المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الفرق بين المحبة والعشق



طارق شفيق حقي
27/08/2011, 09:26 PM
الفرق بين المحبة والعشق


قالوا: المحبة جنس، والعشق نوع. فإن الرجل يحب أباه وأمه، ولا يبعثه ذلك على تلف نفسه، بخلاف العاشق.
وقد حكي أن بعض العشاق نظر إلى جارية كان يهواها، فارتعدت فرائصه وغُشي عليه، فقيل لبعض الحكماء: ما الذي أصابه؟ فقال: نظر من يحبُّه، فانفرج قلبه، فتحرّك الجسم لانفراج القلب! فقيل له: فنحن نحب أهالينا ولا يصيبنا ذلك فقال: تلك محبة العقل، وهذه محبة الرُّوح!
وقالوا: كل عشق يسمَّى حُبّاً، وليس كل حب يسمَّى عشقاً. لأن العشق اسم لما فضل عن المحبة، كما أن السَّرف اسم لما جاوز الجود، والبخل اسم لما نقص عن الاقتصاد، والجبن اسم لما فضل عن شدّة الاحتراس، والهوج اسم لما فضل عن الشجاعة. قال الشاعر:


ثلاثةُ أحبابٍ: فحبٌّ علاقةٌ، وحُبٌّ تملاَّقٌ، وحُبٌّ هو القتلُ!
وأما سبب العشق وما قيل فيه، فقالوا: سبب العشق مصادفة النفس ما يلائم طبعها فتستحسنه وتميل إليه. وأكثر أسباب المصادفة النظر. ولا يكون ذلك باللمح، بل بالتثبت في النظر ومعاودته بالنظر، فإذا غاب المحبوب عن العين طلبته النفس، ورامت التقرب منه، وتمنَّت الاستمتاع به. فيصير فكرها فيه، وتصويرها إياه في الغيبة حاضراً، وشغلها كله به، فيتجدّد من ذلك أمراضٌ لانصراف الفكر إلى ذلك المعنى. وكلما قويت الشهوة البدنية، قوي الفكر في ذلك. وقد أمر الله عز وجل بغضِّ البصر فقال: "قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظَوا فُرُوجَهُمْ" "وَقُلْ لِلْمُؤمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ". فقرن غض البصر بحفظ الفرج، لأنه يسببه ويؤول إليه.
وعن عليّ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: "لا تُتْبِع النظرة النظرة، فإن لك الأولى! وليست لك الآخرة". وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العينان تزنيان، وزناهما النظر".
وعن عليّ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم! "يا عليّ، اتَّقِ النظرة بعد النَّظْرة! فإنها سهم مسمومٌ، يورث الشَّهوة في القلب". وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نظر الرجل إلى محاسن المرأة سهمٌ مسمومٌ من سهام إبليس".
وعن يحيى بن سعيد قال: كان عيسى بن مريم عليه السلام يقول: "النظر يزرع في القلب الشهوة، وكفى بها خطيئةً!". وعن سفيان قال: قال عيسى عليه السلام: "إياكم والنظر! فإنَّه يزرع في القلب الشهوة، وكفى بها لصاحبها فتنةً!". وقال الحسن البصريّ: من أطلق طرفه، أطال أسفه. وقال ذو النون: اللَّحظات تورث الحسرات: أوّلها أسفٌ، وآخرها تلفٌ. فمن تابع طرفه، تابع حتفه.
وقال حكيم: أوّل العشق النظر، وأوّل الحريق الشَّرر. وقال أبو الفرج بن الجوزيّ: البصر صاحب خبر القلب. ينقل إليه أخبار المبصرات، وينقش فيه صورها، فيجول الفكر فيها فيشغله ذلك عن الفكر فيما ينفعه من أمر الآخرة. فاحذر من شر النظر! فكم أهلك من عابد، وفسخ عزم زاهد! وهو سبب الآفات، إلا أن علاجه في بدايته قريب. فإذا كرر تمكن الشرّ فصعب علاجه. فإن النظرة إذا أثَّرت في القلب، فإن أعجل الحازم بغضها وحسم المادّة من أوّلها سُهل علاجه، وإن كرر النظر نقَّب عن محاسن الصورة ونقلها إلى قلب متفرّغ ونقشها فيه. فكلما تواصلت النظرات كانت كالمياه تسقى بها الشجرة، فلا تزال تنمو فيفسد القلب، ويُعرض عن الفكر فيما أُمر به، ويخرج بصاحبه إلى المحن، ويوجب ارتكاب المحظورات، ويلقى في التلف.
وقد أكثر الشعراء في وصف ما يحدثه النظر من البلايا، فمن ذلك، قول الفرزدق:


تزوّد منها نظرةً لم تدع له فؤاداً، ولم يشعر بما قد تزوّدا.


فلم أر مقتولاً ولم أر قاتلاً بغير سلاح مثلها حين أقصدا.
وقال إبراهيم بن العباس بن صول الكاتب:


فمن كان يُؤتى من عدوٍّ وحاسدٍ، فإنِّي من عيني أُتيت ومن قلبي!


هما اعتوراني نظرةً ثم فكرةً، فما أبقيا لي من رقاد ولا لُبِّ!
وقال إسمعيل بن عمار الأعرابيّ:


عينان مشؤمتان، ويحهما! والقلب حيرانُ مُبتلىً بهما.


عرَّفتاه الهوى لظلمهما، يا ليتني قبله عدمتهما!
وقال أبو عبد الله المارستانيّ:


رماني بها طرفي فلم يُخطِ مقتلي، وما كُلُّ من يُرمى تُصاب مقاتله!


إذا مُتُّ، فابكوني قتيلاً لطرفه قتيل عدُوٍّ حاضر ما يُزايله!
وقال ابن المعتزّ:


متيَّمٌ يرعى نجوم الدُّجى يبكي عليه رحمةً عاذلُه!


عيني أشاطت بدمي في الهوى، فابكوا قتيلاً بعضه قاتله!
وقال المتنبي:


وأناالَّذي اجتلب المنيَّة طرفه فمن المطالب؟ والقتيل القاتلُ!
وقال ابن المعتز:


وما أدري، إذا ما جنّ ليلٌ، أشوقاً في فؤادي أم حريقاً؟
ألا يا مقلتيّ، دهيتماني بلحظكما فذوقا! ثم ذُوقا!







فنون الأدب