المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : السيرة الذاتية بين الشعر والنثر



أبو شامة المغربي
21/02/2006, 02:48 PM
السيرة الذاتية بين الشعر والنثر

كثيرون استبعدوا إمكانية تحقيق و إنتاج سير ذاتية شعرية، وزعموا أن أدب السيرة الذاتية يعتمد الحقيقة والصدق في نقل تجارب الحياة الفردية، وأن الشعر يقوم بخلاف ذلك على التصور، والتخيل، والمبالغة، وعلى الصدق الفني إن لم نقل الكذب ، شأنه في هذا المنحى أقوى من شأن الرواية و القصة ، وطائفة ثانية تجاهلت أمر تلك الإمكانية، ولم تكلف نفسها عناء التفكير في مسألة السيرة الذاتية الشعرية، في حين نبهت طائفة ثالثة إلى و جود نماذج و جذور للسيرة الذاتية الشعرية في تراث الأدب العربي الإسلامي .

و قد أثيرت مسألة السيرة الذاتية الشعرية كذلك داخل الأوساط الأدبية و النقدية الغربية ، بحيث أبدى فيليب لوجون (Philippe Lejeune ) في هذا الشأن ملاحظة خلاصتها أن أدب السير الذاتية النثرية يعرف كثرة في الإنتاج بخلاف أدب السيرة الذاتية الشعرية الذي لا تتجاوز الأعمال المنضوية تحته عدد الأصابع، وبالعودة إلى كتابات الناقد الفرنسي (Lejeune ) في موضوع تعريف السيرة الذاتية ، سنجد أنه قد حاول واجتهد مرتين في وضع حد أو تعريف لهذا الجنس الأدبي ، لكنه خلص في النهاية إلى صياغة حدود تعريفية تتجاهل الحد الشعري في هوية أدب السيرة الذاتية وتعريفه ، مع أنه أدرك عدم وجود أي مانع يحول دون توظيف و إدراج أبيات شعرية في السيرة الذاتية .

والملاحظ أن معظم النقاد و الباحثين العرب اعتمدوا في كتاباتهم ما وضعه الناقد الفرنسي من تعريف للسيرة الذاتية واكتفوا به، و اعتبروه على ما يبدو معيارا و تعريفا شبه ثابت خاص بأدب السيرة الذاتية ، يستند إلى ثلاثة مرتكزات تقيم بناءه ، أما جورج ماي ( Georges May ) فيناقش مسألة السيرة الذاتية الشعرية بقسط من الحذر، بحيث إذا ما تفحصنا ما جاء به في هذا الشأن ، فإننا نلمس لديه نزوعا إلى إقرار الحد الشعري في تعريف السيرة الذاتية، وإن كان ميل الكتاب إلى النثر في تأليف سيرهم الذاتية أقوى من ميلهم إلى إنشائها شعرا .

وإن كان جورج ماي ( Georges May ) لم يضع حدودا تعريفية دقيقة لأدب السيرة الذاتية ، كما حاول ذلك فيليب لوجون ( Philippe Lejeune )، فذلك لأنه أدرك بأن حدود التعريف النثرية عاجزة عن الإحاطة بجوهر وهوية السيرة الذاتية، ورأى من الأحسن أن يتخذ مفهوم النزوع المتسم بالمرونة عوضا عن مفهوم التعريف في شأن تحديد ماهية هذا الجنس الأدبي ، و ذلك تفاديا لما ينطوي عليه التعريف من تصلب وجزم، فهل نسلم بالتعريف الذي وضعه لوجون ( Lejeune ) للسيرة الذاتية ، المتمثل في كون هذا الجنس الأدبي، تبعا لحد من حدوده التعريفية ، حكي أو سرد استعادي نثري ؟ و أنه أدب ينتمي إلى النثر الخالص و لا علاقة له بالشعر ؟

هل الحد الشعري الذي غيبه لوجون ( Lejeune ) أثناء تنظيره لأدب السيرة الذاتية قد أفقد التعريف الذي وضعه لهذا الأدب الكثير من مصداقيته ؟ ثم لو تم إدراج هذا الحد و الإقرار به في دائرة تحديد هوية السيرة الذاتية أكان سيكسب تعريف هذا اللون الأدبي مصداقية كبيرة ؟ للإجابة على هذه الأسئلة ، لا بد أن نتحرى عن حقيقة " السرد " أهو بالفعل قاسم مشترك بين مختلف الأجناس الأدبية النثرية فقط ؟ و إلى أي مدى يمكن أن نوظف " الشعر " في تأليف السيرة الذاتية ؟ .

صحيح أن " السرد " أداة مخالفة لعنصر " الوصف " ، و خطاب يعتمد الحكي و القص الأدبي، لكن حدوده مفتوحة على الشعر ، بقدر ما هي مفتوحة على النثر، مما يدل على أن العملية السردية هي قاسم مشترك بين جميع الفنون الأدبية ، فليس كل الشعر وصفا حتى يتعارض مع السرد ؛ بل إن فيه من أثر هذه الأداة الحكائية و القصصية ما لا سبيل إلى تجاهله أو إنكاره، وليس كذلك كل النثر سردا حتى يتعارض مع الوصف ، ثم ليس كل الشعر العربي سردا حتى يتجرد من الوصف، فلا الشعر ولا النثر بإمكانهما الاستغناء أو التجرد عن أداتي: السرد و الوصف ، و الشعر لا ينطوي فقط على التخييل، والمبالغة، و الصدق الفني ، و إنما فيه من صدق الحديث، وحرارة العاطفة و الوجدان فيضا خالصا من كل زيف أو كذب، قد لا نعثر عليه في بعض الكتابات النثرية .

لا شيء ، حسبما نرى ، يمنع السرد من الاقتران بالشعر ، إذ لا يحق لنا أن نحكم على عنصر السرد بأحادية انتمائه إلى النثر ، و لا أن نزعم و ندعي انعدام العلاقة التي تجمعه بالشعر عموما ، أو بالقصص الشعري الذاتي بوجه خاص ، فما قانون " السرد " إلا كل ما هو محكوم بمنطق الحكي و القص الأدبي، ثم إنه من العسير علينا أن نبرهن أو نجزم بصفاء السير الذاتية النثرية و براءتها من التخييل، والتمويه، والمبالغة، والكذب، لأن من يكتب سيرته الذاتية غير معصوم من الانحراف و الميل إلى مثل هذه العوارض و العثرات، سواء عن قصد أم عن غير قصد ، فقد يلجأ إلى مخيلته ليصل بين أجزاء و تفاصيل ذكرى معينة خلت و عفا عليها الزمن ، ثم إن الحياة الإنسانية هي أصلا مزيج من الحلم و الحقيقة، والواقع و الخيال .

إننا نعثر في الشعر الجاهلي مثلا على حس ذاتي عميق ، انطوت عليه معلقات عدد من الشعراء، ويكفي أن نقرأ معلقة طرفة بن العبد المتوفى عام 70 قبل الهجرة / 550 للميلاد ، أو معلقة امرئ القيس المتوفى عام 80 قبل الهجرة / 565 للميلاد ، أو معلقة عنترة بن شداد المتوفى عام 22 قبل الهجرة / 600 للميلاد ن لنقف بجلاء على تجارب ذاتية في الحياة صاغها أصحابها شعرا، ولقد أتاح الشعر لهؤلاء الشعراء إنشاء سيرهم الذاتية تبعا للتقليد الأدبي السائد في عصرهم ، فهم بالفعل قد خلفوا للأجيال التي جاءت من بعدهم تواريخ فردية خاصة تعكس تفردهم بمقومات شخصية، وتجارب، وأذواق، ومواقف، وقناعات، وانشغالات .

ثم إن بإمكان الشاعر أن لا يسكب تجاربه الذاتية أو قصة حياته في فضاء تخييلي مغرق في المبالغة وإسراف القول، على الرغم من كونه يدرك جيدا بأنه في مقام شعر ، يسمح له بنسج ما شاء من الصور الشعرية المنحوتة بالخيال ، و هذا يعني أن الأنا الشاعرة بإمكانها أن تلتزم مبدأي :"الصدق " و " الحقيقة " ، و عنصر الواقعية في سرد تاريخ حياتها شعرا، ونحن من هذا المنطلق نتساءل مع نبيل سليمان قائلين : هل بالإمكان التحدث عن شعر سردي، أو عن سردية شعرية، خاصة عندما يتم تشخيص معالم سردية في قصيدة معينة.

إن هذه الملاحظة تزكي ما تناولناه بالحديث سلفا ، في مسألة أدب السيرة الذاتية الشعرية ، عندما أقررنا إمكانية توظيف الشعر في تأليف السيرة الذاتية، ومن نماذج السيرة الذاتية الشعرية في الأدب العربي الإسلامي القديم ، نذكر التائية الكبرى لصاحبها شرف الدين بن الفارض ( 576 - 632 هـ / 1181 - 1235 م )، و هي قصيدة سماها : (نظم السلوك ) ، قص فيها تجربته الروحية ، و ما لقيه من شدائد و معاناة في هذه التجربة، و لا شك أن الكم القليل من السير الذاتية الشعرية في تراث الأدب العربي الإسلامي، قد يعود من جهة إلى قوة الجموح الشعري، أو إلى الصعوبة التي تكمن في صياغة السيرة الذاتية شعرا من جهة ثانية، لأن على من يختار هذه الصياغة الأدبية أن يبذل جهدا مضاعفا لسرد تاريخه الخاص، بالمقارنة مع ما تتطلبه الصياغة النثرية في تأليف هذا التاريخ، مما دفع بكثير من الشعراء إلى كتابة سيرهم الذاتية نثرا، لكن هذا لا يعني في شيء أن الشعر غير مؤهل لاحتضان السيرة الذاتية .

وإذا كانت ميزة النثر كامنة في طاقته الاستيعابية لأدق تفاصيل التجارب الإنسانية، وفي بعض الحرية والسرد المتسلسل ، الذي يطمئن إليه مؤلف السيرة الذاتية ، فإن الشعر بدوره يستطيع أن يعكس التاريخ الخاص ، وقد سبق له قديما أن أدى وظيفة السيرة الذاتية ، و للباحث أن يلاحظ ما قد انطوى عليه الشعر العربي القديم من ملامح كثيرة لأدب السيرة الذاتية قبل أن يصير هذا الأدب لونا مستقلا من التعبير .
فهل سنكون محقين وعلى صواب إن بادرنا إلى إعادة تعريف أدب السيرة الذاتية بقولنا : السيرة الذاتية جنس أدبي سردي، استرجاعي نثري أو شعري، يتولى الكاتب من خلاله تدوين تاريخه الخاص ؟


