المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حكايا الساحة ـ قصة ـ



المودني عبدالسلام
11/03/2006, 02:07 PM
حكايا الساحة








هكذا هي عادتي، أقف وحيدا في ساحة مدرستنا، لا أحد يكاد يبالي بوجودي. أنصهر المرة تلو الأخرى مع إسمنت الجدار، المنعزل الآخر الذي يدرك ما أنا عليه، كلما تراءيت له أرقب الجميع بعين الغيرة

و الغضب بينما يتحلقون كعادتهم حول"ابن المقدم"، و قد انطلق لسانه كقيد يعقل وجودهم إلى حكاياه العجيبة الغريبة التي ينقلها كلها عن صندوق الغرائب.

لست أذكر متّى بدأت عادة حكاياه و تحلق الآخرين حوله، كما لا أذكر متّى بدأت كراهيتي له، ليس فقط لأنه ابن المقدم والوحيد الذي يملك صندوق الغرائب، و لكن لأنه يمتلك سلطة إخضاع كل الأطفال لجاذبية و سحر كلامه، كما يملك والده سلطة على الجميع حتّى على معلمنا الوحيد. اتضح ذلك أكثر عندما غاب يوما"ابن المقدم"عن مدرستنا بسبب مرضه .أحس الجميع بفراغ مهول و أحسست مثل الآخرين، وظننتها فرصتي المواتية للإنقضاض على مركز الساحة، و وقت الفسحة إذ كنت أظنني خيراً منه، أستطيع بفضل خيالي حياكة قصص قد تشدّ أسماع كلّ من في الساحة حتّى معلمنا الوحيد، بيد أنّي ما إن هممت بالتوجه إلى المركز حتّى شعرت بركبتيّ تخذلانني فجأة و حرارة تتصاعد مسرعة إلى وجهي، وامتدّ الخذلان و العصيان إلى لساني، فعدت مجبراً إلى خيبتي في ركن الساحة أرقب الجميع

و قد تحلقوا حول وهم ابن المقدم و كأنه لازال بينهم و طوقهم صمتهم المعتاد، كأنه يتوسطهم و يروي لهم آخر مشاهد الصندوق العجيب. أما أنا فلم أكن ناقما هذه المرة إلا على جبني . وعدت إلى بيتنا القصي أعض على أناملي ، و ألعن نفسي و بيتنا القصي والمدرسة و ساحتها و غياب"ابن المقدم". وقمت جامعا عزمي على أن أفعلها في الغد و ليكن ما يكون سأقف وسط الساحة، وأحكي لهم إحدى حكاياتي التي سمعها جدار مدرستنا و أعجب بها، و أعدتها على نفسي مرتين و نصف و نمت أجتر النصف المتبقي في أحلامي البريئة وأعدته في الغد في طريقي إلى مدرستنا، ومرة أخرى وأخرى وبداية أخرى ...توقفتُ عندما لمحته و قد عاد من غيبته القصيرة . لعنته في سري، وابتمست له من بعيد معلنا له سعادتي بقيامه من مرضه العابر حتّى يرضى عني، رغم أني كنت أدرك في قراري أنه أيضاً يكرهني كرها شديدا كوني الوحيد الذي لا يشارك الآخرين انبهارهم بقصصه و حكاياه. لأجله صرت أكره المدرسة و الساحة و الآخرين وصندوق الغرائب، كما أكرهه تماما، و اشتدّت عزلتي وامتدّت صحاريها إلى دواخل نفسي و حتّى وجودي في بيتنا. وتبدّلت أحوالي إذ خبت جذوة نشاطي و أفلت ضحكاتي التي كانت أجمل ما يمكنني سماعه ، و اشتدت وطأة ذلك عليّ حتّى أحسستني يوما عاجزا عن الحركة تماما و القيام من فراشي ، فلم أبرحه أسبوعا كاملاً إلى المدرسة، عدت بعده مستعيداً عافيتي و روح التمرد التي تسكنني، و عندما سألني المعلم:

- أين غبت كل هذه المدة؟

تفاجأت له كيف أمكن تمييز غيبتي عن حضوري، فقلت متلعثما و قد خذلتني العبارات التي خرجت و لم تكن أبداً تلك التي وددت قولها:

- عند عمي في المدينة، لديه أيضا صندوق الغرائب.

