المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العِلمَانيّة



طارق شفيق حقي
07/04/2012, 11:20 PM
العِلمَانيّة

من كتاب كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة للشيخ عبد الرحمن حسن الحنبكة الميداني

بعد تيار العقلانية ، جاءت النهضة العلمية الغربية المعاصرة ، التي استخدمت فيها وسائل الملاحظة والتجربة الحسية التطبيقية على الأشياء ، وساد المذهب الحسّي التجريبي .

وكشفت التجارب التطبيقية ودلائلها كثيرا ًمن الأغاليط التي كانت في المرحلة السابقة من ثمرات المذهب العقلي والعقلانية.

واصطلح الغربيون على أن يخصوا طريقة الملاحظة والتجربة الحسية التطبيقية باسم الطريقة العلمية ، مع أن العلم الصحيح لا تنحصر وسائله في هذه الطريقة .

فالحق الذي يقدمه العقل علم . والحق الذي يقدمه الحس علم . والحق الذي يقدمه الخبر الإنساني الصادق علم . والحق الذي يقدمه الوحي المؤيد بالمعجزة الربانية علم .

وبسيادة المذهب الحسّي التجريبي انحطّت منزلة المذهب العقلي في مسائل المعرفة التي يمكن أن تخضع للملاحظة والتجربة والتطبيقات المتكررة .

واحتل ما أسموه بالطريقة العلمية عرش معارف النهضة العلمية المعاصرة لدى الغربيين والشرقيين في مختلف العلوم ، باستثناء مجالين :
الأول : مجال المسائل الفلسفية التي لا تخضع للملاحظات الحسية والتجارب والتطبيقات .

فقد ظل المذهب العقلاني هو المتفرّد بسلطانه في هذا المجال .

الثاني : قضايا الاجتماع البشري ومذاهب السلوك الإنساني ، التي تتدخل الأهواء والمصالح الخاصة في تزيينها .

فقد ظلت ذرائع المذهب العقلي مع ألاعيب تطبيق المنهج العلمي التجريبي ذات السلطان فيها.

وبالبحث المتعمق يلاحظ المنصف الخبير أن الموجه الحقيقي لتزيين المذاهب الفكرية في هذا المجال إنما هي الأهواء والشهوات ، والمصالح الخاصة للأفراد أو المنظمات ، أو الجماعات المحكومة بالعصبيات ومختلف الأنانيات .

ومع سيادة المنهج العلمي الحسّي التجريبي روّج أعداء الدين فكرة التناقض بين الدين والعلم ، كما روّج أعداء الدين من قبل فكرة التناقض بين الدين والعقل .

وسارت الفكرتان معاً في كثير من الأحيان ، فحملت أجيال درست علومها على طرائق الغرب النصراني المتحلل من دينه ، أو على طرائق الشرق الملحد المنكر لكل الأديان ، فكرة التناقض بين العقل الدين من جهة ، وبين العلم والدين ومن جهة أخرى .

وشاع استخدام كلمة "العلمانية" لهذا التجاه العام ، سواء صرح بالإلحاد والكفر بكل الأديان ، أو أجرى مصالحة خداعية توفيقية ، عزل الدين فيها ضمن حدود الغيبيات الاعتقادية ، والطقوس التعبدية ، وبعض أحكام الأحوال الشخصية ، ومراسِم دفن الموتى .

تعريف بالعلمانية :

فالعلمانية ليست مذهباً محدد المعالم ، واضح الأركان ، لكنها عنوان لاتجاه هدفه النظر بعين واحدة ، هي عين البحث العلمي بالوسائل الإنسانية ، وطمس عين العلم الأخرى التي تقتبس المعرفة من الدين والوحي طمساً كلياً ، وفي هذه الحالة تكون العلمانية إلحاداً بصورة إيجابية ، أو إهمالاً للدين وعدم التفات إليه ، أو طمساً جزئياً ، وفي هذه الحالة تكون العلمانية إلغاءً للدين فيما عدا قضايا الاعتقادات الدينية والغيبية ، أو العبادات المحصنة وطقوسها ، مع بعض أحكام ومراسيم أخرى ،وسلوك فردي خاصّ بمستلزمات الحريّة الشخصية .

