المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المغرب المعاصر تحصيل حاصل.



خليد خريبش
29/03/2011, 12:27 PM
لماذا هذا الموضوع بالذات؟لأن المتتبع للمشهد الثقافي والسياسي محليا وجهويا وعالميا سيلحظ نزوعا نحو الإجهاز على ثقافة الآخر في سياق أصبح العالم منفتحا على المعلومة ومصادر المعرفة التي تتيحها شبكة الأنترنيت والفضائيات وإن كانت شبكة الأنترنيت لا تزال لا تؤثر بالشكل المطلوب على الرأي العام العربي لقلة شيوع استعمالها مقارنة بدول أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية وشرق آسيا.وما عرفه العالم من ثورات معرفية خاصة في قطاع الخدمات والتواصل بعد انهيار المنظومة الإشتراكية حيث تم إطلاق سراح وسائل تواصل كانت حبيسة الجهاز العسكري الأمريكي فَقُلِبَتْ الموازين الثقافية وفُتِحَتْ آفاق لم تكن من قبل،وأُرْبِكَتْ حسابات السياسيين والمثقفين قل الأنتلجنسيا بشكل عام.في ظل هذه الأجواء تشكل جيل أو نخبة يبدو أنها ليست مسلحة بالشكل المطلوب بترسانة تاريخية تستمد منها هويتها وتدافع بها عن نفسها أو ترد عن الذين يريدون الحد من فاعلية أو تأثير منطقة معينة في محيطها الثقافي محليا وجهويا.
لماذا هذا الموضوع بالذات؟لأننا نريد عالما عربيا يؤمن بالإختلاف الثقافي ويدعو إلى التعايش السلمي ونبذ جميع أشكال التطرف والعنف والإعتداء على حقوق الإنسان والإنزلاق في مطبات الإيديولوجيا العمياء الغريبة عن وطننا العربي وديننا الإسلامي الحنيف.ففي حين تُتَوَّجُ أوروبا في العقود الأخيرة بنظام العملة الموحدة وإلغاء الحواجز الحدودية الوهمية وتتجاوز النزعات القومية الضيقة وتعتمد تسييرا تطبعه الحكامة الرشيدة تجعل العنصر البشري في صلب العملية التنموية مازال العرب يجترون صدى نزعات قُطرية ضيقة وقبليات أكل الدهر عليها وشرب ،حيث إن مجموعة من عوائق التنمية مازالت راسخة في لاوعي النخبة العربية التي يُرْتَجَى منها كشف اللثام عن الطاقات المعطلة وفسح الآفاق للشباب العربي للخلق والإبتكار وإبراز مواهبه والمساهمة بشكل إيجابي في محيطه الإجتماعي والاقتصادي والسياسي والحضاري بشكل عام.
نطرح هذا السؤال لأننا نلاحظ فئات تحاول أن تتقدم نحو الأمام وأخرى تجر إلى الخلف،أناس يركبون قطار الحداثة وينكرون الإعتراف بأهميته وضرورته،علينا أن نؤمن بالإختلاف الجهوي في تناول مسائل كالحداثة والعولمة والإختيارت السياسية والإقتصادية التي يقتضيها المحيط والمرحلة التي نعيشها،وإن تطلب الأمر تنازلات وتعطيل ثوابت لأننا في موقع ضعف لا قوة،أقول لا لفصل الأنتلجنسيا العربية إلى طائفة في أقصى التشدد بدعوى الأصالة في حين نجدها تتجاهل فقه الواقع وتتعامى ظروف العصر وطائفة في أقصى الإنفتاح تفرط في أدنى مقومات الهوية الإسلامية ضدا في نقيضتها،.إن الإيمان بالإختلاف سيفتح أبواب الحوار والتواصل ومن ثمة التكامل الذي سيعزز حتما قوة الجهوية والتعاون في العالم العربي،خاصة وأن هذا الأخير متنوع الموارد الطبيعية..إن المتتبع للأحداث السياسية التي تحصل في العالم العربي وكيفيات تدبيرها وصداها عند النخبة من مثقفين وأدباء وسياسيين سيلحظ أن متحكمات قبلية قديمة مازالت تسيطر على الأذهان رغم مرور أزمان،بل القارئ لتحليل ابن خلدون يلحظ وكأنه ينطبق على العالم العربي في القرن الواحد والعشرين،وتبدو بجلاء إشكالية التجاوز وعدم القدرة على الأخذ بالإيجابي وترك السلبي وعدم الإستفادة من دروس الماضي.