دارت الأعناق بالأحداق ملتفة على أعقابها نحوي و انطلقت النظرات تخترقني بين إعجاب و شك و حسد وانبهار وانتشلني المعلم من ورطتي قائلاً:

- و ماذا رأيت في صندوق الغرائب؟

أجبته من فوري وقد تدافعت الكلمات فارّة من فمي دون أن أستطيع منعها، وعادت لخذلاني مجدداً:

- الحرب التي تقول أنت يا معلم أنها تدور في الشمال هي في حقيقة أمرها في الجنوب.

فتح المعلم عينيه دهشة، و علا حاجباه، وانطلقت الهمهمات داخل قسمنا. فقال ينوب عنهم وعني أيضاً:

- كيف، لا يمكن هناك خطأ ما؟

لم أكن يوما على الرغم من عزلتي و قنطي أشدّ ضيقاً و أنا أقول بقرف صادق:

- لقد شاهدت ذلك بأم ّ عيني ، و رأيت جثت جنودنا ممرّغة في بحر دمائهم بعدما لفظتهم أمواج حرب لم يكونوا أبداً أهلاً لدخولها وعلم بلادي، تماما مثل ذاك الذي في ساحتنا، شاهدته ممزقا وسخا، مطروح أرضاً تدوسه أقدام المنتصرين في لامبالاة .

عاد فقال :

- ولكن...

قاطعته:

- صندوق الغرائب أخبرنا بكل ذلك، و بالصور المباشرة، حتّى إننا سمعنا رجل المدينة الأول يتوسل إليهم في حفلة عشاء راقصة بعدما ذهبت الخمر برأسه، أن يكفوا عن إذلاله أمام أهله و سيقدم لهم بالمقابل كل ما يشاؤون.

تساءل المعلم مشدوهاً سؤالاً طفا على سطح أنفسنا:

- و ماذا كان ردهم؟

ندّت عن شفتيّ ابتسامة رضى لأول مرة . لم أبدل جهداً لمحاولة إخفائها وأنا اتطلع إلى أعينهم المشدودة إلي فقلت بعدما أخذت نفساً عميقا:

- طبعا لم يقبلوا. سيأتوننا بشعار جديد لنهب ما كان ينهب رجل المدينة الكبير و زمرته، سيجعلون علينا رجلاً آخر منا و منهم. ثقوا بي إنهم زاحفون على أراضينا.

- زا....

لم يستطع معلمنا إكمال جملته إذ صدر صوت من مقدمة قسمنا:

- هراء ما يقوله أيها المعلم نحن أيضاً نملك صندوق الغرائب، و لم نسمع شيئاً عن حرب تدور في أيّ مكان قريب أو بعيد. أنا ايضا لم أشأ مجابهتك في أمر حرب الشمال التي درستنا بعض تفاصيلها لأقول لك أنك مخطئ ، ومصادرك مخطئة أيضاً. العالم يا معلم ينعم في سلم مقيم.هذا ما أطلعنا عليه صندوقنا و البارحة فقط عرض شريطا سينمائيا، بطله يشبه معلمنا تماما كان رجلا في بداية عقده الرابع، يعمل معلماً و مديراً في مدرسة وحيدة بساحة وحيدة ببلدة نائية هانئة...

في الغد كان الحدث الكبير. حضر "المقدم" إلى مدرستنا. وجمعنا المعلم لاستقباله و تحيته، و كيما يبدي له ولاءه عبرنا. بعدما همس له بكلمات قرب أذنه، ناداني المعلم فتقدمت بخطوات وجلة،

و نظراتي أرضا فقال بصوت إكتشفت أنه يشبه كثيراً صوت ابنه، حكّاءنا الماهر:

- ماذا تقول؟

إستدرت نحو الجميع، وقد أحسست لساني يعود إلى خذلاني كما المرة الأولى بل أكثر، كان ثقيلاً،

و صوتي بعيد جدا عني حتّى إني ما كنت أستطيع سماعه كأنه صادر عن آخر:

-أعتذر منكم جميعاَ، لقد كنت مريضاً و لم أغادر بلدتنا ولا بيتنا إلى أيّ مكان آخر. لا عمّ لي في المدينة و لم أر في حياتي كلها صندوق الغرائب . اختلقت كل ذلك كيما أجلب الإهتمام، لأني أردت أن أكون كابن "مقدمنا" المحترميِِْن.

