المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اَلْقَصِيدَةُ الْعَرَبِيَّةُ،إِلَى أَيْن؟رُؤْيَةٌ نَقْدِيَّة٠



خليد خريبش
12/09/2010, 01:29 PM
هذه رؤية للإبداع الشعري العربي المعاصر، أحاول أن أتطرق فيها لبعض الإشكلالات التي كانت محط خلاف بين المتتبعين والمهتمين بالشأن الأدبي العربي وليس القصد منها إذكاء أو إثارة نقاش جديد أو اجترار ما خاض فيها السابقون بل الأمر يتعلق بقراءة جديدة لأن الوعي يقتضي قراءة متجددة للتراث تتجدد كل حين مع تغير الظروف والأحوال،ومع توالي الأجيال.لا يمكن أن نصفي الحساب مع الماضي هكذا ونستكين إلى الراحة ونكتفي بما قام به سابقونا،إنها أمانة على عاتقنا،إن المتتبع للإنتاج الأدبي العربي منذ ما يسمى بالنهضة العربية الي كانت نواتها في مصر العربية يلحظ صراعا حادا بين القديم والجديد خاصة عقب دخول المستعمر ،ما يهمنا في هذه المقالة هي الأشكال التعبيرية وأخص بالذكر الشعر، وبالضبط النقاش الذي دار حول شاعرية الأشكال الأدبية التي لا تخضع لأوزان الشعر العربي،والذي وصل أحيانا إلى درجة ما يسمى بخطاب الصم أو بتعبير آخر إلى النفق المسدود.
سأتعرض لمجموعة منها فمحاولة الإجابة عنها ستؤدي إلى فك خيوط بعض الإشكالات .
هل الشعر الحر أي شعر التفعيلة شعر ؟ وهل هو من الشعر العربي ؟
هل مايسمى بقصيدة النثر أعني التي لاتلتزم إطلاقا بالتفاعيل الخليلية شعر ؟وإذا كان الأمر كذلك فهل هي شعر عربي ؟
هل الخاطرة شعر ؟وهل يمكن اعتبار الخاطرة شعرا عربيا ؟
هل الزجل شعر؟بما أن الزجل يكتب باللغة الدارجة لا العربية،لا يمكننا أن نقول هل الزجل شعر عربي فالتساؤل غير ممكن؟
إِذًا فالملاحظ من خلال هذه الأسئلة أني أفرق بين ما هو شعر وما هو شعر عربي.
أقول عربي لأن الشعر العربي له صفات مخصوصة فهو* الكلام البليغ المبني على الإستعارة والأوصاف،المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده الجاري على أساليب العرب المخصوصة. *1،مادون ذلك فهو ليس شعرا عربيا ،صَحِيحٌ أنه في أي منطقة يُنْشَدُ الشعر بميزات تخص جغرافية هذه المنطقة، وَلَكْنَةٍ هذه المنطقة، وتقاليد هذه المنطقة، وثقافتها إلى غير ذلك...فبيئة القاطن في مدينة إِفْرَانَ مثلا ليست هي بيئة القاطن في الصحراء،ولك الحق في التغني بمحبوبتك بإيقاع منطقتك حيثما كُنْت،تغنى عنترة وهو يرعى في الصحراء، ويحق له ذلك. كما يحق للأمازيغي في الأطلس المتوسط أن يتغنى بإيقاع منطقته ولغته وَكُلٌّ شاعر، هذه مسألة لا خلاف فيها. لَكِنَّ هذا الشعر وإن كان بلسان عربي فمادام لا يحترم معهود العرب في الشعر فهو ليس شعرا عربيا.
سيقول قائل لماذا كلمة شاعر عربي أو شعر عربي تختص بما نسميه عادة بالشعر العمودي مادامت الأنواع الثلاثة الأخرى تؤدي نفس الوظيفة؟هنا مربط الفرس ، لا يمكن للشعر الحر أن يحفظ موروث العرب،لا يمكن للشعر الحر أن يحفظ لسان العرب وتاريخهم،وإن استجاب بانزياحه لرياح الحداثة وتشظي الذات العربية الإسلامية تبقى وظيفته محدودة،لايمكن للشعر الحر أن يستوعب علوم العرب من فقه ولغة ،لا يمكن للشعر الحر أن يؤدي وظيفة بحر واحد من بحور الشعر العربي ألا وهو الرجز،ونعلم مكانته العلمية.فالعربي في زمن الجاهلية لم يكن يعرف الكتابة إنما كان كل شيء عنده شفهيا،كان يميز بين الطويل والكامل والبسيط هكذا تلقائيا وأذكر هنا قدوم وفد بني تميم وقيام الزِّبْرقَانُ بن بدر التميمي يفخر بقومه وكان حَسَّانُ غائبا فأجابه بقصيدة على الطويل و أنشد الزِّبْرقَانُ على البسيط،فلما انتهى حسان قام شاعر القوم فقال ما عَرَضْت في قوله وقلت على نحو ما قال،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت"قم يا حسان فأجب الرجل فيما قال"فقام حسان فأنشد على البسيط2... إِذًا فالشعر العربي مخصوص بأشياء لا توجد في أشعار الأمم الأخرى ولذلك خص الله هذا اللسان بحفظ الرسالة الربانية.