د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

أبو شامة المغربي
21/02/2006, 03:01 PM
السيرة الذاتية والترجمة الذاتية

نرى في البداية أن نعرض جملة من الأسئلة والتساؤلات التي نصادفها في متن النصوص النقدية التي عالجت جنس السيرة الذاتية، والتي تتخذ مسألة تعريف هذا الجنس الأدبي محورا لها، وهي كالآتي:
هل صحيح أن محاولة إعطاء تعريف واضح لجنس السيرة الذاتية مآلها الفشل؟ وهل صحيح أن السيرة الذاتية جنـس أدبي محير؟ وأن ما يظهر على أنه تقـدم في النفاذ إلى جوهر هذا الجنس الأدبي، بقصد وضع حدود تعريفية له ما هـو إلا تجريد وإبهام؟ وأن الإشكالية الرئيسة الخاصة بالسيرة الذاتية منحصرة في تعريف هذا الجنس من الكتابة ؟
ثم أمن الصواب أن ننطلق من موقف القارئ و منظوره حتى نضع تعريفا للسيرة الذاتية؟ أم أن الوصول إلى تعريف شامل للسيرة الذاتية يعد من قبيل المستحيل؟
هل السيرة الذاتية غير مرشحة لحمل سمات الجنس الأدبي المستقل، وأن تعريفها جزء من تعريف جنس الرواية، باعتبار أن القارئ يتلقاها كعمل أدبي متخيل؟ أم أن جوهر جنس السيرة الذاتية كامن في المؤلف صاحب التاريخ الفردي الخاص، وفي القارئ المتلقي لهذا التاريخ ؟
لقد انتهى فيليب لوجون (Philippe Lejeune)في دراسته جنس السيرة الذاتية إلى أنه لم يكن يسعى منذ البداية سوى إلى عقلنة و توضيح معايير قراءته، على الرغم من التعريف الذي خص به هذا الجنس الأدبي في مرحلتين ، أنفهم من هذه الخلاصة أن كل محاولة جادة لتعريف أدب السيرة الذاتية مآلها الفشل حتما ؟ وأن تعريف هذا اللون من الأدب رهين بموقف قارئه ، بحكم أن ليس هناك تعريف واحد يجمع عليه القراء، سواء كانوا متلقين عاديين أم نقادا متخصصين ؛ بل ثمة تعريفات عددها بعدد قراء السيرة الذاتية، وأنه إن كان لا بد من الوصول إلى تعريف دقيق لها، فيجب أن يكون نابعا من تاريخ مواثيق القراءة ، التي يتعاقد عليها كتاب السيرة الذاتية مع قراء هذا اللون من التعبير الأدبي .
أما جورج ماي (Georges may ) فيرى أن العائق الذي يمنع إجماع الدارسين على تعريف محدد لأدب السيرة الذاتية كامن في كون هذا اللون من التعبير حديث الوجود، ودرجة حداثته لا تمكنه من اكتساب صفة "الجنس الأدبي"، لأنه ليس على درجة من العراقة كباقي الأجناس الأدبية، وأن الأوان لم يحن بعد لتعريفه، ما دام في مرحلة التكون ، ونحن إن كنا نتفق إلى حد معين مع فيليب لوجون (Philippe Lejeune)، في ما ذهب إليه من طرح حول تعريف السيرة الذاتية ، باعتبار أنه رهين بما ينعقد من مواثيق للكتابة والتلقي بين أصحاب السير الذاتية و قراء هذا اللون من الأدب، فإننا ننظر بكثير من الحذر إلى ما جاء به جورج ماي من طرح حول نفس المسألة، إذ هل بالفعل أن أدب السيرة الذاتية حديث العهد؟ وأن مكمن الصعوبة في وضع تعريف له متمثل في هذه الحداثة؟
ثم إننا نتفق مع عبد القادر الشاوي، لكـن ليس من باب الافتراض؛ بل من باب القنـاعة الراسخة، خاصة و أن الإشكالية الأساسية لأدب السيرة الذاتية منطوية في تعريفه من خلال النصوص الممثلة له ؛ فهل نحن حقا أمام مشروع بحث لا غنى لباحثي ودارسي جنس السيرة الذاتية عنه؟
إننا نرى على وجه اليقين أن دراسة مختلف السير الذاتية بعمق نظري و منهجي كفيلة بوضع تعريف عام لهذا الجنس من الكتابة الأدبية، ومن باب اليقين كذلك لا من باب الافتراض نستطيع أن نخلص إلى تعريف السيرة الذاتية العربية و الإسلامية إن نحن اعتمدنا في دراسة ما يمثلها من نصوص عمقا نظريا و منهجيا سليما، فهل السيرة الذاتية جنس أدبي يروي الإنسان من خلاله ذكرياته الشخصية ، متحدثا عن حياته أكثر مما يتحدث، بالقدر الضروري لفهم جملة من الأحداث، عن حياة غيره من الناس ؟ ، أم أنها حياة إنسان يكتبها بنفسه ؟، ثم هل بلغ تحديد ماهية السيرة الذاتية هذه الدرجة من الصعوبة، حتى صار تعريف هذا اللون من الأدب من قبيل المستحيل؟
هل السيرة الذاتية حكي استرجاعي نثري ، يتولى إنجازه شخص واقعي، مركزا على وجوده الخاص وحياته الفردية؟ أم هي كل نص مكتوب، سواء أكان عملا أدبيا أم دراسة فلسفية، يعبر من خلاله الكاتب عن حياته الفردية ؟ أم أن السيرة الذاتية عملية إعادة بناء أدبية لحياة إنسان، يتولى نفسه القيام بها، أم إنها المسار الحيوي الذي عاشه الفرد الكاتب في سياق تسلسلي من التنوع الوجودي و الحياتي المختزن؟
ثم هل يمكن أن نعتبر أدب السيرة الذاتية الفن الأول للذاكرة، تكشف من خلاله الذات حياتها مسترجعة ماضيها على نحو مباشر وبشكل صريح؟ وأنه سيرة يكتبها الإنسان عن نفسه، ساردا أصداء ما انطوت عليه مختلف أدوار حياته الفردية؟
أم أنه مؤلف، مختلف من حيث المادة و المنهج عن المذكرات واليوميات، يروي الكاتب في ثناياه حياته بقلمه، أم أنه أدب يضم رأي صاحبه في الحياة وأبرز الأحداث التي عاشها، ويرسم الكاتب، الذي يمثل محور هذا الأدب، في تضاعيفه صورة البيئة الأولى و تحولاته من طور حياتي إلى آخر؟
وهل تمثل السيرة الذاتية ذلك الأدب الذي ينحصر في تجارب صاحبه، ولا يضاف إليه أي تجربة أو حادثة من الخارج قد تحجب عنا حقائق الذات الكاتبة؟ أم أن هذا اللون من الأدب هو عبارة عن كتابة الإنسان تاريخه الذاتي الشامل و المستوعب لأيام طفولته، و شبابه، و كهولته ؟ وهو حديث ذكي عن النفس و ليس حديثا ساذجا عنها، ولا هو عملية تدوين لمآثرها و مفاخرها ؟ أم أن هذا الأدب تعبير عن أهم تجليات الحياة الفردية لمنشئه، ونتاج لا ينسلخ باطنه عن ظاهره ؟، ووعاء لأصدق حياة ذاتية يستطيع أن يكتبها الإنسان؟
ثم هل يمثل أدب السيرة الذاتية فن الحديث عـن الذات بحسناتها وسيئاتها، وتفاعلها مع البيئة والوسط الاجتماع؟ وهل يصح النظر إلى هذا الأدب على أنه محكي ذاتي معاش، تتولى الشخصية المعنية به إنجازه عن ذاتها دون وسيط؟ وعلى انه يعتمد في أساسه الفني على الانتقاء والترتيب لإعادة بناء أدبية خاصة بالذات الفردية لصاحب السيرة، مع مراعاة نمو و تطور هذه الذات؟ أم أن السيرة الذاتية تجسيد لما يكتبه الإنسان من تاريخ حياته من خلال تسجيل حوادثها ووقائعها المؤثرة في مسار الحياة، مع تتبع تطورها الطبيعي من الطفولة، مرورا بطور الشباب، ثم انتهاء بمرحلة الكهولة؟ ثم هل السيرة الذاتية شكل أدبي للتاريخ؟
وهل هذا اللون من الأدب يندرج ضمن الفنون الأدبية الأكثر حرصا على النقل الأمين لحقيقة الإنسان، وعلى تحري الصدق في ما يعكسه من حياته الفردية الخاصة ؟ أم أنه تركيب أدبي مستحدث للذات، وعملية بناء جديدة لشخصية تتجاوز صاحبها؟
ثم هل من المنهجية العلمية أن نتفادى أي حديث بشأن شكل معين أو أسلوب محدد وحيد ينفرد به جنس السيرة الذاتية ؟ ثم هل السيرة الذاتية هي الأوراق الشخصية والسرية لمؤلفها؟ وأن هذه السمة هي التي مكنتها من تحقيق التميز بين مختلف أجناس الأدب ؟أم أنها تسجيل استعادي صادق ومقصود لعمر من الخبرات، والأفعال، والتفاعلات، وتأثيراتها الفورية والبعيدة المدى على الشخص؟ ثم هل صحيح أن المنطلق الأساس في دراسة أدب السيرة الذاتية ، يتمثل في البحث عن المنظور الذي يتم به استرجاع الوقائع، وتتبين في ضوئه الأحداث الغنية بدلالاتها، ومن خلاله تتعين مواطن الصمت ذات الصلة الوثيقة بما هو مسكوت عنه من الخطاب المقموع، وتتميز فضاءات الحديث بالمباح من الخطاب.
هذه جملة من الأسئلة و التساؤلات التي تجري في فلك جنس السيرة الذاتية، والتي تحمل في طياتها الكثير من الإجابات والعديد من صفات وملامح هذا الجنس الأدبي بوجه عام، ومما لا شك فيه أن ما ينجز من الأبحاث والدراسات النقدية حول جنس السيرة الذاتية سيؤدي حتما إلى إعادة النظر في ما يحكم هذا الجنس الأدبي من قوانين، بقدر ما سيرتقي به، خاصة و قد غدا جنس السيرة الذاتية ساحة للنقاش النظري الأدبي حول موضوعات لا يخلو أحدها من أهمية.
لقد سقط عدد من الباحثين و نقاد أدب السيرة الذاتية في خطأ كبير عندما جعلوا "السيرة الذاتية " اصطلاحا مرادفا و مطابقا لمصطلح "الترجمة الذاتية"، ولم يميزوا بين الاصطلاحين، وهذا خلط اصطلاحي واضح لم يعرفه العرب المسلمون قديما، ونحن نتساءل باستغراب عما إذا كان العرب المسلمين القدماء حقا لا يميزون بين لفظ "السيرة " ولفظ "الترجمة" وأنهم كانوا يوظفون كلا اللفظين بمعنى واحد ، هو: (حياة الشخص بصفة عامة) ؟! ؛ إن هذا الاعتقاد الذي لا يقوم على أساس سليم ثغرة في منظومة المفاهيم الخاصة بجنس السيرة الذاتية لا سبيل إلى تجاهلها ، لهذا نرى من الضروري في البداية التذكير بما أورده ابن منظور في معجمه الكبــير (لسان العرب) بخصوص لفظ " السيرة " ولفظ " الترجمة " أما "السيرة " فهي السنة، والطريقة، والهيئة، وأحاديث الأوائل، وهي الميرة، وفي التنزيل العزيز قول الله عز وجل: "سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأولىَ "، أي هيئتها الأولى.
وأما "الترجمة" فهي نقل الكلام من لغة إلى لغة، ثم إن لفظ "الترجمة" دخيل على اللغة العربية، وهو أصلا من اللغة الآرامية، ولم يكن لفظ "الترجمة" من بين الاصطلاحات الأدبية القديمة، المرتبطة بتاريخ الحياة الفردية، إلا في بداية القرن السابع الهجري، وذلك مع أبي عبد الله ياقوت الحموي ( 574 - 626 للهجرة )، في مؤلفه : (معجم الأدباء)، والذي وظفه بمعنى مختصر حياة الفرد وكان أبو الفرج الأصفهاني المتوفى عام 356 للهجرة قد استعمل لفظ "الخبر" بصيغتي الإفراد و الجمع .
إن المعاجم العربية القديمة لم تتخذ لفظ " الترجمة " مرادفا للفظ " السيرة "، في حين عمدت المعاجم الحديثة، بما فيها المعاصرة، إلى توظيفهما مترادفين وبنفس المعنى، أما القول بأن الذي فصل قديما بين مفهوميهما وحمولتهما الاصطلاحية هو مجرد توظيف اعتباطي حسبما يرى ماهر حسن فهمي، ومحمد عبد الغني حسن، على سبيل المثال، فهو استنتاج نرده على أصحابه ، لأن التمييز بين الاصطلاحين لم يأت دون مراعاة الحمولة الدلالية لكل مصطلح على حدة، أو دون قصد و غاية ؛ بل إن ثمة فوارق بينة و محددة بين لفظي " الترجمة " و" السيرة "، تتجاوز منطق الاستعمال الاعتباطي أو ما جرت عليه العادة، وهي فوارق تم إغفالها من قبل معظم الباحثين ونقاد أدب السيرة الذاتية .
وإذا كانت هذه المسألة الاصطلاحية في الوقت الراهن قد تبدو لأول وهلة قضية جزئية متجاوزة، فإننا نعتقد، على العكس من ذلك تماما ، بأنها مسألة تستدعي إعادة النظر و المراجعة ، و الظاهر أن العرب المسلمين القدماء قد حسموا في هذا الأمر ، و ذلك عندما استقر رأيهم على ضرورة التمييز بين مفهوم " السيرة " و ما تعنيه " الترجمة " ، أو بالأحرى بين لفظي : "السيرة " و" الترجمة " ، سواء كانا للذات أم للغير ، مع أن المتقدمين من أهل الأدب والنقد العربي الإسلامي ، لم يكونوا يلحقون صفة " الذاتية " أو " الموضوعية " بهذين الاصطلاحين.
صحيح أن لفظ " الترجمة " لم يعرف بمعنى أو بمفهوم ( المختصر من حياة الفرد ) إلا عند المؤلفين المتأخرين، لكنه لم يكن يدل عند القدماء من الأدباء و النقاد العرب المسلمين على "السيرة الذاتية "، أو " السيرة الموضوعية/ الغيرية "، وإنما قصدوا به " الترجمة الذاتية "، وعنوا به من جهة ثانية " الترجمة الموضوعية / الغيرية "، وذلك باعتبار من يقوم بعملية الترجمة بطبيعة الحال.
وحتى نبرهن بقسط من الملاحظة و الاستنتاج على ما نعتقده في شأن تمايز و تباين لفظي: " السيرة " و"الترجمة" لغة و اصطلاحا ، نقول : إن انتقال دلالة لفظ " الترجمة " مجازا من أصل معناها ، الذي ارتبط قديما بعالم التأليف و الآثار الأدبية وغيرها، إلى معنى التعريف بالأعلام ، مع احتفاظ اللفظ الدال طبعا بمدلولاته الأصلية ، هو التحول الذي يفيدنا في تمييز حد "الترجمة " عن حد " السيرة "، باعتبار أن مدار الحد الأول (حد الترجمة) هو الاختصار أو الإيجاز، بخلاف مدار الحد الثاني (حد السيرة ) وهو الإسهاب.
لقد كانت ترجمة الكتاب تعني: التعريف به من خلال عنوان، أو فقرات قصيرة، أو من خلال فاتحة خاصة بالكتاب، وقد جعل المؤلفون القدماء، على سبيل المثال، لفظ " الترجمة " مصطلحا دالا على معنى العنوان إبتداء من القرن الثالث الهجري.
ولا شك أن القصد من وضع لفظ " الترجمة " اصطلاحا هو الدلالة على : التقديم، والتعريف، والشرح، والتفسير، وإيضاح المبهم، والتعيين، والتسمية، والإفصاح كذلك، وجميع هذه المعاني و المدلولات نصادفها في تراث الأدب العربي الإسلامي ضمن سياقات مختلفة، ثم إن ترجمة الكتاب و ترجمة الكاتب تعني : التعريف بهما، وتقديمهما إلى جمهور القراء دون إطالة أو إسهاب، أو ترك أي معلومة مبهمة و غامضة تشوب هوية الأثر الأدبي أو الشخص ، و من ثم فإن لفظ " الترجمة " قد تمت استعارته من عالم الكتب و المصنفات، حتى يدل كذلك على التعريف بالأحياء و المتوفين من أعلام الأدب ، والتاريخ، والطب، والفكر، والفلسفة، وغيرهم .
ومن مقاصد اصطلاح " الترجمة " ، سواء كانت ذاتية أم موضوعية، التاريخ المقتضب للأعلام، وبالإضافة إلى عناية المترجم بذكر اسم، وكنية، ولقب، ونسب الذي يترجم له، نجده يعتني كذلك بذكر عقيدته ، ويثبت تاريخ ومكان ولادته، ثم يذكر من أخذ عنهم العلم، ويسرد أهم مراحل حياته، ثم ينتهي إلى ضبط تاريخ وفاته إن كان من المتوفين .
فهذا ابن أبي أصيبعة في ترجمته لعدد غير قليل من قدماء الأطباء في مؤلفه:(عيون الأنباء في طبقات الأطباء)، ينهج الخطوات التالية :

أولا : يذكر اسم المترجم له و نسبه.
ثانيا : يوجز الحديث عن المجال الذي نبغ فيه.
ثالثا : يسرد الأسماء التي أخذ عنها المترجم له صناعة الطب، والأماكن التي تلقن فيها هذه الصناعة .
رابعا : يسرد مزايا المترجم له و صفاته.
خامسا : يعرض أسماء الذين عاصرهم من ذوي السلطان، والمكانة، والصيت الذائع.
سادسا : يثبت تاريخ و مكان وفاته.
سابعا : يذكر بعض أقواله المأثورة.
ثامنا : يعرض جملة من الآثار التي خلفها المترجم له.

