المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أدب السيرة الذاتية الحديثة في ظل الإسلام (الجزء الرابع)



أبو شامة المغربي
15/03/2006, 03:15 PM
:neeww:

أدب السيرة الذاتية الحديثة في ظل الإسلام

(الجزء الرابع)





ثم إن الذات الغربية الباحثة عن الدين الحق تستجمع قواها المدركة في أجواء خانقة، لتنظر في محيطها الاجتماعي نظرة متفحصة، وذلك بقصد الكشف عن أسباب فساده ودماره، لكنها تفاجأ وهي على درب اللقاء بالإسلام بعالم يعبث به أهله بقدر ما يعبثون بأنفسهم؛ إنهم تبع للأهواء والشهوات التي تقذف بهم في متاهة الشقاء ودوامة المآسي.
وتقف الذات الغربية المهتدي إلى الإسلام، بعد رحلة بحث طويلة عن حقيقة المعتقد الروحي، ليدلي بشهادة حية من قلب المجتمع الغربي، ثم إنه يتخذ من نفسه عبرة للآخرين، ويبسط أمامهم كل المظاهر التي تقيد بها في سابق حياته المظلمة، من أهواء، ونزوات، وانحرافات، وضلال بعيد، حتى إن جميع الذي يسرده تصريحا يعد في آن واحد تلميحا للعديد من الممارسات والسلوكيات المتنافية والمتعارضة مع الفطرة البشرية السوية.
ثم إن بؤرة الاهتمام الأولى لدى الإنسان الغربي محصورة في البحث عن مركز ثابت في عالم لا يزداد إلا اختلالا واضطرابا، وللعثور على هذا المركز الثابت لا بد من الاستعانة بالتأمل والتدبر في فضاءات موحية خارج الذات، لكن بشرط أن تتم هذه التجربة الروحية بتجاوب مع عناصر الكون، وليس من خلال الدخول في صراع معها، ولابد كذلك من أن ينسحب الأثر الفعلي للتجربة على عمق الكيان الإنساني، لأن بناء الذات من الداخل وتطهيرها هو المقصود والغاية المتوخاة في النهاية.

إن الذات الغربية المهتدية إلى الإسلام تهدف من وراء مبادراتها الاعترافية وشهاداتها إلى إسقاط القناع عن وجه السعادة الوهمية التي يدعيها أهل الغرب الضالين، ثم إنها ترغب في أن تجعل من نفسها مرآة ينظر فيها كل من حول حياته إلى أنفاس تتصعد في شقاء ومأساة إنسانية كبيرة.
ولا شك أن الذات الغربية تصطدم في وسطها الاجتماعي بالتقاليد العقدية المبتدعة والغريبة جدا، والمتضاربة إلى أقصى حد، والسلوكيات الشاذة، ومن ثم تغدو مسألة الاختيار والمفاضلة، وحتى المقارنة في ما بين التوجهات الدينية المزيفة بالنسبة إلى هذه الذات سياجا من الحيرة، والقلق، والشك، يحيط بها من كل ناحية، وجميع هذه العوامل المؤثرة تدفعها إلى السقوط في صراع وهمي بين حياتها العقلية وحياتها الروحية، فتزداد حدة معاناتها.



ففي قلب وضع متأزم، وعلى عتبة اليأس والإحباط، تبحث الذات الغربية عن ملجأ تأوي إليه، وعن قوة تعصمها من الضياع والضلال، فلا يسعها في نهاية المطاف إلا أن تستغيث بالله عز وجل خالقها وهاديها إلى الحق، وعندما تصطدم الذات الغربية بواقعها المأساوي، في وسط اجتماعي يسوده الفراغ الروحي، فإنها تعمل على بناء قناعات جديدة، وتقوم بهدم كل فكرة مسبقة، أو حكم موروث، قد يتسبب بشكل مباشر في إبعادها عن الحق ومعرفة الوجهة السليمة؛ إنها تهدف بمجموع ردودها الفعلية إلى بناء معنى جديد ودلالة مغايرة لوجودها، ولعلاقاتها مع الذوات الأخرى من جهة، ومع موضوعات وعناصر العالم من حولها.
لقد كانت حياة ماري ويلدز ( MARIE WELDS ) قبل اهتدائها إلى الإسلام عبارة عن رحلة في ظلمات متراكبة من الشقاء، واليأس، والغربة، والضياع؛ إنها كانت تنظر بغضب إلى جميع ما يحيط بها، فبدت لها حياتها وحياة الناس من حولها عبثا، ولم يكن أمامها من خيار للنجاة من تأزمها سوى أن تبحث عن الأسباب الحقيقة لما تعانيه من صراعات وتناقضات، وأن تحاول العثور على الأجوبة الجوهرية في الحياة.