توقعت أني قلت ذلك في جملة واحدة ما دمت قد أعدتها أكثر من عشر مرات أمام والدي الغاضب الليلة الماضية، وبقايا لطماته تستوطن خديّ. وأمضيت بقية الأسبوع أكثر عزلة عن ذي قبل و زادت شعبية ابن"المقدم".

كما هي عادتي ، عدت للوقوف في ذلك اليوم ككل يوم أنصهر خجلاً مع إسمنت جدار ساحتنا لا يكاد أحد يبالي بوجودي إلا من احتفظت ذاكرتهم بكذبي و ادّعائي، ما أضاف الزراية إلى الامبالاة. بيد أنهم في ذلك اليوم المشهود لم يكونوا على موعد مع حكاية ابن"المقدم"، وإنما سماء بلدتنا التي أخذت تصدر أصواتاً كزغاريد. وإذا بها تمطر أوراقاً غزيرة جعلنا نلتقطها لنر ما فيها. أخذت واحدة من الأرض،

و رحت أقرأ بصوت عال كنت أسمعه و كان قريبا جداً مني ، كأنه يصدر عنّي، و قد ذهب خجلي و انعقاد لساني وألفيتني بعيداً عن جدار الساحة الإسمنتي الذي خلته يتبعني و يردد ما أقول، بل و يشاركني دموعي وحزني . كنت أقف وسط ساحتنا التي كانت حكراً على ابن"المقدم" الذي عقد لسانه و جحظت عيناه و لمحته ينسحب صاغراً وقد أوشك على الإنصهار مع ظل الجدار الإسمنتي .

كان صوتي رقراقا منسابا و أنا أنشد رغم حرقة ألم و غصة ألمت بحلقي:

فجر الحرية:

" أتى الوقت الذي طالما انتظرتموه.. أيا شعباً وطأت أقدام الظلم على رأسه و إرادته و أحلامه دهراً.. انصبوا أعلام الفرح لبزوغ فجر الحرية في سمائكم.. أيا شعب الجنوب.. نعلمكم نحن جيش التحالف أننا قد حققنا نصراً عظيماً.. وإنّا لزاحفون".

عدوتُ والدموع ملء عينيّ و الغضب يجتاحني كإعصار مدوّ قاصدا بيتنا و شيء واحد أمامي ، بندقية جدّي.



سلا في 10/08/2005



عبد السلام المودني

أبو شامة المغربي
11/03/2006, 04:56 PM
http://www.merbad.org/vb/attachment.php?attachmentid=64&stc=1

الحكايــــا منـــــــــــــــــارات





يذكرني عنوان قصتك البليغة "حكايا الساحة" بذكريات جميلة ومثيرة بعناوين شبيهة تختزن آلاما وآمالا .. بدءا من حكايا الشتاء .. مرورا بحكايا الجدة، وحكايا السمر في أجواء القرية، وحكايا الأم لطفلها، وحكايا الشيخ الوقور، والحكايا المنثورة على مسامع من يتحلقون في حلقة حول راو أو قاص ...



حكايا تقفو حكايا .. تحكى ليعاد حكيها، ويعاد حكيها لتحكى في ما يستقبل من الزمان .. وما كانت الحكايا عبثا على مر الأزمان، ولن تكون في ما هو آت من الأيام عبثا .. إن هي إلا منارات تضيء من بعيد .. تضيء من قريب .. إنها بمنتهى البساطة .. الحكايــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــا




في انتظار المزيد من حروفك البليغة .. لك مني خالص التحايــــــــــا وأجمل الحكايــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــا






أخوك أبو شامة المغربي





د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)