ونهج ياقوت الحموي مسلكا في ترجمته لقدماء النحويين والأدباء العرب لا يختلف كثيرا عما التزم به ابن أبي أصيبعة من خطوات في تراجمه، بحيث آثر كل من ابن أبي أصيبعة، وياقوت الحموي مبدأ الاختصار والإيجاز في ترجمتهما لكثير من الأعلام، وكان قصدهما من وراء التزام هذا المبدأ، هو أن تجمع كل ترجمة موضوعية بين صغر الحجم وكبر النفع، مما يدل على أن الإيجاز و صغر الحجم هو السمة والقاعدة في كتابة تراجم الأعلام؛ بل هو شرط ملازم في الغالب للترجمة ، ذاتية كانت أم موضوعية ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن كل ترجمة لا بد أن تنطوي على نفع وفائدة كبيرة، وهذا شرط ثاني لا يقل أهمية عن الشرط الأول.
فجميع هذه الملامح و المعالم تساعد بدون شك على الاقتراب أكثر من مفهوم " الترجمة الموضوعية "، بقدر ما تفيد ضمنا في إيضاح المقصود بالترجمة الذاتية، ونحن لا نتفق مع من يرى بأن من الممكن أن تشغل السيرة الذاتية صفحات معدودة !!، أو أنها قد تكون أشبه بشهادة ميلاد صاحبها !!، فهذه ليست صفة "السيرة الذاتية " على الإطلاق، وإنما هي صفة " الترجمة الذاتية " ، ذلك لأن السيرة ، سواء أكانت ذاتية أم موضوعية ، فإنها من غير الممكن تماما أن تأتي في صفحات معدودة، بحكم أن الإسهاب في السرد يعد من خصائصها الأصلية، بحيث إن وضع الترجمة الذاتية بالنسبة إلى السيرة الذاتية شبيه بوضع الأقصوصة أو القصة بالنسبة إلى الرواية .
ومما يثير الاستغراب أكثر لدى القارئ الباحث - خاصة لدى ذلك المتلقي الذي قد يلتبس عليه المقصود بلفظي: " الترجمة " و" السيرة " - تلك المصادفة التي تحدث بينه و بين توظيف المصطلحين في غير محلهما، أثناء قراءته بعض الأبحاث أو الدراسات، أو المقالات النقدية حول أدب السيرة الذاتية.
وكان من الأجدر لتلافي هذا اللبس وسد هذه الثغرة الاصطلاحية، أن تحكم بدلا من ذلك التوظيف الاعتباطي قاعدة دلالية واضحة، وأما الأمثلة الشاهدة على سوء توظيف المصطلحين فكثيرة جدا، بدءا من عناوين الأبحاث، والدراسات، والمؤلفات، والمقالات النقدية، وانتهاء بالمتون الواصفة لأدب السيرة الذاتية ، وجميع تلك التوظيفات يخلط فيها أصحابها بين " الترجمة الذاتية " و" السيرة الذاتية "، وشتان بين ما تعنيه الأولى وما يراد بالثانية .
وجميع النماذج التي نستطيع أن نعثر عليها دون عناء في العديد من الكتابات تكشف بجلاء عن مظاهر الخلل على مستوى الاصطلاح، وعن مدى الخلط الحاصل في الذهنية الأدبية والنقدية العربية، وإذا كان أكثر الباحثين الدارسين في مجال أدب السيرة الذاتية قد نظروا إلى مسألة الخلط بين لفظي: " السيرة " و" الترجمة " وكأنها قضية مسلم بها، ووقفوا منها موقف الحياد السلبي، فإننا نجد من النقاد من آثروا توظيف لفظ " السيرة " عند تحدثهم عن تاريخ الفرد المسهب، واستعملوا لفظ " الترجمة " عند تناولهم بالحديث التاريخ الموجز للفرد، كما نلمس عند بعضهم قدرا من الحذر في تعاملهم مع الاصطلاحين معا ، و عيا منهم بأن ثمة تمايزا بينا و فرقا جليا بينهما .
لا يوجد إذن أي مبرر لدمج الاصطلاحين معا في معنى واحد ، وقد حان الوقت لنضع كل مصطلح في سياقه الطبيعي والمناسب، وليتخذا وضعهما الأصلي في الحقلين : الأدبي و النقدي العربي الإسلامي، لأن الترادف المزعوم بينهما، كما ذكرنا، في الدلالة الاصطلاحية لا يستند إلى دعامة صلبة أو ركن شديد، ومن ثم فنحن لا نتفق مع من يرى بأن التمييز بين اصطلاحي: " السيرة " و"الترجمة " ما هو إلا تفريق سطحي، سرعان ما يتلاشى عند تعريضه لأدنى تمحيص.
ثم لأن ثمة شواهد ومعالم تبرز ضرورته، ثم إن " الترجمة الذاتية " أدب نثري له من الشروط، والخصائص، والأغراض ما يميزه عن " السيرة الذاتية "، وكلا اللونين ينتميان إلى الأدب الذاتي أو الخاص، ويكتبان من طرف المعني بهما، كذلك " الترجمة الموضوعية " ليست هي "السيرة الموضوعية "، إذ لكل منهما شروط و مبادئ خاصة، على الرغم من كونهما ينتسبان إلى الأدب الموضوعي أو الغيري، ويؤلفان من قبل شخص آخر غير معني بهما.
أما "الترجمة الذاتية "، فستظل على الدوام غير مؤهلة إطلاقا لتقوم بدلا عن "السيرة الذاتية" أو لتشغل مكانها، ذلك لأن كاتب السيرة الذاتية ملزم بأن يعكس للقراء وجه حياته الشخصية بتفاصيلها ودقائقها، قدر الإمكان طبعا، على مرآة التعبير الأدبي، مع العلم بأن السيرة الذاتية تهدف إلى الاشتمال على جزء من حياة صاحبها، إذ يتعذر عليها أن تحيط بسائر ما مضى من حياته الشخصية، ومؤلفها مطالب بالاقتراب أكثر من ذاته بالوصف، والتفسير، والتحليل، والتعليق، والنقد أيضا، وجميع هذه الأفعال الخطابية يجب أن يمارسها بإسهاب وليس باقتضاب، وإن كان من غير الهين على الإطلاق أن يتخذ الكاتب من ذاته وذاكرته موضوعا للسرد.
كانت هذه إطلالة سريعة على ما تعنيه الترجمة الذاتية وما تدل عليه السيرة الذاتية، ونأمل أن نكون قد أسهمنا بهذه المقالة في دعوة الباحثين والمهتمين بأدب السيرة الذاتية إلى إيضاح قدر الإمكان ما يمكن إيضاحه في هذا الباب.


د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

أبو شامة المغربي
21/02/2006, 03:09 PM
جنس السيرة الذاتية بين الأدب والتاريخ

إن بين أدب السيرة الذاتية و التاريخ صلة وثيقة، ذلك لأنهما يشتركان في عرض الأحداث والمواقف، وفي تصوير مختلف البيئات والمآثر، والكشف عن الصور المادية والنفسية؛ وإذا كانت السيرة الذاتية تنبع من صلب الأدب بخلاف التاريخ الموسوم بالطابع العلمي، فهذا لا يعني أن الحس التاريخي منعدم في كتابة التاريخ الخاص الفردي؛ بل إنه على العكس حاضر بأبعاده الثلاثة المتمثلة في الماضي ، و الحاضر ، و المستقبل، والظاهر لأول وهلة أن السيرة الذاتية تتخذ موقعا وسطا بين الأدب و التاريخ ، لكننا إذا أمعنا النظر أكثر في طبيعة هذا الجنس الأدبي، خلصنا إلى تعبير دقيق عميق من حيث حمولته الدلالية ، و هو أن هذا اللون من التعبير تتجاذبه سلطتان أو قوتان : سلطة الأدب و قوة التاريخ، لأن الكاتب يصوغ تاريخه الخاص صياغة أدبية .

ونتيجة لواقع التجاوب بين الأدب والتاريخ، المتعارف عليه بين الأدباء بالحق الأدبي والحق التاريخي، تميز جنس السيرة الذاتية عن باقي جسد التاريخ العام، مع العلم بأن الأصل في التاريخ الإنساني هو مجموع التواريخ الخاصة، سواء الفردية منها أم الجماعية ، و هذا يعني أن أي سيرة ذاتية هي واقع تاريخي في حد ذاتها، أما الاصطلاح على أن السيرة الذاتية جنس أدبي ، فهو تعريف مبدئي لا ينفي حضور التاريخ في قلب أي أدب خاص، مهما بلغت فيه درجة الذاتية ، فكاتب السيرة الذاتية يجد نفسه مشبعا بالحس التاريخي حين يسرد قصة حياته، وهذه حقيقة لا تعرف في قاعدتها استثناء أي جنس أدبي ، و من الصعب جدا ، في غياب تعريف يحدد ماهية السيرة الذاتية، و يميز بين ما ينتمي إليها و ما لا ينتمي ، أن نتصور تاريخا خاصا بهذا الجنس الأدبي.

إن للتاريخ مرونة تؤهله لأن يظل فضاء رحبا ، يتسع لكل نشاط إبداعي، وكائنا نابضا في عمق الأدب بوجه عام، وأكثر إثارة في أجواء التاريخ الفردي ، باعتباره نواة أدبية فاعلة، سواء في الكتابة النثرية أم في الكتابة الشعرية، ومما لاشك فيه هو أن أصداء التاريخ الخاص تتردد بدرجات متفاوتة في جميع الإنتاجات الأدبية، وهذا دليل على كون الذاتية قوة دافعة، وعلة باعثة على الانخراط في العملية الإبداعية، ثم إن الفصل والتمييز بين الحياة الخاصة الفردية والحياة العامة يظل أمرا نظريا، إذ يتعذر على الإنسان أن يعزل حياته بعيدا عن التاريخ العام، حتى وإن عمر مدة وجيزة على وجه الأرض.

ثم إن السيرة الذاتية لا تسقط من فضائها أي بعد زمني، وإن كان الزمن في السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يرتبط بالعودة إلى مرحلة أو عدة مراحل، وهي في ذات الوقت عودة إلى فضاءات وتاريخ يلتقي فيه ويتكامل التاريخ الفردي والجماعي؛ إنها عودة تجد في الكتابة حاضرها، وفي الذاكرة ماضيها، ولاشك أن المسافة بين الكتابة والذاكرة أو بين الحاضر والماضي تاريخية و سردية حكائية في آن واحد، و لا شك أن للحس التاريخي دورا كبيرا، وتأثيرا مباشرا في إدراج نص السيرة الذاتية و عرضها، وفي تحديد البناء العام لكل تاريخ فردي، ومن ابسط مظاهر هذا التأثير، إقدام الكاتب على تقسيم سيرته الذاتية إلى فصول نثرية تبعا لمراحل حياته، ثم إن الإحساس بالتاريخ والوعي بقيمته يمثلان في وحدتهما باعثا طبيعيا لصاحب السيرة الذاتية على ضبط أهم المنعطفات والتحولات الحاسمة والدالة في حياته.
فالسيرة الذاتية أكثر نبضا من التاريخ بالحياة والتجارب الفردية، بحكم محورية الذات الفردية في هذا اللون من التعبير من جهة، وثانوية الأحداث من جهة ثانية، ومن السهل أن نتنبه إلى كون التاريخ أحد وجوه فتنة هذا الجنس الأدبي، ثم إن كاتب السيرة الذاتية يستدعي أحداثا وجملة وقائع سالفة بوعي ومهارة، يسمهما برؤاه وتصوراته في الزمن الحاضر، معتبرا في ذات الوقت الأهمية البالغة للماضي، وقد يكون من أهم أهداف صاحب السيرة الذاتية توثيق التاريخ؛ لكن الأهم لديه هو أن يترك أثرا أدبيا يخلد ذكره من بعد موته.

وإذا كان التاريخ يجري وراء الحقيقة، باحثا وممحصا، ثم مبددا لأي غموض في مختلف جوانب الحياة الإنسانية، فالسيرة الذاتية تقتفي اثر الحياة في ذات الإنسان، ولذلك كانت ولا تزال أكثر احتفالا بالأدب الذاتي من كل ألوان التاريخ، حتى إن التاريخ يعبر عن مدى غنى الحياة الداخلية للإنسان، أكثر مما يعبر عن المسافة الزمنية التي يقطعها من المهد إلى اللحد، وإن كان الكائن البشري يدرك جيدا أن ذاته اليوم ليست هي ذاته بالأمس، وأن مجرى تنامي وتطور إحساسه الداخلي غير قابل لأي تحديد.

إذن ليس من الإسراف أو الخلط أن نتفق مع الرأي القائل بأن السيرة الذاتية هي ملتقى الحق الأدبي والحق التاريخي، لأن هذا اللون من التعبير الأدبي يعد بالفعل حاضنا لمادة تاريخية غنية، بإمكانها أن تسهم بحظ كبير في كتابة تاريخ مرحلة معينة، وفي نفس الوقت هو لون أدبي يستمد قوته من العناصر و المكونات الأدبية، حتى إن البعض أفصح عن ميله إلى جعل أدب السيرة الذاتية قسمين رئيسيين، هما: السيرة الذاتية الأدبية، والسيرة الذاتية التاريخية...

هذه جملة من الأفكار المثارة في موضوع أدب السيرة الذاتية .. نأمل أن يبادر كل مهتم بهذا الجنس الأدبي إلى الإسهام بما يراه من قراءات جديرة في حقه، وتأملات تليق بمكانته بين الأجناس الأدبية ...



د. أبو شامة المغربي
kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

أبو شامة المغربي
21/02/2006, 03:32 PM
بواعث كتابة أدب السيرة الذاتية الإسلامية قديما

لقد ترك لنا العرب المسلمون القدماء سيرا ذاتية كثيرة، حفزتهم عوامل أو بواعث ذاتية وموضوعية مختلفة ومتشعبة، فضلا عن كونها تضيق بحصرها عدا، وقد ذكر غير واحد من الباحثين و النقاد بعضا منها ومن خصائصها ، التي تميزها عن غيرها ولم يختلفوا في شانها، ونحن في سياق هذا المحور سنحاول الكشف عن المزيد من البواعث والخصائص التي ارتبطت بالسير الذاتية الإسلامية قديما، مع التذكير بما سبق و كشفت عنه الأبحاث والدراسات السابقة من بواعث وخصائص.
من الممكن أن نصنف مختلف بواعث كتابة السيرة الذاتية الإسلامية القديمة إلى ثلاثة أنماط هي:
أولا: البواعث الإخبارية، أو البواعث التاريخية، أو الصنف الإخباري البحت، وهي مجموع البواعث التي تنحو بأصحاب السير الذاتية إلى تحقيق منفعة خارجة، و تدفع بهم إلى تسجيل تجاربهم، و أخبارهم، وذكرياتهم، بالإضافة إلى ما عاينوه من مشاهد، وعاشوه من مواقف دون النفاذ إلى عمقها، و هي بالتالي عبارة عن حوافز على التأليف، تلزم الكاتب بفعل الأخبار فقط، ونقل معلومات معينة، أو تدوين وقائع تاريخية.
ومن الأعمال القديمة التي تندرج في دائرة هذا النمط الإخباري التاريخي، نذكر ما خلفه كل من ابن سينا، وعبد اللطيف البغدادي، وعلي بن رضوان المصري من حديث حول ذواتهم، ومثل هذا الضرب من الكتابة كثير في المعجم الذي ألفه ياقوت الحموي، وخص به الأدباء والنحويين.
ثانيا: البواعث النفسية و الروحية، وهي ملتقى الأبعاد الإنسانية الثلاثة، ونقصد بها: النفس، والروح، والفكر، وقد نختزل هذا اللون من البواعث في ظاهرة النزوع إلى تصوير الصراع الروحي، من خلال الرغبة في اتخاذ موقف ذاتي من الحياة، وتصوير الحياة المثالية والفكرية.

ومن النماذج التراثية التي تنطبق عليها مواصفات هذا النوع من البواعث، نذكر: "السيرة الفلسفية" التي كتبها محمد زكريا الرازي، وأراد من خلالها التعبير عن اتخاذه موقفا ذاتيا من الحياة، ونذكر كذلك رسالة لابن الهيثم، المتوفى سنة 430 هجرية، في تصوير حياته الفكرية.

ثم إننا نستحضر في ذات السياق كتاب"الاعتبار" لصاحبه أسامة بن منقذ، المتوفى سنة 574 هجرية، و الذي سخره لاسترجاع الذكريات، ولتمكين قرائه من أخذ العبرة، كما نخص بالذكر أيضا كتابي: "طوق الحمامة في الألفة والآلاف"، لصاحبه علي بن حزم، المتوفى عام 454 هجرية، وقد روى فيه ما عاناه في شبابه من تأثير الحب والعشق وما خلفاه في نفسه من آثار، وأراد من خلال ذاته أن يحيط عن طريق التجربة، والملاحظة، والاستقراء بظاهر وباطن العاطفة التي تنشأ بين الجنسين من بني الإنسان.

ولابن حزم مؤلف آخر يحمل عنوان "الأخلاق والسير في مداواة النفوس"، ومن الأعمال القديمة التي ضمنها أصحابها التعبير عن الثورة، والصراع الروحي، ومناجاة النفس، نستحضر ما تركه أبو حيان التوحيدي محفوظا في رسالته "الصداقة والصديق"، التي عبر فيها عن ثورته ومعاناته مع الفقر والاغتراب بين الناس، ونذكر أيضا ما خلفه أبو عثمان الجاحظ المتوفى سنة 255 هجرية، وأبو العلاء المعري المتوفى سنة 449 من الهجرة ، وأبو بكر الخوارزمي المتوفى سنة 232 في بعض رسائلهم.

ودائما في سياق النمط الثاني من بواعث الكتابة، نذكر مؤلف " الفتوحات المكية" لمحي الدين ابن عربي المتوفى سنة 638 من الهجرية، الذي يعتبر إلى جانب رسالته في مناصحة النفس نموذجا للحديث الدقيق والعميق مع النفس، ونستحضر كذلك كتاب "المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة و الجلال" لأبي حامد الغزالي المتوفى سنة 505 من الهجرية، وفيه اجتهد المؤلف في عرض و تحليل صراعه الروحي، ومحاسبته لنفسه عما اقترفته من آثام، وما بذله من جهد وسلكه من سبيل لتطهيرها والسمو بها، ويعد هذا الأثر من بين السير الذاتية التي كان القصد من تأليفها ـ نزولا عند طلب الغير، كما رأينا مع ابن حزم الأندلسي ـ أن تكون تجربة، ووثيقة روحية وفكرية تعرض على جمهور القراء لينظروا فيها طلبا للاهتداء إلى مجاهل النفس، والاستفادة من تجارب الغير.

