المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كل شىء عن حلب



طارق شفيق حقي
27/03/2006, 10:29 PM
بقلم د. محمد حبش

ليس هذا المقال مغازلة لحلب في عرسها الإسلامي الكبير الذي يملأ اليوم جبين السوريين بالبهجة,




http://www.faleppo.com/islamic/e107_themes/PhysioTechno/images/blank.gif

ولا هو بالتالي جزء من الحملة الإعلانية التي تتولى شرطات الإعلان تفعيلها تأكيداً لدور حلب في صناعة الثقافة الإسلامية, وبالتالي لا يمكن النظر إلى هذا المقال على أنه رصد شامل لتاريخ حلب, إنها بكل أمانة قراءة وفاء لرسالة حلب في تاريخ التنوير الإسٍلامي وهي قراءة أشعر أنها تغيب اليوم في غمار ما تشهده المنطقة العربية من امتداد للأصولية, ولست أدري إن كان هذا التخوف هو الذي جعل السيد أكمل الدين إحسان أوغلو الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي يتغيب عن حضور الافتتاحية ويوفد من يمثله, وهو أمر لا يمكن أن نتقبله بدون عتب ومرارة, مشفوع بتساؤل كبير هل يعرف الأمين العام حقاً تاريخ حلب في التنوير, وهل يوجد عذر يمكن أن يبرر تخلفه عن حضور ذلك الواجب على الرغم من أن الرجل له قدم راسخة في الأخوة مع سوريا وهو عضو في مجمع اللغة العربية ومن المستحيل أن يكون ابن تركيا لا يعرف وزن حلب في التاريخ والحاضر.‏













حين بدأ سيف الدولة الحمداني المتوفى 356 ه يطبع حلب بهويتها التاريخية في قرن الحضارة الإٍسلامية القرن الرابع الهجري الذي أرخ له آدم متز فإن الرجل جعل من حلب عاصمة للثقافة العربية والإسلامية, وإلى حاضرته أوى الفارابي القادم من قازخستان شمال آسيا الوسطى ليؤسس للفن الإسلامي الغنائي وفق روح شاعرية متوثبة حيث رسم حركة الكون, من خلال إرهاص متقدم لما أصبح يسميه الحكماء فيما بعد لغة العالم, واستقرت ألحانه السبعة دستوراً للموسيقا العربية الخالدة وبالتالي منبعاً للقدود الحلبية المطربة, وهو الفن الذي (صنع بسحر) صبا ونهاوند وعجم وبيات وسيكاه وحجاز ورصد. ولكن الفارابي لم يكن إلا شاهداً على مجد المعرفة ومغنياً لها إذ تألقت في حاضرة سيف الدولة واستقطبت الأدب والفن من العالم الإسلامي وكرست نبوغ المتنبي وأبي فراس وابن خالويه وأبي الفرج الأصفهاني وغيرهم من أئمة الفكر والمعرفة المتنوعة الغنية.‏



يقول شلمبوكر في كتابه عن القائد البيزنطي نيكفورفوكاس متحدثاً عن سيف الدولة: (هذا القائد المجاهد سيف الدولة لم تصرفه المعارك عن أن يجعل من حلب بيئةً خصبةً للاداب والفنون والعلوم, فقد فتح قصره لكل فنان موهوب وأديب فّذ فتوافدوا عليه من جميع الاطراف: من العراق وإيران والشام وبيزنطة وفينيسيا وجنوى. وكان يستمع إلى الشعراء ويتحبب إلى الكتّاب والمصورين, ويمنح المؤرخين الشيء الكثير من عطاياه فيعود هؤلاء إلى بلادهم حاملين إلى شعوبهم صورة رائعة من خلق الرجل العلمي وشخصيته العجيبة ).‏