ولا شك أن هذه التجربة تعتبر قاسما مشتركا بين الغربيين، الذين يفضي بهم البحث عن المعتقد الحق إلى الدخول في الإسلام، إذ أن أول سؤال يتعين على الذات الغربية أن تحسم في الإجابة عليه هو: أين الدين الصحيح، الذي لا زيف فيه ولا تحريف، وسط هذا الكم من العقائد الموضوعة والمحرفة؟

صحيح أن الذات الغربية لما تضع هذا السؤال على رأس الاستفهامات، بعد الاعتقاد طبعا في وجود الله عز وجل، تجد نفسها حائرة في مفترق طرق عقدي، ويذكرنا هذا الوضع أو هذا الموقف بالتجربة التي عاشها إبراهيم عليه السلام قديما، وذلك عندما شرع في البحث عن الخالق تعالى، فوجد نفسه مضطربا حائرا بين الشمس، والقمر، وأحد الكواكب، وكذلك يجد الإنسان الغربي، الذي يبحث عن الدين الذي ارتضاه الله تعالى لعباده، نفسه في حيرة من أمره بين البوذية، والمجوسية، واليهودية والمسيحية المحرفتين.

وإذا كان أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام قد اهتدى في النهاية إلى عبادة الله الملك الحق، فإن الإنسان الغربي يهتدي إلى الإسلام بعد بحث قد يطول وقد يقصر، بعدما كان يستشعر بداخله تلك الحاجة إلى منارة يهتدي بها في عتمة الشك والحيرة إلى دين يطمئن إليه، ويستطيع أن ينهج تعاليمه المتكاملة في الحياة، وهو واقف على عتبة الهداية.
إن الذات الغربية تكتشف بداية تحولها السريع على مستوى الشخصية بمجرد ما توحد الله عز وجل وتخلص له العبادة، وعلى درب الحقيقة تأخذ حياة الفرد العائد إلى الله تعالى مسارا مغايرا، وتتبدد كل الأوهام التي كانت تحجب عنه الرؤية السليمة، بحيث تنهار جميع للقيم المزيفة، والإقتناعات الواهية التي كانت تقيده، ومن ثم تخلو الذات بنفسها بعيدا عن سجن الحياة المادية العبثية، المرتدية لألف قناع وقناع، والمثقلة بكثير من ألوان الإغراء، لتتحقق أخيرا من أن الوحدة في باطن ذاتها وفي عمق الكائنات هي الجوهر والأصل، بينما الذي كانت تعانيه من تأزم وتمزق ما هو إلا دخيل عليها وعارض لها.
إن الحاجة الملحة إلى تحقيق كيان إنساني متوازن تتخذ شكل حلم فردي، وذلك على امتداد المسافة الفاصلة بين بداية التحول الذاتي، الروحي والعقدي، ونهايته، وهذا الشكل الذي تتبناه الذات الغربية، وهي في طريقها إلى الدخول في الإسلام، يقوم على مبدأ الوحدة والتكامل بين أبعاد الجسد المادية وأبعاده الروحية.

ثم إن الذات الغربية المعتقدة في إمكانية الخروج بهذا الحلم المبدئي إلى حيز الواقع، تطمح بكل قواها ومجامع كيانها إلى الحياة في عمق وحدة ذاتية وموضوعية، متمازجة ومنسجمة، ينتفي بها الصراع المفتعل بين المادة والروح، وبين الذات والعالم، وما من شك في أن الإسلام هو ذلك الحلم الراسخ بقوة الفطرة في الذات الإنسانية، وتلك الحياة التي لم تتمكن الأنا من ضبط ملامح صورتها واستكمال بنائها دفعة واحدة، باعتبار أنها استغرقت زمنا ليس بالقصير في اكتشافها بكيفية متسلسلة، من خلال جدلية السؤال والإجابة بين الكائن الاجتماعي والعالم من حوله، وأيضا عن طريق الانطباعات التلقائية والملاحظات الدقيقة.