ثم نذكر شمس الدين محمد بن طولون ، الذي تحدث عن نفسه في رسالة مستقلة ، سماها " الفلك المشحون في أحوال محمد بن طولون "، ويظهر أن إحساسه بكون حياته قد أشرفت على النهاية، كان باعثا له في الأصل على كتابة رسالته، وثمة ضرب آخر من السير الذاتية ينتسب إلى النمط الثاني من بواعث الكتابة، ونعني به السير الذاتية التي يهدف أصحابها إلى ذكر الأسباب التي جعلتهم يعتنقون الإسلام، ويتركون ما كانوا عليه من دين في السابق من حياتهم، وممن كتبوا في هذا الباب نذكر السموأل بن يحيى المغربي ، المتوفى عام 570 من الهجرة، الذي ألف كتابا سماه: "بذل المجهود في إفحام اليهود "، بسط في فصل منه تجربته الروحية تحت عنوان: " إسلام السموأل بن يحيى المغربي و قصة رؤياه النبي صلى الله عليه وسلم"، والأشواط التي قطعها وهو في طريقه إلى اعتناق الإسلام، ويعد من العلماء القلائل الذين كتبوا سيرتهم الذاتية.

ونصادف من الآثار الأدبية القديمة ما قصد به مؤلفوه الغاية التعليمية، وإسداء النصح، والتذكير، والتوصية بالحق و بالصبر، أو سعوا به إلى تصوير الحياة المثالية ، والتحدث بنعمة الله عز وجل، مثل كتاب: "لطائف المنن والأخلاق في بيان وجوب التحدث بنعمة الله على الإطلاق" لصاحبه عبد الوهاب الشعراني المتوفى سنة 973 من الهجرة و"لفتة الكبد إلى نصيحة الولد" لعبد الرحمان بن الجوزي ، المتوفى سنة 597 من الهجرة، ونستحضر كذلك مؤلف عبد الله بن بلقين ، المسمى " التبيان عن الحادثة الكائنة بدولة بني زيري في غرناطة "، والذي كتبه تأريخا للأحداث، ودفعا للتهم، و تفسيرا للسلوك، وتبريرا للمواقف، ثم تحقيقا للتبعة على الوجه الصحيح، وذلك بعد أن فرضت عليه الإقامة الإجبارية في "أغمات" بالمغرب.

ثم نذكر كتابي الشاعر عمارة اليمني، وهما: "النكت العصرية"، و"سيرة المؤيد داعي الدعاة"، وفيهما تحدث عن نفسه، ثم إن جميع من أقدموا على كتابة تواريخهم الخاصة، بناء على نفس المبدأ و الباعث، وعملا بمقتضى الآية القرآنية الكريمة في سورة الضحى، لم يكونوا راغبين في الإشادة بأنفسهم أو مدحها، و إنما أرادوا بتأليفهم أن يذكروا فضل الله تعالى عليهم، و أن يتحدثوا من خلالهم بنعمه، فنظروا إلى الكتابة في هذا الباب على أنها من جهاد النفس، وأحد أسباب ومناهج العبادة التي تقرب إلى الله عز وجل.
لقد اتخذوا حديثهم عن أنفسهم لسانا يفصحون به عن جزيل الشكر لخالقهم، وعن منتهى الاعتراف له بالفضل و الجميل ، فلم يتخذ كل واحد من هؤلاء سيرته الذاتية رياء و مباهاة ؛ بل أراد لها أن تكون حمدا لله الذي من عليه بالنعم التي لا تعد و لا تحصى.
ثالثا : البواعث الاجتماعية: وهي بواعث تبريرية، أو تفسيرية، أو تعليلية، أو اعتذارية، تستمد قوتها من الوسط الاجتماعي، أو بالأحرى من تأثير الجماعة الإنسانية، التي تترقب دفاع المتهم عن نفسه، وتبرير مواقفه، أو تفسير أعماله و أقواله ، أو تعليل آرائه المعلنة.
وقد كتب حنين بن إسحق ، المتوفى عام 260 من الهجرة، في هذا الباب، متحدثا عن معاناته و مكائد أعدائه، وتعد سيرته نموذجا حيا لمجموع السير الذاتية العربية الإسلامية القديمة، التي هدف بها أصحابها إلى الدفاع عن أنفسهم، نذكر كذلك ما كتبه عبد الرحمان بن خلدون ، المتوفى سنة 808 من الهجرة، عن نفسه في كتاب: (التعريف بابن خلدون ورحلته غربا و شرقا)، إذ كانت غايته مما كتب مختزلة في الدفاع عن نفسه من خلال التبرير و التفسير، وكثير من السير الذاتية القديمة ألفها أصحابها لهذا الغرض، ولا شك أن باعث الدفاع عن النفس يندرج ضمن أقوى وأبرز بواعث كتابة هذا اللون من الأدب.

ومن جملة بواعث الكتابة التي نقف عليها في أدب السيرة الذاتية الإسلامية القديمة، ثمة باعث الرد على أعداء الإسلام، ودفع ما يحوم بفعلهم حول العقيدة الإسلامية من شبهات، وأوضح مثال نسوقه في هذا الباب ما كتبه السموأل بن يحيى المغربي، ثم إن بواعث وحوافز تأليف السير الذاتية الإسلامية القديمة كثيرة ومتشعبة، ونادرا ما يكون وراء كتابتها باعث أو حافز واحد فقط.

أما محاولة تصنيف الأعمال الأدبية العربية الإسلامية، تبعا لتصنيف بواعث الكتابة، وكذا تقسيمها إلى أنماط، فهو عمل واجتهاد نسبي، وحتى إن كان مكن الباحثين والنقاد من الوقوف على أهم البواعث أو الدوافع الرئيسة، فانه لم يحط بعد بأكثر البواعث الفرعية، ثم إن كان ساعدهم على ضبط البواعث الظاهرة، فإنه لم يمكنهم بعد من الإلمام التام بالبواعث الباطنة.
هذا حظ يسير مما جاد به نشاط الذهن، نسأل الله عز وجل أن يجد فيه كل قارئ بعض الذي كان يترقبه ويستشرفه، وعسى أن يكون ما خطته يمين عبد الله باعثا للباحثين، والدارسين، والمهتمين عموما على إلقاء ولو نظرات معدودة على أدب السيرة الذاتية ...


د.أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

أبو شامة المغربي
21/02/2006, 03:41 PM
أدب السيرة الذاتية الإسلامية بين الحس الفردي و الحس الجماعي

(الجزء الأول)

عندما تصير الذات ثمرة عصرها، و حكاية في حد ذاتها، و عندما تجد نفسها واصفة وموصوفة في آن واحد، ساعتها تكون قد مدت جسرا بين تمثلها الذاتي و نزوعها الموضوعي؛ إنها بؤرة آثار عميقة، و ساحة كشف واكتشاف لمجاهل الإنسان، و في شعابها انطوت هويتها و خفاياها.

إنها وجود قلق مضطرب، لا يدرك نفسه في يسر أو بكيفية مطلقة ، ولا يحيط بذاته تمام الإحاطة، تتجاذبه قوى العقل، و النفس ، والروح، بين مد الشعور و الوعي، وجزر اللاشعور واللاوعي تارة، وبين جزر الوعي والشعور، ومد اللاوعي واللاشعور تارة أخرى، ومع ذلك فقد سخر للذات الإنسانية الفهم والإدراك ، بقصد أن تسعى إلى الإلمام بحقيقتها المادية و الروحية، ثم إن الأنا تشرع في تمثل نفسها، والاستفهام حول ماهيتها و معنى حياتها بقوة الوعي الكامن فيها ، فنراها تستنجد بالماضي المختزن في ذاكرتها، فهي مسكونة بموروثات وحياة نابضة بصور الزمان والمكان، وبحرارة اللقاء الإنساني، وبالتربية والثقافة المكتسبة، وبالمبادئ والقيم المختلفة، وكذلك بالمعتقد الديني.

فما من شك في كون معرفة الذات البشرية هي نتيجة استفهام عن ماهية الإنسان، و منطلقه، و مآله، خاصة وأن هذا الكائن العاقل يجد ذاته على امتداد أطوار حياته في تغير مستمر، ثم إنه من المؤكد أن كاتب السيرة الذاتية عندما يستشعر دنو أجله ، يطرح على نفسه سؤالا دقيقا هو : هل عشت بالفعل حياتي بالكيفية التي أردتها أم لا ؟ .

فإذا رأينا الذات تتفحص حاضرها، فذلك لأنه حصيلة ماضيها بكل الذي زخر به من تجارب حياتية، ولأن الحاضر واقع لا بد لها منه، لتظفر بحس مستقبلي، ورغبة في المضي إلى الأمام ، فما احتفال الأنا بذاتيتها في النهاية إلا تمثل لهذا الحس التاريخي، أو تلك القوة الخفية التي تحمل الإنسان على الشعور بأنه عين الشخص ، الذي كان له حضور في الماضي القريب و البعيد، على الرغم من الأحداث المتضاربة ، والتغييرات المتلاحقة التي توالت على ذاته الباطنية ، ثم إن الذات التي كانت طفلا ، فصبيا ، ففتى ، ثم عاشت ربيع عمرها ، فغدت بعد ذلك رجلا ، و كهلا ، ثم انتهت في مسيرة حياتها إلى خريف العمر مرتقبة ذروة الشيخوخة ، هي واحدة في جميع هذه الأطوار ، لكن هل السيرة الذاتية هي كتابة الفرد لحياته بناء على تسلسل زمني منطقي ؟ أم أنها كتابة لذاته الفردية، بحكم أن هذه الذات مفككة لا تخضع لأي تسلسل زمني؟

لا شك أن الإنسان ، كان و سيظل ، عالما انطوى فيه كثير من الأسرار، وشبكة من العناصر، التي تجمعها علاقات جد معقدة ، تنشأ وتتطور في بيئة و حقبة زمنية ذات معالم وخصائص معينة، والأنا منذ وجدت و هي تطمح إلى اكتساب قيم إنسانية ، تميل إليها إما عن هوى ونزوة، أو تنتقيها عن قناعة خاصة، أو تستقطبها تبعا لعقيدة معلومة، في حين تبذل كل ما في وسعها لطرد قيم أخرى، لم تعد ترغب فيها .

إن الكائن الاجتماعي يحلم دائما برؤية عالم يعثر فيه على الاستقرار والسعادة، ويشعر في أكنافه بوجود منسجم مع جميع الموجودات حوله، ثم يطمئن إلى طور من حياته دون باقي الأطوار، فيحياه باستمرار في ذاكرته؛ إنه يصارع قوى معينة من أجل غاية محددة، ويعاني سلبا أو إيجابا في سبيل ما ينشده بقناعة وإيمان، وعن هدى أو ضلال، بحكم انه كائن فاعل في حدود، وعاقل مدرك في حدود كذلك .

فهذا الإنسان كثيرا ما يشقى بأفعاله و ممارساته، و اختياراته و توجهاته، و قليلا ما يسعد بأعماله في الحياة الدنيا، وقد يزداد أحيانا قوة و إرادة ، عندما يتحول لديه الألم و المكابدة إلى ابتلاء في طيه النعمة، و في قلبه بذرة التغيير نحو الاستقامة والصلاح، بحكم أن الذات المسلمة الجادة في نهج طريق الاستقامة لا تشقى بما تجده من معاناة، وما ينزل بها من ابتلاءات؛ بل إنها تعمل على تحويل هذه المعاناة والإبتلاءات إلى قوة فاعلة مؤثرة، وجهد إبداعي متميز، إذ من المؤكد أن التجارب الحياتية، الفردية والجماعية، فاعلة في الذات المبدعة، بقدر ما أن هذه الذات منفعلة بها، فضلا عن كونها تستمد شحناتها الإبداعية من كل تجربة تعيشها.

إن ذروة الإحساس بالذات ، تنكشف بكل أبعادها الإنسانية في الحقب التاريخية التي تشهد انتقالات من أوضاع معينة إلى أخرى ، أو تعرف اضطرابات و هزات اجتماعية ، أو سياسية، أو فكرية و غيرها ، إذ في هذه الظروف الزمانية وأمثالها تجد الذات البشرية نفسها في حاجة ملحة إلى التوفيق بين نفسها و الأحداث الجارية في محيطها، ثم إن الذات الإنسانية تطمح إلى التعرف على هويتها وجوهرها، و تجتهد في استقراء باطنها ؛ لكن هل صحيح أن ثمة إقبالا على كتابة التاريخ الخاص، و أن أدب السيرة الذاتية صار إحدى السمات التي تسم العصر الحديث؟
إننا في ظل ما يحفل به تاريخ الأدب العربي والإسلامي الحديث من آثار أدبية تشهد على نزوع ملحوظ إلى كتابة السيرة الذاتية ، و باعتبار المنحى الذي سار فيه التأليف الأدبي في الشرق والغرب عموما، نستطيع أن نرجح صحة الامتياز الذي اكتسبه أدب السيرة الذاتية في العصر الحديث، ثم إن هذه سمة لها دلالتها الخاصة على ما ساد العصر من حياة اجتماعية، و فكرية، وروحية وغيرها، مما سيساعد المهتم بالبحث في أدب السيرة الذاتية الحديثة على معرفة خط سير هذا اللون من التعبير، وما يكمن وراءه من بواعث، ثم الغاية من إنتاجه، لكن هل صحيح أن المفكرين والعلماء هم الأكثر احتفالا بذواتهم والأكثر ميلا إلى إعمال النظر فيها من الشعراء والأدباء؟
كثيرا ما يعرض نقاد الأدب ودارسوه لمحوري: الفردية أو الذاتية، والجماعية أو الموضوعية، لكنهم قليلا ما يتحرون حقيقة ومدى تلك الذاتية الفردية، وهذه الموضوعية الجماعية؛ بل إن معظمهم ينسون ما للذاتية والموضوعية من قيمة، حتى إن الرهبة تأخذهم من البعد الذاتي في الأدب عموما، فهم ينظرون إلى الذاتية على أنها نقيضة للواقعية؛ بل إن الأمر بلغ ببعضهم إلى توظيفها في موضع الذم.

أما الرأي الراجح عندنا، فهو انعدام وجود فردية ذاتية أو جماعية موضوعية بحتة، بمعنى أن كل ذات فردية تنطوي على ذات جماعية، وكل ذات جماعية تتضمن ذاتا فردية، مع العلم بأن الاهتمام بالجانب الاجتماعي في العملية الإبداعية، لا يعني تهميش السمة الفردية للإبداع الأدبي، إذ أن لكل أديب ذاتية خاصة به، تتفاعل سلبا أو إيجابا مع واقعه الاجتماعي، ثم إن الذاتين : الفردية والجماعية تخضعان معا لحكم النسبية، نظرا لارتباط إحداهما بالثانية، فالأنا الفردية ذاتية في حدود عالمها الداخلي، لكنها تتراجع عندما تصطدم بالعالم الخارجي ، وذلك حتى تفسح المجال للذات الجماعية، التي بدورها ينحسر مدها على عتبة الأنا الفردية، باعتبار أن توازن الفرد في حال اضطرابه يمكن تحقيقه في قلب هذا الكيان الأكثر قربا من الذات الإنسانية.

ومن المؤكد أن الذات تعتبر الركن الأساس في شخصية الإنسان، إذ أنها ليست سوى ذلك الشعور والوعي بكيان الفرد المتنامي باستمرار، على قدر النضج والتعلم، والاكتساب، وللذات الفردية مفهوم يمكن اختزاله في ذلك التكوين المعرفي المنظم، والموحد، والمكتسب في آن واحد لمجموع المدركات الشعورية والتصورات الخاصة بالذات، وانطلاقا من هذا المبدأ، سيظل مفهوم الذات الفردية و الجماعية مقيدا غير مطلق، باعتبار أن إمكانية العثور على ذات مجردة، سواء أكانت فردية أم جماعية، تعد من قبيل الأوهام الشائعة لا اقل و لا أكثر، وهذا لا يعني في شيء أن الأثر الأدبي هو نتيجة لواقع الأوضاع الثقافية والاجتماعية ، دون اعتبار ما للذات المبدعة من إسهام وفعل، وما لها من تكوين ذهني و نفسي.