ولا أشِك أبداً أن الروح التي كانت ترقد في ضمير سيف الدولة استمرت بعده في ثقافة حلب وروحها في التسامح والتنوير, وحين شيد مشهد السقط كان يريد بذلك أن يحيي الجانب الإيجابي من ثقافة المظلومية والتفجع التي كان لا بد منها في صناعة تربية الجهاد في مواجهة التهديد الرومي المستمر, وبالتالي أسهمت في توفير مكان آمن للمستضعفين والمضطهدين من طوائف صدرت فيها فتاوى التكفير والتفسيق وهام أتباعها في الأرض, ولم تجد حلب حرجاً أن تحتضن فيما بعد سائر طوائف الأمة من سنة وشيعة وصوفية وسلفية, وعرفت هجرات متعددة احتضنت فيها الناجين من المظالم الصليبية ومن الحروب المغولية, وحين ضاقت الدنيا على الأرمن في مواجهة مذابح الموت الأسود كانت حلب صدراً حنوناً أوى إليها الأرمن ووجدوا في فيئها الأمن والأمان ولم تشأ حلب أن تفرض عليهم ما لا يريدون, ووفرت لهم السبيل ليصبحوا قوة اقتصادية رائدة يأكلون من خيراتها ويشكرون الله.‏





ولكن الدور الأبرز لحلب كان في إطلاق رسالة التنوير التي حملها الشيخ عبد الرحمن الكواكبي نهاية القرن التاسع عشر حين ردد صيحتيه الكبيرتين في مسمع العالم الإسلامي: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد, وأم القرى, ولم تكن رسالته تحتمل أي لون من المواربة أو المخاتلة فإعلانه أم القرى رسالة وحدة جامعة للأمة كان يعصف فيها بشيوخ السلاطين الذين يزخرفون أوهام الإقليمية والقطرية والمحلية مكان الوحدة الجامعة, أما صوته العالي الذي أطلقه في كتابه الثوري طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد فقد كانت بمثابة إعلان واضح عن إطلاق رسالة التنوير وهي الرسالة التي كان وعاظ السلاطين يركمونها بركام وجوب السمع والطاعة لمن يلي أمر الأمة ولو أكل أموالكم وضرب أبشاركم, فإنه ظل الله في الأرض, ويوم بلا أمير شر من أربعين عاماً في ظل إمام جائر.‏





لم تكن رسالة الكواكبي تحتمل المجاملة أو المداورة فالمكتوب واضح من عنوانه, ولا أظن أن السلطان يحتاج أن يقرأ أكثر من عنوان الكتاب حتى يبدأ بمطاردة عبد الرحمن الكواكبي بعد أن سلط عليه جيشاً من الناقدين الذين يهاجمونه ويكفرونه ويفسقونه ويغمزونه ويهمزونه ويلمزونه لوجه الله ودون انتظار عوض, واشتهرت مواقف أبي الهدى الصيادي في إصدار البيانات المتلاحقة ضد الكواكبي كما هو حال كل من يحمل رسالة تنوير في مواجهة التخلف والاستبداد.‏





وعلى الرغم من الكاريزما التي كان الكواكبي يحملها والمنابر الإعلامية التي كانت تقدم له ولكنه وجد نفسه مضطراً للهجرة إلى مصر حيث يمكنه أن يحمل رسالته إلى أعلام التنوير من دون أن يبطش به السلطان, وهكذا فقد قدمت حلب مرة أخرى أكثر صيحات التنوير تأثيراً وفاعلية, وأصبح خطاب الكواكبي ملهماً لكل رموز التحرر والتنوير في الثقافة المصرية.‏





وفي عام 1902 م وقف محمد رشيد رضا وهو أحد أحد رواد النهضة الذين أهدتهم الشام إلى مصر ليسهموا في صناعة المشروع النهضوي العربي, وقف ليقول:‏





