المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : وظائف أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة



أبو شامة المغربي
16/03/2006, 11:25 AM
:neeww:




وظائف أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة





إن لكتابة السيرة الذاتية الإسلامية اليوم وأكثر من أي ظرف زمني مضى دورا كبيرا، وفعالية لا تقل أهمية عن باقي الكتابات التي تنتمي إلى الأدب الإسلامي الحديث، خاصة مع اكتساح الآداب، والمفاهيم، والقيم الغربية للبلاد العربية الإسلامية، التي انبهر كثير من مثقفيها بما لا يصل واقع الحضارة الإسلامية العريقة بسبب، ولا يمت لأخلاق وعقيدة المسلمين بشيء.
ومما لا ريب فيه أن أدب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث، سيظل أحد أبرز الإنتاجات المتميزة، وأداة خطابية مؤهلة لتكريس ثقافة تواصلية فاعلة ومثمرة، تمكن الكاتب المسلم من تحقيق غاية مزدوجة، إذ سيتأتى من ناحية للآخرين الوقوف على حقيقة الذات المسلمة وعقيدتها، وعلى مكوناتها الشخصية وطبيعة أسلوبها الحضاري، ومن ناحية ثانية ستتمكن الذات العربية المسلمة من القيام بدورها الطبيعي، سواء في إطار محلي أم في فضاء كوني عالمي.
ونحن نرى أن الأدب الإسلامي، ومنه أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، ستكون له المكانة المتميزة داخل وخارج العالم العربي الإسلامي الحديث، لأنه وسيلة الذات المسلمة للتعريف بنفسها، فضلا عن كونه أداة ثقافية تواصلية، ستحقق الذات المسلمة من خلالها غاية مزدوجة، إذ سيتأتى من جهة لغير المسلمين الوقوف على حقيقة هذه الذات التي تدين بالإسلام، وعلى مكونات شخصيتها وسمات عقيدتها، وطبيعة أسلوبها الحضاري، وعلى نوع وسائلها وهوية أهدافها.
ومن جهة ثانية ستتمكن الذات المسلمة من خلال نفس الأداة ـ من القيام بدورها الطبيعي في العصر الحديث، سواء في إطارها المحلي أم في إطار كوني وعالمي، ما دامت تستهدف برسالتها الإنسان حيث وجد، ولعل أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة مؤهل ليوفق ويجمع ما بين قطبي: المحلية والعالمية، وحتى إذا كانت اللغة العربية طبيعية وأساسية في دائرة هذا الأدب، فإن هذا لا يعني في شيء توقيف الأدب الإسلامي عليها دون غيرها في اللغات الأخرى، وذلك بحكم ما يسم المجتمعات الإنسانية من تباين واختلاف لغاتها التواصلية.
ثم من المؤكد أن عالمية أدب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث كامنة في محيلته، وهي تبدأ مما يطبعه أصالة ويمتلكه من خصوصية؛ فهل سيكون أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة هو ذلك الفرع الأدبي الذي سيحقق للأدب الإسلامي عالميته؟
ثم إن كتابة هذا اللون من الأدب الإسلامي، تمثل مجالا فسيحا للدعوة إلى الإسلام، ولتطهير الذات المسلمة: الكاتبة و القارئة على حد سواء، هذا فضلا عن كون السيرة الذاتية ذات السمة الإسلامية، هي معين لا ينضب من التجارب، والمواقف، والأحداث وغيرها، قد تنهل منه مختلف الإنتاجات الأدبية عناصر أدبية فنية، تبعث على الإبداع الذي يجمع بين المتعة والفائدة، وباستطاعة كل أشكال المعاناة، والأفكار، والرؤى، والمشاهد المسترجعة، والفضاءات المكانية والزمانية أن تنمي في الذات الكاتبة والذات القارئة حسا وحدسا فنيا، وتزكي فيهما ذوقا جماليا رفيعا.
إن الذات المسلمة تتوجه برسالتها الحضارية الإسلامية إلى الإنسان حيث وجد، ولعل هذه الخاصية ستفتح أمام كتابة السيرة الذاتية الإسلامية وتلقيها في العصر الحديث آفاقا رحبة، وأبوابا كثيرة بإمكان الكاتب المسلم والكاتبة المسلمة أن يلجاها، وذلك من أجل الوصول بصوت الدعوة الإسلامية إلى كل من ضل السبيل في هذا العصر، إذ بإمكان الأديب المسلم أن يخلص بأدبه الذاتي إلى من يعانون التمزق والضياع في هذه الحياة الدنيا، وفي قيامه بهذه المبادرة بعض من تأدية رسالته، وهي أمانة جلية القدر في كل زمان ومكان.