ولفظ "العلمانية" ترجمة اصطلاحية مهذبة فيها تعديل لما حقُّه أن يترجم بـ"اللادينية" أو بـ"الدنيوية" أو بـ"الاتجاه الذي لا يعتبر الدين ، ولا يهتم به ، ولا يقيم له وزناً في شؤون الحياة" و"الدنيوية" التي ترجمت "بالعلمانية" لا تؤمن بشيء وراء الحياة الدنيا.

وكلٌّ من الترجمة والأصل الغربي يعبّر عن اتجاه فكري وعملي ظهر بقوة إبان الثورة الفرنسية ، قبلها إرهاصاً ، وبعدها شعاراً ومبدأً ، فهو من الشعارات التي برزت بروزاً واضحاً في الغرب أواخر القرن الثامن عشر .

وقد غدا من الواضح لدى كل الباحثين المحققين –كما سبق بيانه- أن الثورة الفرنسية وشعاراتها مكيدة دبرها المكر اليهودي ، وتآمر على وضع خططها اللازمة المرابون العالميون اليهود ، بتوجيه النورانيين من الحاخامين .

وإذا ادعى أصحاب الاتجاه العلماني ، أن العلم الحق الذي تُوصِلُ إليه وسائل المعرفة الإنسانية يتناقض مع مفاهيم الدين وتعاليمه ، وإذْ روجوا لهذه الفرية بمختلف وسائل الإعلام ومناهج التعليم ، فقد غدا الطريق ممهداً أمامهم للمناداة بوجوب فصل الدين عن شؤون الحياة كلها ، لا سيما القوانين ، والسياسة ، والإدارة ، والحكم ، والقضاء , والاقتصاد ، وقضايا السلم والحرب ، وكذلك الأخلاق وسائر العلاقات الاجتماعية . وبوجوب عزل الدين عزلاً كلياً بين جدران المعابد ، وفي حدود العقيدة والعبادة المحضة ، وبعض الطقوس والشكليات المتعلقة بالزواج ودفن الموتى ، وصور من السلوك الفردي الذي تكفله مبادئ الحرية الشخصية التي سادت في الغرب .

فمن شاء أن يكون متديّناً ، فعليه أن يقصر تدينه على أمور العقيدة ، والعبادات المحضة ، وطقوس ومراسِم الدوائر الصغرى التي وجب حصر الدين فيها ، ولا يسمح له بأن ينقلها إلى المجالات العامة .

أما الشؤون الأخرى من شؤون الحياة فيجب أن لا يكون للدين أيّ سلطان عليها ، أو أي توجيه لها ، ولا يسمح للمؤمنين بالدين أن يكون لهم تأثير فيها من منزع ديني .

وقد لبست العلمانية رداءين :

أحدهما : يتظاهر بالحياد تجاه عقائد الدين وعباداته المحضة ، وما أرادوا حصر الدين فيه واعتبروه من دائرة تخصصه ، ويتظاهر بأنه لا يريد إلغاء الدين كلياً ، إنما يريد حصره في مجالات تخصصه .

أما تدخله في شؤون الحياة الدنيا فهو تدخل يفسدها ، ويعوّق مسيرتها وتقدّمها وارتقاءها .

ويزعم لابسو هذا الرداء – كذباً وافتراءً على الدين الحق – أن تعاليم الدين في شؤون الحياة غير صالحة ، لأنها غير علمية ولا عقلية .

وثانيهما : يُعلن حربه وعداءه للدين كله ، ويسعى بكل ما أوتي من حيلة وقوة لإلغائه إلغاءً كلياً ، وجعل المادية ومفاهيم التطور الذاتي للكون ، والإلحاد بالله عزّ وجلّ ، والكفر بكل القيم الدينية ، هي العقيدة السائدة في كل المجتمعات الإنسانية .

