزبائن في الداخل متحررة من مطالب السلطة, لأن لعبة المال قد تغيرت في غير اتجاه, ولم تعد مرتبطة أصلاً بنيويورك وحدها, فأصبح المال (ذبذبات الكترونية متحركة بضغط الأزرار ـ أشبه بالغاز الطيّار) ينتقل من عاصمة لأخرى, لا يمكن ضبطه وبالتالي استحالة الاستحواذ عليه من قبل أحد أياً كان (هذه مرحلة من مراحل عودة ما أنتجه المجتمع إليه, وذلك بتحول الثروة إلى شكل رمزي مضبوط في إطار المجتمع, وإلى كميات معرفية ـ خدمية ساهمت لوس أنجلوس في تطويرها, لتصبح في حالة من اللاتمركز وغير خاضعة للعاصمة علماً أن مُنتجها يمثل القيمة الأساسية لتداول رأس المال الكوني, وهو مرتبط أساساً بالمجتمع, لذا لا يمكن الاستحواذ عليه من قبل السلطة).
تحول في بنية الثروة, والصعوبة في السيطرة عليها, هو عامل إضافي دفعها إلى الانقلاب السريع على السلطة في واشنطن, والبحث مباشرة عن أماكن للثروة لا تزال في حالة تمركز ويمكن الاستحواذ عليها واستغلالها, فلم تتوفر هذه المصادر إلا في مناطق لم تسمح السلطة (سلطة مركزية) فيها بتحول ثروتها من الحالة الصلبة (مواد خام, مواد زراعية...) إلى اقتصاد رمزي يرتبط بالاقتصاد العالمي ـ أي لم تطلقها لتتفاعل مع اقتصاديات العالم الأخرى من خلال الذبذبات الالكترونية, والثروة المعرفية, والثروة الخدمية, ونقل الاقتصاد من الجمود إلى التحرك, فبعد أن أنجزت انقلابها في واشنطن اضطرت وبسرعة للاستيلاء على ذلك الخارج الذي لم يلحق بعد بركب التغيرات الجديدة وليكون هدفاً سريعاً ومباشراً لهذا الجوع التوليتاري (استخدمت الإرهاب ككذبة تؤدلج بها الداخل كي تسوقه معها إلى معركتها التي هدفها الجوهري النهب الاقتصادي) مبرراً لذلك, وهي محاولة حتمية وسريعة منها باتجاه إنقاذ نفسها, وكمحاولة أخيرة للضبط والسيطرة على العواصم الثلاث المنفصلة, وسيكون أداء السلطة العسكرية على النحو التالي:
أ ـ مستوى الداخل: ـ القمع (لأول مرة تتشكل وزارة للأمن الدخلي مؤلفة من أكثر من 190 ألف قامع هدفها خلق بيت طاعة للأمريكيين). ـ النهب (ارتفاع مستوى الضرائب والمديونية العامة, والمزيد من إفلاس الشركات الكبرى...).
ـ التدمير (بكل أشكاله الاجتماعية والثقافية والاقتصادية, ألا يعتبر جعل الناس يؤمنون بالتفوق على غيرهم قتلا لهم؟). ـ عسكرة كل شيء (بالمقابل ماذا يقدم العسكر للوطن؟). ب ـ مستوى الخارج: ـ محاولة الاستيلاء على عواصم المال ودفعها لمشاركتها في مغامراتها العسكرية, خاصة تلك التي توجد لها فيها قواعد عسكرية (اليابان, ألمانيا, كوريا الجنوبية, الخليج العربي..) هذا يعني حروباً كونية جديدة. ـ ضم وإلحاق بعض المناطق الغنية (مناطق نفوذ غنية بالثروات). ـ ردود فعل من دول قوية لحماية مصالحها, يعني فتح جبهات جديدة للصراع بأشكاله المختلفة (اقتصادية, فكرية, عسكرية...) وبالتالي حدوث تدمير متزايد ستكون أثمانه باهظة. ـ محاولة استخدام السلاح النووي (بشكل محدود أو واسع) في لحظات المواجهة الحرجة, وهنا لابد من جبهة الداخل المتضررة أن تفعل شيئاً. ـ تدمير المؤسسات الدولية.