لحد الآن أحاول أن أتجرد حتى يكون الكلام خاضعا للمنطق كيفما كانت ديانة المرء وتوجهه ولغته،لأن التجرد فيه إقناع لمن يحاول أن يتكلم كأنه ليس عربيا وليس مسلما وغير معني بحفظ اللسان العربي والدفاع عن الرسالة الربانية،وسآتي لأوضح علاقة القصيدة العربية الأصيلة بالدين الإسلامي ففي ذلك ستتضح الأمور أكثر.
أقول إن الأسلاف رضي الله عنهم كانوا أشد حرصا على تعلم اللسان العربي والشعر العربي وما زالت هذه الرسالة إلى الآن وستبقى مستمرة،لإيمانهم أن الفلاح في الدنيا والآخرة في اللسان العربي المبين لسان آخر الأنبياء والمرسلين،إيمانا يقينيا قطعيا عَرَبًا كانوا أم أمازيغا أم فُرْسًا أَمْ رُومًا ،ونعلم أن مقدمة الْحَبْر ابن آجُرُّوم الصَّنْهَاجي التي تُدَرَّسُ في جميع المعاهد الإسلامية للمبتدئين في النحو والتي نظمها ابن آبَّةَ التْوَاتِي وشرف الدين يحيى العمريطي على الرجز، وألفية ابن مالك هذه الأرجوزة التي هي منتهى الطلب في علم النحو لصاحبها ابن مالك الأندلسي نُظِمَتْ على الرجز. أَمَا وَأَنْ تضعف شوكة الإسلام والمسلمين وتداعى الأكلة على قصعتها ويصبح اللسان العربي منبوذا من طرف الشباب يتخذونه سخريا فهذا أمر آخر،.إن ثمرة علم العروض هي حفظ اللسان العربي لأنه ميزان الشعر والشعر العربي ديوان العرب فيه كل ما تعلق ويتعلق بهم ،وفي حفظ اللسان العربي حفظ الدين والشريعة وازدهار الأمة ونمو لغتها وتطبيق مراد الله في أرضه ألا وهو حاكميته،هذا هو السبب الرئيس الذي يجعل الشعر الفصيح الملتزم بالقواعد أعلى طبقة .
فلا نقول كُلٌّ يَدَّعِي وصلا بليلى،ولا نقول هؤلاء متشاعرون ولكن نقول الناوون بشعرهم طاعة الله تعالى والقيم الإنسانية السامية.
لقد حبا الله الشعر العربي بصفات وميزات لايعيها من هب ودب،لا يعيها إلا من امتلك الملكة اللغوية واكتسب الدُّرْبَة وحفظ عددا كبيرا من القصائد العربية وأدرك جزالة ألفاظها وتناغم أصواتها وتردد مقاطعها ودوران أوتادها وأسبابها..إن صفاء السريرة والفطرة السليمة والقلب الصافي من الشوائب تكون حاصلة في أهل النظم العالي الطبقة،وبالتالي فهم جمعوا بين الجمالية والسليقة العذراء والمعرفة الخالصة وخصال سنامها الجود والكرم والوفاء.
إن الشاعر العربي وصل إلى درجة أنه يستطيع أن يأتي بالمحفوظة الخالدة التي لا يستطيع أحد أن يطمس معالمها من نفوس متلقيها،إن الذائقة الأدبية حاصلة لديه وعلى درجة من الرقي كما هي حاصلة عند المتلقي أيضا فقدرة المتلقي الذي كان في الغالب يتلقى شفهيا على إدراك التعابير التي إن قِيلَتْ خَلَدَتْ، لِدَى كان يُتَجَنَّبُ غضبُ الشعراء فَيُوَقَّرُونَ وَيُكَرَّمُون،وتلك سلطة الشعراء في الجاهلية و في العصور الأولى للحضارة الإسلامية التي كان الدين الإسلامي صُلْبَ
بنيانها وعلة وجودها .
