المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العقيدة الجديدة ـ قصة ـ



المودني عبدالسلام
22/03/2006, 01:20 PM
العقيدة الجديدة



"المعلم يشير إلى القمر..و الأحمق ينظر إلى أصبعه"
من كلام الزن


غيوم رمادية مائلة إلى السواد تزحف على سمائنا بشكل غير مألوف، لكننا مع ذلك اعتدنا رؤيتها. لفرط ما تغيرت أحوال سمائنا، رغم أننا في الفصل العاشر من سنتنا السابعة بعد المئة الرابعة للألف الثالثة من تقويم استقرارنا فوق أرضنا هاته. كان أول القادمين و المستقرين جدنا الأكبر "هيدور" المبجل قادما من وجهة ضيعتها الروايات المختلفة و لم يأت على ذكرها كتاب الحكمة فما عادت تذكر. شيء واحد نعرفه جيدا، و كنا واثقين منه هو أن الفصل العاشر و هو آخر فصول سنتنا يمتاز ككل الفصول بشمس ساطعة لاترقد إلى في جوشن الليل في تقويم آلة الزمن الرملية –حسب العبارة الواردة في كتاب الحكمة-و هو أمر لم يحدث الآن. و صرنا على حداثة سننا نعرف أسباب ذلك احتكاما إالى كتاب الحكمة الذي لا يتداوله إلا الشيوخ و تصلنا نتفا منه.
يقول الكتاب أن ما يحدث في الأرض يمتد صداه حتى السماء فتتأثر به،أي أن أرواح من يسكن أرضنا المباركة إذا ما فقدت تناغمها و انسجامها مع شرعنا و ناموسنا، يختل التوازن و يستشري ذلك متمططا حتى يدرك أبعد جرم سماوي. و يجري ذلك على الشمس أيضا و هي أقرب إلينا من أحلامنا التي انطفأت و هجعت و اسيقظت الكوابيس من أحلامها فطردت النوم عن الجفون و السكينة عن النفوس. الكوابيس كانت كابوسا واحدا يراه كل من على أرضنا و لا يسلم منه حتى شيوخنا الذين خذلتهم الحيرة ومست هيبتهم حتى ما عدنا نراهم إلا واجمين ينط الذعر من وجوههم التي عهدناها قبل ذلك أكثر اتزانا و مناعة. و أكاد أجزم أنه في أحيان كثيرة كنا نرى الرعب يصعد من أنفسهم مع أنفاسهم حتى ليكاد يفقـأ عيونهم.أما نحن،فرغم كل شيء لم يكن لدينا ما نخسره. كنا نلقي أحمال ليالينا على وجوهنا بلا مبالاة حتى نطلعهم على ما يعانونه و ربما أكثر منا ولا يجرؤون على الحديث عنه.
أمضينا أياما لا نستطيع خلالها النوم رغم أننا كنا نعيش في حلكة دائمة،إذ رغبت الشمس عن الظهور و مست القمر من الجانب الآخر عدوى الشمس. و خليانا لتلك الغيوم التي تزيد في اضطراب أنفسنا و تصرفاتنا حتى غدا رفع الصوت بديلا عن التحاور، و العقوق عن البر، و الطلاح عن الصلاح ، و الشد عن الإرتخاء. ذاك ما كناه و كذاك صرنا. لكن مهما بلغت درجة خلافاتنا كنا نقر جميعا أن جدنا الأكبر "هيدور" كان بالغ الحكمة. و أذكر أنه عندما شكك صعلوك ممعن في الغي في أمر سلالتنا إذ قال:
- تدعون أنه كان حكيما. لماذا إذن و هو من أقدم الأقدمين، اختار هذه الأرض الواطئة كالقبر ؟ ليلة مطر واحدة تكفي أن تحيل الحياة هاهنا موتا مقيما.
تصدى له الشيوخ و انبرى له ناهزنا قائلا بغضب جلي:
-ما لا تذكره أيها الأرعن أنه معروف بنبوءاته الكثيرة،و إحداها، بل و أشهرها على الإطلاق أن سماءنا برة لاتضر بنيها.