وبحكم أن السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة إنتاج أدبي ينتمي إلى الأدب الإسلامي المسؤول، فإنها تعكس على صفحات متنها قضايا الإنسان المسلم، وتعبر عن هويته ووظيفته، والعلاقة التي تجمعه بخالقه جل وعلا وعقيدته الإسلامية، ومن ثم فإنها تكشف بوضوح واقعا خطابيا هادفا، له مبادئ وأصول ثابتة لا ينسلخ عنها ولا يتجاوزها، وله مسار دقيق لا يحيد عنه، مجسد في خصائص الإنتاج الأدبي الإسلامي، فهل استطاع كاتب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة أن يحث القارئ على التفكير والتفاعل، وأن يجعل من نشاطه الذهني امتدادا طبيعيا لفكره وتصوراته، باعتبار أن ما يعرض عليه من خطاب يشكل قوة فاعلة ومغيرة إلى الأفضل؟
ولا شك أن أدب السيرة الذاتية له مكانة محفوظة، وقيمة بالغة الأهمية في قلب الآداب العالمية الحديثة، وذلك باعتبار ما يسمح للقراء أن يطلعوا عليه من نماذج بشرية، وقيم إنسانية ذات التأثير البليغ في نهج حياتهم وتكوين شخصيتهم، وكذلك أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة لا يقل أهمية ولا يعدم التميز؛ فهو قوة نابضة في حياة الذات المسلمة، كما أنه فعل ذو أهمية، وأداء مميز لنشاطها الإنساني، تبعث من خلاله لتحيا مرتين: الأولى عن طريق الكتابة، والثانية عبر القراءة، وهو كائن يستقي حياته المتفردة من سيرتها، باعتبار أن الذات المسلمة تقتفي أثر الكلمة الطيبة، ذات الأصل الثابت، لتسكب فيها تجاربها الفردية.
ثم إن المرتقب مستقبلا أن يسهم أدب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث في تنمية الصحوة الإسلامية ونشرها في سائر بقاع العالم، وذلك باعتبار الصلة الوثيقة الجامعة بين الأدب الإسلامي عموما والصحوة الإسلامية التي تشمل مختلف مجالات الحياة الإنسانية، ولا شك في أن الأدب الإسلامي وسيلة مساعدة لكل من يدعو إلى الله عز وجل ويعرف بالإسلام، وأداة تمكن كل من يحرص على تبليغ الرسالة التي من أجلها أوجده الخالق سبحانه في هذه الأرض.
فبالكلمة الهادفة والمشبعة بروح العقيدة الإسلامية، تستطيع الذات المسلمة أن تعبر عن نظرتها إلى الكون، والحياة، والإنسان، وعما تعنيه المسؤولية في الإسلام، ثم إن الكاتب المسلم الصادق، هو من يعكس ما يؤمن به من قيم في ما ينتجه من أدب.
ونحن نعتقد بأن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يشكل مصدرا شرعيا للمعرفة الإنسانية، باعتبار أنه ينقل جملة من المعلومات وزخما من الخبرات والتجارب، ففيه وصف لعالم الذات المسلمة الباطن من جهة وللعالم الخارجي ثانية، وأما الصورة الأدبية المودعة في هذا الضرب من الأدب الإسلامي، فهي وسيط ينقل المعرفة بين الكاتب والقارئ من خلال عرض أهم ما تنضوي عليه الخبرة والحياة.
ومؤكد أن وظائف السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة كثيرة ومتنوعة، ولها حسب ما نرى ونعتقد صلة وثيقة ببواعث الكتابة والتلقي، وجميعها يعكس الفضاء العام لخطاب هذا المتن الأدبي الإسلامي الحديث، وأقرب وظيفة تتبادر إلى الذهن هي وظيفة المشاركة الوجدانية التي يتيحها الكاتب للقارئ، والتي تعد من أهم وظائف السيرة الذاتية عموما، بحيث يعد النزوع إلى إشراك الآخرين في كل ما تتقلب فيه ذات الكاتب من أحوال وما تعانيه من أمور، فعل فطر عليه الإنسان في الحياة، وهو قوة سخرت له ليدفع عنه العزلة النفسية، وليتخذها أداة فاعلة، يتجاوز بها حدود ذاته الضيقة إلى الانفتاح على ذوات أخرى تشاركه انفعالاته وانشغالاته، ومجمل معاناته، وعلى هذا الأساس تمثل المشاركة الوجدانية فعلا وإنجازا رئيسا، وركنا ثابتا يسهم في تكوين شخصية الفرد وتطويرها.
