المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : البئـــــر العميقـــــة



أبو شامة المغربي
02/03/2006, 03:56 PM
:neeww:

البئــــــر العميقـــــة


لا يكاد يتبين أغلب لحظات أمسه البعيد .. يخيل إليه أن كثيرا من أيامه هوى في بئر ضباب كثيف .. يراها وكأن حجابا بينه وبينها مديد .. يحاول الغوص في حياته الماضية ليستوقف أياما اشتاق إليها اليوم اشتياقا غريبا، وليستعرض في مخيلته أحلاما حن إليها حنينا شديدا ..

كم أنفق من الجهد في تذكر ماضيه .. كم من الوقت أنفق، وكم حث السعي في سبيل استعادة سويعات بعينها، لكنه في كل مرة كان يجني الأسى والحسرة من وراء محاولاته .. إنه يحلم أن تمحى، ولو لبرهة قصيرة، كل آثار الحاضر ليرتمي كطفل صغير معانقا ما تبقى من حصيلة ذاكرته ..

يعلم جيدا أن هذه البقية عاشها في ما مضى، بقدر ما يدرك أن الحاضر يحول حجابا سميكا بينه وبين ذلك الزمن الماضي .. يخاف أن يصدم حين يرفع الحجاب، ومع ذلك يود أن يلقي بنفسه في هذه المغامرة .. يعلم أن رفع حجاب الحاضر أمر جد صعب وعسير، بل مستحيل في حال اليقظة والشعور، إلا أنه متمسك بهذا الحلم، ويكره أن يستسلم لليأس ..

يخاف أن تكون ذاكرته قد أضاعت تلك الأيام الماضية، التي طالما رغب في لقائها .. يخشى أن يحرم من استحضار ما عاشه في الماضي عزيزا عليه .. إنه يذكر ولا يذكر .. يذكر القليل من الكثير الكثير، لكن الأمر الوحيد الذي يتذكره جيدا، هو أنه خلف أنفاسه وأحاديث قلبه الشجية في ذاك الزمن الذي ولى ولن يعود ..

أما ذلك القليل الذي بقي عالقا في ذاكرته، فوجوه شاعبة وعيون غائرة .. قلوب متهالكة على أنفاس مضطربة.. يتذكر عيونا مرتبكة تحكي بصمتها الحائر المتردد حكاية تلك الأيادي المرتجفة، ليس من شدة برد قارص، بل من شدة الهزال .. تبعث الخوف في نفس كل من دقق النظر فيها، وأنصت بإمعان إلى حديث جلدها الأسمر الداكن .. جلد متشقق كأديم أرض تشكو الظمأ الشديد .. تلك الأيادي المرتعدة التي تمتص يقظة اليقظان، وتتركه يحلق مكرها في سماء الشرود .. صرخة موؤودة ترسلها بقية دماء وهي تجري مهاجرة في عروقها المنتفخة.

يتذكر كل هذا وزيادة .. خطوا ثقيلا وأقداما منهكة تجتر وقعها الرتيب على الأرض .. جسدا هدته هموم النفس، فأمعنت فيه إرهاقا، وحولت نشاطه جمودا، وغرست فيه أنيابها الحادة معاول هدم مدمرة .. كل هذا صار ركاما وهشيما، وعرضة للأسى والأسف، وفرجة بالمجان .. يذكر تلك النفس المكلومة المحترقة، التي لم يتوقف نزيفها إلا بعد فوات الأوان، وذلك القلب الملتهب الحزين، الذي تألم وتجرع الحسرة المرة القاتلة .. تسري مع خفقه الهزيل حمى وقشعريرة ...

يذكر ذاك الفتى الذي شاخ في عز فتوته .. ذاك الذي كان يمشي ويمشي ثم يمشي حتى يمل المشي قدميه .. كان يمشي بين الناس مظلوما مقهورا .. فقيرا غريبا بين ذويه .. يطرق أبوابا موصدة وقلوبا مختومة .. ينادونه: أنت .. يا هذا .. لا مكان لك بيننا .. عد من حيث أتيت ...
تراه من أين أتى ..؟ وإلى أين تراه سيعود ..؟


د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

المودني عبدالسلام
10/03/2006, 02:39 PM
الفاضل د. أبو شامة المغربي
نفقد ذاكرتنا أو جزءا كبيرا منها بسبب سطوة الحاضر
نحاول رؤيتها و معاودة رؤيتنا داخلها نكتشف أننا أضعنا كل شيء حتى حاضرنا
أنا أقول سيدي أن الحاضر جسر بين ماضيين
الكل يعاد بطريقة ما يبدو هجينا في كثير من الأحيان
كالعادة أستمتع و أفيد من نصوصك سيدي
مودتي
عبدالسلام المودني