كان هذا في القديم الغابر ،أما في عهدنا فالكل يقر أنه إلى جانب حكمته كان متنبئا كبيرا و من آثاره عن سلالته المجيدة.
- لن يخرج منها إلا هالك.
ذلك ما بلغنا عنه و تأكدنا منه،إذ أن لكل عهد صعاليكه. حدث ذلك لإبن البشير صديق الطفولة البعيدة. كان سريع الغضب و لطالما حدثني عن أحلام له ما وراء السماء و الأفق البعيد و كلام آخر غريب. كنت أسمعه فقط حتى لا أحرجه أو أثيره عليّ، إذ أن كل ما كان يقوله لم يكن يعنيني في شيء ، و جنونه كان غير مبرر في نظري.
و استفاقت سلالتنا على نقصان أحد أبنائها، صديق الطفولة البعيدة. و تجمعنا في الساحة الكبرى المطلة على الهيكل المقدس المزدان بمجسم كبير لجدنا الأكبر "هيدور" .أمضى في بنائه القديس "بوجلابة" سبع سنوات و مئة واحدة الذي كان من أنجب تلاميذه و أحب أبنائه إليه. و قد خصه هو أيضا أحب بنيه إلى قلبه و الأقرب إليه في الإخلاص للعقيدة الهيدورية بمجسم كبير. وهو الذي انتصب مجسمه أيضا إلى يسار جدنا الأكبر،القديس "بوعمامة" الأول. بعد ذلك توقف بناء مجسمات القديسين و حصر في الثلاثة الكبار كما نسميهم، ليس فقط إمعانا في الإعتراف و العرفان لما قدموه لسلالتنا المجيدة و لكن أساسا لظهور نحلة القديس "بولحية" ، والذي قال بأن كل تشبه بالثلاثة الكبار هو إخضاع قدسيتهم لنواميس الأرض التي بعثوا إليها مطهرين مخلصين بسلالة مجيدة و شرع حصين. و ظهرت بعد ذلك فرق أخرى كثيرة عبثت بالوجهة التي أتى منها جدنا الأكبر و الأخرى التي قصدها بعد رحيله الأخير. البعض ساند والبعض عارض، و تطرف بعض آخر بأن هدد بتهشيم مجسمات الثلاثة الكبار، في حين وقف فريق آخرفي زاوية الحياد. و اعنزل فريق آخر، لكن النتيجة كانت واحدة،هي أن ساحتنا التي هرعنا إليها بعد إختفاء ابن البشير، صديق الطفولة البعيدة، ظلت مقتصرة على الثلاثة الكبار. هناك حيث طلع علينا الشيوخ يتقدمهم ناهزنا،الذي قال بصوت عميق امتزج فيه الأسى بالإيمان:
- لن يخرج منها إلا هالك ، هكذا قال المعلم.
و لم يضف على ذلك كلمة واحدة بل انصرف إلى شأن عبادته و خلوته المشتركة مع شيوخنا الذين تبعوه كظلال عديدة لأصل واحد، بنفس الخطى الوئيدة ، تحمل نفس الرؤوس المعتّمة المتراخية إلى الأمام.
لم يكن صديق الطفولة البعيدة أول المغامرين النزقين في تاريخ سلالتنا المجيدة و لا آخرهم،إنما اشتدت الظاهرة بعده. فإذا بنا نصبح متطلعين إلى اسم المغامر الذي ضاق ذرعا بأرضنا و أحوالها.
و في يوم من تلك الأيام الحالكة خرج ناهزنا عن صمته فقال مشيرا إلى شاب بهي الطلعة قوي البنيان:
- تعرفون أمانة و صدق القديس "بوعينين" لقد رخص له وكلاء الشرع و عمداء الحكمة بأن يكون أول المتسلقين لجبال الشمال حتّى يطلعنا جميعا على مصير الهلكى،كيما تطمئن نفوس المترددين، و لتعود أرواح بغاة الهلاك. اذهب فالسلامة معك و اصحب رفقة من سبعة ترتضي فيهم الصحبة الحسنة و العشرة الطيبة والصدق.
