المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حلب كما رأيتها



طارق شفيق حقي
18/03/2006, 10:11 PM
عشت أجمل ذكرياتي في حلب فيها نبغ حرفي وتجرأ قلمي وجلت فيها كسائح بل كطفل عانى وفرح وتعب

في دواخل قلبي لها حب وكره
وقد وصفت حواريها وقلعتها وقصرها البلدي ولهاث المدينة المبتعد عن أصالته وسأحاول أن أضع مقطتفات من بعض القصص لمدينة حلب



من قصة رقصة الساعة الواحدة

http://www.merbad.net/vb/showthread.php?p=111#post111
أفق أسود يرجع البصر حسيراً . لم يكن بمقدوري سوى متابعة الأضواء المرهقة التي ترسلها المنازل في حوض المدينة كان لا بد لي أن أقف عند القصر البلدي الشاهق الذي وقف كنابليون على رأسه قبعت قبعته الشهية وهو يحجب شيئاً من رؤية قلعة حلب . كان القصر البلدي يرتفع أكثر من عشرين طابقاً ولم تشير إلى فيالق المنازل التي أحاطت بالقلعة من الميمنة والميسرة أن تقدموا فتتقدم المنازل لتحاصر القلعة من كل صوب وتنتهك محارمها وفي النهاية تتكسر على أسوارها خائبة ذليلة وتستمر المعركة .
في الصباح لم تكن لتستمع سوى أذان الفجر وتختفي المدينة بأكملها في سديم كبير , مدينة حلب تختفي تحت ضباب ثقيل لم يكن بمقدوري أن أرى سوى القلعة وبعد أن تدور الساعة قليلاً تتكشف الحقائق وتفضح جزيئات هذه اللوحة وتنير كل شيء تظهر المدينة عارية أعود لأتذكر ذلك الضباب ضباب ضباب من أين يأتي كل هذا الضباب ؟ بالكاد تميز الأضواء الخضراء الصابرة متناثرة على المدى البعيد وكل شيء واضح أمامي كل ما يجري في المدينة , من هذه الشرفة أطل على كل نافة كل شارع كل حديقة وكل ما يجري في وضح النهار أما ما يجري هنا فتحت أستار الضباب , تعودت تلك الحافلة فبعد الساعات الأولى يزول الضباب وكعادتي فتحت النافذة لأخذ رشفات من هذه المدينة آه ضباب كثيف اليوم و حتى في هذه الساعة لم يمنعني ذلك من الفطور المعتاد وبالرتابة ذاتها مدت بي قدماي إلى الكلية
..