أصيب الشرق بفقد رجل عظيم من رجال الإصلاح الإسلامي وعالم عامل من علماء العمران وحكيم من حكماء الاجتماع البشري ألا وهو السائح الشهير والرحالة الخبير السيد الشيخ عبد الرحمن الكواكبي الحلبي, مؤلف كتاب (طبائع الاستبداد) وصاحب سجل جمعية أم القرى الملقب بالسيد الفراتي. اختطفت المنية منا بغتة هذا الفاضل الكريم والولي الحميم.‏





كان الكواكبي أول صوت صارخ في برية الاستبداد المتدثرة بدثار الدين والتي لم تكن تفهم الإسلام إلا ثيوقراطية تتلفح برداء الغيب بدأت مع المنصور الذي قدم نفسه للعالم على أنه ظل الله في الأرض في انحراف واضح عن منهج النبوة الذي قرأناه في سيرة الصديق: إني وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني, والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق.‏





لقد أنجز ثورته على الاستبداد بشقيه السياسي والديني, وإذ رفع صوته بالتمرد على الثيوقراطيا وحق الملوك الإلهي في الحكم فإنه كان يؤصل للعودة إلى منطق الإسلام الأول: وأمرهم شورى بينهم رافضاً منطق الاستبداد والاستعباد, وبالتالي لم يكن لك أن تستمع إلى علي عبد الرازق وقراءته في الالام وأصول الحكم لولا كفاح الفتى الحلبي عبد الرحمن الكواكبي‏



حلب مرة أخرى في ضمير التنوير الإٍسلامي في العالم, يعيش فيها التياران متجاورين: الكواكبي والصيادي, ومن حق كل منهما أن يقدم نفسه للحياة, ولا أشك أبداً أن شباب الصحوة الإسلامية يرقبون الكواكبي من جديد بين الشهباء والنيرب, ليقرأ درس الحرية والتنوير في احتفالية حلب عاصمة للثقافة الإسلامية.‏

طارق شفيق حقي
27/03/2006, 10:31 PM
التعددية في عاصمة الثقافة الإسلامية (http://www.aleppo-cic.sy/acic/magz/modules/AMS/article.php?storyid=17)