وإذا كانت الذات الفردية تشغل العالم الداخلي و تنشط فيه ، بينما تتمثل الذات الجماعية أكثر في العالم الخارجي، فهذا لا يعني في شيء كذلك وجود انفصال أو قطيعة بين الفرد والجماعة الإنسانية ؛ بل على العكس ثمة تفاعل و لقاء مستمر ، و تأثيرات متبادلة بين الذاتين و العالمين، وثمة أيضا تجارب إنسانية مشتركة كثيرة، ولاشك أن العلاقة بين الداخل و الخارج وثيقة في أدب السيرة الذاتية ، الذي يتجاوز ما تعيشه الأنا من عزلة ووحدة .

إن ما قمنا بإثارته في هذا المحور ، ينطبق بتمامه على الذاكرة الإسلامية، فضلا عن الذات المسلمة، ما دام أن ذاكرة الفرد جزء من الذاكرة الجماعية، كما أن الذات الفردية بعض لا يتجزأ من الذات الجماعية، ويبدو أن هذه الحقيقة ماثلة في السيرة الذاتية الإسـلامية الحديثة، العربية والأجنبية على حد سواء، وإن كان للذات و الذاكرة العربية الإسلامية ملامح وخصوصيات معـينة، مثل ما للذاكرة و الذات الأجنبية المسلمة، بشقيها: الفردي والجماعي، ملامـح وخصوصيات محددة، ثم إن الفرد قد ينوب عن الآخرين من بني عصره وبيئته في كتابة سيرهم الموضوعية، انطلاقا من قراءة ذاته، ومن خلال تجاربه الفردية والمشتركة، ما دام أن القاسم المشترك بين أفراد الجماعة البشرية، يتحول إلى تعبير موضوعي بين طيات السيرة الفردية، ومن ثم تصير الذات الواحدة موضوعا في سياق السيرة الجماعية أو التاريخ الموضوعي .

من هنا نخلص، إذا صح هذا الافتراض، إلى أن تجربة الذات المسلمة تختزل تجربة الجماعة الإنسانية المسلمة في الحياة، خاصة و أننا لا نعثر في متن السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة على تلك النزعة الفردية ، التي يتخذ أصحابها من أدب السيرة الذاتية نصبا تذكاريا لها ، و هي نزعة غير مسؤولة أو ملتزمة، ثم إننا على النقيض نصادف في مجموع خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة تلك " الأنا " المسؤولة ، والغاية الموحدة، التي لا سلطان للعبث، والأهواء، واللذة العابرة عليها، هذا بالإضافة إلى كون الذات الفردية المسلمة تتشكل انطلاقا من المفهوم الجماعي، الذي يختزن الانتماء العقدي ، و الحضاري .

إن لكاتب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة رؤية يتكامل من خلالها البعدان : الفردي والجماعي، إذ أن شعور الأنا الفردي يتطلب وجود الآخر، وتتحول فيها المعاناة إلى باعث قوي على التعبير، وقدرة كبيرة على النفاذ إلى بواطن الأمور و جوهر التجارب، فكل إنتاج الكاتب هو عبارة عن محاولات متكررة بقصد العثور على حقيقة الحياة وعمقها، وإن كانت ذاتية من يكتب سيرته لا تتمثل في اختلاف تجربته الحياتية عن تجارب غيره من أهل عصره، فإنها تمتاز عن ذوات الآخرين بكونها تنطوي على إحساس ووعي عميقين ، وإدراك دقيق للبعد الجماعي الكامن في التجربة الذاتية .


د.أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

أبو شامة المغربي
21/02/2006, 03:54 PM
أدب السيرة الذاتية الإسلامية بين الحس الفردي و الحس الجماعي

(الجزء الثاني)

الظاهر أن الإنسان من خلال سرد تاريخه الخاص، يكتشف أناه الثانية، أي الذات الجماعية، التي قد يتوهم الفرد أحيانا عدم وجودها، بينما هي قابعة في الظل، لكنها نامية بموازاة مع الأنا الفردية، حتى إذا انخرط الكاتب في تأليف سيرته الذاتية ، تلمس بوضوح انحسار ظل حسه الفردي الأحادي، واستشعر ذلك الزحف الخفي لكل ما له سمة جماعية مقرونا بذاته، ثم إن من يكتب سيرته الذاتية ، بحكم انتمائه إلى جماعة إنسانية، مرتبطة بقيم معينة تشكل وعيها، يجد نفسه مطالبا باتخاذ ذاته جسرا للعبور إلى الذات الجماعية وإلى ما هو كوني، ومؤكد أن ثمة عبورا نوعيا بالبداهة بين الذاتين: الفردية والجماعية من جهة، وبين ما هو ذاتي وما هو جماعي ، بحكم أن الشخصية الفردية لكاتب السيرة الذاتية، ما هي إلا صورة مصغرة من شخصية الجماعة الإنسانية الكبرى .

ولا شك أن كاتب السيرة الذاتية عندما يصير في أوج فرديته ، يكون قد تجاوز الحدود الضيقة لتجاربه الخاصة، فنراه يتجاوز الخاص إلى العام، ويستعين بالحس الموضوعي ليتمثل ذاته، مما يدل على أن خطاب السيرة الذاتية ليس مغلقا أو معزولا عن عالم وفضاءات التواصل الإنساني ؛ بل هو خطاب منفتح على الحياة الجماعية، إذ يجسد على مستوى البعد الوظيفي ذلك الانتقال من طور الاهتمام بالأنا و العزلة الذاتية إلى مرحلة التواصل مع الآخر و الانفتاح على الجماعة .

إن الفرد عندما يفكر في كتابة تاريخه الخاص، يعي جيدا أن المقاصد الذاتية الضيقة هي أول ما سيتم تجاوزه في إنتاجه الأدبي، وأن كثيرين سيشاركونه تعبيره عن تجاربه الفردية، ومن هذا المنطلق يحاول الكاتب أن يعرض قصة حياته أو بعضا من تجاربه على جمهور القراء، رغبة منه في أن يكون ذاتا مقروءة، يجد فيها كل قارئ ملامح من نفسه، وبعضا من تاريخه، ولا شك أن أدب السيرة الذاتية يجلي (الأنا)، وينبه المتلقي إلى حضوره وتفرده، ثم إن الكتابة عن الذات تقتضي حدا أدنى من تقدير صاحب السيرة الذاتية لنفسه ، وبدون هذا الحد من التقدير الذاتي تتعذر الكتابة عن الذات، ومن ثم لا بد للذي يختار الكتابة في دائرة هذا اللون من التعبير أن تكون لديه قناعة تامة بما تمثله حياته من معنى، وما يشتمل عليه تاريخه الخاص من قيمة معرفية.

ومن المؤكد أن أي الأفعال التي يبادر إليها الإنسان في هذا الوجود، ومنها فعل الكتابة عن الذات، هو محاولة لتحطيم القيود التي تمنعه من اكتشاف جديد أو اكتساب معرفة، باعتبار أن الإنسان سجين، وبالأفعال يسعى إلى الخلاص من سجنه، المتمثل في جهله الأشياء، ولا سبيل إلى تجاهل حقيقة يمكن اختزالها في كون حياة الإنسان تتجاوز كل وعي يمكنه أن يكتسبه عنها، إذ أن وعي الإنسان قاصر، إذا ما تمت مقارنته بما تنطوي عليه حياته من خفايا وأسرار، ومن ثم فان وعي الفرد بكونه إنسانا، كفيل بأن يستشعر نقصه، وعجزه، وقصوره في هذا الوجود
ومما لا يقبل الجدل كون الغوص العميق الذي يحرص كثير من الكتاب على تحقيقه في ذواتهم ، ما هو في واقع الحال إلا غوص في الذات الإنسانية، التي تجسد الكائن الكامن في أعماق كل فرد، والمتصف بالطباع المشتركة الذي يتقاسمها الأحياء من بني البشر، ومن ثم فان كاتب السيرة الذاتية يتحول بامتياز إلى كائن نشيط وفاعل يلتقي في عالمه الباطن الإحساسان : الذاتي والجماعي ويتفاعلان ، إلى درجة التماهي الضمني بين "الأنا" و"الجماعة ".
إن كاتب السيرة الذاتية بمجرد ما ينتهي من كتابة تاريخه الفردي ، يكون قد تغلب على عزلته ، وفك قيود أنانيته، ومد جسرا بينه وبين الآخرين، وفي هذه الإشارة دليل على أن سيرة الكاتب ليست حكرا و وقفا عليه وحده؛ بل إنها ملك وحق مشاع بين الناس، مع أن الاستقراء الأول لهذه المسالة، قد يوحي بكون ما يبسطه الكاتب من حياته الباطنية أمام القراء، هي ملك له دون غيره، وليست حقا جماعيا، وهذا غير صحيح، خاصة وأن محاولة تحديد ما هو فردي وتمييزه عما هو جماعي في الحياة البشرية أمر صعب.

ومما يثير الانتباه أن ضمير "الأنا" المتمثل في الشخصية الفردية، والذي يعتقد البعض في دلالته على التوحد، والاستقلالية، والتميز عن غيره داخل الجماعة الإنسانية، ما هو إلا دال يحيل على الآخرين الحاضرين باستمرار في وجود الذات الفردية، التي هي في أمس الحاجة إلى الآخر، الذي يمكنها من رؤية نفسها، واستقراء جوهرها، باعتباره وسيطا واصفا بين الذات ونفسها، وإن كانت كل ذات فردية لها صفات وهوية تسمها بطابع خاص، مما يرسخ في ذهن صاحب السيرة الذاتية ذلك الاعتقاد في كونه شخص مغاير لباقي الأشخاص على وجه الأرض .

وإذا كان الإنسان يقضي حياته باحثا عن ذاته، وطامحا إلى تحقيقها في هذا الوجود، مجتهدا في العثور عليها والاهتداء إلى حقيقتها، خاصة وان حياته تتجسد في العمق والجوهر في عملية تكوين ذاتية ، فان السبيل الذي سيسلكه لبلوغ غايته يلزمه باكتشاف غيره من بني جنسه، ولا شك أن كاتب السيرة الذاتية له تجارب فردية عميقة، تعكس حياته الخاصة وتميزه عن باقي الأفراد، وهذه الخاصية في حد ذاتها تشكل باعثا له على إشراك الآخرين في اكتشافها، لأنه يعتقد في كونها تنطوي على إضافة مثيرة للفضول العلمي، وإضاءة لجوانب إنسانية خفية .

إن حياة الإنسان تتجاوز كل وعي يمكنه أن يكتسبه عنها ، إذ أن وعي الكائن البشري قاصر ، إذا ما قورن بما تنطوي عليه حياته من خفايا و أسرار ، و هذا ما يفسر تلك الحاجة البالغة التي يفصح عنها كاتب السيرة الذاتية، تصريحا أو تلميحا، إلى وصف ذاته و عرضها ملتحمة مع الآخرين ، منعكسة على مرآتهم، بقصد التعرف على شخصيته، واستقراء أعماقه، وذلك تعبيرا عن فرديته ، و هو أمر غير هين على الإطلاق، ثم إن ثمة جملة من الأسئلة الحاسمة ، التي يطرحها الإنسان حيثما كان ، لكونها مرتبطة بذاته ووجوده فهو يسعى جاهدا إلى العثور على إجابتها ، الكفيلة بتمكينه من الشعور بمعنى حياته ؛ إنها استفهامات تدل على أن ذاتية الإنسان ليست مطلقة ، و إنما هي محكومة بالطابع النسبي، ومن خلال تعدد الشخصية الواحدة ، نستطيع أن نفهم كيف تتحول الذات من المستوى الفردي إلى المستوى الجماعي .

فهل صحيح أن لكل إنسان شخصيتان أو شخصيات متعددة : الإنسان الذي يعرف نفسه ، والإنسان الذي يعرفه الناس، و الإنسان الذي لا يعرف نفسه و لا يعرفه الناس، والإنسان الذي لا يعرفه إلا خالقه ؟

يبدو أن الإقرار بصحة ما يشتمل عليه هذا الاستفهام لا سبيل إلى إنكاره أو تجاهله ، لأن من مميزات الكتابة عن الذات أنها تعكس لنا الجهد الذي يبذله صاحب السيرة الذاتية ، عندما يحاول أن يضفي معنى معينا على تاريخه الخاص؛ فهل يعني هذا أن الكتابة عن الذات تجسد الرغبة في كشف صاحب السيرة الذاتية عن هويته والحفاظ عليها في آن واحد؟، وقد شغل كثير من الباحثين ذلك الاستفهام عن إمكانية تسمية الكائن البشري، المتغير باستمرار ، نفس الشخص والذات ؟ علما بأن للزمان مغزى متميزا بالنسبة إلى الإنسان ، لأنه لا ينفصل عن الذات، وعلما كذلك بأن هذا الكائن يعي جيدا بأن نفسه مختلفة متحولة على الدوام ، ثم إن الذات تنقسم على نفسها في أدب السيرة الذاتية، فهي التي تكتب و تؤرخ لنفسها، وحتى يحقق الكاتب هذه الغاية نراه يحاول الابتعاد عن ذاته ليعرفها أكثر، وينأى عنها بقصد الاقتراب منها ، وفي بذل هذا الجهد دليل على أن الإحاطة الشاملة بالنفس البشرية غاية عزيزة المنال.

ثم ليست الذات الفردية مجرد وعاء لاستقبال وتخزين المنبهات الخارجية والداخلية؛ بل هي قطب فاعل قدر ما هي مركز متفاعل، تسود سيطرته مختلف المنبهات، فضلا عن كونه يسهر على تعديلها، وتنظيمها والجمع فيما بينها، ثم إن من الصعب على من يكتب سيرته الذاتية أن يقر لنفسه بتلك " الأنا " الأحادية ، بحكم ما يحياه من تحول دائب، لأنه يجد نفسه وجها لوجه مع " أناه " وقد اتخذت مظاهر متعددة ، و هي تنحو كل صوب ودلالة ، بحيث يصادف في كل مرة ذاتا معينة ، ومن ثم كان من الأساس العلمي اعتبار ذات الكاتب على مستويات مختلفة لكنها متكاملة في آن واحد، منها النفسي، والديني، و الخلقي، والاجتماعي و غيرها.

لكن الذي لا يجب إغفاله ، هو أن السيرة الذاتية جنس أدبي ، يقوم على مبدأ التنامي الأحادي للأنا الساردة أو الشخصية الرئيسة، بخلاف ما نجده في جنس الرواية والقصة، من شخصيات متعددة نامية، أما الشخصيات غير النامية، تبعا لمنطق السرد الأدبي، فتعد قاسما مشتركا بين الأجناس الأدبية الثلاثة، لكن بفارق جوهري، هو أن شخوص السيرة الذاتية حقيقية واقعية، بينما شخوص الرواية والقصة متخيلة، ثم إن مبدأ التنامي الأحادي يشمل بكيفية موازية كلا من الذات المسلمة، وذاكرتها الإسلامية، على المستويين : الأفقي الزمني، الذي تتدرج فيه الذات والذاكرة عبر مختلف مراحل العمر والحياة، ثم العمودي النفسي، و الفكري، والروحي، الذي تنمو فيه الشخصية بذاكرة ثقافية عقدية، وسياسية، واجتماعية، باعتبار قطب التوافق بين أبعادها الثلاثة في قلب الخطاب الموجه، فهي شخصية كاتبة، وساردة، ورئيسة.