سيرافق ذلك تصاعد في وتيرة المشاكل وبالتالي المزيد من الخراب قبل أن يعلن سقوط العاصمة واشنطن بشكل رسمي, ومع أنه في الحقيقة قد تم منذ لحظة دخول التوليتاريين بغداد, لأنهم قدموا خدمة مزدوجة في تلك اللحظة:
ـ كشفوا عن ضعفهم العسكري والاقتصادي والأخلاقي وعمقوا كراهية العالم كله لهم وهذه خسارة لن يتمكنوا من تعويضها أبداً. ـ حرروا العالم من نظام سياسي يمنع بقعة جغرافية هامة من العالم التواصل مع الآخر لتمسكه بآليات العمل الاقتصادي والاجتماعي الممركزة (توجد قوة كونية هائلة تدمر التمركز ساعية باتجاه بناء القرية الكونية) وهذه خطوة استراتيجية هامة جداً نحو تعميق التواصل الاجتماعي الكوني, وهو في الوقت نفسه يضرب بالعمق المشروع التوليتاري التوسعي في واشنطن (من حيث لا تدري السلطة ـ باحتلالها بغداد ـ وضعت إسفينا جديداً في نعشها) لماذا بغداد؟ هذا السؤال الهام يطرح نفسه كجواب على ما تعانيه سلطة واشنطن, وأعتقد أن تسرع السلطة التوليتارية في الهجوم على بغداد هو خطوة حتمية منها بغية إنقاذ نفسها من أزمة اقتصادية محدقة كون بغداد تؤمن لها: 1 ـ الثروة الصلبة (مواد خام من النفط وغيره..). 2 ـ نظاماً سياسياً مهترئاً يمكن إسقاطه بتكاليف أقل. 3 ـ محاولة ضبط الداخل وتخويفه الذي بدأ يعلن تململه من هذا النظام التوليتاري ـ العولمي عبر انفلات العواصم من قبضة واشنطن لصالح ما هو معرفي ومجتمعي.
4 ـ دعم المؤسسة العسكرية المتخمة بالسلاح (تفريغ مستودعاتها) عن طريق بيع ما لديها للسلطة والاستفادة من العوائد في صناعات جديدة.
5 ـ الهدف السهل بسبب أخطاء السلطة في بغداد لعدم تمكنها من قراءة ما يحدث عالمياً وربط ثروتها بمؤسسات تحول الثروة من صلبة إلى ذبذبات إلكترونية (كانت ستحميها, لأن هذا العدو الكوني كان لن يفكر باحتلال بلد لا توجد فيه ثروة), ولم تعمل على تخليص نفسها من المركزية المطلقة ـ الدكتاتورية.
لقد وقعت السلطة التوليتارية في واشنطن بالخطأ كون ما ستدفعه جراء احتلالها للعراق سيكون أكبر بكثير مما ستكسبه, وستكون عقوبتها أكبر من المتوقع, كما يُفترض البحث عن أهداف غنية توفر لها احتياجاتها (ألمانيا, سنغافورة..) الغنية والضعيفة عسكرياً, يتجه عادة النظام الإمبراطوري نحو المناطق التي تؤمن له ما يحتاج (كميات هائلة), لكن بنية الاقتصاد المتغيرة في مثل هذه البلدان لا تسمح لها بذلك, وهي الآن غير قادرة على مواجهة الأعداء الذين صاغتهم بنفسها عبر مراحل تشكلها, وهم الآن أقوى منها بكثير. أعداء سلطة واشنطن:
كما ذكرت أعلاه إن السلطة في لحظة تشكلها تخلق قاتليها وحفاري قبرها ولا يمكنها أن تفلت من ذلك أبداً: 1 ـ الطبيعة هي العدو الأول, كون السلطة تتجاوز أية علاقة مدنية أو أخلاقية بها, لذا تقوم بهجمات ارتدادية جبارة من خلال: ـ عدم كفاية (نفاد مواد الخام بسبب الاستهلاك العشوائي) ما في جعبتها من ثروات تكفي حاجات السلطة المتزايدة. ـ الجفاف والتصحر والفيضانات, وحرائق الغابات والزلازل, وتهالك التربة.. ـ ارتفاع درجة حرارة الأرض. ـ مشاكل البيئة المختلفة واختلال توازنها (ثقب الأوزون, تدمير الحياة البرية, تلوث المياه...). 2 ـ المجتمع:
* ـ مجتمع الداخل, انتقل من مرحلة المستسلِم للسلطة إلى مرحلة المواجهة معها عندما اكتشف أنها تستنزفه وتصادر مكاسبه المختلفة, فانتقل إلى جبهة الضد, وأسباب اندفاعه لمواجهتها: أ ـ تعجز عن حل مشاكله المختلفة من بطالة (تتجاوز نسبة البطالة الـ 6%), وتعليم (ارتفاع نسبة الأمية) وفقر (يبلغ عدد الذين يعيشون تحت خط الفقر أكثر من 30 مليون شخص) وصحة (انتشار الأمراض المختلفة والأوبئة في الأحياء الفقيرة), وتفرقة بين أبيض وأسود (لم يتمكن زنجي حتى الآن من الوصول للبيت الأبيض, ولن يتمكن إلا في إطار يكون المجتمع هو القائد).. ب ـ تدفع به إلى معارك خارجية لا ناقة له بها ولا جمل, ويدفع الأثمان غالية من دمه وروحه دون مقابل (ازدياد عداوة الآخر له). ج ـ تنهكه أمنياً وتبقيه في حالة من الاستنفار والخوف والتصادم, وهذا يتناقض مع فطرته وقيمه.
يتبع................
بين مشروعين : روما - واشنطن
هاتان الوسيلتان سهلتا عليها إمكانية التوسع وتطويع الخارج أكثر ومنحتاها فرصة الاستمرار الذي يبدو وكأنه معجزة للسلطة الرأسمالية ـ المادية المدججة بالسلاح, لكن سقوط العدو (الاتحاد السوفييتي) عام 1990م, أفقدها كثيراً من مبررات استمرارها وحججها أمام المجتمع الذي شكلته بدواعي حمايته, بعد هذه اللعبة مباشرة انكشفت أوراقها, وأصبحت إدارة رأس المال عاجزة عن تلبية احتياجات الجيش الذي أصبح من الضخامة والقوة قادراً على الإمساك بالسلطة وهذا ما فعله مجبراً كي يلبي احتياجاته, وعلى غرار روما ـ أغسطس انقلب على مؤسسة الملاك وشكّل السلطة التوليتارية, ثم راح يعمل على تأمين احتياجاته بشكل ذاتي, ومشكلاً خارجه الخاص. يعود سبب ذلك إلى:
ـ عجز السلطة في واشنطن عن تلبية احتياجاته كونها متأزمة وغارقة في الديون (تجاوزت بعد عام 2000 الـ 450 بليون دولار) لذا اختطفها وراح يستخدم قواه لتحقيق المزيد من الثروة لتلبية احتياجاته من السلطة ذاتها ويجعلها تدعم وتشتري ما ينتج في مؤسسات التصنيع العسكري. ـ بيع أسلحته ومنتجاته للدول الأخرى التي يسيطر على حكوماتها الضعيفة (سرقة المجتمعات الأخرى) وفرض إرادته عليها. ـ إثارة الحروب بين الدول وتغذيتها بالسلاح وتأمين عوائد جيدة لميزانيته. ـ احتلال دول غنية بالثروات. ـ فرض اتفاقيات غير متوازنة على الدول الضعيفة يؤمن من خلالها مكاسب مجانية (كالسكوت عن ممارسة السلطة القمعية فيها, ودفع تلك السلطات مبالغ مقابل حمايتها). ـ أسلوب القرصنة المباشرة لإمكانات الآخرين ودعم مافيا التهريب المختلفة للمخدرات والدعارة والهجرة وسرقة العقول, وزعزعة الأمن في الدول... ـ الاتهامات المبرمجة للأنظمة تحت شعارات مختلفة (حقوق الإنسان, الحريات..), ثم قبض مبالغ مقابل السكوت عنها. ـ استغلال المؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي..) من أجل ضبط حركة الأموال وعوائد الديون وخدمتها لصالحه.