إن المثير في هذا النمط من الاكتشاف، هو أنه ليس تعرفا على واقع مجهول أو حياة غريبة للمرة الأولى؛ بل إنه وقوف على حقيقة مألوفة وقوة منظمة، تضرب بجذورها في تاريخ البشرية، ويحس الإنسان بتردد صداها في أعماقه، ذلك أن الإنسان الغربي لم يألف دينا يوازن بين المادة والروح، ويخاطب العقل والروح في آن واحد؛ بل اعتاد على أحد أمرين: إما نبذ المادة والاتجاه إلى الروحانيات، أو تبني كل ما هو مادي وتجاهل ما له ارتباط وثيق بالروح.

فمن زاوية هذا الاكتشاف تخرج الذات الغربية بنظرة جديدة إلى نفسها، ثم تضع مسألة اعتقادها في الإسلام داخل إطار محدد، بعد أن تتم صياغتها على شكل رؤية، لا تخلو من اجتهاد ذهني نابع من إرادة ومبادرة فردية.

إنها قراءة فاحصة لمختلف تجارب الحياة الخاصة والعامة، ونتيجة دراسة مسؤولة وغير مقيدة بأي خلفية مسبقة أو حكم جاهز، وبالتالي فهي إنجاز واستكمال لحلقات اكتشافية حول الإسلام؛ إننا أمام نموذج إنساني لا يرضى إلا أن يكون صريحا مع نفسه، ولا يغير عقيدته الدينية لسبب تافه، ذلك أن الذات الغربية المهتدية إلى الإسلام مدركة لما تعيشه من تحول روحي، وواعية بما يعنيه الدخول في دين الله عز و جل.

ثم إن روجي ( ROGER ) يؤكد على كونه ليس نتاج طفرة عقائدية، وإنما هو حصيلة حوار عميق وشامل مع مختلف العقائد، من مسيحية ويهودية، وماركسية وغيرها، وقد كان هذا الحوار طور اختبار شاق اجتازه الكاتب الغربي، ومنه خلص إلى الدخول في الإسلام، وهذا الحدث بالنسبة إليه نتيجة كبرى، وثمرة لمسيرته الحياتية، وليس محطة في طريق.

فبهذه الدقة في التحليل والوضوح في الرؤية، يبسط الإنسان الغربي مفهوم دخوله في الإسلام، وما يعنيه هذا الحدث البارز من بعد ودلالة، وما ينطوي عليه من تصور جلي، انطلاقا من اجتهادات فردية معينة، إذ الإنسان الذي يكون حديث عهد بالإسلام هو مؤهل أكثر من غيره لتحديد السبب المباشر في اهتدائه، وكذلك للتعريف بالخطوات الفعلية التي كانت من وراء متابعته لأطوار ميلاد ذاتية جديدة في داخله.
إننا أمام ذات تقرأ تحولها الفكري والعقدي من منظور علمي، فهي تصل النتيجة بالسبب، وتقسم مسيرتها الحياتية إلى تحولات متلاحقة من جهة، ونتيجة كبرى متجسدة في الدخول في الإسلام، الحدث الذي يمثل منعطفا مصيريا، وثمرة حوار كوني عميق وشامل، تتحد من خلاله الذات بالموضوع، ويطبعه التفرد والتميز.

ثم إننا إزاء تجربتين كبيرتين تعدان من أهم التجارب التي خاضها الإنسان حديثا، وتميز بها تاريخ القرن العشرين، إذ نستطيع أن نجمل كلتا التجربتين في قوة التمسك بالإسلام والثبات عليه، ثم في رحلة البحث المضنية والمثيرة، التي تخوض الذات الغربية غمارها، في سبيل العثور على الدين الحق والدخول فيه، وعيا منها برسالتها المتفردة والمتمثلة في الحفاظ على الأمانة التي حملها الإنسان، والقيام بأمر الخلافة العادلة والخاضعة لأمر الله عز وجل.






د. أبو شامة المغربي


kalimates@maktoob.com