المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مِشكاةُ نور



الدكتور طاهر سماق
23/12/2010, 09:17 PM
قليلاً ما تستأثِرُ بكَ طلعَةُ أحدٍ ما..!

ويومَها ..
كانتْ طلعتُها تُشِعُّ بالنورِ.
عندما دخلتْ بصُحبَةِ والِدِها، وعلاماتُ الإرهاقِ تعلو وجهَها المُضيءِ كمشكاة
الأبيضِ كاللجينِ
الرقيقِ كبتلةِ ياسمين.

تلَقَّيتُها بغِبطةٍ ملأتْ عليَّ قلبي، قبلَ أن تتجاوزَ مدخلَ الغرفة.

بادرتُ بالنُّهوضِ عن مقعدي مرحِّباً ..

صافحتُ والِدَها، وربَّتُّ على كتفِها، وابتسمت ..
لكنَّها ..
كأنما لم تعبأ بشيءٍ مما يجري حولَها ..

كانت ساهِمةَ النَّظراتِ مُجفِلَةً كأنَّما أرنبٌ برِّيٌّ انبرى لهُ صيَّاد.

كانتْ تتوهَّجُ كأنهُ الجمرُ من تحتِ الرماد.

كلُّ ذلك .. حتى قبلَ أن أسمع شكايتَها ..

أجلستُها، وسألتْ:
خير؟!
ردَّ والدُها:
لا ندري .. !! هي محومةٌ منذُ أيامٍ، ولم تستجِبْ لأي علاج!

لم يكنِ الأمر يحتملُ المزيدَ من الاستفسارات! فالطفلةُ ذاتُ الأعوامِ العشرةِ كانتْ مُرهَقةً حدَّ الإجهاد.

وعلى سرير الفحص .. كانت حرارتُها شديدة .. تزيدُ عن الإثنتين والأربعين درجةً مئوية.
حُمَّى لمْ يسبِقْ أن واجهتُ مثيلاً لها رُغمَ قِصَرِ حياتيَ المهنيَّةِ بعد.

أصغيتُ قلبها ..
فكانَ كقلبِ عصفورٍ من شدَّةِ تَسَرُّعِه ..

فحصتُ البلعوم، فلم أشاهدْ سوى احتقانٍ بسيطٍ لا يُفَسِّرُ كلَّ ذاك الكمِّ من الدعثِ والتعبِ الباديَين.

كانَ لا بُدَّ من حِقنَةٍ عضليَّةٍ لخفض الحرارة ..
ثم ..

استدرتُ لأكتبُ وصفتيِ التي قدَّرتُ أن أُرَكِّزَ فيها على الصَّاداتِ الحيويةِ ونحنُ في تلك البقعةِ الريفيةِ النائية.

" نَهَشَها كلبٌ منذ حوالي شهرٍ يا دكتور "

ألقيتُ قلمي وكأنما القدَرُ تغيَّر.

كأنما كنتُ أتحسسُ درباً في الضَّبابِ الكثيفِ فإذا به ينقَشِع.

ينقَشِعُ فجأةً فأرى الوضوحَ ..
وأيَّ وضوح!!؟

وضوحٌ فيهِ من الألمِ أكثرَ مما فيه من اليقين.
وقعتُ على حقيقةٍ تمنَّيتُ لو أنني ما قاربتُها ..

قلتُ له:
والكلب؟؟

قال: هرب .. ولم نعثُرْ لهُ على أثرٍ بعدها..

فقمتُ إليها بجرعةِ ماء .. تلقَّفتها بلهفةٍ.

لِمَ لا؟؟ ..
فلقد كانَ الظَّمأ استولى عليها ..
ولكنْ ..

ما إن وصلتْ أوَّلُ قطرةِ ماءٍ إلى بلعومِها حتى تشردَقتْ، وبدتْ وكأن الموتَ باغَتَها.

تورَّدَ وجهُها البريءُ، وجحظتْ عيناها المترعتانِ طفولةً، وانتابتها حالةٌ من الذُّعرِ كأنما تواجهُ تنِّين ..