تبقى حلب من المدن النموذجية بخلفياتها التاريخية، وتراثاتها، وغناها في مجالات متعددة، وربما هذا هو السبب الذي توقفّت عنده منظمة المؤتمر الإسلامي عندما اختارتها لتكون عاصمة الثقافة الإسلامية لعام 2006.
تبقى حلب من المدن النموذجية بخلفياتها التاريخية، وتراثاتها، وغناها في مجالات متعددة، وربما هذا هو السبب الذي توقفّت عنده منظمة المؤتمر الإسلامي عندما اختارتها لتكون عاصمة الثقافة الإسلامية لعام 2006. فمنظمة عالمية تحترم نفسها، خاصة وأنها تضمّ عدداً كبيراً من أصحاب الرأي والباحثين والعلماء، لا تستطيع أن تمنح مدينة ما اسماً، أو عنواناً، أو مكانةً، أو دوراً، دون أن تستند على معطيات تبرر قرارها.
فإذا عدنا إلى تاريخ حلب لوجدناه غنياً، لأنّ العصور التي مرّت بها المدينة تبدأ من أيام الأكاديين والآشوريين، وبعض المؤرخين يعيدون جذورها إلى الحثيين. وإذا كان هذا التاريخ القديم غير واضحٍ كلياً، بسبب المصادر التاريخية غير المتوفرة حتى تاريخه أولاً، وللبعد الزمني الفاصل بين نشوئها، ومرورها بمراحل زمنية متعددة ثانياً، وما مرّ عليها من فتوحات وغزوات وكوارث طبيعية وأحداث هامة ثالثاً، ولكن تجدر الإشارة إلى أن المدينة قد ذُكرت في الألف الثانية قبل الميلاد في وثائق (بوغازكوي) من جهة، وفي النصوص البابلية، أي في المعاهدة بين (آشور نراري) و(ماتو إيلو) حوالي عام /750 ق.م/ من جهة أخرى، وكذلك في النصوص المصرية في القرن السادس عشر قبل الميلاد. وبعض المؤرخين يشيرون إلى أن (إرم صوبا) الوارد ذكرها في العهد القديم هي حلب.
ولكن عندما نصل إلى القرن الرابع قبل الميلاد، نجد أن الروايات التاريخية تنسب إعادة بنائها إلى سلوقس نيكاتور اليوناني، الذي أطلق عليها اسم (بيروه) أو(بيرويه) وكان يفضّلها كثيراً، وإليه أيضاً يُشير التاريخ في بناء القلعة الشامخة التي هي من أهم رموز ومعالم هذه المدينة. هذا وقد قاست حلب الأهوال عند غزو كسرى الأول لها عام /540 ق.م/.
وقبل الفتح العربي دخلت المسيحية إلى حلب. ونظراً لأهمية موقع المدينة وانتشار المسيحية فيها بكثافة، وظهور شخصيات دينية بارزة على مسرحها، اعتبر كرسيها الأسقفي واحداً من أهم الكراسي التابعة للكرسي الأنطاكي، وكانت أنطاكية عاصمة سورية والمركز الأهم للمسيحية في كل الشرق، وقد جلس على كرسي حلب أساقفة ومطارنة منذ نهايات القرن الثالث للميلاد، وبرزت بعض أسماء لأولئك الأساقفة في عالم الفكر والعطاء، وبينهم من تبوأ منصب بطريرك أنطاكية، مثلاً : الأسقف أوسطاثيوس نُقِلَ إلى كرسي أنطاكية سنة /324 م/، واشتهر أقاق بين مطارنة حلب، وغيرهما من الأساقفة الذين أغنوا تاريخ حلب في عطاءاتهم المتنوعة. هذا وعقدت في المدينة ذاتها مجامع كنسية ذات شأن وتأثير في تاريخ كنيسة المشرق.
وبعد فتح حلب أي عندما أصبحت تحت ظلّ الحكم العربي، نرى أن مفهوم العيش المشترك والإخاء الديني يبرز في أعلى الدرجات، فأهم نقطة ظهرت في التاريخ بعد الفتح العربي، كان الأمان الذي أعطاه العرب لأهل حلب خاصة على حياتهم، وكنائسهم، ومنازلهم، واحتفظ المسيحيون بخمس كنائس كانت مبنية ومعروفة قبل الفتح العربي، وهنا تتجلى أروع صفحات التلاحم بين أبناء المدينة الذين انتموا إلى الديانتين المسيحية والإسلامية، وعاشوا تحت كنف هذا المفهوم قروناً طويلة. فهذه التعددية التي أصبحت من أهم سمات مدينة حلب رافقت سكانها في كل العهود التي مرّت على المدينة، ولا يمكن أن يتجاهل الإنسان كل هذا التاريخ الغني الذي مرّ على مدينة حلب، خاصةً وأنّ لغات عدّة، وخلفيات تاريخية كثيرة، وشعوب متنوعة، وإدارات سياسية متباينة، وعلاقات مميّزة مع الجوار من ممالك صغيرة، ودويلات نشأت هنا وهناك في المنطقة، وحصل احتكاك مباشر بحضارات وثقافات، وكلّها أثّرت بشكل أو بآخر على هذا التنوع الذي عرفته مدينة حلب، بل أكّدت على أن التعددية في الاثنيات، واللغات، والثقافات، ليست إلاّ مصدر غنى لواقع مدينة حلب، التي مازال يتفاعل فيها هذا التنوع المميز من تاريخها. وكم أثّر هذا التنوع في التعددية في أبناء حلب، إذ نراه حتى اليوم في الغنى بالتراث العمراني، والثقافي، والاقتصادي، والفكري. فحلب لأكثر من سبب أصبحت من أهم المحطات التجارية على طريق الحرير، والمدينة ضمّت كل الأديان قبل المسيحية والإسلام، وعاشت فيها كل الطوائف والمذاهب، وتركت هذه الديانات والمذاهب آثارها في الأوابد والكنائس والمساجد، التي مازالت تشهد على عمق التاريخ المتجذّر في قلوب أبنائها.