ثم إن السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ، بوجه خاص، ستظل منطوية على الحس الموضوعي الجماعي كيفما صيغت، و مهما تعددت أشكالها ، وليس بإمكان الذات الفردية الانسلاخ والانفصال عن الذات الجماعية، بحكم أن الأدب الإسلامي لم يهتم في أي حقبة تاريخية من وجوده بفكرة الرجل العظيم، ولم يجار الأدبين : اليوناني و الروماني في هذا النوع من الاهتمام، في حين احتفل بالأمة المسلمة المشبعة بروح الإسلام.
إن الذات المسلمة ترى في العلم خلاصها وخلاص مجتمعها وأمتها، فبالعلم وحده يستطيع الإنسان المسلم أن يشخص الداء الذي يعانيه أفراد أمته ويصف الدواء، والعلم وحده يعتقد بقوة انه سيخرج أناه الجماعية من دوامة الجهل والشقاء، خاصة و انه يشعر بكون ذاته الفردية هي طرف مسؤول عن إنقاذ المجتمع المسلم .
وفي هذه الحال، يتحتم على الإنسان المسلم أن يتجاوز نوازعه وأحلامه الفردية، ويكرس كل جهوده لخدمة الذات الجماعية المسلمة، بحيث لم يعد له أي أفق انتظار في حدود ذاته؛ بل صار مضطرا إلى تحقيق كل غاية لصالح الجماعة، فهي أفق انتظاره الجديد، والبديل الذي سيسخر له كل أفعاله الإصلاحية من اجل التغيير نحو الأفضل، ولا شك أن التاريخ، والعقيدة الإسلامية، والموروثات الثقافية والاجتماعية، تشكل قوة فاعلة في الذات المسلمة وعاملا محفزا لها على نهج سنة معينة في الحياة، خاصة إذا كان لتلك الحصيلة المأخوذة عن السلف وزن حضاري، وخصائص ومعالم مؤثرة، مما يجعل عامل الشعور بثقل المسؤولية يزداد حدة، ومن ثم تصير الذات صدى لارتدادات قوية، تنشط على إثرها انفعالات وهواجس مختلفة، يظل يغذيها القلق، والشك، والإحساس بالذنب في حال التقصير أو الزيغ عن سيرة الأسلاف، وهذا من شانه أن يلقي بالإنسان في دوامة من المعاناة النفسية .

لقد أصبحت الذات المسلمة لا تجد سبيلا إلى الانسلاخ عن ذاكرتها الجماعية ، لأنها مرتبطة بإرث قوي مشبع بالمعاناة والتوتر؛ إنه بالفعل ألم مفترس يلاحق الإنسان العربي المسلم حيثما ولى تفكيره، فالألم والمعاناة جزء من ذاكرته الجريحة، وعندما يتقد الحس والشعور التاريخي الجماعي داخل الإنسان، فإن الاهتداء إلى عمق الرسالة الإنسانية، ومنارة الخلاص والنجاة يصير أمرا محتوما، وأرادت القوى المعاكسة والمضادة للحياة الإسلامية الأفول والاندثار، إذ سعت منذ زمن بعيد إلى استنـزافها، وطمس معالمها وجوهر قوتها، لكن الأجيال المسلمة ، التي تناقلت رسالة الحياة الإسلامية ، حالت دون ما قد يلحق هذه الحياة الخالدة من تهميش، لأن الإسلام قوة و حياة إنسانية قائمة بالذات الجماعية المسلمة .

إن مدار اهتمام الذات المسلمة هو العثور على هويتها، أو التمكن من معرفة الأصول والجذور الحضارية التي تنتمي إليها، لان هذه المعرفة وحدها هي الغاية التي تساعد الإنسان على تمثل حسه الفردي ووعيه الجماعي، وبدونها لن يستطيع أن يعرف وجهته، أو القيام بأداء رسالته على الوجه المطلوب في حاضره ومستقبله، ومن الواضح أن الذات الإنسانية المسلمة كانت وما زالت في حاجة ملحة إلى قراءة إرثها الحضاري بكل مكوناته، ذلك لأن هذا الإرث هو عبارة عن حلقة حيوية ورئيسة من التاريخ الإسلامي لتبين الوجهة وإيضاح الهوية، ثم إن الذات المسلمة تعيش في محيطها الاجتماعي تحولا دائما، وتنتقل عبر مستويات إدراك مثيرة، فهي دائمة البحث عن فضاءات وعي جديد بنفسها، وهو فعل ذاتي يحثها عليه هاجس المعرفة الطبيعي الكامن في عمقها باستمرار.

وفي مقام ختم هذا المقال، نأمل أن يكون جماع ما أتينا به في جزءيه، الأول والثاني، مجرد عتبة لوقوف الدارسين والباحثين على بعض ما يزخر به أدب السيرة الذاتية الإسلامية من ثمار معرفية، وجواهر إنسانية ...


د.أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

أبو شامة المغربي
22/02/2006, 11:52 AM
خصائص أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة




(الجزء الأول)
إن السرد القصصي كان و لا يزال يهيمن على الحس الإبداعي، وحس المتلقي في العالم العربي الإسلامي، وهو النمط السردي الذي غالبا ما تم نسجه، كما هو الشأن اليوم، حول شخصية محورية غائبة، ربما لأن الذات الكاتبة منذ وجدت وهي تنظر إلى الكائن القصصي المتخيل أحيانا ، على أنه ذات مجهولة، وعالم زاخر بالأسرار و الألغاز، وهي بالتالي تنطلق من هذا المعطى على أساس أن الإنسان كائن يسعى بذكائه وحدسه إلى حل رموز عالمه الداخلي وفتح مغالقه؛ إنه الكائن الوحيد الذي يجد نفسه في بحث دائم، واكتشاف متواصل، بين مد السؤال وجزر الإجابة .


وبالنظر من زاوية أخرى ، بإمكاننا ملاحظة التميز الذي تنفرد به الأساليب السردية العربية والإسلامية القديمة، التي تتخذها الأنا أو الذات الكاتبة مدارا و فضاء لتجليها بشكل مباشر، و هي نمط سردي، اعتمده معظم كتاب السيرة الذاتية الإسلامية في حقبة تأسيس الأدب الخاص، يندرج في إطار مزدوج يشمل النثرين: المرسل والمسجوع، والذي يوحي لنا أحيانا بالكيفية التي تصاغ بها الحكم و الأمثال ، و الأقوال المأثورة، وهي أنماط تعبيرية تجمع بين الشحنة الدلالية، و المعاني المركزة ، و العبارات الموجزة .


ولا يخفى أن هذا المنحى في الكتابة الأدبية كان مألوفا ومطروقا بكثافة، حتى إن منتجي هذا الأدب قديما، كانوا يتهافتون عليه و يجتهدون في إجادته و إتقانه، وهو يعد من السمات البارزة في تراث الأدب العربي الإسلامي، بالإضافة إلى كون الكثير مما ألفه العرب القدماء حول ذواتهم، قد تمت صياغته بكيفية متميزة تثير فضول القارئ، إذ أن كثيرا من العناصر الفنية التي أسهمت حديثا في بناء أدب السيرة الذاتية الإسلامية من الداخل، قد اشتمل عليها هذا الضرب من الأدب، عندما كان يجتاز طور التأسيس ، مما أهله ليسلك منذ طلائعه الأولى منحى قصصيا.


ثم إن تجاوب جمهور القراء على امتداد التاريخ مع الإنتاج الأدبي المبني على السرد القصصي، ساعد وشجع على رسوخ أدب السيرة الذاتية في العالم العربي الإسلامي من جهة، وعلى استمرار وجوده حتى عصرنا هذا، ومما أسهم كذلك في عدم انقراض هذا الفن الأدبي، ارتكاز مستويات حياة الإنسان التواصلية، خاصة منها الاجتماعية والمعرفية ، على عملية السرد المتبادل.

ومن بين الملاحظات الأولية التي بالإمكان تسجيلها في معرض هذه القراءة، كوننا نادرا ما نصادف سيرة ذاتية عربية إسلامية قديمة، استطاع صاحبها أن ينفذ بالوصف والتحليل إلى باطن ذاته، بقصد الكشف عما فيها من مظاهر الصراع النفسي والروحي، والوقوف على ما يقبع في أعماق النفس من آثار دفينة، وهذا القصور كان سببا في افتقار أعمال كثيرة إلى المادتين : النفسية، والاجتماعية ، فظلت سجينة المظاهر السطحية للحياة الشخصية، أو استعراضا لبعض الجوانب الخارجية .


ولعل من بين الأسباب في توجه المؤلفين العرب القدماء نحو العالم الخارجي، واهتمامهم بالانشغالات الموضوعية بالدرجة الأولى، ثم بقاء عالمهم الداخلي متواريا ومغمورا أكثر الأحيان، إنهم لم يفطنوا إلى الأهمية البالغة التي يكتسيها التعبير المسهب عن بعض الأطوار الحياتية، وخاصة طور الطفولة والنشأة ، وهذه الخاصية تكاد تكون قاسما مشتركا بين السير الذاتية الإسلامية القديمة.


وأما الذين اهتدوا من الكتاب العرب قديما إلى عملية الاسترجاع ، فنجدهم ينتقون أطوارا معينة من طفولتهم، ويختزلون الحديث عنها في رغبتهم المبكرة في طلب العلم، إذ كان طور الطفولة والصبا بالنسبة إليهم يجسد المرحلة الأولى التي ألهموا فيها الإقبال على العلم ومناهل المعرفة، والتي عملوا خلالها على ترسيخ الاجتهاد في ذواتهم رغبة في العلم، وتمرين نفوسهم على الصبر في سبيل ذلك؛ إنهم يتذكرون الطور الأول من حياتهم دون غيره من مراحل العمر المتقدمة، لكونهم يرجحون آثاره البعيدة في تكوين شخصيتهم، واختيار وجهتهم وسيرتهم في الحياة .


إن الانصراف المبكر إلى طلب العلم، وإيثار الجد على اللهو والعبث في سن الطفولة، ظل بين العرب القدماء، وأكثرهم من أهل العلم، والأدب، والطب، والفلسفة، والتاريخ، محط استفهام وإثارة، فهم لم ينسبوه إلى استعدادات فطرية، أو مؤهلات ذاتية وشخصية، وإن كان البعض أرجعه إلى التأثر بالوسط العلمي، وإنما عادوا به في الغالب إلى الإلهام والهداية من الله عز وجل .


ثم لقد كان هذا المنحى الظاهرة، بالنسبة إليهم، تجربة إنسانية مبكرة، لا ينفرد بخوضها والاهتداء إليها إلا القليل من الناس، ذلك لأنها لا تكتسي طابعا إراديا أو اختياريا؛ فهي فضل من الله تعالى، يهبه لمن يشاء من عباده، لكن هذه التجربة لا تعدم أسبابا ذاتية وأخرى موضوعية مساعدة، وإذا كان من النادر أن نعثر في السير العربية القديمة على إشارة، سواء من قريب أم من بعيد، إلى أثر الوراثة وفعلها التكويني المتصل أساسا بطبيعة الشخصية، فإننا نجد في بعضها كشفا عن تأثير البيئة في تكوين ذوات أصحابها .


إن معظم كتاب السيرة الذاتية الإسلامية القديمة كانوا يحاولون إقناع القراء ، تصريحا أو تلميحا، بان تجاربهم الفردية في سن الطفولة، تمثل لحظة وعي مبكر في مجرى حياتهم، وأنها كانت مبدأ نهجهم في الحياة، ومنطلق رسالتهم في الوجود، وكذا مستهل يقظتهم المعرفية، فكانوا يرون في طلب العلم مبكرا ، ومقاطعة أسباب اللهو في سن الصبا دليلا على النبوغ المرتقب ، والمكانة العلمية المنتظرة، بحيث كانت الغاية المرجوة عندهم هي الاقتراب من الذروة أو الكمال في مجالات العلم والمعرفة في مفتتح أعمارهم .


بناء على هذه الرؤية ، اقتنعت الذات المسلمة في الماضي بأن الإقبال منذ سن مبكرة على طرق أبواب العلوم والمعرفة، ما هو إلا نعمة من الله سبحانه وجب التحدث بها، فكان هذا الإدراك حافزا و باعثا كافيا للقدماء، حتى يسردوا علينا تجاربهم الاجتماعية، والفكرية، والروحية من خلال الأشواط التي قطعوها في سبيل تحصيل العلم ومعرفة النهج الحق في الحياة .


إن مختلف التجارب الفردية التي نصادفها في السير الذاتية الإسلامية القديمة تفصح بجلاء عن مدى عناية السلف بتطور الحياة الشخصية بشقيها: المادي والروحي، وتبين عن مبلغ التمسك بنشرها وإذاعتها بين القراء، وهي تجارب تم ذكرها للاعتبار واكتساب المعرفة أصلا، وذلك بالإطلاع على مضامينها القوية والمؤثرة أحيانا، فجاءت في مجملها ذات طابع تعليمي، ومنسجمة على مستوى توجهها ومراميها مع روح السيرة النبوية.


ثم إن الذات المسلمة لم تكن تطلب العلم نزوة واحتكارا، أو تنفق مختلف أطوار حياتها بغير رؤية واضحة وقصد معلوم؛ بل كانت تسعى جادة إلى اكتساب معرفة غزيرة وعلوم شتى، طلبا وسعيا منها إلى التزام الحق والإلمام بالحقائق، وفوق كل هذا كانت تحرص على نهج مسالك العلم رغبة في عبادة الله والتقرب إليه.


فنحن إذا أمعنا النظر قليلا في عدد من السير الذاتية الإسلامية القديمة، سنلاحظ ميلا لدى أصحابها ونزوعا إلى ذكر تفاصيل دقيقة ليست من قبيل الحشو والإسراف في الحديث، وإنما هي تفاصيل مهمة بالفعل، وقد صيغت بكيفية تضمن تواصلا سليما وفاعلا مع القارئ، بقصد إخباره بأمور معينة، وتقريبه من حقيقة المواقف، والأحداث، والحياة اليومية، والتجارب عموما، وإن سبب التمسك بالخطاب التعليمي، الذي يأخذ في معظم الأحيان صبغة وعظية وإرشادية، يكمن في الاعتقاد الراسخ للذات الكاتبة في الإسلام وتعاليمه، وفي الإيمان القوي بالله عز وجل، ثم في الوعي بالأمانة والمسؤولية التي حملها الإنسان، وارتبطت به دون غيره من المخلوقات، باعتباره كائنا عاقلا وخليفة في الأرض .


ولعل الظاهرة التعليمية، وتصوير الحياة العلمية، التي هيمنت على خطاب السيرة الذاتية العربية الإسلامية قديما، خير دليل على أنها كانت باعثا مباشرا وغاية في ذات الوقت، تتدرج الذات الكاتبة في ضوئها بسرد سيرتها، ابتداء من عهد الصبا، ومرورا بزمن الفتوة والشباب، ثم انتهاء إلى مرحلة الكهولة وبعدها طور الشيخوخة.


ثم إن الغاية التعليمية هي التي حدت بالذات المسلمة إلى رصد أحوالها وأفعالها، وسلوكياتها، بقصد ترجمتها في وضوح ودون تعقيد إلى جانب الأشواط التي قطعتها والتجارب التي خاضتها لأجل طلب العلم، وهذا الفعل التاريخي الهادف هو الذي يحيلنا على مدى عناية هذه الذات بمسألة التكوين العقائدي والفكري، فهي ذات تسعى في الغالب إلى الإحاطة بالجانب الاعتباري دون الجانب الوجداني لتكوينها، ثم إن العرب المسلمين القدامى لم يغفلوا في ما كتبوه عن ذواتهم ذكر شيوخهم، وتلاميذهم، ومصنفاتهم، فهم يحرصون على هذا الذكر أشد الحرص، وذلك باعتباره ركنا أساسيا في حياتهم العلمية، والأمثلة في هذا الباب كثيرة.



