PDA

View Full Version : المدينــــة الحزينـــــة ...



أبو شامة المغربي
23/03/2006, 11:05 PM
http://www.merbad.net/vb/attachment.php?attachmentid=93&stc=1


المدينــــة الحزينـــــة...




أطل من عينيه على المدينة التي يسكنها رفقة أناس، بعضهم على مرأى ومسمع من بعض، كل منهم في حاله غريق بين الآخرين .. أطل ذات يوم، وقد نسي اسم المدينة إثر حادث عابر، فإذا به بين الناس غريب، فاستقبلته وجوه مضطربة الملامح، وتقاسمته عيون مرتابة قلقة، وأما المدينة فتلقته بصخبها المعتاد وبناياتها المتنافرة .. لم تأبه أذنيه لذاك الصخب وتلك الجلبة المستعرة، في حين صارت عيناه تبحث عن لافتة، أو جدار صخري، أو لوحة معدنية تفشي إسم المدينة التي يسكنها منذ زمن بعيد ويحرص على استعادة اسمها، لكن محاولاته باءت بالفشل ...
أخذ يتوغل رفقة غربته في المدينة، تارة يتوقف مأخوذا بمشهد من المشاهد المثيرة في ركن من الأركان، وحينا يفاجأ بمتسول يسأله الصدقة .. صار يتنقل وينتقل بعينيه ذات اليمين وذات اليسار، وهو يقرأ بعض العبارات المتلاحقة هنا وهناك ..مقهى الغروب ..صالون الأناقة ..مقهى النجوم ..إسكافي الأصدقاء ..بائع الدجاج ..جزار الحي ..مقهى الشباب ..فجأة سقطت من يد أحد زبناء مقهى الشباب بعض القطع النقدية .. أحدثت صوتا أفسد عليه قراءة العبارة الموالية بذات التأني والتأمل ..مخبزة ...
وبلحظ سريع انتبه إلى مصدر الصوت، فكانت دهشته كبيرة لما رأى فتى في مقتبل العمر منكسر الظهر .. مطأطأ الرأس، وبين يديه على الأرض كما ركبتيه عدة مسح الأحذية، ومما زاد من حدة اندهاشه واستيائه هو استلقاء رجل يطرق باب الكهولة على كرسي بالمقهى يحث الفتى على إتقان مسح الحذاءين ...
نسي جراء ذلك المشهد المهين وقفته أمام المقهى، ولم يأبه لنظرات الناس إليه مستغربة أمره .. غار بريق عينيه في مشهد العرق وهو يتصبب من جبين الفتى ... سبحان الله يا رجل .. ما بك ..؟
أفاق من كابوس يقظته على تنبيه أحد المارة له .. استأنف سيره حزينا منكسرا لما رأى دون أن يعلم له وجهة، وما هي إلا خطوات معدودة حتى استقبلت أذناه بكاء طفلة صغيرة، واستقبلت عيناه منظر هذه الطفلة وهي تتبع أخاها الذي لا يكبرها إلا بسنتين أو ثلاث .. طفل وطفلة في ثياب رثة لا حول لهما ولا قوة .. يمدان يديهما الصغيرتين في تردد لكل من يمر بهما ...
عاد إليه الذهول بحدة أكثر .. لكن هذه المرة أمام صغيرة لا يغادر سيل البكاء خديها، وأمام طفل صغير قد جفت دموعه على خديه منذ زمن، بعدما خلفت أثر سيلين لطالما انسكبا من عينيه الغائرتين .. هذه المرة أفسد عليه أحد المارة شروده قائلا للطفلين الصغيرين: (حتى انتما كثرتوا)، وما إن إستأنف سيره بعد أن صدمت هذه العبارة العنيفة اذنيه حتى تذكر أن عليه أن يعثر على إسم المدينة التي يتنقل بين دروبها ...
قرر أن يسأل كل من يصادفه في طريقه من الناس .. تقدم من شيخ طاعن في السن، فسأله بعد أن ألقى عليه السلام: يا والدي ما اسم هذه المدينة .؟ أجابه الشيخ بصوت شاخ بقدر ما شاخ صاحبه: غاب عني اسمها يا ولدي ..إنه حكم الذاكرة، فلا حول ولا قوة ولا حيلة ...

ما إن سمع جواب الشيخ حتى علت وجهه ملامح الإستغراب، لكنه سرعان ما استسمح الشيخ وتابع سيره إلى أن لقي رجلا في مثل عمره، فسأله ذات السؤال .. بادره الرجل على الفور وهو ينظر إليه شزرا: لم تجد إسما تسأل عنه سوى اسم هذه المدينة السعيدة بمآسيها وأحزانها ..؟
دهش من هذا الرد الغريب وقد إمتصته المفاجأة .. حار في أمر ما يتلقاه من إجابات أهل المدينة حتى كاد يجن، لكن مشهدا آخر شده أثناء مروره أمام بعض الدور السكنية .. وجد نفسه أمام رجل كساه الغبار، وأرهقته كثرة المشي ودوامة التنقل بين الأزقة .. رآه يبحث في ركامات القمامة عما رمى به أصحابه .. رآه وعلى ظهره كيس تزكم الروائح العفنة المنبعثة منه الأنوف، وقد بدا من ثقوبه الكثيرة خليط من الأوراق، وقوارير الزجاج والبلاستيك، وقطع من الحديد وأسلاك نحاسية ...
بقيت عيناه عالقتان بصاحب الكيس إلى أن اعترض سبيله حجر .. كاد أن يسقط بعد أن تعثر، لكنه تماسك في آخر لحظة، وما إن استقرت به رجلاه على الأرض حتى وجد نفسه أمام مشهد آخر لرجل فقد ساقيه معا، وأخذ يزحف على ركبتيه بين دراجات نارية وأخرى هوائية .. يسهر على تنظيمها وحراستها أمام مؤسسة إدارية .. رآه يصارع كتلا ثقيلة ينقلها من مكان إلى آخر ...
تابع سيره وما كاد حتى رأى فتيانا على عتبة سن الشباب يرشقون شيخا ضعيف الحال بالحجارة، ويتبعونها مرددين: الأقرع .. الأقرع .. الأقرع ... كان الشيخ يهرول أمامهم بمشقة كبيرة، فما كان لأنينه ولا حتى لصراخه أن يسمع في غمرة صخب المدينة وشديد جلبتها ...
قرر أن لا يسأل أحدا بعد أن ضاق بما شاهد وحز في نفسه ما عاين في وضح النهار من مآسي وآثام، فما كان منه إلا أن عاد مسرعا إلى البيت مشفقا على نفسه من تلقيه المزيد من الصدمات، وراثيا حال المدينة المعذبة بسوء صنيع الكثير من أهلها وما هم بأهل لها ...


د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

طارق شفيق حقي
25/03/2006, 10:21 PM
كم من مدينة حزن تولد فينا كل يوم
هو الحزن يصقل ذواتنا
أشعر بحزنك كلما مررت في الحواري على جدران مدينة مات فيها الاحساس

بوركت حزناً