والذي حصل في بلاط سيف الدولة الحمداني، عندما جمع كبار أعلام الفكر والأدب مثل : المتنبي والأصفهاني والخوارزمي والفارابي، هو الأنموذج الذي عرفته حلب في كل العهود التي مرّت عليها تحت ظلّ الحكم العربي.
وقد أصاب ِياقوت الحموي في كتابه الشهير : معجم البلدان، كبد الحقيقة عندما قال : حلب مدينة عظيمة واسعةٌ، كثيرة الخيرات، طيبة الهواء، صحيحة الأديم والماء... وفي قبلي الجبل جبّانة واحدة يسمونها المقام، بها مقام لإبراهيم عليه السلام، وبظاهر باب اليهود، حجر على الطريق يُنذَر له ويُصب عليه ماء الورد والطيب، ويشترك المسلمون واليهود والنصارى فيُقال أنّ تحته قبر بعض الأنبياء. وهذا دليل آخر على تعددية الأديان والمذاهب في مدينة حلب.
وفي كتاب : بغية الطلب في تاريخ حلب، الذي صنّفه ابن العديم، نقرأ باباً في ذكر ما بحلب وما بأعمالها من المزارات، وقبور الأنبياء والأولياء، والمواطن الشريفة التي بها مظان إجابة الدعاء. فابن العديم يؤكّّد على أنّ قلعة حلب فيها مقام إبراهيم الخليل، أمّا المقام التحتاني فكان موضعه كنيسة للنصارى إلى أيام بن مرداس، وفي المقام الأعلى رأس يحيا بن زكريا موضوع في جرن من الرخام في خزانة.
فربط المدينة وتاريخها بابراهيم الخليل، والكنائس، والمساجد، والمزارات بأسماء الأنبياء والأولياء، كل ذلك تأكيد على أن التعددية في الأديان والمذاهب لم تكن حاجزاً بين الإنسان وأخيه الإنسان، بل أن العيش المشترك الذي أصبح واحداً من سمات هذه المدينة نراه يتفاعل ويتجلى في آن في كل العهود. ففي ظل الحكم العربي بدءاً من أيام الخلفاء الراشدين، ومروراً بالأمويين، ثم العباسيين، نرى أن المدينة بتنوع خلفياتها الاثنية، واللغوية، والدينية، المذهبية، تقف معاً من أجل الدفاع عن المدينة من كل التعديات والتحديات التي قد تحصل لها أو عليها. ثم أثناء حروب الفرنجة لم يقف المواطنون من كل الأطياف، والشرائح، والأديان، والانتماءات، والمذاهب، مكتوفي الأيدي تجاه غزوات الفرنجة الذين جاؤوا من أوروبا محتلين، ودخلوا هذه البلاد غزاة، ودمروا أولاً أهم المعالم المسيحية بدءاً من القسطنطينية، ومروراً بالرها، ثم مرعش، وأنطاكية، وحلب، ووصولاً إلى بيت المقدس، وكان على المسيحيين أن يدافعوا مع المسلمين عن كرامتهم ويحموا مدينتهم من الخراب، وهكذا الأمر في عهد الأيوبيين. إلى أن استولى هولاكو على حلب، وقد شهد مطران حلب السرياني يومئذ (ابن العبري) أثار هذا الغزو المغولي الغاشم بقيادة هولاكو حفيد جنكيزخان، وسقوط حلب، ومقتل ما يقارب الخمسين ألفاً من الأهالي بحد السيف، وكان المطران ذاته قد زار هولاكو مستعطفاً لئلا يفتح مدينة حلب عنوةً ويقتل أهلها. ونقرأ في التاريخ أن المسيحيين مع المسلمين تعاونوا في سبيل إبعاد المدينة عن المخاطر، وأن جند التتر أشاعوا الخوف في نفوس الحلبيين وأنزلوا بهم ضروب القسوة ألواناً وأشكالاً. ومجمل القول أن التعددية الدينية والمذهبية في تاريخ مدينة حلب بكل مراحلها، لم تكن عائقاً أمام التلاحم الوطني من جهة، وبث مفهوم الإخاء الديني بين المواطنين من جهة ثانية، وليس هذا فحسب، بل أن مكانة حلب التجارية والشهرة الني نالتها، بأبوابها، وأسواقها، وحماماتها، وأوابدها، وكنائسها، ومساجدها، وبيوتها، وكل آثارها التاريخية، ورجالات الفكر فيها الذين أغنوا المكتبة العربية بأبحاثهم، وكتاباتهم، وقصائدهم، ومآثرهم القلمية التي أغنت المكتبة العربية، كلها دخلت ضمن هذه التعددية التي تنادي بها المدينة، لا بل تؤكد عليها من مبدأ أن اختيار مدينة حلب عاصمة للثقافة الإسلامية، لم يكن بالأمر السهل لولا أن كل هذا الغنى التاريخي، والأبعاد الفكرية، والصناعية، والتجارية، والسياحية، قد شكّلت محطة مهمة من محطات المدينة وما جاورها من المدن. وعندما تمتد الثقافة الإسلامية بكل أبعادها لتشمل عطاءات المسيحيين الذين عاشوا في المدينة قبل الإسلام، وعايشوا أخوتهم المسلمين قروناً طويلة، وامتدت أياديهم في كل مجالات التعاون من خلال عطاءاتهم المتنوعة، وتركوا بصمات في كل المجالات المذكورة، دون أن ننسى صفحة النضال المشتركة، سيما أيام الانتداب وقبله، خاصة أثناء حروب الفرنجة، كل هذا يؤكد على أن حلب كما كانت في الماضي أنموذجاً للتعددية الدينية، والثقافية، واللغوية، والاثنية وهكذا اليوم تبقى الأنموذج الحي لهذا المصير المشترك الذي يجمع بين أبناء الوطن الواحد.
وحلب كعاصمة للثقافة الإسلامية تفرح وتبتهج اليوم، لأنها تقدم رسالة مفتوحة إلى كل المجتمعات، معلنة أن التعددية الثقافية هي كنز من كنوز الإنسانية.
المطران يوحنا ابراهيم: رئيس طائفة السريان الأرثوذكس بحلب
( كلنا شركاء ) 21/3/2006