د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

الرباط .. المملكة المغربية

أبو شامة المغربي
22/02/2006, 12:09 PM
خصائص أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة

(الجزء الثاني)
لقد تحولت التجارب الفردية في الماضي مع كتاب السيرة الذاتية العرب المسلمين إلى ملك جماعي مشاع بين جمهور القراء، تستسقى منه الدروس والعبر، وكثيرا ما كان يلجأ العارض لسيرته الذاتية إلى بيان قصده وغرضه من كتابة تاريخه الخاص، وكشف رغبته في إشراك القراء، ودعوتهم إلى التأمل والتدبر الواسع.

ثم إن الذات المسلمة كانت قديما تدرك بعمق فائدة العملية التاريخية، ومقدار النفع الذي يجنى من رصد ومتابعة أهم الوقائع والأحداث في مسيرة الحياة الإنسانية، سواء على المستوى الفردي أم الجماعي، ومن ثم كانت كتابة السيرة الذاتية لدى قدماء العرب المسلمين لا تقل أهمية عن مسيرتهم العلمية، لأنها أداة يترجمون ويوثقون بها مجريات طلب العلم بدءا من طفولتهم إلى شيخوختهم، هذا بغض النظر عن الآثار المكتوبة التي يخلفونها في مختلف فروع العلم، والأدب، والتاريخ.

إن من يمتلك هذه الرؤية البعيدة المدى والشاملة، التي تشمل الماضي، والحاضر، والمستقبل، لا شك انه سينظر إلى كتابة سيرته الذاتية من نفس الزاوية، وتبعا لذات البواعث، المتمثلة في ما يلي:
أولا: إفادة طالب العلم .
ثانيا: الرياضة الفكرية .
ثالثا : الاستعانة بحصيلة الإنتاج العلمي في طور الشيخوخة.

ثم إن الكتاب العرب المسلمين أولوا عناية خاصة في الماضي بمسألة النسب، فبعدما كانوا في البداية يقتصرون على ذكر آبائهم، إذ دأبوا على هذا التقليد في التمهيد لسيرهم الذاتية حتى حدود القرن الخامس الهجري، نجدهم يهتمون أكثر بأنسابهم، ابتداء من القرن السادس الهجري، مجتهدين في أن يصلوها بأبعد أجدادهم، فمن النماذج التي نعثر عليها في القرن السادس الهجـري ، المندرجة في هذا الباب ، الفصل الذي كتبه علي بن زيد البيـهقي، المتوفى سنة 565 من الهجرة ، متحدثا عن نفسه، والذي أودعه في كتابه: "مشارب التجارب "، وقد حفظه ياقوت الحموي في "معجـم الأدباء"، وما ذكره عبد الرحمان بن الجوزي في مؤلفه: "لفتة الكبد إلى نصيحة الولد " .

ولا شك أن أصول هذا التقليد تعود إلى أحد مظاهر الحياة العربية التي سادت ما قبل الإسلام، حيث كان العرب ينظرون إلى أنسابهم ، وأمجادهم نظرة اعتزاز وفخر، ويتخذونها رمزا لشهرتهم ومكانتهم؛ بل ومادة محورية لشعرهم وأحاديثهم في الفخر والحماسة، حتى إنهم يبالغون في نظرتهم إليها، وقد أدرك الإسلام العرب، وهم أشد الناس حرصا على حفظ أنسابهم، ثم لقد تنوعت اختيارات كـتاب السيرة الذاتية في إخراج آثارهم الأدبية، فمنهم من أودع تاريخه الخاص في كتاب، ومنهم من أفرد سيرته الذاتية في رسالة أدبية، أو فلسفية، أو علمية مستقلة.

ثم من بين الخصائص التي تسم التقليد القديم في كتابة السير الذاتية، نذكر مسألة العنوان، التي على ما يظهر شغلت حيزا ملحوظا من اهتمام القدماء، الذين كانوا ينتقون عناوين تواريخهم الخاصة بدقة وعناية بالغة، وهي غالبا ما تجسد الباعث القريب أو البعيد على تأليف السير الذاتية، وتعين المدار الرئيس لهذا الضرب من التأليف، والأمثلة كثيرة في هذا الباب.
وحـتى نتبين مدى التطابق الحاصل بينها وبين المضامين التي تدل عليها ، يكفي أن نستعرض ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ العناوين التالية: "الاعتبار"، و"المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال" و"لطائف المنن والأخلاق في وجوب التحدث بنعمة الله على الإطلاق" و"التعريف بابن خلدون و رحلته غربا و شرقا"، و"بذل المجهود في إفحام اليهود"، و"لفتة الكبد إلى نصيحة الولد" .

إن السير الذاتية الإسلامية التراثية تختزل كثيرا من التجارب الإنسانية الأولى في العالم العربي الإسلامي، وهي تجارب تعكس أساسا المعاناة الفردية في المجتمع، فالشكوى من عداوة الأهل والحاسدين، والابتلاء بالسجن، ثم مجاهدة النفس اتقاء الانحراف والانغماس في مغريات الحياة الزائلة، جميع هذه المحاور وغيرها هي مدارات معاناة مشتركة بين كثير من أصحاب السير الذاتية التي حفظها لنا تراث الأدب العربي الإسلامي.

وفي أجواء السيرة الذاتية الإسلامية القديمة، نعثر على فضاء من المعاناة الفردية المركبة من الفقر والاغتراب في المجتمع، تفصح الذات المسلمة من خلاله عن محنتها، وتقلبات أحوالها بين ضيق ذات اليد وكدر العيش من جهة، والتجاهل من طرف أهل زمانها والمعاصرين لها من جهة ثانية، فهي ذات لم يتم تقديرها حق قدرها، ولم تلق من غيرها سوى الحسد والازدراء، والشماتة والإهمال.

ويمكن اعتبار مجموع التجارب الفردية ، التي نصادفها في أي سيرة ذاتية إسلامية قديمة، موضوعات تشكل جانبا من فضاء الذاكرة الإسلامية، فردية كانت أم جماعية، التي يحفظها تاريخ الأدب الإسلامي، في حين أن الذات الكاتبة المسلمة تترك الكلمة الأخيرة في حق مختلف التجارب موقوفة على درجة فهم المتلقي القارئ، و مستوى إدراكه واستيعابه للخطاب الموجه، الذي غالبا ما يكون ذا طابع تعليمي، مع العلم بأن فتور أو قوة العناية بخطاب السيرة الذاتية عموما رهينة بمدى الاهتمام بالشخصية الإنسانية.

إن الذات التي نحن بصدد اقتفاء آثارها و تجلياتها، استطاعت أن تحول ردود أفعالها إلى قوة نفسية، مكنتها من امتصاص كل الأفعال المضادة، فالإيمان الشديد بالله، فالقناعة، والأمل، والرجاء، والصبر، والعفاف، وطلب العلم ومعالي الأمور، جميعها قيم وعناصر ساعدت الأديب، والفقيه، والمفكر، والعالم على تجاوز محنهم ساعة الشدة والبلاء، وعلى الرغم من اشتداد وقع الاغتراب على الذات المسلمة، فإنها تخوض في وسطها الاجتماعي صراعا بالمعرفة والحكمة ضد الجهل والعبث.

وأمام قوة تأثير العوامل المعاكسة ، كان من الطبيعي أن تتصدى الذات المسلمة لكل عارض برد فعل أشد قوة، لكن النفوس الحساسة في مثل هذه الأحوال توكل أمرها إلى الله عز و جل، وتنزع إلى الارتداد نحو عالمها الداخلي، وتحتمي بالعزلة والانقطاع إلى الله تعالى عن الاجتماع بالآخرين، وهي تعلم أن ليس من سبيل إلا التزود بقوة الإيمان والصبر، وإلا ازدادت معاناتها بقدر حدة الأزمات النفسية.

إن القطيعة التي كانت غالبا ما تنشأ بين أفكار الإنسان المسلم وانشغالاته وتطلعاته، وبين الميول والأهواء السائدة، ظلت تزيد الهوة اتساعا بين الذات المسلمة ومعاصريها، نظرا لانعدام التجاوب المتبادل، وتباين السلوك والوجهة والأهداف، وعلى الرغم من قساوة الظلم الاجتماعي، وحدة العزلة والاغتراب، فإن قوة النفس المؤمنة حالت دون تكسير الرؤية المستقبلية للإنسان المسلم، بقدر ما حالت دون تقليص مداها، وحصر مدها في حدود ضيقة.

إننا نصادف الذات المسلمة في كثير من التجارب الروحية، وهي تشغل بؤرة الصراع الداخلي، وقلب المجاهدة النفسية، ومركز العقدة والحل، بحيث بإمكاننا ملاحقة تدرجها من الشك والأسئلة المقلقة إلى اليقين والأجوبة المطمئنة، ثم بالانتهاء إلى الزهد المعتدل والرؤية المستقرة، وذلك عن طريق النظر بالعقل وتحكيمه في ضوء العقيدة الإسلامية، ففي الوقت الذي يروج فيه الحديث في الغرب عن كون الرواية والسيرة الذاتية ليستا سوى وسيلتين يهدف الكتاب الغربيون من ورائهما إلى الخلاص من أسر الزمن، والنزوع إلى تأليه الإنسان من خلال تمكينه من القدرة على الخلق، نجد كتاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة لا يسعون إلى هذه الغاية، لأن الإسلام لا يدعو إلى تأليه الإنسان، أو إلى الدخول في صراع مع الزمن.

ولنا المثال الحي والدال، في عدد من التجارب الذاتية المحفوظة في جملة من الأعمال التراثية العربية الإسلامية، على ذلك الصراع الداخلي، وتلك الصورة الواضحة الأبعاد الرؤية المستقرة، التي تجمع بين الدين والدنيا، وتشغل الإنسان في أي زمان وأي مكان، ونحن نستطيع أن نحدد الأبعاد التي تشكل الرؤية أو الهاجس الملازم للكائن العاقل في ثلاثة هي:
أولا: البعد الداخلي، أو العالم الباطن الذي يعكف عليه الإنسان ليكشف حقيقته.
ثانيا : البعد الخارجي، أو العالم الظاهر الذي تتبادل معه الذات الإنسانية
التأثير والتأثر.
ثالثا: البعد الغيبي، أو عالم الغيب الذي ينشد إليه الإنسان، وتحاول الذات الفردية أن تعي علاقتها به، وتحدد موقفها منه.

إن المعاناة الفردية تبدأ عندما تحاول الذات الإنسانية أن تتجرد من جميع المعطيات، والمفاهيم المترسبة في غياب وعي ذاتي، واقتناع مؤسس، فتلجأ إلى هدم الأفكار الجاهزة، والرؤى المكتسبة تقليدا وإتباعا، ثم تبني أفكارا، ورؤى، واقتناعات جديدة على أساس من اليقين والاجتهاد العقلي.

لقد كانت مسألة التقليد العقدي، وكثرة التأويلات، والبدع، والفرق المذهبية السائدة قديما علامة استفهام كبرى، ومبعث ارتياب وقلق يؤرق الذات المسلمة، ويحفزها في آن واحد، بهداية من الله عز وجل، على طلب الحق، والعلم بأصول الحياة الإسلامية، وبالتالي تأسيس رؤية واعية وواضحة، تشمل الإنسان، و عالمي : الغيب والشهادة، والعقيدة الصحيحة.

ثم إن خاصية البحث عن الحقيقة و إيثار الحق كانت قاسما مشتركا بين أمثال ابن الهيثم وأبي حامد الغزالي، وعاملا مشجعا لهم على أن يتخذوا أنفسهم قدوة للآخرين، ولم يكن الواحد منهم يدعي أن له يدا في كل الذي بلغه من العلم، وناله من رفعة شان وسمو مكانة؛ بل إنهم كانوا يعودون بهذا الكسب والحظ الثمين إلى الله عز وجل موجده وخالقه. لكن في الوقت نفسه لم يكن أي واحد من المسلمين القدماء ينفي اجتهاده المتواضع بأفعال التقوى وأسباب التوكل في طلب العلم، واكتساب الحكمة والمعرفة، بقصد المجاهدة النفسية، والدعوة إلى الله تعالى.

إن الذات المسلمة تعي جيدا أنها توجه خطابها إلى من هم دونها تجربة من العامة والمبتدئين في طلب العلم، وهي تفعل ذلك انطلاقا من تجاربها الفردية، ورصيد خبرتها، وخلاصة تمرسها، وعصارة حنكتها، وهي أيضا توجه خطابها ليس من موقع الاستعلاء، أو رغبة في المن والرياء؛ بل إنها تسخره في الدعوة إلى الله، وتريد به الإصلاح ، بحكم أن العمل من أجل هذه الغاية هو واجب ومن تعاليم الإسلام ومرتكزاته، ويكفي أن نذكر هنا بكون النصيحة جامعة للدين كله.

ثم إن مختلف الخصائص الشكلية والمضمونية التي حاولنا كشفها واستعراضها، تعد إلى جانب بواعث الكتابة سمة مشتركة بين جميع السير الذاتية الإسلامية التراثية، ومن ثم فإنها تمثل في الغالب أهم الثوابت التي بإمكانها أن تساعد على اختزال أي قراءة محتملة أو مرتقبة في خطابها.

وعند ختم هذا المقال، سنترقب بشوق كبير من كافة المهتمين بأدب السيرة الذاتية إسهاماتهم في نقاش ونقد ما بسطناه من أعلى هذا المنبر الجميل من أفكار وتأملات متواضعة، فهل سيأتينا بالنقد والتمحيص من لم نزود؟


د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

الرباط ..المملكة المغربية

أبو شامة المغربي
22/02/2006, 12:28 PM
نظرة في خطاب أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة

من بين المعايير المعتمدة في تحديد مقومات أي جنس أدبي، ثم ضبط هويته و موقعه بين باقي الأجناس الأدبية، هناك: مستوى الصياغة التي تهتم بتشكيل الخطاب، وطبيعة المضامين التي تتقيد بالدلالة المقصودة، بالإضافة إلى كيفية تقديمها، ونوعية التركيب الذي يسم أسلوب الكتابة، ويهدف به الكاتب إلى تبليغ ورسم أبعاد خطابه، ثم الوظائف الخطابية التي تدل على آثار الخطاب وتكشف عن آفاقه.

فجميع هذه المعايير وغيرها تقتسم أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وتجعل منه في النهاية شبكة من الموضوعات الأساسية والفرعية ، تقوم بالحفاظ على توازنه الإبداعي، بحكم أن كل موضوعة تمثل مركز ثقل خطابي، وقطبا يختزل شحنات دلالية، تنتظم بدورها نسيج العلاقات الداخلية للخطاب، وسنحاول في هذا المقال أن نكشف بإيجاز شديد مظاهر خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وأن نبحث في مكوناته الكبرى، وفي طبيعة حمولته المتنوعة، اقتناعا منا بأن الخطاب الأدبي ليس مجرد صياغة وتركيب، ومضامين ووظائف؛ بل إنه نتاج ذو مظاهر ومكونات أكثر تشعبا، وكائن ينطوي على خفايا و أسرار، ويتشرب عناصر دقيقة ومجردة، تضرب بجذورها في ذات الإنسان وذاكرته .

ثم إن الحديث بالدرس والتحليل عن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث، يعني كذلك البحث في بواعثه ودرجة الصدق التي ينطوي عليها، ونحن نطمح في هذا الفصل من الأطروحة إلى أن نحيط أكثر بهذه المحاور، وإلى أن نوسعها نقدا و توضيحا، على أن نتخذ هذه الخطوة ـ التي تقتضيها الضرورة المنهجية ـ تمهيدا مفصلا في مدارات، قبل الانتقال إلى معالجة ميثاق قراءة السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وبواعث تلقي هذا الضرب من الأدب الإسلامي.