العوامل التي سرّعت ظهور السلطة التوليتارية في واشنطن: 1 ـ انقسام البلاد إلى ثلاثة عواصم, أي تبدو وكأنها محاولة لإنقاذ السلطة من الانهيار.
2 ـ عجز السلطة المركزية عن تأمين احتياجات المؤسسة العسكرية التي تضخمت, فاضطرت الثانية للسيطرة على الأولى لتأمين احتياجاتها بنفسها في خطوة لتوحيد أداتي السلطة في أداة واحدة هي الجيش, أي إضعاف للسلطة الذي يبدو وكأنه عنصر قوة لها.
3 ـ اختلال التوازن بين السلطة المالية والعسكرية لصالح الثانية التي انقضّت للحفاظ على مكاسبها, والعمل على استمرار السلطة لأطول فترة ممكنة, يعني ذلك أن البلاد أصبحت مرهونة تماماً للسلطة العسكرية, وأغلب ما يحدث في العالم من أزمات تُدار في كواليس هذه المؤسسة التي تعمل على الاستفادة القصوى منها.
وبانتظار حدوث ـ أزمة كاملة ـ على غرار ما حدث لروما (تنهار سلطة واشنطن وتزاح) على المجتمع أن يستعد لبناء مستقبل جديد يتمتع فيه بسماته كاملة.
قراءة حول انقسام أمريكا إلى ثلاثة عواصم:
العواصم هي:
1 ـ واشنطن : عاصمة عسكرية وسياسية.
2 ـ نيويورك : عاصمة مالية.
3 ـ لوس أنجلوس : عاصمة معرفية.
كانت تُدار أمريكا من خلال واشنطن التي تتحكم بكل شيء وتتمتع بمركزية هي التي هيأت الظروف لخوض ثلاثة حروب كونية في القرن العشرين: حرب كونية أولى وحرب كونية ثانية وحرب كونية باردة.. هذه الحروب مكنتها من إخضاع بقية عواصم الولايات والمدن والأطراف لها, وهي التي قادتها إلى تشكيل كتلة عسكرية ضخمة في ظاهرها مقوية وداعمة لها, لكن في جوهرها هي التي ستدمرها. تشكل العاصمة واشنطن معقل العسكريين الذين استولوا على السلطة بانقلاب عسكري سلمي بعد عام 1990م, ولم يكن أمامهم إلا أن يفعلوا ذلك (هي مرحلة هامة من مراحل موت السلطة) تحت ضغط مطالبهم المتزايدة للثروة والمال, وبما أن العاصمة المالية أصبحت مرتبطة مالياً مع عواصم المال في الخارج ومع الزبائن في الداخل متحررة من مطالب السلطة, لأن لعبة المال قد تغيرت في غير اتجاه, ولم تعد مرتبطة أصلاً بنيويورك وحدها, فأصبح المال (ذبذبات الكترونية متحركة بضغط الأزرار ـ أشبه بالغاز الطيّار) ينتقل من عاصمة لأخرى, لا يمكن ضبطه وبالتالي استحالة الاستحواذ عليه من قبل أحد أياً كان (هذه مرحلة من مراحل عودة ما أنتجه المجتمع إليه, وذلك بتحول الثروة إلى شكل رمزي مضبوط في إطار المجتمع, وإلى كميات معرفية ـ خدمية ساهمت لوس أنجلوس في تطويرها, لتصبح في حالة من اللاتمركز وغير خاضعة للعاصمة علماً أن مُنتجها يمثل القيمة الأساسية لتداول رأس المال الكوني, وهو مرتبط أساساً بالمجتمع, لذا لا يمكن الاستحواذ عليه من قبل السلطة).