إن بنية الكلام العربي الأصيل يطبعها السجع وترصيع الكلمات والإقتضاب كما هو الشأن في كلام الله النازل بلغة العرب وفي الحديث النبوي الشريف وليس ذلك تكلفا،كلا، بل تلك غاية في التمام والكمال في البلاغة،ويبدو ذلك في أمثال العرب وحِكَمِهِمْ ومنها ما هو موزون ويظن المعاصرون مِمَّنْ لا يمتلك الملكة أن المرء يتكلف حينما يتكلم عربية فصيحة منسوجة وفقا لكلام الأوائل.وقد انتبه إلى هذا الأمر عبد الرحمن ابن خلدون حينما لا حظ أن العربية الأولى قد بدأت تُفْقَد فتكلم في هذا الموضوع بما يُوَضِّحُ الفكرة بجلاء.نقول إن العربية بطبيعتها وبطبيعة ألفاظها وأصواتها متناغمة منسجمة تسعف الإنسان البليغ وتعلي مَنِ امْتَلَكَ شاعرية وموسيقى شعرية يشنف بها أسماع المحبين ويشفي غليل المحاربين ويرد على الهجائين.
ولعل نازك الملائكة وبدر شاكر السياب كانا على درجة من الفطنة، لقد كسرا التناظر في التفعيلات لكنهما حافظا على تَرَدُّدٍ بين الفينة والأخرى في القافية وتَرَدُّدِ لازمة كي يجعلا المتلقي يتقبل جديدهما.وحافظا على محسنات تجعلك لا تنفر من شعرهم بل تردده وتحفظه كأنه شعر عمودي،ورغم ذلك فلا تكاد تجد متلقيا يردد أو يحفظ قصيدة لأحدهما عن ظهر قلب.وتجد قصائد لكتاب في شعر التفعيلة تفتقد التناغم والإنسجام الصوتي وعدم تكرار القافية وطغيان إنزياح غير معهود عند العرب أشبه ما يكون بقصائد لشعر إنجليزي أو فرنسي مترجم.أما قصيدة النثر فقد أفضت إلى نوع من فساد في الذائقة العربية
وجُلُّ من يمتطي قصيدة النثر ليس على إلمام بالأدب العربي وبالثقافة الإسلامية،إنما أخذ جزءا تعليميا يسيرا في العربية أَهَّلَهُ كي يكتب شعرا ظرفيا يغلب عليه المعرفي أكثر من الجمالي،وأما الزجل فارتبط بانحسار المعارف والشح المعرفي وشيوع لسان العامة واقتصار جل الورى على الكلام المختصر ففي الأندلس كان الصبية يحفظون القرآن ثم الفقه والأدب لدى كانت الحركة الأدبية نشيطة في ذلك الحين، على عكس المغرب كانوا يقتصرون على حفظ القرآن فقط لدى ازدهر الزجل وكان شائعا ومنتشرا أكثر من غيره من الأشكال الأدبية وقد تناول ابن خلدون هذا الأمر بما فيه الكفاية.
هذه محاولة لرصد واقع أو حال الخطاب الشعري المعاصر وَصِيَغِهِ المختلفة من الأكثر كلاسيكية إلى الأكثر انفتاحا وتساهلا، وبطبيعة الحال سواء كنا راضين عنه أم لا فلا بد لنا من تفسير هذا الواقع وتفكيكه وفهم العوامل المتنافرة فيه وإلا فلا إشكال في هذا الخطاب ولا حركية فيه،إن الحركية نتيجة صراع بين جديد يحاول أن ينتزع الإعتراف ويجد مكانه ضمن الأشكال المعهودة وقديم يريد أن يلبي التغيرات المتسارعة كي يضمن حاجيات الذات المبدعة،وبين الأشكال نفسها محاولة الواحد منها اجتياح الأشكال الأخرى والحط من شأنها وَلِمَ لَا تجاوزها..إذن فالأمر يتطلب عودة للوراء كي نعرف مصدر الصراع وهل هو صراع جديد أم قديم،وإذا كان قديما ماهي أوجه التشابه بينه وبين صراع اليوم.نعود للوراء كي نفك خيوط الحاضر فتنجلي حجب عن أعيننا ويظهر جوهر الصراع،كل هذا من أجل استشراف مستقبل هذا الشعر العربي المتجسد في القصيدة العربية التي تعتبر أسمى أشكال التعبير عند العرب.