كنا مشدوهين لما نسمع، لأن ذلك كان يشي بتحول كبيرعلى كل ما عشناه و عرفناه وعهدناه. و تضاعف شعوري بغرابة ما يحدث لمّا أشار إليّ القديس الشاب بسبابته دلالة الإختيار. كل ما قاله ناهزنا عن أخلاق السبعة تبعدني عنهم إذ كنت دائم الإنطواء على ذاتي، كثير الإنزواء في طبقة أحلام يقظتي التي أدخلتني بحورا مديدة لا يحدها أفق و علمتني السباحة و الغوص فيها.
أرأى في حقا "بوعينين" الصادق الأمين كل تلك الخلال التي لا أظنها لصيقة بي؟
صحبته في ستة آخرين من مثل سني و تفاهتي و اندهاشي، و الإضطراب يكاد يمزقني خوفا من أن نهلك جميعا، ليس فقط لمشقة صعود جبال الشمال و لكن خصوصا خشية أن تفسد رقية وكلاء الشرع و عمداء الحكمة. أمضينا يومين كاملين كادّين مجتهدين نقتفي أثار القديس الصامت الذي أنفق وقتا طويلا مع ناهزنا يطلعه من كتاب الحكمة على مسارب العبور و النجاة من مقالب و مثالب جبال الشمال كما وصفها جدنا الأكبر "هيدور" العظيم. بلغنا قمة الغاية، هناك فقط نطق الصامت الصادق منبهرا. فقال كأنه يؤدي نشيد صلاة يوم التبريك:
- صدَقوا، صدّقوا . صدقَ المعلم.
و أخذ يشير بسبابته إلى وجهة أمامية وهو يضيف:
- الجثت هناك، انظروا إليها . تلك هناك هي "لبوطربوش" الصعلوك . انظروا جيدا لازالت الضباع تقتات منها. غشينا الصمت فترة،بعدها انطلقت الألسن فقلنا بنفس واحد:
- صدَقوا، صدّقوا . صدق المعلم.
لليوم لازلت أجهل لما قلت شيئا كذاك رغم أني لم أبصر إلا بحرا مديدا لا يحده أفق غصت فيه بمرح طفولي أغسل فيه مشقتي و شقائي. لعلي خجلت من أن أبدو مغفلا أمام الآخرين فأكون دون ما يُنتظر مني. كلفتنا العودة الظافرة يوما و بعض يوم، و أهل أرضنا راكنين إلى ترقبهم في ساحتنا المشهودة، حتّى إذا ما أخبرناهم بما رأى القديس الصادق و صدقناه فيه،إنطلقت الحشود مرددة في نفس واحد:
- صدَقوا، صدّقوا . صدق المعلم.
ولم نشهد من يومها شيئا إذ ارتدع كل متردد وولى إلى سابق إيمانه بل أكثر من ذي قبل. وارتد كل بغاة الهلاك المغامرين خوفا من الضباع الملتهمة للجيف، بيد أن الأمر هذه الأيام أضحى أشد وطأة و أكثر تعقيدا حتى إن السماء التي كانت مبلغ افتخارنا انقلبت علينا سوادا مقيما بلا سبب، و صرنا شبه مقيمين في ساحتنا المبجلة ننتظر حلا ينقذ أرضنا ووجودنا و نومنا. كم استمر ذلك؟ لا ندري لكنه وقت طويل لم تستطع تتبعه آلة الزمن الرملية التي أصابها الإعياء من الترقب أيضا، فألم بها عطب. كأن الحديد و الزجاج و الرمل تضامنوا مع السماء و الشمس و القمر إلى أن خرج علينا ناهزنا و في أعقابه شيوخنا المعتمين. وقفوا كعادتهم خلفه مرهقين، مطأطئي رؤوسهم بوقار. فقال و هو يشير إلى القديس "بوعينين":