..
عدت إلى المنزل فوجئت بصيحات والدتي وهي تقول أخوك الأصغر قد اختفى جن جنوني بحثت عنه طويلاً سألت الجيران الدكاكين المشافي الشرطة بلا نتيجة في غرفتي فتحت النافذة وبدأت أتأمل هذه المدينة الضبابية ضوء الغاز في الشارع يصدر أزيزاً وكأنه جرس يرن تذكرة جرس صالات السينما في شارع بارون والرجل القصير السمين ذو اللحية الخشنة والرأس الأصلع يصيح وهو لا يكف عن هرش ذقنه بدأ العرض بدأ العرض عنف بنات إثارة فتيان قد تجمعوا حول الصور الخليعة المعروضة ورائحة الفلافل تعبق في ذلك الشارع الذي يراه العساكر عرضاً سخياً .
وبما أن الإجازة لا تكفي لأن يذهبوا إلى مدنهم وقراهم البعيدة فيه عشر من الساعات يقضونها في هذه السينما وبعدها عدة أقراص من الفلافل تسكن في المعدة ثم تنتفخ مشعرة الإنسان بالنعاس والعطش فينطلق الأصحاب يقلبون بأعينهم كل الأشياء الصغيرة والغريبة التي تملأ شوارع مركز المدينة . وما أن تمر بهم فتاة قد لبست ثياب أختها الصغرى حتى تراهم يصعقون ويتابعونها وأعينهم تأكلها أكلاً , ثم ينظرون بعضهم إلى بعضهم الآخر ويضحكون طويلاً متذكرين أحد المواقف قبل الإجازة .
تمتد يد أحدهم لتعبث بتلك الأغراض الصغيرة والكبيرة التي تملأ الأرصفة والشوارع والبائع غير مكترث بوجودهم فهو يهتم برجل غريب أو فلاح قادم من الجزيرة فيبيعه المنتج وقد ضربه بعشرة أضعاف وذلك المسكين يظن البائع طيباً إذ حسم له بعض الليرات . وما أن يخبره أحدثهم بحقيقة السعر ويتذكر صاحبنا كيف دار به صاحب سيارة الأجرة أكثر من ساعة في نفس المنطقة وهو يبحث عن طبيب القلب المعروف ثم يأخذ منه العديد من الورقات النقدية مشيراً إلى العداد فينهال الرجل المسكين شباباًَ عليهم وعلى الساعة التي جاء بها إلى هنا وقد يتوقف قلبه قبل مراجعة الطبيب . تذكرت أخي الذي اختفى في ضباب هذه المدينة ثم دكتور النقد القديم ثم صديقي , ما الذي يجري في هذه المدينة ؟استمر الضباب بالتكاثر , الأضواء خافتة . لم أكن أستطيع أن أرى سوى الضوء الأخضر المتاصبر من أعلى المآذن . كنا في الأساطير نقرأ عن المدينة التي تظهر مرة واحدة في العام ثم تختفي وهذه المدينة التي لا تنام تختفي وتظهر في نفس اليوم وبعد أن تسهر حتى الهزيع الأخير من الليل وقبيل الفجر بقليل تنام بأسرها ساعة نوم الكلاب والقطط .
وهي تعج بالضباب وتختفي شيئاًَ فشيئاًَ وساعة دخول الدنيا في الضحى تنكشف الأستار قليلاً لتظهر قلعة حلب واضحة للعيان وقد استيقظت في الصباح الباكر لكن المدينة لا تزال غافلة والضباب يملؤها ويلتف حول المباني الضخمة لتراها أشبه بمدينة الأشباح .
أمعنت النظر في القلعة فتراءى لي القائد العسكري صلاح الدين يطل من أسوارا وتراءت لي جماهير حلب العظيمة يومها والتي أتت لاستقباله وهو يقول اليوم أيقنت أن الله سينصرني على الفرنجة . ما تراه يقول اليوم صلاح الدين ؟
نابليون غاضب هذه الأيام وهو يحرك بيده واضح من اليمن إلى اليسار وكأنه ملك متجبر أذلته عقبة عسيرة الأحتلال . وكانت العقبة هي القلعة التي ثبتت على الرقعة والملك الغاضب أمامها , لعبة طويلة ليس في ( كش ملك ) لأنه ملك فارغ من الداخل عظيم من الخارج كما هو حال جميع الملوك


..
..خفيفاً كنت أسير . أحسست بأني أبتعد عن الأرض , يا لهذه الخفة , أين الجاذبية , نيوتن يقول إن الجاذبية هي التي تشدنا إلى الأرض , أولا تجذبني إلى الأرض الآن ؟ يا للخفة , وبدأت قدماي تبتعدان عن الأرض , كانت القلعة أمامي بجدارها الزماني العتيق وأنا أحلق فوقها , وما إن أصبحت فوق السور حتى وجدت أبي , وأمي وأخي وأصدقائي , ومعلمي داخلها , وشاهدت نفسي بينهم , كانوا يلوحون لي , كنت قاب قوسين أو أدنى منهم , وما إن لوحت لهم حتى سقطت أرضاً وقفت ونفضت كل الأتربة وركضت أجوب الشوارع بخطوات قوية وأنا أصيح : كذب نيوتن .. كذب نيوتن ...
نظرت إلى ساعة يدي , كانت ما تزال تشير إلى الواحدة ليلاً .


..
..
..