فلنتخذ زمن أبي الطيب المتنبي منطلقا للبرهنة على أن الصراع بين القديم والجديد في الشعر العربي ليس بجديد،كان ابن جني يحب شعر المتنبي وينشده وينتصر له ويعترف بموهبته الكبيرة في الشعر ونعرف مكانة ابن جني العلمية فهو أحد أئمة اللغة العربية من دون منازع ،وكان المتنبي يدرك هذا الأمر حتى قال:ابن جني أعلم بشعري مني،أي أنه يمارس النقد بالتعبير المعاصر في حركة أدبية وازدهار ثقافي صاحب انقسام الدولة العباسية ووصول الدولة إلى المدنية والترف الذي هو من توابع الحضارة بتعبير ابن خلدون..إذن، ابن جني الناقد كان يحاول أن يتبث قدم المتنبي بإبراز قيمة شعره مستندا إلى مكانته العلمية التي لا يمكن الطعن فيها من طرف الخصوم،ودليل كلامي هذا هو أنه كان يلقي أبيات المتنبي دون ذكر اسمه حتى إذا عرف رأي السامع و تأكد من شهادة لصالحه كَشَفَ أن الأبيات للمتنبي،السؤال الذي يطفح الآن - هل خرج المتنبي عن القصيدة العربية التقليدية؟كلا، لكنه جعلها تسعفه كي يعبر عن ذاته وآلامه وهمومه وهموم عصره، الأمر الذي لايستطيعه دون الخروج عن سابقيه،إن كثرة خصوم المتنبي ليس سببها الْحُظْوَة التي كان ينالها من طرف الأمراء أو شخصيته الأنانية كما توصل إليه بعض نقادنا ممن طبقوا مناهج تعتمد التحليل النفسي حرفيا على شخصيات أدبية، الأمر ليس كذلك،إن أنانية المتنبي أو تضخم أناه أو نرجسيته جزء من دفاعه عن نفسه ،جزء من رد اعتبار لذاته،جزء من تحديه وفرض جديده،إن شخصية المتنبي حملت التغيير الذي لم يستسغه علماء الإسلام والأدباء والمثقفين بالتعبير المعاصر في تلك الآونة،إن الجديد الجاد المنبثق من الأصالة يفرض نفسه من دون شك وهذا ديدن المتنبي إذ طاف في البادية في صغره بحثا عن البيئة العربية الصحراوية،بحثا عن الصفاء،بحثا عن الأصالة،عن اللسان العربي الذي لم تصله رياح المدنية
العباسية والتي قد تفسد سليقته وقريحته.
قال ابن خلدون ولهذا كان شيوخنا رحمهم الله يعيبون شعر المتنبي والمعري بعدم النسج على الأساليب العربية كما مر فكان شعرهما كلاما منظوما نازلا عن طبقة الشعر والحاكم بذلك الذوق،وكأننا أمام صراع اليوم. أنكر العديد شعر نازك الملائكة والسياب ،وينكر العديد منا قصيدة النثر الآن.هل التاريخ يعيد نفسه؟،إن الزمن العباسي ليس هذا الزمن،كانت اللغة العربية لغة الدولة والسياسة والإقتصاد والثقافة...ولا حاجة للعربي لتعلم لغات أخرى إلا من كان له هدف البحث العلمي.وكانت اللغة العربية اللغة السائدة في العالم وتسعى كل الأجناس إلى تعلمها ويتسابق الناس إلى الانتساب إليها ،عكس يومنا هذا حيث هناك من يتنكر للغته بدعوى عدم جدواها وعدم حاجته لها،أو أن العالم قرية واحدة تكتب بما تشاء وتتعلم ما تشاء.وخلاصة القول أن الهوية العربية والشخصية العربية كانت قوية، تعرف حركية داخلية دون مؤثرات خارجية كما هو الحال اليوم.
لم يخرج المتنبي عن الأوزان الخليلية لكنه تمرد عن تراتبية البكاء عن الأطلال وذكر الناقة والفرس والبطولة وتنويع الاغراض داخل القصيدة الواحدة،لأن الواقع يحتاج إلى التغيير.لقد استغل المتنبي موهبته وذكاءه وإلمامه بالشعر القديم وتجواله الذي سمح له بمعرفة حال عصره أن يملأ الدنيا ويشغل الناس بتعبير ابن رشيق القيرواني.