ويتخذ لابسو هذا الرداء كل وسائل المكر ، والكيد ، والقهر والإكراه ، والتزييف الفكري للحقائق ، وفرض القوانين ، ومناهج السلوك ، وبرامج التعليم الموجه ، بغية تحقيق هذا الهدف .

ولا ريب أن العلمانية صاحبة الرداء الأول المتظاهر بالحياد تجاه الدين في المجال الذي أراد حصره فيه ، إنما لبست رداءها هذا نفاقاً لأنصار الدين وأتباعه في الأرض ، ونفاقها هذا سياسة مرحلية ذكية ، تعتمد على أسلوب التدرج ، حتى إذا تمكنت انتقلت إلى الإجهاز على الدين كله إجهازاً كلياً ، ويومئذٍ ترتدي الرداء الثاني ، وتعلن حربها للدين كله .

فهي مع تظاهرها بهذا الحياد النسبي الجزئي تشجع الدراسات الفلسفية المعادية للدين وتتبناها ، وتشجع المذاهب الفكرية القائمة على الإلحاد والكفر بكل الأديان وتتبناها .

وقد تسترضي جماهير المتدينين استرضاءً صورياً ، ببعض شكلياتٍ ومظاهر لا تعطي الفكر الديني قوَّة ولا انتشاراً .

وبعض المؤمنين بـ "الدنيوية = العلمانية" يرون ضرورة التسامح مع الدنييين ، على أساس أن لهم الحق في اعتقاد ما يشاءون ، وفي أن يكونوا أحراراً في الأخذ بالمبادئ التي يقتنعون بها .

فباستطاعتنا إذن أن نُدخِل في الاتجاه الذي يحمل شعار العلمانية كل المذاهب الفكرية والسلوكية المخالفة للدين ، والمتنافية معه (الفلسفية ، والنفسية ، والأخلاقية ، والاجتماعية ، والاقتصادية ، والسياسية ، والإدارية ، وغيرها).

فالعلمانية شعرا يتستر بالعلم ، وبالتزام ما تثبته الحقائق العلمية ، ويوحي ضمناً أو يعلن صراحةً أن الدين يتناقض مع العلم .

ومن له ظن حسن بالدين ، من الذين يحملون شعار العلمانية أو الدنيوية ، وأصل المبدأ غير واضح في ذهنه تماماً ، يقول :

إن صدق الدين إنما يكون في دائرة اختصاصه فقط ، وهي عقائد غيبية وعبادات وطقوس ومراسيم خاصة . أما شؤون الحياة الدنيا فهي من اختصاص العقل ووسائل المعرفة الإنسانية .

وبهذا الزعم الباطل يضيقون دائرة اختصاص الدين تضييقاً شديداً .

سبب قبول الاتجاه العلماني :

وسبب قبول هذا الاتجاه العلماني في الغرب ما سبق بيانه ، وهو تعرض الديانة النصرانية للتحريف ، وإدخال الأغاليط البشرية في صلب مفاهيمها ، وحشوها بالخرافات الوضعية ، وما وصل إليه رجال الكنيسة من فساد ، حتى أمسى الدين النصراني ورجاله في نظر المتنورين الغربيين صورة للخرافة ، والظلم الاجتماعي ، والفساد المتستر بهيمنة الغيبيات الدينية .

وسرت عدوى هذا الاتجاه وامتدت إلى الشرق الإسلامي ، وحمله الذين درسوا من أبناء المسلمين في مؤسسات التعليم العلمانية ، وأخذت المحافل الماسونية والأحزاب والجمعيات ذات الاتجاه الغربي اللاديني تنشره بين أبناء المسلمين بكل ما أوتوا من وسيلة دعائية وإعلامية وتعليمية .