تحول في بنية الثروة, والصعوبة في السيطرة عليها, هو عامل إضافي دفعها إلى الانقلاب السريع على السلطة في واشنطن, والبحث مباشرة عن أماكن للثروة لا تزال في حالة تمركز ويمكن الاستحواذ عليها واستغلالها, فلم تتوفر هذه المصادر إلا في مناطق لم تسمح السلطة (سلطة مركزية) فيها بتحول ثروتها من الحالة الصلبة (مواد خام, مواد زراعية...) إلى اقتصاد رمزي يرتبط بالاقتصاد العالمي ـ أي لم تطلقها لتتفاعل مع اقتصاديات العالم الأخرى من خلال الذبذبات الالكترونية, والثروة المعرفية, والثروة الخدمية, ونقل الاقتصاد من الجمود إلى التحرك, فبعد أن أنجزت انقلابها في واشنطن اضطرت وبسرعة للاستيلاء على ذلك الخارج الذي لم يلحق بعد بركب التغيرات الجديدة وليكون هدفاً سريعاً ومباشراً لهذا الجوع التوليتاري (استخدمت الإرهاب ككذبة تؤدلج بها الداخل كي تسوقه معها إلى معركتها التي هدفها الجوهري النهب الاقتصادي) مبرراً لذلك, وهي محاولة حتمية وسريعة منها باتجاه إنقاذ نفسها, وكمحاولة أخيرة للضبط والسيطرة على العواصم الثلاث المنفصلة, وسيكون أداء السلطة العسكرية على النحو التالي:
أ ـ مستوى الداخل: ـ القمع (لأول مرة تتشكل وزارة للأمن الدخلي مؤلفة من أكثر من 190 ألف قامع هدفها خلق بيت طاعة للأمريكيين). ـ النهب (ارتفاع مستوى الضرائب والمديونية العامة, والمزيد من إفلاس الشركات الكبرى...).
ـ التدمير (بكل أشكاله الاجتماعية والثقافية والاقتصادية, ألا يعتبر جعل الناس يؤمنون بالتفوق على غيرهم قتلا لهم؟). ـ عسكرة كل شيء (بالمقابل ماذا يقدم العسكر للوطن؟). ب ـ مستوى الخارج: ـ محاولة الاستيلاء على عواصم المال ودفعها لمشاركتها في مغامراتها العسكرية, خاصة تلك التي توجد لها فيها قواعد عسكرية (اليابان, ألمانيا, كوريا الجنوبية, الخليج العربي..) هذا يعني حروباً كونية جديدة. ـ ضم وإلحاق بعض المناطق الغنية (مناطق نفوذ غنية بالثروات). ـ ردود فعل من دول قوية لحماية مصالحها, يعني فتح جبهات جديدة للصراع بأشكاله المختلفة (اقتصادية, فكرية, عسكرية...) وبالتالي حدوث تدمير متزايد ستكون أثمانه باهظة. ـ محاولة استخدام السلاح النووي (بشكل محدود أو واسع) في لحظات المواجهة الحرجة, وهنا لابد من جبهة الداخل المتضررة أن تفعل شيئاً. ـ تدمير المؤسسات الدولية.
سيرافق ذلك تصاعد في وتيرة المشاكل وبالتالي المزيد من الخراب قبل أن يعلن سقوط العاصمة واشنطن بشكل رسمي, ومع أنه في الحقيقة قد تم منذ لحظة دخول التوليتاريين بغداد, لأنهم قدموا خدمة مزدوجة في تلك اللحظة:
ـ كشفوا عن ضعفهم العسكري والاقتصادي والأخلاقي وعمقوا كراهية العالم كله لهم وهذه خسارة لن يتمكنوا من تعويضها أبداً. ـ حرروا العالم من نظام سياسي يمنع بقعة جغرافية هامة من العالم التواصل مع الآخر لتمسكه بآليات العمل الاقتصادي والاجتماعي الممركزة (توجد قوة كونية هائلة تدمر التمركز ساعية باتجاه بناء القرية الكونية) وهذه خطوة استراتيجية هامة جداً نحو تعميق التواصل الاجتماعي الكوني, وهو في الوقت نفسه يضرب بالعمق المشروع التوليتاري التوسعي في واشنطن (من حيث لا تدري السلطة ـ باحتلالها بغداد ـ وضعت إسفينا جديداً في نعشها) لماذا بغداد؟ هذا السؤال الهام يطرح نفسه كجواب على ما تعانيه سلطة واشنطن, وأعتقد أن تسرع السلطة التوليتارية في الهجوم على بغداد هو خطوة حتمية منها بغية إنقاذ نفسها من أزمة اقتصادية محدقة كون بغداد تؤمن لها: 1 ـ الثروة الصلبة (مواد خام من النفط وغيره..). 2 ـ نظاماً سياسياً مهترئاً يمكن إسقاطه بتكاليف أقل. 3 ـ محاولة ضبط الداخل وتخويفه الذي بدأ يعلن تململه من هذا النظام التوليتاري ـ العولمي عبر انفلات العواصم من قبضة واشنطن لصالح ما هو معرفي ومجتمعي.