إن مقاومة علماء الإسلام لمحاولات تكسير البنية التقليدية للقصيدة العربية شيء طبيعي لأنها مرتبطة بمصادر التشريع ومن البيئة العربية التي نشأ فيها محمد صلى الله وعليه وسلم وأصحابه وتابعيه وبالتالي ففهم الدين الصحيح ونشره يرتبط ارتباطا قويا بالإلمام بالشعر العربي الجاهلي والبيئة الصحرواية والقبائل العربية وحبها وأولى لنا أولى أن نمتلك الملكة اللغوية الأصيلة ففيها فلاحنا لأننا سنفهم الفهم الجيد للدين فنمرره للأجيال الأخرى بأمانة،وهذا الأمر لا يخفى على علماء الإسلام،لقد أسسوا علوما وقواعد ومنظومات تجعل اللغة العربية الصحيحة تستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
نضيف كذلك أن علماء الإسلام أكثر تحفظا في بعض أغراض الشعر كالغزل والهجاء خوفا من السقوط في معصاة الله تعالى ويبدو هذا الأمر بوضوح في القرن الهجري الأول حيث كان الناس أكثر تشتبتا بالدين فالرسول صلى الله عليه وسلم قال4- :خيركم قرني،ثم الذين يلونهم،ثم الذين يلونهم...
ونذكر هنا معاناة مجنون ليلى لأن الناس أنكروا عليه أمر تشبيبه بليلى.والعلماء يحفظون أشعارا في هذه الاغراض ومنهم من قال الغزل في شبابه أو قبل التزامه بتعاليم الدين الإسلامي وحسان ابن تابث أنشد في ذكر الخمر والحبيبة في همزيته يوم فتح مكة، وفي موطن آخر قال الرسول صلى الله عليه وسلم.قل ومعك روح القدس في هجاء كفار قريش،.
قال حسان بن تابث5:
وَكَانَتْ لَا يَزَالُ بِهَا أَنِيسٌ ***خِلَالَ مُرُجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ٣
وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا***وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ١٠-الوافر.
وليس كما يزعم البعض من وجوب إبعاد كلما علاقة له بالدين من الأدب وكأن الأدب الغربي لَمْ يُبْنَ على دين، بل الفكر الغربي عَيْنُهُ بُنِيَ على مناقضة الدين ولولا الدين لما وُجِدَ هذا الفكر أصلا ،أَمَّا أَنْ نتبنى طرحا هكذا رغم مخالفته كياننا بدعوى أنا متخلفون فهذا أمر آخر،.إن الدين الذي بُنِيَتْ على مناقضته الحضارة الغربية دِينٌ مزيف وضعته طبقة كانت تريد المحافظة على مصالحها وسيادتها على العالم،ليس الشأن كما هو الحال في الحضارة الإسلامية،لا غنى للأدب عن أنوار الإيمان والصفاء،لا غنى للأدب عن الرحمة المنزلة للمخلوقين،وإن حاول البعض في الوطن العربي استنساخ النماذج الغربية واحتكار كلمة أدب وَلَمْزِ الراسخين في الأدب العربي بالرجعية فإنه ستشع الأضواء الربانية حتما ولو بعد حين،وهاهو النور يعود للأدب العربي بعد زوال الإشتراكية.
كيف ننقل صراعا طبقيا في مجتمعات مختلفة عنا جملة وتفصيلا بل مناقضة للقيم الإسلامية إلى ديارنا؟ وإن كانت رياح الحداثة تفرض علينا مجموعة من الأشياء كما قال محمد عباد الجابري : *إِنْ لَمْ تَأْخُذْ بِهَا أَخَذَتْك6*فالهوية التي تحافظ على تميزها كالنخلة لا تنال منها العواصف ،فمجال التابث معلوم ومجال المتغير معلوم كذلك.
أقول إن سعي علماء الإسلام عبر التاريخ الإسلامي للحفاظ على مقومات القصيدة العربية الأصيلة أمر طبيعي يجب أن نقبله ونومن به ويمكن أن نعتبره فرض كفاية حتى نترك المجال للتعددية وضرب دعوى خصوم القصيدة العربية بالإقصاء والرفض والجمود. فالدين الإسلامي يدعو إلى التقدمية والعلم والبحث والإيمان وهذا أمر يقيني قطعي لايختلف عليه إثنان.
