المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : طفولتي ( 3 )



عبد الله نفاخ
16/01/2011, 07:57 AM
طفولتي ( 3 ) :





كان والدي حريصاً رغم صغر سني على إيقاد جذوة التعلق بتراث الأمة في صدري أيما حرص ، فيخصص من وقته شيئاً ليس بالقليل لذلك ، بل قد بذل جهداً لجعلي أحفظ شواهد كتاب سيبويه الشعرية ، لكن مشروعه هذا لم يكتب له النجاح كما كتب لحفظي أبياتاً من حماسة أبي تمام و قصائد الجاهليين و متفرقات للمتنبي .



و عندما بدأت أخطو نحو العالم الآخر المستقر خارج جدران منزلنا ، وجدت أشياء غريبة لم أعهدها ، وجدت المعلمات ذوات الفهم السقيم ، و المعرفة الضحلة ، و الأطفال الذين لا يعرفون سوى اللهو و اللعب ، وجدت المدرسة التي ضقت بها ذرعاً ، و كم بكيت كلما أزف موعدها .



كانت والدتي حريصة على ألا أتاثر بعالم بيتنا أكثر مما ينبغي ، لإدراكها أنه لا يناسب عمري ، و لعلمها أيضاً أن عقلي ينبغي أن يتحرر من سطوة شخصية والدي التي شابها كثير من الألم و المعاناة في حياته ، و تخشى أن يزرع فيَّ عصارة ذلك فتسلَب مني طفولتي و إحساسي ببهجة الحياة ، لكنه كان يضيع عليها الفرصة ، و ببضع كلمات منه يحبط كثيراً مما تدأب عليه .



لكنَّ شخصيته تلك بدأت تتكشف عما كان مستقراً في أعماقه لا يبديه ، فتحمل أثناء تكشفه نفحة من حزن بالغ ، ذلك هو الجانب الرقيق الشفاف منه ، الجانب الذي طالما حسب الجاهلون خلوه و براءته منه براءة الذئب من دم ابن يعقوب .



كان استشعاره لدنو الأجل يزداد يوماً إثر يوم ، و يزداد معه تكشف خلجات قلبه الشاعرية ، و يزداد كذلك تواصله مع العالم الخارجي ، صار يغدو إلى السوق و يأخذني معه ، و هو الذي لم يعتد ذلك حياته كلها ، و يشاهد بعض ما يُعرَض في التلفاز و هو الذي لم يكن قد فكر بشرائه قبل زواجه ، و يداعبني مداعبة الطفولة ، و يناغيني بما يلائمني لا بأشعار العرب وحدها .



أخذ الجانب الإنساني منه في تلك الأيام يشرق إشراق شمس الضحى في كبد السماء ، كما كان إحساسه بقرب الموت يرسم ابتسامة رضا على شفتيه ، ابتسامة رضا يصنعها شعوره بقرب راحته التي طالما انتظرها ، بعدما أيقن – ربما متأخراً – أن تلك الراحة لا يمكن أن تكون له في هذا العالم الذي كثيراً ما ضاق به.



و إن أنس كل شيء مر بي في حياتي ، لا أنس اللحظة التي ناداني فيها و أنا ألهو في غرفة زوارنا التي كانت خالية ساعتها على غير العادة ، ليهمس في أذني ببضع كلمات لا يزال لها الوقع نفسه على صدري كما يومها ، و صوته لا يزال يتردد في مسمعي كأنني سمعته في التو :



- يا بني .... إنني سأموت ...... فكن حسن الخلق مع الناس .



أجفلت حين سمعتها ، على أني حسبتها كلمة من كلمات التأهب للموت التي طالما ذكرها أمامي ، لكنَّ هذه الكلمة تحديداًً لم تكن كغيرها ، و لم يكن موعد قولها كغيره ، إذ كانت أقرب الكلمات التي قالها زمناً من موعد تحقق النبوءة التي فيها ، و أكثرها تصريحاً بها .



و للحديث تتمة

مصطفى البطران
16/01/2011, 07:26 PM
يا لروعة ما تبوح به من درر أتحفنا بالمزيد وبهذا الأسلوب الجميل الفريد
رحم الله اباك واسكنه فسيح جناته ودمت ذخراً لوالدتك وللأسرة جميعاً
مشاعر رائعة يحس بها أديب مثلك فيترجمها بكل أناقة ورقة ... مبدع كعادتك
دمت اخاً ... بكل ود وسرور أخوك : البطران لكن من دون اي بطر
http://www.arabsyscard.com/pic/wrod/13.gif (http://www.arabsyscard.com/pic/index.php)

طارق شفيق حقي
16/01/2011, 08:21 PM
صفحة جديدة من صفحات أدب السيرة الذاتية
ما يجعلنا نقف عنده نقاط محددة
فالصدق معمار الأدب وهو يردف اليوم مع الصراحة كذلك

