المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مع الموت



عبد الله نفاخ
29/04/2010, 02:47 PM
مع الموت



أرى قبر نحام بخيل بماله

كقبر غوي في البطالة مفسد



(طرفة بن العبد)


أرانا موضعين لأمر غيب

و نسحر بالطعام و بالشراب




عصافير و ذبان و دود

و أجرأ من مجلحة الذئاب



( امرؤ القيس)


هل الموت يوحد بين كل الوجوه ؟ ........ و هل الموت جسر للعبور من أرض إلى أرض ؟ ........ أم إنه عالم جديد فيه غير كل ما شهدناه في هذه الحياة الدنيا المشوهة التي عشناها ؟



الموت الذي صورته خيالاتنا الطفولية التي استقيناها مما كان يملى علينا بكرة و أصيلاً ، و نشهده أينما حللنا أو ارتحلنا ، هيكلاً عظمياً مروعاً حاملاً فأساً يلاحق بها البشر الآمنين الوادعين فيسلبهم أعز ما لديهم ، ثم يدعهم جثثاً هامدة لا حياة بها و لا شعور .



و على كثرة ما عرفنا و رأينا من بعد ، ظلت الصورة في أذهاننا قريبة مما تعودناه إن لم تكن نفسه ، ولم يغيرها إلا الأفق الأزلي الغروبي الذي عرفه بعضنا فكان شمس نفوسهم التي غزتها فتغلغلت بها و خلقت فيها الحياة من جديد ، وكان الموت عندهم ظلالاً ليلية تصنع خفقان روح و وجدان ، بدل الخوف الذي رسمته في مخيلاتنا حكايات الجدات و أقاصيص السهرات الشعبية .



ففي الموت سمو لا تفقهه العقول التي نبتت و أينعت في مراتع الحياة الشهوانية ، و لو أدركته لتدرجت في سلالم الروح حتى تبلغ غيوم السموات ، لكنَّها أخلدت إلى ما ارتاحت إليه ، فبالموت تصل النفس قمة توهجها و إشراقها ، وفي اللحظة التي تفارق فيها الروح الجسد يكون الاتصال قد بلغ ذروته بين البشرية و الألوهية في نفس الإنسان ، و آل الصراع بين شهوات الإنسانية و آفاق الروحانية توافقاً مطلقاً بل اتحاداً لا فكاك له ، و لذلك كله وقت واحد لا بديل له ولا شريك ،هو لحظة الموت العظيمة.



و الموت ساعة تتحد فيها النفوس الإنسانية كلها ، برها و فاجرها ، و سيدها و عبدها ، و قويها و ضعيفها ، لأن عالم السماء لا مكان به لتقطيعات البشر وتصنيفاتهم التي ابتدعها بعض منهم و سايرهم بها من تبقى ، حتى غدت شريعة و قانوناً مخالفته عند كثير من الناس كفر ما بعده كفر ، فتتوحد الإنسانية التي نشأت من فرد واحد لترتد من بعد كفرد واحد في الموت و الفناء كما كانت في النشأة و الخليقة ، ذرة من حمأ مسنون نفخت فيها الروح فدبت بها الحياة .



و الموت فراق و لوعة ، لكنه تألق الإنسان المطلق الذي يعجز عن فهم كنهه أكثر الناس إلا من أوتي فكراً ، و ذلك ما بذلت شرائع الأديان جهودها لإيضاحه ، لكنّ سوء فهم البشر لمصطلحي الجنة و النار الخالدتين أضاع عمق الإدراك لهذه المعاني ،فأضحى الموت إشعاراً بقرب الحساب و العذاب و الأهوال فحسب ، دون أن يكون بشرى بوادي الحقيقة الذي لا يضيئه سوى نور الذات الإلهية الأعلى ، و تملؤه نسائم الروح و مزامير التسبيح الملائكية ، و قيثارات الألحان السماوية التي لا تنتهي ولا تزول ، ولو فهم الناس ذلك لطاروا بجناح الشوق دون إبطاء إلى مناهل الخير و جداول الإحسان يعبون منها ما استطاعوا ، و لفارقوا عالم الشر و تلاله الموحشة نفوراً منها و ابتعاداً ، و لآل الخوف من العقاب كراهة لما يوجبه لا رهبة و فزعاً من آلامه ، و لعم الخير هذه البسيطة بعد أن يعم نفوس ساكنيها و تصير أرواحهم طيوراً مغردة تبث ألحان الحب و الفرح و الجمال حيثما حلت .