إن من يقول مثلا : إني أعيش في القرن الواحد والعشرين وبَعِيدٌ عن مكة والمدينة ، فَلِمَ أترك قبائل قرب مسقط رأسي وأتتبع أخبار قيس ومضر ووَهَوَازِنَ وما إلى ذلك،هذا كلام من ينفي النور الرباني بفمه لا بقلبه،وسمعت أحد الناشطين الأمازيغيين يتكلم هذا الكلام ،هذا كلام من يتجاهل التاريخ ويقصي جزء من هويتنا وينفي النور الذي أرسله الله إلينا لينقدنا من الخسارة الدنيوية والأخروية،إِنَّ هَوَانَ المسلمين الآن وتخلفهم لا يعني التبري من أركان هويتنا،إن مخاطبة المسلم لأخيه المسلم بخطاب عقلي صرف لا يستحضر القلب ولعلنا نعرف مكانة هذا المفهوم وحمولته الدلالية في الفكر الإسلامي أمر غير مقبول،.إننا ندرك تمام الإدراك مصدر هذا الخطاب لقد ابتدأ مع احتكاك الحضارة الإسلامية ونظيرتها اليونانية ودخول المنطق الأرسطي إلى منظومتنا الفكرية وقد تصدى إليه أهل العلم الراسخون فيه،وقيدوه وجعلوا له حدودا،لكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، فقد آلت الحضارة الإسلامية إلى الإنحطاط والإنكماش وعرف منحنى الحضارة الغربية ارتفاعا بشكل اضطرادي، فصار عدد من جلدتنا يتكلم معك بالعقل لا القلب وكأنه يتكلم بلغة الآخر الذي بنى منظومته التفكيرية على مناقضة الوحي المتمثل في الرسالات السماوية التي هي دين واحد يجب على البشرية جمعاء أن تَتَّبِعَه،لكن سنة الله في الخلق دفاع بعضنا البعض إلى يوم الدين.
إذن بعدما عدنا القهقرى، إلى التاريخ الإسلامي توصلنا إلى استنتاج مفاده أن تيارا يحافظ على مقومات القصيدة العربية الأصيلة عاش ويعيش معنا وسيعيش،وهذه النتيجة ستفيدنا في فهم حاضر القصيدة العربية واستشراف مستقبلها.
أعتقد أن دخول المستعمر إلى البلاد العربية الإسلامية التي كانت تغط في نوم عميق غير مبالية بما يجري حواليها من تغيرات أو أنها كانت في موقف الاحتراز لأنها تعلم أن دخول المسيحيين آت لا محال حَدَثٌ تاريخي مهم أدى إلى تغير جذري في حياة الأمة و شعورها وتماسكها وهويتها ،لقد انقلبت كل المفاهيم رأسا عن عقب.فسارع المثقفون إلى إيقاظ الهمم وشحذها وافترقوا بين الرجوع إلى تعاليم الدين الأصلي و الاستغناء عن موروثهم الثقافي ومحاولة التوفيق بين الأصالة والمعاصرة.فهذا هو الوجه الخفي للأشكال التعبيرية التي عقبت الإستعمار من شعر وقصة ورواية وفن وتشكيل...إنها محاولة للعودة للوجود بعد غياب ،وومحاولة لفرض الذات بعد إنكسار ،وفقدان ثقة وشك في مقوماتها الحضارية..إنها النهضة العربية التي ابتدأها دعاة الإصلاح الأوائل الذين رأوا أنه لا غنى عن الدين للتخلص من براثن المستعمر وإعادة لَمِّ الشمل وَلِمَ لا استرجاع المجد.بناء على ما سبق كان موضوع الشعر خلال هذه الفترة وما بعدها يصب في تذكير المسلمين بمجدهم وزرع الأمل في نفوسهم وبالفعل استطاع الرواد الأوائل إحياء التراث واستغلال معطيات التقدم التقني للحضارة الغربية لصالحهم ،لقد خاضوا معارك مصيرية من أجل إعادة بناء هوية متهدمة.
إن مفاهيم مثل الإحياء والمجد و الحداثة والتغيير والهوية والأنا والآخر...ترددت ومازالت تتردد في الخطاب الأدبي بشكل عام منذ حوال قرنين من الزمن ورغم خروج المستعمر مازالت الذات العربية لم تجد طمأنينتها وأمانها في عالم لم تفهم فيه التغيرات المتسارعة حولها ،فالعالم من ثورة إلى أخرى.