أبْعَدَتِ الكأسَ عن فمِها بِهَلَعٍ، فقدَّمتهُ ثانيةً .. فبدا منها الرُّهاب، وبدَتْ منِّيَ الصَّدمة.
خَنَقتني العَبْرَة .. واستدرتُ إلى طاولة مكتبي، ومزَّقتُ وصفتي .. وتمالكتُ نفسي، وهمستُ لوالِدِها:

سيدي .. إنَّ ابنتَكَ مصابةٌ بالسُّعار.
وإنَّ الأوانَ يا سيِّدي قد فات.
ولم يعدْ هناك من تدبيرٍ سوى تدبيرِ الله.
ثلاثةُ أيَّامٍ أو أربعة .. و ..

ينقضي الأمر.

ثمَّ استَدَرتُ إليها ومسحتُ على وجنتَيْها مواسياً وابتسمت:
صغيرتي .. لا تجزعي .. ولا يهمُّكِ .. ها!؟

بصمتٍ .. باختناق ..
تحاشيتُ أن تنسكب دمعتيَ يومَها ..
لكنَّني ..

أهرَقتُها الآن

طارق شفيق حقي
24/12/2010, 09:20 PM
يا الله

كم ألمتني

ربما تكون هذه القصة من واقع الخيال
لكنها تروي قصصاً كثيرة من الواقع المعاش

طفلة بعمر الزهور تموت من السعار

كثيراً أو قليلاً ما نسمع هذه القصص لا يهم
لأن قليلها كثير

القصة تجبرنا أن ننتقل من حبكتها الأدبية
لتدخلنا في تفاصيلها الواقعية
وحجم الأسى الذي دخل قلوبنا عبر قلب الطبيب
ليعبر عنا ما ألم بفتاة صغيرة في منطقة ريفية
تفتقد لأبسط مقومات الحياة

وهذا لعمري أسمى وظيفة للأدب
أن يعري الواقع
ويفضح ظلمته

أشكرك أيها الإنسان الطبيب لما قدمت لنا من جرعة ألم
و لا شفاء من دون ألم

محمد يوب
24/12/2010, 10:03 PM
قصة جميلة بدلالاتها وبانزياحاتها اللغوية وبتمفصلها الصوتي في اتجاه النص الشعري,
مودتي

مصطفى البطران
24/12/2010, 10:30 PM
قصة من واقع مؤلم ومرير وقد تقع مثل هذه الحوادث في ريفنا كثيررررررا
هذا دور الأدب تنبيه وتذكير وإرشاد ونصح وهذا ما لمسته في هذه القصة الواقعية الصادقة
اللغة البسيطة السهلة والموضوع المؤثر المؤلم والشخصيات المنسجمة مع أحداث القصة
تجعل من القصة لوحة جرح وألم منقطعة النظير أين نحن مما يلم بنا من مصائب ... شكرا لأنك
أمتعتنا وشوقتنا وعرفت كيف تسير بنا إلى نهاية القصة بكل لطف ويسر ... شكرا لك ودمت مبدعا

الناصري
25/12/2010, 08:01 AM
جمالٌ في السرد وإبداعٌ في الإخراج والخط.......هل نذهب بعيداً ونسقطها على واقعنا العربي.........شكراً أيها الكاتب

سوسنة الكنانة
25/12/2010, 03:22 PM
أحسست بحروفها حية !
كانما تسطر واقعا ...

لتضمني إلى قائمة المتألمين

عبد الله نفاخ
25/12/2010, 03:31 PM
لامست عمق الإنسانية بمنتهى الشاعرية أديبنا الطبيب ....
و آه من الإنسانية المتوجعة دوماً كأم ثكلى ......
و يا للأدب حين لا يكون ناقلاً و معبراً عن ذلك ....
يا لسطحيته يومها ....
خرجت كلماتك من القلب فتلقفتها القلوب أيها الكريم ...
بورك يراعك الناضح بالحب ...
لك كل تحية

الدكتور طاهر سماق
26/12/2010, 11:09 AM
أحبتي
كل عامٍ وأنتم بخير .. في كل أصقاع الوطن من رأس مسندم على مضيق هرمز إلى الرأس الأبيض على الأطلسي

كل الحب لكم

وأود أن أعلِّق أولاً بالشكر لكل من مر .. وثانياً . أنني كتبت قصتي من واقعٍ عشتُهُ بحذافيرِه ..

وهذا دأبي في أعلب الأحيان .. إلا ما ندر
مودَّتي

خليد خريبش
27/12/2010, 02:34 PM
قصة واقعية درامية،تذكرني بقصص أدب أوروبا أيام أيام سعيها للخروج من التخلف،تحياتي الأخوية.