طارق شفيق حقي
27/03/2006, 10:42 PM
تتحلق مدينة حلب حول رابية تعلوها قلعة مرتفعة تشرف على المدينة من جميع جهاتها، وهذه القلعة العربية الإسلامية هي من أشهر قلاع العالم، ومما لا شك فيه أنها أقيمت على أنقاض قلاع متتابعة قديمة، فلقد كانت الرابية المرتفع الأكثر أمناً لإقامة المقر الحكومي المحصّن لمدينة حلب عبر تاريخها الطويل جداً.
يعود تاريخ بناء أهم أقسام القلعة إلى عصر الملك الظاهر غازي إبن صلاح الدين الأيوبي وكان ولاه عليها سنة 1190م، فلقد حصّن مدخلها وبنى على سفحها جداراً، وحفر حولها الخندق، وشيد في داخلها مسجداً وعدداً من القصور. وكانت زوجه ضيفه خاتون، التي صارت ملكة حلب، تعيش في أحد قصور القلعة، وفيها دفنت أولاً.
تعلو القلعة ما يقرب من أربعين متراً عن مستوى مدينة حلب، ومازالت أسوارها وأبراجها قائمة، يعود بعضها إلى عصر نور الدين زنكي، ويحيط القلعة خندق بعمق ثلاثين متراً.