- جربتم أمانة و صدق القديس "بوعينين"، لقد رخص له وكلاء الشرع و عمداء الحكمة بأن يكون أول المغادرين لأرضنا المباركة في اتجاه الشمال عله يأتينا من هنالك بأخبار سمائهم و شمسهم و قمرهم و أرضهم و رملهم وآلة الزمن عندهم. و المعلم يقول في كتاب الحكمة المقدس: "حيثما الإضطرار، الإباحة". و لقد أخضعنا القديس إلى دروس تعلم خلالها لغة أهل الشمال و عاداتهم كما جاء في باب أسفار المعلم في كتاب الحكمة . إذهب و السلامة معك.
تنفست الصعداء إذ لم يأمره أن يأخذ معه أحدا و إلا لكان قد وقع طيش اختياره عليّ مجددا، فعدت إلى سباحتي معللا سفره وحده كون ترقية أهل الشرع و الحكمة لذلك السفر الطويل لا تصلح إلا لشخص واحد، كما أنه الوحيد الذي صار يخبر لغة و عادات أهل الشمال. و عدنا إلى هدوئنا، و الشوق لمعرفة ما سيأتينا به الأمين الصادق يأكل ذواتنا. و أمضينا في ذلك دهرا. كم دام ؟ لست أدري، لأن آلة الزمن الرملية ما فتئت تنتشي بعطالتها الدائمة، و لم تشأ مخالفة ما يشبه الإتفاق الضمني و الولاء المعلن لقضية بين الحديد و الزجاج و الرمل، و بين السماء والأرض و الشمس و القمر. لكن ذلك كان طويلا، طول انتظارنا الذي انتهى إلى التلاشي و الإضمحلال. وولينا إلى سابق أعمالنا و لامبالاتنا ، و أبعدنا أمر القديس "بوعينين" عن رؤوسنا و نسيناه بعد ذلك تماما، كما لو أننا فعلنا ذلك مجبرين حتى لا نخوض في مصيره ، و عجز الترقية عن إنقاذه من الهلاك. و توارى شيوخنا خلف عذر عزلتهم خجلا من المواجهة ربما، أو لإجراء طقوس عبادة خاصة تعيد الغائب، إلى أن حدث حادث في يوم لست مستعدا لنسيانه أبدا، حين عادت الشمس من تلقاء رغبتها إلى الظهور مزينة سماءنا عقب ليلة مكتملة البدر و النوم استمتعنا فيها بنوم لا كوابيس تقطعه.
و استبشرنا بذلك خيرا فقصدنا ساحتنا المبجلة ، هنالك لحظنا أن آلة الزمن الرملية عادت من تلقاء رغبتها للعمل في نفس الوقت الذي عاد فيه ناهزنا و شيوخنا للظهور من معتكفهم، فقال بصوت رصين مستشهدا بقولة مأثورة للمعلم:
- الأرض تحمل البشارة للسماء.
لم يكد ينته من ذلك حتى طالعنا طيف بعيد ينحدر إلينا من مرتفعات الشمال مسرعا في مشيه. لم يطل ترددنا إذ أخذ التهامس ينداح بيننا إلى أن صار طنينا لكنه بنفس واحد:
- القديس"بوعينين".
و ركض الصغار فرحين بمقدم غريب يريدون استكشافه، إذ لم يكونوا قد رأوه قبلا. ولدوا في غيبته و لم يجرؤ الكبار على الحديث عنه، إذ ظنوه هلك أو ابتلعته أرض الشمال الغادرة. كانوا ينطون حوله بفرح غامر و لم يتوقفوا إلا عندما صعد الدرجات العشرين المؤدية إلى الهيكل، و أكبّ على يد ناهزنا و قبلها مرتين على الظهر و مرة في الباطن، و على الكتف الأيمن لكل شيوخنا و نحن وقوف ننتظر ما لديه. فاستأذن للحديث من ناهزنا فأذن له بإشارة من يده، فقال بصوت متحمس:
- يا سلالة الأماجد، تأخرنا كثيرا عن أرض الشمال. إن أهلها الذين لا يستحقون رضى الأرض و السماء قد تجاوزونا بكثير في كل شيء، و اختلفوا عنا في كل شيء، في الأكل و الملبس و العادة واللغة. كل ما تعلمته هنا لم يكن بذي جدوى إذ أضافوا و حذفوا و استحدثوا. لكن الشيء الذي عكفت على ملاحقته و ملاحظته طيلة هذه السنين كان الأغرب. يا أماجد، ظهر الإلاه الجديد صاحب العقيدة الجديدة. يقبع في مكان بعيد آمن، للصلة به يلزم المؤمن شيء صغير أملس يضعه بين الأذن و الفم، تناجيه فيرد عليك ،