إن هذا الوضع الذي يطبعه التشرذم وعدم الإنسجام يترجم حال الإبداع الشعري العربي المعاصر وما يطبعه من هلامية وضبابية وتكثيف...ولعل محاولات تكسير البنية التقليدية يفسر الإختناق الذي عرفته الذات المبدعة حيث التجأت إلى أقصى حدود الانزياح من أجل مواساة الذات وتعويضها عن أحلام منكسرة
وشعورها بالضياع والدونية .فالشعراء نظروا إلى أبناء وطنهم البؤساء فلم تسعفهم الخيل والنوق ولا الفخر والحماسة بل نفعتهم فضاءات الإنزياح الشاسعة للفرار في المكان والزمن.لقد نفعتهم المنظومات الغربية الدخيلة كخلاص للشاعر ولوطنه وأمته من الذل،لقد نفعهم الموروث الديني فوظفوه كمخلص أحيانا وكعامل سلبي أحيانا أخرى لدى بعض الشعراء الذي ذهبوا إلى حدود بعيدة من اليأس وَزِدْ على ذلك شغف عدد منهم وإقباله على الفكر الإشتراكي الذي ارتأوا فيه مُخَلِّصًا وملاذا من الأوضاع المزرية التي تعيشها أوطانهم.ونذكر هنا أن محمود درويش انخرط في شبابه في الحزب الشيوعي الإسرائيلي وَالفَطِنُ سيرى بوضوح تأثير ذلك في شعره.
أعتقد أن الشعر التفعيلي كان أهون الضررين وأوسط الحلول في هذا الفترة العصيبة من تاريخ الإبداع الشعري العربي ،لبى طموحات شباب ميال إلى المبادرة والتحدي والتغيير وحب الحياة رغم ما شاب ذلك من جنوح عن قيمنا الأخلاقية والتي ليست من شيم الشاعر العربي الأصيل.أقول إن الشعري التفعيلي وَفَّقَ في فترة من الزمن بين تيارات متنافرة في الإبداع الشعري العربي،متح من شعر الأوائل وتفتح على الوافد الجديد وتأثر به،هذا لا يعني عدم وفائه للقصيدة العربية ،بل كان الشعر التفعيلي الإبن الشرعي للقصيدة الأصيلة في هذه الفترة العصيبة،وهذا لا يعني أنه أنكر ورفض من ذهب إلى حد التمييع والتخلي عن جميع مقومات الشعر العربي كقصيدة النثر..إذن من اليمين إلى اليسار ،من القصيدة العمودية إلى قصيدة النثر، تعددت المشارب كي تستجيب لفترة إعادة بناء الذات المحطمة.السؤال الذي يفرض نفسه الآن،ماهو مستقبل الشعر العربي بشكل عام ؟وما هو مستقبل القصيدة العربية العمودية بشكل خاص؟.
إن مفهوم التجاوز لا ينطبق على الموروث الثقافي العربي الإسلامي أي أننا لا يمكن أن نحيي التراث ونعيد هويتنا ونتجاوز السابق بدعوى زوال قيمته وجعله مصدر قوة لكياننا ووجودنا فقط،إن الهوية الإسلامية تنبني على مسائل تابثة لا تخضع لما يسمى بالتجاوز، فحدود التجاوز في التشريع سماوي معلومة فيه قيدها العلماء رغم تغير الأزمان والأمكنة لأن حكمة الله اقتضت ذلك حفاظا على التوازن في الأرض وتنبيه الإنسانية لأنها إن تُرِكَتْ أَغْرَقَتْ في المادية وكان مصيرها الخسارة الدنيوية والأخروية.وبالتالي فالنموذج الغربي والمثال الغربي والمسار التاريخي الغربي غير قابل للإستنساخ في أرضنا،بل يجب أن نتعامل معه تعاملا نقديا لأننا نمتلك القدرة على ذلك نستمدها من النور الإلهي الذي نمتلكه ونعيه تمام الوعي،لكن المشكلة الحقيقية هي أن الحضارة الغربية مبنية على مناقضة الحضارة الإسلامية،إن الحضارة الغربية في جوهرها مبنية على مناقضة الوحي ،مناقضة تعاليم موسى النبي وعيسى النبي ومحمد آخر الأنبياء،لقد كانت منطلقاتها هي ماديةَ اليونان ومنطق اليونان وآلهة اليونان ولعل دارس الفلسفة الغربية يلحظ بجلاء مركزية الفكر الغربي واختصاره تاريخ الفكر الإنساني في نواة أصلية وهي اليونان والنهضة الأوروبية فالتقدم العلمي الهائل المدهش الذي بلغته الإنسانية الآن..إن دارس الفكر الغربي الفطن يلحظ بوضوح جحود الغرب لمساهمة الحضارات الأخرى من هند وصين وعرب ...ونعت هذه الحضارات بالهرمسية واللاهوت والرجعية والتخلف...ولولا المسيحية لما قلنا مادية إِذِ الأشياء بأضدداها تعرف، ولولا المسيحية لما قامت قائمة للفلسفة الغربية وارتبطت المسيحية بالظلامية لأن المسيحية التي سادت أوروبا قرونا من الزمن شابها تحوير أول مرة واعتنقتها روما مُحَرَّفَةً حفاظا على مصالحها وهيمنتها على العالم،.إذن فالنموذج الغربي لا ينطبق على النموذج العربي الإسلامي وإن كانت مساهمتنا في الحضارة الغربية كبيرة شاءت هذه الأخيرة أم أبت ،فجدلية إلهي/ وضعي عامِلٌ ضروري لفهم السيرورة الحضارية عبر التاريخ.