سأحاول أن أبرز خصوصيات التجربة المغربية منطلقا من مقومات تاريخية تجعلنا نفهم بوضوح المغرب المعاصر، ونبرز جوانب تجربته الإيجابية والسلبية والإمكانات التي يمكن استغلالها من أجل تعاون جهوي في المنطقة.حدد محمد عابد الجابري ثوابت الوضعية التاريخية للمغرب في خمس نقاط، سنكتفي بواحدة، سنعتمده كمرجع لأن هذا المفكر مُلِمٌّ بتاريخ المغرب وخاض التجربة السياسية وعايش فترة مقاومة المستعمر الفرنسي أي أنه كان مثقفا عضويا، لا يُنَظِّرُ من أبراج عاجية، كما أنه كان مختصا في تاريخ الفكر العربي الإسلامي ودرس في البلاد الإسلامية أي أن دعوى التغريب لا تنطبق عليه رغم نزعته اليسارية،نكتفي بالثابتة الأولى والتي لم أجد سبيلا لاختصارها:
"أول هذه الثوابت هو استمرارية الدولة الوطنية في المغرب منذ عهد الأدارسة،نعم إن تاريخ المغرب،منذ الفتح الإسلامي،مرتبط أشد الإرتباط بتاريخ العرب وتاريخ الإسلام.ولكن داخل هذا التاريخ العربي الإسلامي،هناك وضعية خاصة للمغرب بقيت قائمة ومتميزة باستمرار،وقد بدأت هذه الوضعية تتبلور بوضوح مع الأدارسة مع نهاية القرن الثاني للهجرة حينما كانت الدولة الوطنية المغربية آخذة في التشكل،وذلك من خلال إعلان استقلالها عن دولة الخلافة في بغداد،ثم الدخول مع الدولة الأموية في الأندلس في علاقة الندية والتنافس وعدم الإستسلام لضغوط الدولة العبيدية الفاطمية في تونس.
لقد تشكلت في المغرب إذن،من خلال التغاير مع العباسيين والفاطميين والأمويين في الأندلس دولة قائمة الذات تدخل في علاقة الند للند مع دول عصرها.وهذه الدولة كانت دولة وطنية بمعنى أن القائمين بها كانوا من سكان المغرب أنفسهم ولم يكونوا قط(دخلاء) على المغرب،لا من المحتلين ولا من الغزاة...ولا حتى من (المهاجرين)...لم يخضع المغرب قط لحكم (أجنبي)كحكم البويهيين أو السلجوقيين في بغداد،أو الممالك في مصر أو الأتراك في الجزائر وتونس وغيرها من البلاد العربية.الدولة في المغرب كانت دائما من أبناء المغرب...كانت دولة من المواطنين المغاربة.وحتى المولى إدريس فقد قدم إلى المغرب كفرد.وقد قامت الدولة الإدريسية على ساعد القبائل التي اتخذت منه رمزا دينيا،وبالتالي زعيما سياسيا يرأس دولتها هي،وليس دولته هو.ولذلك كانت الدولة الإدريسية دولة سُنية،أي على مذهب المغاربة وليس على مذهب إدريس الشيعي.وعلى كلٍّ،فإن الدولة المغربية قد برزت مكتملة الكيان قوية السلطان مع المرابطين الذين نضجت على يدهم"ثوابت الوضعية التاريخية في المغرب"وفي مقدمتها الدولة الوطنية المغربية.