وزحفت العلمانية بقوة تنتشر بين المسلمين مع جيوش المستعمرين الغربيين ومدارسهم العلمانية ، ومن معهم من المستشرقين .

وقد ظهرت العلمانية في ظل حكم "كمال أتاتورك" في تركيّا بشكل صارم وعنيف ، وكشفت عداءها الشديد للإسلام .

ثمّ ظهرت في كثير من بلدان العالم الإسلامي باسم فصل الدين عن السياسة ، وأنه لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين .

وما تزال تظهر لها تطبيقات في معظم بلدان العالم الإسلامي ، ولو لم تحمل هذه البلدان شعار العلمانية بشكل سافر .

نتائج الاتجاه العلماني والعقلاني أحياناً :

والتزاماً بمذهب الأخذ بالعلمانية وبالعقلانية أحياناً ، انطلق العلمانيون يبحثون في كل مجال من مجالات الحياة عما توصلهم إليه علمانيتهم وعقلانيتهم من أفكار ومناهج ونظم ، لاتخاذها مذاهب لهم .

وكان لا بد أن ينتج هذا الاتجاه العلماني مذاهب مختلفة ومتناقضة أحياناً للسلوك الإنساني ، في كل مجالٍ من مجالات الحياة ، لأن البحث العلمي أو العقلي الإنساني الذي لم يصنه الوحي الربّاني ، لتحديد هذه المذاهب ، لا يملك الوصول إلى المنهج الأصلح والأقوم لكل الناس ، إذْ تخضع رؤيتهم لمؤثرات من النفوس والأهواء والشهوات ، أو لمصالح أفراد أو جماعاتٍ أو منظّمات ، وتخضع أيضاً لتضليلات يوسوس بها شياطين الإنس وشياطين الجن.

وجرت تعديلات في كثير من المذاهب الإنسانية ، التي كانت من منتجات المذهب العقلاني ، وذلك بموجب تأثيرات المذهب العلماني ، الذي صار هو السائد في القضايا التي يكون فيها للملاحظة والاختبار والتجربة الحسية أحكام من وجهة نظر أصحابها .

وباستطاعتنا أن نقرر أن المذاهب الاقتصادية المختلفة المعاصرة ، من رأسمالية ، إلى اشتراكيات مختلفة ، إلى شيوعية ، على اختلافها أو تناقضها ، كلها من منتجات العلمانية مع العقلانية . وأن المذاهب السياسية المعاصرة المختلفة من ديمقراطيات إلى ديكتاتوريات على اختلافها أو تناقضها ، هي من منتجات العلمانية مع العقلانية . وكذلك المذاهب الأخلاقية المتخالفة والمتناقضة أحياناً جميعها من منتجات الاتجاه العلماني أو العقلاني . وهكذا سائر المذاهب الاجتماعية المختلفة والمتناقضة أحياناً ، والآراء والأفكار والمذاهب المختلفة في علم النفس وفي سائر العلوم .

وطبقت العلمانية في التعليم ومناهجه ، فأبعد الدين عنه .

وطبقت في السياسة والحكم فعزل الدين عنهما .

وطبقت في الاقتصاد ونظم الأموال فعزل الدين عن هذا المجال .

وطبقت في القوانين المدنية ، فوضع العلمانيون قوانينهم .

وطبقت في الفنون فانطلق هواة الفن ينتجون إنتاجاتهم المختلفة مستهينين بالدين وبفضائل الأخلاق وبفضائل السلوك .

وسقط العلمانيون العقلانيون في مذاهب متخالفة ومتناقضة أحياناً ، ولم يقدموا للإنسانية مناهج سليمة متكاملة تحلّ مشكلات الحياة البشرية الفردية والجماعية ، أو تحقق للناس أوفر حظٍّ من العيش الكريم ، والأمن ، والسعادة ، وكان ذلك بإهمالهم لدين الله الحق الذي ختم الله به رسالاته للناس ، وهو الإسلام .

*