إن العيش في كنف قامة أدبية علمية كالمرحوم راتب النفاخ يرتب على من يعيش في كنفه ضغوطات قاسية من كل الأنواع
لكن حتما مع الزمن يتجاوز الطفل الصغير الشكلي منها ويغوص لعميقها ويعرف سمو روح والده وعلو همته ورفعة أهدافه
لا شك أن الحياة أصغر على عقول المبدعين ، لكنهم يتركون لنا أثاراً عميقة جداً

نتابع معك أيها المبدع

محمد يوب
16/01/2011, 08:56 PM
في هذا الجانب انتقلت من السيرة الذاتية إلى التخييل الذاتي,
مودتي

خليد خريبش
17/01/2011, 03:22 PM
جيد،أغنيت الأوراق هنا،مازلت أتابع إلى أن تنتهي.تحياتي.

محسن العافي
17/01/2011, 10:04 PM
كنت هنا وهناك ،على بعد من الصبا وأنت صبي ودنو من النضج وأنت صبي ،كأن النضج حل مكان اللهو واللعب فلا ترك الصبا صبى ،فحمل الصبي ماياتي به الزمان بعد جيل ولا رفض النضج مقصدا،عملك هذا إبداع متفرد ايها الأديب الجاد في مسعاه ،كانك كنت في جغرافيا تخيلية في بنية الأجساد وشفافية الروح وعمق الإيمان وسطو الحقيقة والقدر وخضوع النفس لكل قوة خارقة بلا مواجهة ،فالنضج جثا على روعك ولم يكن كيانك له رافض

بنت الشهباء
18/01/2011, 01:07 PM
بصراحة يا أخي الكريم عبد الله

قرأت رسالتك بالأمس ولم أستطع أن أردّ عليها بعد أن أخذت مني مواقف عدة جعلتني أقف احتراما وإجلالا لها ....

كيف لا ؟؟..

وهي بلسان الابن البار الذي يأبى إلا أن يبقى مع أجمل وأسمى اللحظات مع والده – رحمه الله – الذي كان يوصيه بكنوز ودرر من الحكم ...

وبقدر ما آلمتني رسالتك شعرت بالفخر والعزّة أمام وصية والدك – رحمه الله – وهو يقول لك :

إنني سأموت ... فكن يا بني حسن الخلق مع الناس ...

مثل هذه الوصية والله لو أننا وعيناها في صدورنا وحملناها في قلوبنا لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم ....

يكفيك فخر يا أخي عبد الله " الابن البار " أن يكون آخر كلام سمعته من والدك – رحمه الله – هذه الوصية التي تكتب بكنوز من الذهب ....

بارك الله بك ، وجزاك خيرا ، وغفر الله لوالدك وأسكنه فسيح جنانه مع الأنبياء والشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقا .

عبد الله نفاخ
07/03/2011, 11:33 AM
يا لروعة ما تبوح به من درر أتحفنا بالمزيد وبهذا الأسلوب الجميل الفريد
رحم الله اباك واسكنه فسيح جناته ودمت ذخراً لوالدتك وللأسرة جميعاً
مشاعر رائعة يحس بها أديب مثلك فيترجمها بكل أناقة ورقة ... مبدع كعادتك
دمت اخاً ... بكل ود وسرور أخوك : البطران لكن من دون اي بطر
http://www.arabsyscard.com/pic/wrod/13.gif (http://www.arabsyscard.com/pic/index.php)

أستاذي الكريم ..
مروركم أنارت به الصفحات ..
حياكم الله و سلمكم ..
و بارك بكم

عبد الله نفاخ
19/03/2011, 06:45 AM
صفحة جديدة من صفحات أدب السيرة الذاتية
ما يجعلنا نقف عنده نقاط محددة
فالصدق معمار الأدب وهو يردف اليوم مع الصراحة كذلك

إن العيش في كنف قامة أدبية علمية كالمرحوم راتب النفاخ يرتب على من يعيش في كنفه ضغوطات قاسية من كل الأنواع
لكن حتما مع الزمن يتجاوز الطفل الصغير الشكلي منها ويغوص لعميقها ويعرف سمو روح والده وعلو همته ورفعة أهدافه
لا شك أن الحياة أصغر على عقول المبدعين ، لكنهم يتركون لنا أثاراً عميقة جداً

نتابع معك أيها المبدع

حياك الله أخي طارق ..
و قد قرأت ما في نفسي هذه المرة ...
سلمك الله و بارك بك

عبد الله نفاخ
19/03/2011, 06:46 AM
في هذا الجانب انتقلت من السيرة الذاتية إلى التخييل الذاتي,
مودتي

بارك الله بكم أستاذي ...
يشرفني أن تتابعوني ...
لكم كل شكر و تقدير