وهذه الدولة الوطنية المغربية استمرت منذ الأدارسة إلى اليوم،على شكل سلسلة متصلة الحلقات قد يتخللها ضعف ووهن،ولكنها لم تعرف قط انقطاعا.فلم يخضع المغرب بعد الأدارسة لا للخلافة العباسية ولا للخلافة الأموية في الأندلس ولا للخلافة الفاطمية ولا للخلافة العثمانية،وأكثر من ذلك كان آخر دولة اسْتُعْمِرَتْ،وبموجب عقد حماية وليس بموجب هزيمة عسكرية أو انفكاك داخلي.وفوق كل ذلك كان المغرب لا أقول أول دولة استقلت،بل أقول أو دولة استرجعت استقلالها في أقصر مدة وبأقل خسارة."2
يمكن أن نستخلص من نقاط الجابري السابقة أن الوضعية التاريخية المغربية تختلف عن وضعيات الأقطار الأخرى في العالم العربي وسنقفز على المراحل وننطلق من نتيجة مهمة جدا حتى يظهر الحاضر بجلاء والتشكيلة السياسية والثقافية المغربية بوضوح ألا وهي: إن دعاة الحداثة في المغرب هم تلاميذ درسوا في المدرسة السلفية لدى شيوخ مغاربة جاؤوا من الشرق بالفكر الإصلاحي السلفي(أبو شعيب الدكالي،محمد بن العربي العلوي...)،هؤلاء التلاميذ هم الفئة التي قادت النضال السياسي ضد المستعمر حيث التفت جميع القوى السياسية وجميع مكونات الشعب من أجل هدف واحد ألا وهو الحصول على الإستقلال من بينهم(علال الفاسي،المكي الناصري،محمد حسن الوزاني...)ومن رحم هذه الفئة سيخرج اليسار المغربي.
تأخرت الحركة الإصلاحية والأفكار النهضوية بالمغرب لأنه حافظ على استقلاله إلى غاية 1912ونجحت الدبلوماسية المغربية قبل الحماية في التناغم مع مصالح الدول الإستعمارية المتنافسة حوله واستغلال تضارب مصالحها(أنجلترا،فرنسا،ألمانيا،إسبانيا...)علاوة على ذلك،سياسة الإحتراز التي كان ينهجها المخزن المغربي قبل ذلك ومحاولات التحديث التي باءت بالفشل،لقد كان المغاربة في تمام الوعي بالخطر الخارجي فكان الحل هو تشجيع الزوايا والحث على الجهاد وتحرير الثغور ونذكر هنا تأثر السلطان محمد بن عبد الله(1757-1790) بالفكر الوهابي وفي عهد ابنه السلطان سليمان(1792-1822)الذي رحب رسميا بالوهابية وطبق معالمها ومحاولات الحسن الأول(1837-1894) الإصلاحية التي أثقلت كاهل الخزينة المغربية بالديون الخارجية.
وجدير بذكر الحركة العمالية في تونس بقيادة فرحات حشاد الذي اغتالته السلطات الفرنسية عام 1952لقد كانت مقدمة لتوهج نظيرتها في المغرب،يرجع هذا الأمر إلى قرب تونس من مصر نواة الفكر الإصلاحي حيث يلعب معهد الأزهر الشريف دورا كبيرا،لنأخذ شاعر تونس أبي القاسم الشابي كمثال، فأبوه كان قاضيا درس في الأزهر،أضف إلى ذلك أن تونس احتلتها فرنسا في سنة 1960 وكانت خاضعة للحكم العثماني فهي تشترك مع المشرق في خاصيات عدة.