وتطلبه فيكلمك مباشرة و يبدي رضاه عنك أو سخطه. لقد شاهدت فيما شاهدت امرأة شديدة الإيمان تقبله بحرارة و الدموع ملء عينينها و هي تقول بتبتل واضح بلغتهم التي صرت حذقا فيها:
- آلو، يا حبيبي لا أنام الليل كله بسبب انشغالي بك. إرض عني.
و مؤمن آخر:
- آلو، منذ مدة و أنا أطلبك فلعل مانع هجرك خيرا.
و أخرى:
- آلو، أنت كل شيء دونك الموت. إرض عني.
ثم آخر:
- آلو، الرحمة و العفو، أرجوك.
حينذاك أدركت سبب سخط السماء علينا و عدت أدراجي إلى أرضنا المباركة، كيما أعلم ناهزنا و شيوخنا ليبثوا في الأمر.
أخذوا يهزون رؤوسهم و دون كلمة استدار ناهزنا و شيوخنا في أعقابه إلى خلوتهم المشتركة يشاطرهم إياها القديس "بوعينين". كانت المرةالأولى التي نرتكب فيها حماقة جماعية دون سابق تخطيط إذ أقدمنا على الشيء ذاته دون إنتظار أمر، فهرع كل منا إلى حجرة ملساء ، و طفقنا في صلواتنا متبتلين للإلاه الجديد"آلو". و لم يكد يمضي وقت طويل على خلوة التشاور حتى طلع علينا ناهزنا مجددا، ممسكا حجرة ملساء في يده. لا لم يضربنا بها، و إنما كان مثلنا مستغرقا في صلاته يبكي بإيمان صادق. في نفس الآن، اكفهرت فيه السماء من فوق رؤوسنا، و ترنحت و زمجرت كأنها تخنق الشمس التي ماتت من فورها إذ استحال اصفرارها الوضاء إلى رمادية دكناء. و عادت الغيوم أكثر شراسة من الأول و تكسرت آلة الزمن الرملية، و عصفت ريح شرقية ملهبة و غربية قارسة على الساحة المبجلة، و انهالت فوق رؤوسنا أمطار غزيرة، و إذا بنا ندرك ما قاله صعلوك عن أرضنا و مثالبها، و سوء اختيار جدنا"هيدور"العظيم لها. و في أقل من طرفة عين غرقنا في طوفان جارف، كنت الناجي الوحيد منه . كأنما الأقدار خلتني كيما أعلمكم عن سلالتنا المجيدة و حكاياها الغابرة، و قد يسرت لي مهاراتي في السباحة ذلك، و كنت الحذق الوحيد فيها العالم بأفانينها. فألفيتني مدفوعا بسيله الجارف في اتجاه الجنوب وسط المنازل المهشمة و جثت أصحابها الغرقى و محتوياتها القليلة. لم يسلم منه شيء حتى أعظم صروحنا، الهيكل الذي تداعى بسرعة مذهلة و مجسمات الثلاثة الكبار ، إذ لم يظهر إلا رأس المعلم الأول الذي اقتطعت منه أجزاء هامة حتى بدا مشوها بشعا، و هو ما كان مفخرة حضارة سلالتنا في البناء و العمران، و الفن و الإتقان. و أحالت المياه الغامرة كل ذا همة إلى تفاهة حقيرة، كما أحالت أرضنا التي صمدت حتى الفصل العاشر من سنتنا السابعة بعد المئة الرابعة للألف الثالثة إلى صدى مؤلم. و في غمرة نصبي و تقاذفي بين الأشياء كشيء، اصطدم بي كتاب كبير لم تستطع المياه الذهاب بوضوح عباراته و كان مفتوحا على أول صفحة فقرأتُ بصعوبة بالغة:
- "سلالة رعناء تبتدئ بمتنبئ ثابت و تنتهي بطوفان جوال".