وندخل إلى القلعة من بوابة ضخمة من خلال برج دفاعي مستطيل الشكل، ينتهي بالمدخل الكبير للقلعة، ويتكون من دهليز ينتهي بباب ضخم من الحديد المطرّق، تعلوه فتحات للمرامي والمحارق، ويعود إلى عصر خليل بن قلاوون الذي جدده ورممه. وتعلو الباب قنطرة حجرية عليها نحت ممتد على طولها يمثل ثعبانين برأس تنين. وبعد اجتياز هذا المدخل نصل إلى دهليز آخر في جدرانه الثلاثة أواوين ضخمة، وفي إيوانه الشمالي باب يتصل بدرج يؤدي إلى قاعة الدفاع، وللقلعة باب رابع خشبي يعلوه ساكف عليه نحت أسدين متقابلين. وبعد اجتياز الباب نمر بمصاطب مرتفعة تتخللها غرف ومستودعات. ثم نصل إلى ممر القلعة الداخلي تتخلله مجموعة من المباني والحوانيت، وثمة درج يؤدي إلى القصر الملكي.

وإذا ما تابعنا المسير، فإننا سنصل إلى مسجد إبراهيم الخليل الذي أنشأه الملك الصالح اسماعيل بن محمود بن زنكي سنة 536هـ/1179م. وعلى مدخل المسجد، وعلى جدرانه كتابات تأريخية. ويلي هذا المسجد بناء آخر هو مسجد ذو مئذنة مربعة عالية، أنشئت في عصر الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين الأيوبي. وليس بعيداً عن هذا المسجد الذي رمم مؤخراً، تقوم ثكنة عسكرية أنشئت في عصر إبراهيم باشا المصري سنة 1252هـ/1834م. وفي وسط هذه الرابية قاعة كبيرة، نصل إليها من خلال سبعين درجة تحت السطح، كانت تستعمل مستودعاً للحبوب والعلف.
ومن القصور التي مازالت قائمة، قصر يوسف الثاني حفيد غازي، مزين مدخله بمقرنصات جميلة، وأمامه ساحة مرصوفة بأحجار صغيرة ملونة ذات رسم هندسي بديع.

ونتجه من القصر إلى قاعة العرش، ندخلها من بوابة ذات أحجار ملونة، تعلوها مقرنصات، تحتها كتابة تأريخية. ولقد شيدت القاعة في العصر الأيوبي على برجين حول المدخل الخارجي، ثم أكملت ورممت في العصر المملوكي. ثم أضيف إليها في عام 1960 زخارف أثرية خشبية وحجرية. ومن أجمل نوافذ هذه القاعة، نافذة كبيرة ذات شباك مزخرف بصيغ عربية، ومن خلاله تُرى مدينة حلب مترامية الأطراف عند مدخل القلعة، ولقد زخرفت واجهات القاعة الخارجية، بزخارف هندسية حجرية وبأشرطة من الكتابات العربية من أبلغها \"قل كلٌّ على شاكلته\".

وتحت قاعة العرش هذه، قاعة الدفاع، وتخترق جدرانها كُوى لرمي السهام، وفتحات لسكب السوائل المحرقة على المداهمين والمُحاصرين.

تعرضت قلعة حلب لغزو المغول بقيادة هولاكو سنة 658هـ/1260م، ولقد هَدَم كثيراً من معالمها، بعد أن وعد بحمايتها إذا ما استسلمت، وتحررت القلعة بعد انتصار العرب على المغول في موقعة عين جالوت. وقام الملك الأشرف قلاوون بترميم ما تهدم منها. ثم جاء تيمورلنك الأعرج سنة 803هـ/1400م، فهدم المدينة والقلعة، وقام المماليك بتحريرها وترميمها.