أعود إلى مسألة أساسية هي أن تلاميذ الحركة السلفية الإصلاحية المغربية هم الذين دعوا إلى نهج فكر حداثي يجمع بين الأصالة والمعاصرة عقب استعمار البلاد وكان إجماع وطني على ذلك .وبالتالي لا تجد في المغرب نفوذ كبير للحركات الإسلامية ذات الأفكار الوافدة في العقود الأخيرة سواء حركة الإخوان المسلمين أوالسلفية الجهادية فهي ليست أصيلة في المغرب.لا نجد طائفة مسيحية تتبنى فكر غربي مئة بالمئة وطائفة إسلامية متشددة كما هو الشأن في بعض الأقطار العربية في المشرق، لهذا فالصراع بين الإسلاميين والحداثيين في المغرب أهون منه في المشرق رغم تواجد طائفة يهودية شاركت في الحياة السياسية دون أن يظهر ذلك التباعد الكبير في المنطلقات،إِذِ انخرطت في الأحزاب السياسية وشاركت في العمل السياسي بشكل عاد.ونورد هنا خلاصة محاضرة ألقاها محمد عابد الجابري في وهران عام 1983:
"إن إشكالية الأصالة/الحداثة في الفكر العربي المعاصر ليست مجرد إشكالية ثقافية نظرية،بل إنها مرتبطة بالأوضاع الإجتماعية لكل قطر،وبالتالي فهي لا تطرح نفسها على صورة واحدة في جميع الأقطار العربية.وهكذا فإذا كان المسار العام لهذه الإشكالية في المشرق هو التعارض والتدافع بين الطرفين المكونين لها(الأصالة،التحديث)نتيجة تعارضات وتدافعات اجتماعية معينة،فإن المسار الذي اتخذته في المغرب يغلب فيه التعايش والهدنة بين ذات الطرفين تحت ضغط أوضاع إجتماعية وسياسية خاصة كذلك."3
ورغم الإختلاف الحاد بين الأحزاب اليسارية في المغرب والأحزاب التي تولت الحكومة في وجهات النظر عرفت أَوْجَهُ في محطات معينة بعد الإستقلال ،اختلاف مَرَدُّهُ خيبة أمل جزء من الذين قاوموا المستعمر في تحقيق حلم دولة عصرية قوية، لقد ارتموا بين أحضان الإشتراكية التي ارتأوا فيه مخلصا للبلاد من التخلف،رغم كل هذا لم تختلف القوى السياسية المغربية حول مسائل الحداثة والأصالة والمعاصرة ولم تصل إلى درجة المواجهة المسلحة كما هو حال القوى الفلسطينية اليوم،فالسياق مختلف والمحيط الجيوسياسي مختلف، وهذا لا يعني وجود روابط مشتركة بين المغرب ودول الشرق الإسلامي،لقد استطاع المغرب تجاوز بعض عوائق التنمية،على الأقل أَسَّسَ لبنات مشروع دولة عصرية واعدة تشرئب بتفاؤل إلى المستقبل،إنها تجربة متميزة في التنمية في منطقة المغرب العربي بشكل عام خاصة في العقدين الأخيرين،لقد تمت تصفية إشكالات سياسية كبيرة وطيّ صفحة الماضي على مستوى تجاوزات حقوق الإنسان مما جعل جل القوى السياسية والفئات الاجتماعية تنخرط في مشروع حداثي تنموي يجعل المواطن في صلب الإهتمامات،لقد بدا بوضوح أن الجهوية الموسعة المستلهم من بعض التجارب الأوروبية يمكن أن يطبق في المغرب وفرص نجاحه كبيرة،وهذا الأمر كان واردا منذ مدة،لقد صار المغرب يطمح إلى تنافسية مشرفة على المستوى الإقتصادي معتمدا على إمكاناته المحلية وموقعه الإستراتيجي باعتباره بوابة أفريقيا وأقرب دولة عربية إلى أوروربا،و شراكة اقتصادية مع دول الإتحاد الأوروبي.ما يعوق هذا الطموح هو ضعف التعاون المشترك بين دول المغرب العربي رغم ما تتوفر عليه المنطقة من ثروات مهمة يمكن أن تجعلها قطبا جهويا يقف بندية إلى جانب التكتلات العالمية التي يقتضيها الوضع العالمي الراهن..إن استمرار التعاون بين هذه الدول بشكله الحالي يحكم عليها ببطء النمو وهدر المجهودات والدخول في مطبات لا طائل منها.


1-ص116، المغرب المعاصر-الخصوصية والهوية...الحداثة والتنمية.الطبعة الأولى –نونبر1988-محمد عابد الجابري.
2-الناصري:الاستقصا ص 68ج8القسم الثاني دار الكتاب المغرب 1956.
3-المغرب المعاصر-الخصوصية والهوية...الحداثة والتنمية.صفحة 42- 43 الطبعة الأولى –نونبر1988-محمد عابد الجابري.