تلك شاعرية الموت ، و الرؤية التي تخفف وطأته على من يهابونه ، و لو انتشرت بين كثير ممن يرددون ما يشبهها لكان فهمهم للحياة كلها مختلفاً ، و لكنّ من الناس من يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ، و يزعمون أنهم عالمون وهم في الحقيقة جاهلون ......... و كثير ما هم ، و أولئك الذين يقفون من بحر الحقيقة عند شاطئه ، أما الذين يغوصون فيه فليتهم يرجعون ليخبرونا ما رأوا ، إذن لكنا في حال غير هذه ، و لعرفنا الوجود الذي نحن منه بدل أن نخبط فيه على غير هدى ، كأنما سكرت أبصارنا أو نحن قوم مسحورون ، لكن لعل قدرنا رأى الخير بما نحن عليه فأبقانا كذلك ، فرب صاحب عينين عمياوين أوعى و أدرى من صاحب ألف عين مفتوحة.

ايناس
29/04/2010, 07:11 PM
رؤية فلسفية تلك التي قرأتها يمازجها فكر بخلفية دينية غاية في الدقة
لطالما كان الموت هاجسا "بشريا"
لكن الإيمان بما بعده من ثواب إذا ما أحسنا العمل يحيل الخوف إلى تطلع لا بل إلى شوق لا يسكته إلا ....الموت
أبدعت عبدالله
موضوع جميل و طرح أجمل
و...........لغة أجمل و أجمل
أحييك

عبد الله نفاخ
29/04/2010, 07:15 PM
و قراءة أجمل و أجمل و أجمل منك أيتها المبدعة في كل شيء.... سلام عليك

محمد يوب
29/04/2010, 09:53 PM
كل ما يمكن أن اقول هنا هو أنك بدأت تفلسف كتاباتك وتميل إلى التأمل الذي عرفناه عند أبي ماضي وغيره من شعراء المهجر

خليد خريبش
29/04/2010, 10:21 PM
هذه تأملات في الموت،رؤية للموت،كاتب يا أخي،عجيب هذا النوع من الكتابات.

عبد الله نفاخ
30/04/2010, 05:38 AM
شكراً لقراءتك الجميلة يا أستاذي

عبد الله نفاخ
30/04/2010, 05:40 AM
كل ما يمكن أن اقول هنا هو أنك بدأت تفلسف كتاباتك وتميل إلى التأمل الذي عرفناه عند أبي ماضي وغيره من شعراء المهجر
شكراً لقراءتك الجميلة يا أستاذي

عبد الله نفاخ
30/04/2010, 05:41 AM
هذه تأملات في الموت،رؤية للموت،كاتب يا أخي،عجيب هذا النوع من الكتابات.
شكراً لرؤيتك و نقدك الجميل يا سيدي

فيصل الملوحي
02/05/2010, 04:15 AM
قرّر المعلّقون أنّك تكتب فكرة ( فلسفة ) في ثوب أدبي، فجنحوا إلى محاكمة العقل،



ولكن لماذا تكون الفكرة المجرّدة همّ الإنسان؟!



لماذا لا نعيش في تقلباته الروحية وعواطفه المترددة، وسبحاته الخيالية؟!




نحن مع تأملات إذا قدمنا منها الفكرة أرسلنا بها إلى بحر العدم.



يشرّحون الأدب حين يدرسونه للطلاب، قد نقبل هذا،




ولكن الوليد لن يبقى حياً إذا أخذت منه يده لتتفحّصها.





نحن مع فنّ، نقدر قيمته بالقدر الذي يعيش في نفوسنا،



فاصبر عليّ،



فسأعود إليه، إذا وجدت نفسي تلحّ بالعودة إليه.




واسلم

زهرةالايام
02/05/2010, 02:43 PM
كل ما اقوله هنا
رائعة هذه الكلمات التي رأيت فيها فلسفة روحية رائعة
سلمت وسلمت يمناك
ودي واحترامي
زهرةالايام

عبد الله نفاخ
02/05/2010, 02:57 PM
قرّر المعلّقون أنّك تكتب فكرة ( فلسفة ) في ثوب أدبي، فجنحوا إلى محاكمة العقل،



ولكن لماذا تكون الفكرة المجرّدة همّ الإنسان؟!



لماذا لا نعيش في تقلباته الروحية وعواطفه المترددة، وسبحاته الخيالية؟!




نحن مع تأملات إذا قدمنا منها الفكرة أرسلنا بها إلى بحر العدم.



يشرّحون الأدب حين يدرسونه للطلاب، قد نقبل هذا،




ولكن الوليد لن يبقى حياً إذا أخذت منه يده لتتفحّصها.





نحن مع فنّ، نقدر قيمته بالقدر الذي يعيش في نفوسنا،



فاصبر عليّ،



فسأعود إليه، إذا وجدت نفسي تلحّ بالعودة إليه.




واسلم
بانتظار تتمة تعليقك أستاذي الجليل .... تحياتي

عبد الله نفاخ
02/05/2010, 02:58 PM
كل ما اقوله هنا
رائعة هذه الكلمات التي رأيت فيها فلسفة روحية رائعة
سلمت وسلمت يمناك
ودي واحترامي
زهرةالايام
بل الرائعة قراءتك و نظرتك..... تحياتي