ثم استولى عليها العثمانيون سنة 923هـ/1516م وجاء إبراهيم باشا بن محمد علي باشا من مصر عام 1831، واستمرت خاضعة له حتى عام 1257هـ/1840م وفيها أنشأ الثكنة كما ذكرنا، وجعل القلعة مقراً لجنوده.
ومنذ عام 1950 تجري في القلعة ترميمات وتجديدات من قبل المديرية العامة للآثار، كما أجريت فيها حفريات أثرية للتعرف على تاريخ هذه القلعة قبل الإسلام. وأحدث اكتشاف في قلعة حلب، جدار من معبد حدد إله الأمطار والأنواء، وكان معبود جميع شعوب المنطقة ويتألف الجدار من سبعة مشاهد تمثل الإله وكائنات أخرى خرافية بأسلوب فني متميّز.
ولقد تبين أن الرابية كانت مقراً لمعابد حثيّة وآرامية، واكتشفت آثار تؤكد ذلك محفوظة في متحف حلب. وفي العصر الإغريقي أصبحت الرابية اكروبول المدينة، واستمرت كذلك حتى اقتحمها العرب المسلمون، وعلى رأسهم خالد بن الوليد، ويقال،تم ذلك بمحاولة عدد من الفدائيين العرب الذين تخفّوا بجلد الماعز، فبدوا قطيعاً يقضم العشب من سفح الرابية، وكان الروم في احتفال وسكر ونشوة، فقتل الفدائيون حامية البوابة، وفتحوا الأبواب بعد إشعال النيران علامة من المهاجمين الذين دخلوا القلعة، وأجلوا من فيها من جند وسكان. واستقر الحكم العربي الإسلامي منذ ذلك الوقت في حلب وقلعتها المنيعة التي صدت هجوم الروم والمغول والتتار، وكان أول من استعملها سيف الدولة الحمداني ثم المرداسيون وبعدهم آل سنقر ثم رضوان بن تتش أصلح فيها، ولكن الأيوبيين هم بناتها كما هي اليوم.

إن سور قلعة حلب إهليجي الشكل، تتخلله أبراج بعضها مربع الشكل وبعضها دائري، ويرتفع السور اثني عشر متراً وهو من الحجر الضخم، والسور والأبراج كلها تعود إلى العصور العربية، بدءً من القرن الثاني عشر إلى السادس عشر الميلادي، تؤكد ذلك كتابات منقوشة عليه مازالت حتى اليوم.

وسور القلعة مزدوج في أكثر أقسامه، ولقد خرّب في مناسبات كثيرة، ومازال في كثير من أجزائه أنقاضاً تنتظر الترميم.
أما الأبراج فإن أبرزها هما برجا المدخل المرتفع وبرج المدخل السابق للجسر. وفي الجهة المقابلة إلى الجنوب برج ضخم ينهض على سفح جدار الخندق المكسو بالحجر، ولقد أنشأ هذا البرج الجميل الأمير المملوكي جكم، ثم جدده السلطان قانصوه الغوري سنة 916هـ/1508م، كما هو منقوش عليه.

ويصل الصاعد إلى هذا البرج عن طريق درج ممتد على سفح جدار الخندق ويستمر حتى أسوار القلعة، حيث ينتهي بباب سري كان يستعمله الملك الظاهر غازي للخروج من القلعة إلى قصر العدل، وبعد الباب السري قاعة حمام أمامها ممر رصفت أرضه بأحجار على أشكال هندسية. ويؤدي الممر إلى ساحة يتوسطها حوض ماء، ومازال على جدار الساحة من الشمال بقايا سلسبيل، ومن الجنوب بقايا إيوان كبير، وفي الشرق إيوان صغير، وتكسو الأرض زخرفة حجرية ملونة مازالت بقاياها واضحة.

ويقابل البرج الجنوبي الضخم، برج مماثل من جهة الشمال قام بتجديده وترميمه أيضاً، السلطان المملوكي الأخير قانصوه الغوري