إذا أردنا أن نستشرف مستقبل الأشكال التعبيرية في العالم العربي عامة والشعر خاصة علينا أن نستحضر المبادئ المذكورة آنفا ،واستحضار تضعضع الكيان العربي منذ صدمة الإستعمار،واستحضار الوحي الإلهي كجزء من كياننا إِذِ المقاربة من دونه ستكون خاطئة جائرة في حق الشعر العربي..إن تَلَوُّنَ القصيدة العربية بما هو آت من الغرب وصراعات اتجاهات مختلفة فيها لكسب الشرعية ومحاولة الوصاية على الشعر العربي شَيْءٌ عَادٍ إذا كانت رؤيتنا متعددة الأبعاد تأخذ بعين الإعتبار كافة العوامل التي تدخل في هذا الشأن.
أعتقد أن التأثر بالوافد من الثقافات الأخرى شيء عاد وعرفه الشعر العربي منذ نشأة الدولة الإسلامية وإن صرنا اليوم في موقع ضعف لا موقع قوة ،وإن صرنا أكثر تأثرا وأقل تأثيرا.ستتماشى الأشكال المختلفة للقصيدة العربية في المستقبل فيطبعها الوئام حينا ويطبعها الخصام حينا آخر،ساعية في مجموعها لاستعادة هوية مفقودة وقيم تابثة كما أنها ستحرص في نفس الآن على مواكبة العصر غير متقوقعة في كهف حتى لا تنفلت منها خيوط الإسهام في الإبداع الشعري العالمي.
إن من يرى أن القصيدة العريبة الأصيلة ستنقرض كما انقرضت حيوانات بفعل تغير البيئة والمناخ حسيرُ النظرة من دون شك،قد تضيق آفاقها في بعض الأحيان لكن فكرة الإنقراض تدل على أن المبدع العربي مازال لم يعرف مكانه في عالم اليوم،على الشعر العربي أن يمتاز أكثر مما سبق ويتشبت باختلافه وتميزه عن أشعار الأمم الأخرى لأننا في زمن تذويب الهويات وطمس المعالم الحضارية وعولمة الأفكار،لا بُدَّ أَنَّ كُلَّ أمة سيكون رد فعلها هو نفض الغبار عن قديمها والإعتناء به والإفتخار به وعرضه وتسويقه..إن توهج القصيدة رهين بإشعاع حضاري إسلامي متميز ونهضة عربية إسلامية حقيقية مستمدة قوتها من تعاليم الدين الإسلامي الحنيف ،محترمة للقيم العالمية السمحة، منفتحة على الحضارت التي تحترم الثقافات الأخرى.




1-سيرة ابن هشام،ص266عبد السلام هارون-الطبعة السادسة 1409-1989.مكتبة السنة-الدار السلفية لنشر العلم.
2-مقدمة ابن خلدون،الصفحة 506،الطبعة الأولى،دار ابن الهيثم.القاهرة.
3-ابن خلدون، المقدمة،ص 508الطبعة الأولى،دار ابن الهيثم.القاهرة.
4-كتاب اللؤلؤ والمرجان،الصفحة654محمد فؤاد عبد الباقي،دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع،بيروت،حديث عمران بن حصين،أخرجه البخاري في 52-كتاب الشهادات9-باب لا يشهد على شهادة زور إذا أشهد.
5-ديوان حسان بن تابث،الصفحة 17،الجزء الأول،دار صادر بيروت،طبعة2006
6-محمد عابد الجابري*حوار المشرق والمغرب*ص68-69-70.