وهذه إشارة بسيطة:

ألقاني الطوفان شابا أبلغ من العمر ثلاث عشرات بعد المئة الأولى عدد سنين في مدينة يسمونها "سلا" فتخفيت بين أناسها ردحا ثم شرعت أكتب عن آثار سلالتنا المنقرضة، و انتهيت من ذلك و آلة الزمن لتلك المدينة تؤشر إلى 3:54 بعد جوشن الليل ليوم الأربعاء، الثالث بعد العشرة الأولى للشهر السابع للسنة الخامسة بعد الألف الثانية لميلاد نبي يسمونه المسيح.

انتهى

عبد السلام المودني.

أبو شامة المغربي
23/03/2006, 04:52 PM
غيوم رمادية مائلة إلى السواد تزحف على سمائنا بشكل غير مألوف، لكننا مع ذلك اعتدنا رؤيتها. لفرط ما تغيرت أحوال سمائنا، رغم أننا في الفصل العاشر من سنتنا السابعة بعد المئة الرابعة للألف الثالثة من تقويم استقرارنا فوق أرضنا هاته ...


انتهيت من ذلك و آلة الزمن لتلك المدينة تؤشر إلى 3:54 بعد جوشن الليل ليوم الأربعاء، الثالث بعد العشرة الأولى للشهر السابع للسنة الخامسة بعد الألف الثانية لميلاد نبي يسمونه المسيح.


******************************

الخميس 23 مارس 2006م
سلام الله عليك أخي الكريم عبد السلام ورحمته تعالى وبركاته
وبعد ..

مرة أخرى تأبى أخي الكريم كدأبك إلا أن تطل علينا من قلب حروفك المكلومة، التي تروي في صمت رهيب تاريخا من الأسى الشديد والحسرة العاصفة ..

وكأني بكلماتك توحي بحكاية عتيقة حديثة في ذات الآن .. ترددت أصداؤها في كل زمان وفي كل مكان .. حكاية ذات لسان فصيح، تقص من البداية إلى النهاية، ومن النهاية إلى البداية قصة مخلوقين، أحدهما أحب صعود الجبال، والآخر عشق الحياة بين الحفر ...


ثم لا أدري كيف ذكرني ما صغته من عبارات تأريخية بشاهد شعري، لعله للشاعر الفلسطيني محمود درويش .. جاء فيه:

سجل أنا عربي
ورقم بطاقتي خمسون ألف
وأطفالي ثمانية
وتاسعهم سيأتي بعد صيف
فهل تغضب ..؟


تحية قلبية أخوية خالصة مني إليك أخي الكريم عبد السلام





د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)