ثم إننا نرى أن كاتب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة حين يبسط أمام القارئ مختلف تجاربه في الحياة، و يحيط ظاهر شخصيته وباطنها بالوصف والإيضاح، فإنما يقصد بهذه المبادرة إلى اكتشاف ذاته من جديد بقصد إعادة بناء شخصيته وتكوينها، ويهدف إلى تجميع وترتيب عناصر حياته الشخصية المتفرقة البحث عن هويته، وإضاءة المعتم من الحقائق في مسيرته الحياتية، ثم تقريب الذات المتلقية لسيرته الذاتية من حقيقة طبيعتها الإنسانية، ومدها بجميع ما قد يساعد على فهم جوهرها، والتعرف على كيانها أكثر، ثم إنه يطمح إلى حث القارئ على الارتداد إلى نفسه ليقارن، ويتأمل ذاته، ويشارك في تحليل كثير من الظواهر والطبائع، وينظر نظرة فاحصة في تجاربه الفردية.
إن الكاتب المسلم يحرص أشد الحرص على أن تؤدي سيرته الذاتية ـ المكتوبة والمنشورة في أوساط القراء ـ جملة من الوظائف، تمتد جسرا روحيا بينه وبين المتلقين، الذين سيتطلعون حتما إلى ما ترشح به من متعة وتشويق، وتنطوي عليه من فائدة، وإن كانت المتعة التي يسعى إلى تحقيقها المؤلف في تاريخه الخاص هادفة إلى إضافة معرفية نوعية، ومتسمة بخدمة عناصر الفائدة التي من المفروض أن يجني القارئ ثمارها في النهاية.
من الواضح أن جميع وظائف أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، تتجاوز طابع المتعة غير الهادفة، والاهتمام الذهني الضيق، إلى تخليص الذات الإنسانية من قيودها السلبية، وتطهيرها من الزيغ، والرذائل، ومختلف الشوائب، وبذلك يتجاوز هذا اللون من الأدب الإسلامي الحديث كل ما هو مرحلي عابر، وكل خطاب سطحي إلى كل ما يوحي بتطلع إنساني عميق، ورؤية مستقبلية تشمل حياة الفرد ومصير الجماعة، وهذه غايات تتطلب من صاحب السيرة الذاتية مواجهة مزدوجة: مع النفس من جهة، ومع الآخر من جهة ثانية، مبنية على المكاشفة والمصارحة.
ثم إن كل وظيفة رئيسة قد تكون سببا حاسما، من خلال مسارات، أو سمات شخصية معينة، أو اقتناعات دقيقة في كثير أو قليل مما يعرفه القارئ من تحولات، خاصة وأن ثمة خصائص ينفرد بها خطاب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث، فضلا عن كونه يسهم في الكشف عن الحقائق، والغوص في أعماق النفس البشرية ، بقصد استكشافها وحاولة الوقوف على أسرارها، والنفاذ منها إلى عمق الحياة والكون.
ولا شك أن مختلف الوظائف التي تنتظم في ثنايا خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، تتكامل إلى درجة يوحي بعضها ببعض، بحيث أن المعني بالسيرة عندما يدعو القارئ إلى الإطلاع على خبراته وتجاربه الخاصة، وإلى المشاركة الوجدانية، فإنه يمهد بذلك السبيل لتحقيق وظيفة تطهيرية مزدوجة، باعتبار أن الذات الكاتبة تعمل على تطهير نفسها من خلال الكتابة، في حين أن الذات القارئة تسعى إلى هذه الغاية عن طريق القراءة، ومن ثم فإن كلا من كاتب السيرة الذاتية ومتلقيها، يعملان على تحويل تجاربهما في الحياة ـ بمساوئها ومحاسنهاـ إلى طاقة تطهيرية، تحررهما من المخاوف والعقد النفسية، وتمكنهما من إضافة معرفة جديدة تعينهما على استعادة الثقة بالنفس ومواصلة المسيرة الحياتية.






د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)