4 ـ دعم المؤسسة العسكرية المتخمة بالسلاح (تفريغ مستودعاتها) عن طريق بيع ما لديها للسلطة والاستفادة من العوائد في صناعات جديدة.
5 ـ الهدف السهل بسبب أخطاء السلطة في بغداد لعدم تمكنها من قراءة ما يحدث عالمياً وربط ثروتها بمؤسسات تحول الثروة من صلبة إلى ذبذبات إلكترونية (كانت ستحميها, لأن هذا العدو الكوني كان لن يفكر باحتلال بلد لا توجد فيه ثروة), ولم تعمل على تخليص نفسها من المركزية المطلقة ـ الدكتاتورية.
لقد وقعت السلطة التوليتارية في واشنطن بالخطأ كون ما ستدفعه جراء احتلالها للعراق سيكون أكبر بكثير مما ستكسبه, وستكون عقوبتها أكبر من المتوقع, كما يُفترض البحث عن أهداف غنية توفر لها احتياجاتها (ألمانيا, سنغافورة..) الغنية والضعيفة عسكرياً, يتجه عادة النظام الإمبراطوري نحو المناطق التي تؤمن له ما يحتاج (كميات هائلة), لكن بنية الاقتصاد المتغيرة في مثل هذه البلدان لا تسمح لها بذلك, وهي الآن غير قادرة على مواجهة الأعداء الذين صاغتهم بنفسها عبر مراحل تشكلها, وهم الآن أقوى منها بكثير. أعداء سلطة واشنطن:
كما ذكرت أعلاه إن السلطة في لحظة تشكلها تخلق قاتليها وحفاري قبرها ولا يمكنها أن تفلت من ذلك أبداً: 1 ـ الطبيعة هي العدو الأول, كون السلطة تتجاوز أية علاقة مدنية أو أخلاقية بها, لذا تقوم بهجمات ارتدادية جبارة من خلال: ـ عدم كفاية (نفاد مواد الخام بسبب الاستهلاك العشوائي) ما في جعبتها من ثروات تكفي حاجات السلطة المتزايدة. ـ الجفاف والتصحر والفيضانات, وحرائق الغابات والزلازل, وتهالك التربة.. ـ ارتفاع درجة حرارة الأرض. ـ مشاكل البيئة المختلفة واختلال توازنها (ثقب الأوزون, تدمير الحياة البرية, تلوث المياه...). 2 ـ المجتمع:
* ـ مجتمع الداخل, انتقل من مرحلة المستسلِم للسلطة إلى مرحلة المواجهة معها عندما اكتشف أنها تستنزفه وتصادر مكاسبه المختلفة, فانتقل إلى جبهة الضد, وأسباب اندفاعه لمواجهتها: أ ـ تعجز عن حل مشاكله المختلفة من بطالة (تتجاوز نسبة البطالة الـ 6%), وتعليم (ارتفاع نسبة الأمية) وفقر (يبلغ عدد الذين يعيشون تحت خط الفقر أكثر من 30 مليون شخص) وصحة (انتشار الأمراض المختلفة والأوبئة في الأحياء الفقيرة), وتفرقة بين أبيض وأسود (لم يتمكن زنجي حتى الآن من الوصول للبيت الأبيض, ولن يتمكن إلا في إطار يكون المجتمع هو القائد).. ب ـ تدفع به إلى معارك خارجية لا ناقة له بها ولا جمل, ويدفع الأثمان غالية من دمه وروحه دون مقابل (ازدياد عداوة الآخر له). ج ـ تنهكه أمنياً وتبقيه في حالة من الاستنفار والخوف والتصادم, وهذا يتناقض مع فطرته وقيمه.
يتبع................