ونحن عندما نتناول بالفحص متن هذا الفرع الأدبي الإسلامي الحديث، لا نجد أنفسنا أمام مادة أدبية يستعصي فهمها وتأويلها، أو إزاء خطاب أدبي يتعذر علينا الوصول إلى معرفة تامة به، ذلك لأننا لسنا بصدد خطاب أدبي تخييلي، تتداخل وتتلاحم فيه العناصر الواقعية بالعناصر الخيالية، وإنما نحن نطرق باب خطاب لا يقترح عوالم تخييلية، سواء من داخله أم من خارجه، وبالتالي يعرض تجارب ذاتية إنسانية واقعية.

ثم إننا نرى أن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، يتمتع بحياة متعددة، بحكم ارتباطه بالأزمنة الثلاثة (الماضي، والحاضر، والمستقبل)، مما يؤهله ليكون إشارة مفتوحة على كثير من المعاني والدلالات، على الرغم من التباين المبدئي القائم بين جنس السيرة الذاتية وباقي الأجناس الأدبية التخييلية.

فلا سبيل إذن إلى إسقاط طبيعة الخطاب الأدبي التخييلي على الطبيعة الخاصة بخطاب السيرة الذاتية المعتمدة على التجربة الواقعية، ثم لا يحق لنا أن نبرر عملية الإسقاط باحتمال اتفاق الهدف، وبكون باب التأثير المتبادل بينهما سيظل مفتوحا، و ناء على ما تقدم ذكره، نجد أنفسنا لا نشاطر رأي جورج ماي (GEORGES MAY) في هذه المسألة، إذ عوض أن يفضي به البحث إلى رسم حدود صارمة، تفصل ما بين السيرة الذاتية والأجناس المجاورة لها، نراه يؤكد على عدم وجود أي حد فاصل بين أدب السيرة الذاتية و أدب الرواية.

ويكفي أن ندفع هذا الرأي بالتنبيه إلى ما يتفرد به خطاب السيرة الذاتية من قراءات متميزة ، سواء كانت عادية أم نقدية أم إبداعية، هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار الكيفية التي سيتعامل بها القارئ مع هذا النص أو الخطاب الأدبي، وهي بداهة ليست نفس الكيفية التي سيتعامل بها نفس القارئ مع نص قصصي، أو نص روائي، أو نص شعري على سبيل المثال .

ثم إن من الخصائص الجوهرية للسيرة الذاتية كون صاحبها عاجز عن بلوغ الغاية المتمثلة في "الموت"، وقول الكلمة الأخيرة في حياته، ومن ثم فإن أدب السيرة الذاتية هو رحلة تبدأ من حاضر الكتابة وتنتهي إليه، وهي الرحلة التي تتم في حركة دائرية ببعديها الزماني والمكاني، لكن هل صحيح أن خطاب السيرة الذاتية لا يستطيع أن يتجاوز أحادية رجع الصوت الواحد؟ وأنه يفتقر إلى إمكانات الرواية الإبداعية ؟!

ونحن لا نتفق مع من يرى هذا الاعتقاد، لأن ما نصادقه للوهلة الأولى من رجع الصوت الواحد في خطاب السيرة الذاتية، ليس في الواقع وجوهر الأمر إلا مرآة تتراءى على صفحتها عدة أصوات، ومدخل إلى عالم يحفل بتعدد أصوات قراءة أدب السيرة الذاتية.

إن قراءة خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يجب أن تتم بحس واقعي، بخلاف باقي الخطابات الروائية وغيرها، مما ينتمي إلى الأجناس الأدبية التخييلية، التي ستقرأ بحس تخييلي، لكن هذا لا يعني أن هذه الخطابات لا علاقة لها بالواقع، أو أنها ذات مضامين جوفاء؛ بل إنها في الحقيقة عبارة عن منافذ تفضي في أغلبها بالمتلقي إلى الحياة الواقعية بأدق تفاصيلها.

فما أدب السيرة الذاتية إلا جزء من الظاهرة الإبداعية على المستوى العام، وهذا شأن كل الخطابات الأدبية التي تحكي التجارب الواقعية، وكل من يلقي نظرة متأملة على مختلف الاتجاهات الأدبية في مختلف المراحل التاريخية، يعثر على ذلك التجاوب القائم بينها وبين جميع مناحي الحياة الاجتماعية الواقعية، وهي اتجاهات تعكس نبض المجتمعات وما يسودها من مفاهيم وقيم.

ثم إن غزارة وغنى المضامين والقضايا، وكثافة الموضوعات والأحداث التي نصادفها بوجه خاص في خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، هي من بين المعطيات التي نادرا ما نعثر عليها في الأدب العالمي الحديث، شعره ونثره، ومن ثم ستبقى هذه المعالم من أبرز سمات الخطاب الأدبي الإسلامي، الأكثر تميزا واغترابا في هذا العصر، على الرغم من أنه عمل على ملء فراغ كبير، وحرص على تقريب المسافة بين الذات الإنسانية ـ العربية والأعجمية ـ والإسلام.

وقد استطاع الخطاب الأدبي الإسلامي أن يجلي كثيرا من الحقائق التاريخية، التي أفرزها مجرى التحولات والاضطرابات في العالم العربي الإسلامي الحديث، حتى إنه يمتلك من خلال أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة من الخصب والتنوع، ما قد لا تمتلكه السيرة الذاتية، وهي الجنس الأدبي المنفتح على المضامين الأكثر تشعبا .

إن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة نتيجة نهائية لتراكيب ومناهج معينة؛ إنه من جملة الخطابات الأدبية الإسلامية المرتبطة أصلا بذات مسلمة فاعلة، وذاكرة إسلامية حافظة، ثم إن هذا الخطاب الأدبي الإسلامي ينفرد بخاصية جوهرية، وهي أن الذات المنتجة له ليست أحادية، وإنما هي ثنائية: عربية وأجنبية، كما أنه خطاب ذو قواسم مشتركة يكمل بعضها بعضا، على الرغم من اختلاف المعطيات البيئية، والثقافية، والاجتماعية و غيرها بين الحضارة العربية الإسلامية و الحضارة الأجنبية.

ثم إن لكتابة السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة اليوم، وأكثر من أي زمن مضى، دورا كبيرا وفعالية لا تقل أهمية عن باقي خطابات الأدب الإسلامي الحديث، خاصة مع اكتساح الآداب، والمفاهيم، والقيم الغربية للبلاد العربية الإسلامية، التي انبهر كثير من مثقفيها بكثير من الإنتاجات الأدبية الغربية، التي لا صلة لها بواقع الحضارة الإسلامية، وأخلاق المسلمين، وثقافتهم، وعقيدتهم .

ونحن موقنون بأن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة سيظل أحد أبرز مظاهر الأدب الإسلامي المتميزة في العصر الحديث، وأداة خطابية مؤهلة لتحقيق تواصل أدبي فاعل ومثمر، فضلا عن اعتباره مجالا فسيحا للدعوة إلى الإسلام، ومعينا لا ينضب من المواد التاريخية، والاجتماعية، والنفسية الموحية، ومن العناصر الفنية التي تبعث على الإبداع الأدبي، إذ باستطاعة كل أشكال التجارب الذاتية، والمعاناة، والأفكار، والرؤى، والمواقف، والمشاهد المسترجعة، وكذلك الفضاءات المكانية والزمانية أن تنمي في الذات الكاتبة والذات القارئة حسا فنيا وحدسا جماليا رفيعا.

د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

الرباط ..المملكة المغربية

أبو شامة المغربي
22/02/2006, 12:57 PM
أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة في ظل التجديد والإبداع

بعد انتهاء طور البحث عن الذات وتمثل الهوية العربية الإسلامية، اتسعت دائرة الوعي الحضاري لدى الإنسان العربي المسلم، وتنامت في أعماقه قوة الإحساس بأهمية التأريخ الفردي في بناء تاريخ الجماعة، ومن ثم خلص به عصر النهضة إلى طور التجربة والتعبير عن الذاتية الفردية ، ومن خلالها عن الذات الجماعية، وعن الكيان العربي الإسلامي.

لقد كان للتحولات الجديدة ـ في مستهل العصر الحديث ـ بالغ الأثر على الذات العربية المسلمة، التي دخلت عهدا حاسما في مسيرتها الحضارية المتعثرة، وكانت جميع هذه التحولات شحنة قوية، أسهمت كثيرا في تجنيس أدب السيرة الذاتية داخل العالم العربي الإسلامي .

ولا شك أن السيرة الذاتية العربية الإسلامية الحديثة، في شكلها الأدبي الفني، قريبة النشأة، إذ لم تعرف أي تطور منهجي فني إلا مع حلول العقود الأولى من القرن العشرين الميلادي، حيث تحولت إلى لون جديد من التجربة الفردية و التمثل الذاتي، وهو لون أدبي ارتبط وجوده بمختلف أشكال المعاناة التي ابتليت بها الذات العربية المسلمة، وجاءت نتيجة عدة تراكمات تاريخية في حياة الشعوب العربية المسلمة.

لقد أفاد كتاب السيرة الذاتية الإسلامية المحدثون مما في تراث الأدب العربي الإسلامي، ومما اطلعوا ووقفوا عليه في الآداب الأجنبية، كما استطاع معظمهم أن يخطوا بقيم، وقواعد، وخصائص أدب السيرة الذاتية ـ سواء الفنية التعبيرية أم الشعورية ـ خطوات ملحوظة وذات أبعاد بالغة الأهمية، وقد تأتى لهم هذا الكسب الأدبي الثمين بفضل الأشواط الكبيرة التي قطعوها في مجال الكتابة الأدبية، والتجارب الغنية التي عرفها الإبداع الأدبي العربي الإسلامي بوجه عام، وأدب السيرة الذاتية بصفة خاصة، وذلك في ظرف تاريخي أكثر اضطرابا وتوترا .

ثم إنه بقدر ما اطلع الكتاب العرب المسلمون قديما على ما كتبه الفارسيون و اليونانيون من سير ذاتية في العصر العباسي، بقدر ما عرفوا حديثا الكثير مما ألفه الغربيون خاصة من سير ذاتية، وقد استفادوا في هذا الباب من مناهجهم المتبعة في الكتابة، حتى إن من الباحثين العرب من يرى بأن اطلاع الرومنسيين العرب على الآداب الغربية مكنهم من التعرف على أجناس أدبية جديدة ، ما ألفها العرب من قبل، بمثل ما رسخت به عند الغربيين من أصول ثابتة وقواعد متداولة، بحيث كانت هناك محاولات في الإنتاج الأدبي الرومنسي لتفعيل الرواية، والقصة، والمسرح، وأجناس جديدة مرتبطة بأدب السيرة الذاتية، مثل المذكرات وغيرها.

ولا شك أن كثيرا مما يندرج في أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة قد احتفل بجملة من المعالم الفنية، التي صارت من التقاليد المتبعة حديثا في كتابة السيرة الذاتية، بحكم أنها تبعث القارئ على تلقي هذا الضرب من الأدب والتفاعل معه.

فهل كان سلطان الشعر على الثقافة العربية هو العامل الذي حال دون اتساع الأدب العربي الحديث للأجناس الأدبية الجديدة: القصة، والرواية، والسيرة الذاتية، والمسرح؟؟

ثم إن أدب السيرة الذاتية الذي رأى النور في العالم العربي الإسلامي، ابتداء من مطلع القرن الماضي، لم يضق بما رحبت به الحياة الاجتماعية، والعقدية، والفكرية، والسياسية، التي يحياها الكتاب العرب المسلمون، ومن ثم انفردت بقيمة معرفية وأدبية تاريخية متميزة، خاصة وأنها آثار أدبية شاهدة على معاناة وهموم، وانشغالات وطموحات الذات العربية المسلمة، ولا شك أن الطور التجنيسي الذي عرفه مسار أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة قد شهد ذلك الصدام القوي بين العالمين : العربي الإسلامي والغربي.

ونستطيع أن نتبين لدى كثير من الكتاب العرب المسلمين المحدثين، الذين طرقوا باب أدب السيرة الذاتية، ذلك الشعور المتنامي بالاغتراب داخل مجتمعاتهم، وذلك النزوع القوي إلى الثورة والتمرد على عدد من الأفكار، والتقاليد، والطقوس المتوارثة، و الجملة، فإننا نصادف في أعمالهم مناحي ومنازع مستجدة، لم يكن لها حضور مكثف في تراث الأدب العربي الإسلامي.

ومما يجدر ذكره كذلك ، هو التزام أكثر كتاب السيرة الذاتية العربية الإسلامية في العصر الحديث ـ سيرا على نهج أسلافهم ـ بطبيعة الروح الإسلامية ، التي تنكر بقوة ظاهرة التعري النفسي الساقط، وترفض بكل صرامة خدش الحياء أو تجاوز المبادئ والقيم الأخلاقية الإسلامية، وتعبر عن الحرص الشديد على سلامة الفطرة الإنسانية ، حتى لا ينال منها أي زيغ أو فساد .

ومن جملة ما اتسم به طور تجنيس أدب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث، أن كثيرا من كتاب هذا الأدب لم يميلوا إلى تمجيد ذواتهم والعجب الشديد بها، كما أنهم اتصفوا بصدق الحديث ونظرتهم الموضوعية إلى ذواتهم وغيرها من الموضوعات، ثم إننا نجدهم يحصرون عاطفتهم نحو المرأة بإشارات سريعة دون المكاشفة الفاضحة، ثم إن تطور العلوم، واتساع دائرة الاكتشافات، وكذا الانفتاح على آفاق جديدة في مختلف مناحي الحياة، وتوالي تراكم أنماط متنوعة من المحدثات الفكرية ، والاجتماعية ، والسياسية ؛ جميعها عوامل ساعدت كاتب السيرة الذاتية في العالم العربي الإسلامي على الاقتراب من ذاته بالوصف الصادق الدقيق، مجتهدا في الابتعاد عن نزعة الغرور، وحريصا على أن يكون في منأى من أي تحيز.

وعلى إثر هذا التحول الذي نمى و رفع من مستوى وعي الكاتب بتقاليد الكتابة ذات التقاليد الموروثة والمحدثة والفاعلة في صياغة أدب السيرة الذاتية، صار للأدب الذاتي والتأريخ الفردي الخاص في مختلف الآداب العالمية، وفي الأدب العربي الإسلامي بوجه خاص، مفهوم ومدلول شبه مستقر، وصورة أكثر وضوحا في الأذهان، فغدت له هوية أدبية تاريخية، تميزه عن باقي الأجناس الأدبية، ومكانة فنية جمالية.

ومن المؤكد كذلك أن الصفة الفنية لم يتم تحقيقها للسيرة الذاتية العربية الإسلامية الحديثة إلا عبر الفن الروائي، مرورا بالفن القصصي، الذي أسهم كثيرا ـ و منذ طور تأسيس أدب السيرة الذاتية العربية ذات السمة الإسلامية ـ في إمداد الكتابة التي تتخذ الذات موضوعا بالهوية والسمة الفنية، وبالتالي كان يمثل البوابة الأولى التي مكنت أدب السيرة الذاتية في البلاد العربية الإسلامية من الدخول في طور التجنيس .

وقد ساعد تطور النقد الأدبي والنظرية الأدبية في العصر الحديث، من خلال مجموعة من التيارات والمدارس على تطوير أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية، وتكوين ثقافة ورصيد معرفي خاص بهذا الفرع الأدبي الإسلامي، ومن بين أهم معطيات ذلك التطور المطرد، نذكر: ظاهرة النزوع إلى التصنيف والتجنيس الأدبي، بحيث لم يعد التنظير منحصرا في عموم الشعر ومجموع النثر؛ بل اتسع مجاله ليشمل الأجناس الأدبية، وأشكال ومكونات كل جنس أدبي على حدة، ومن عمق هذا التطور في الفعل النقدي والتنظيري، تمكن أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية الحديثة من إحراز كيان أدبي مستقل عن كتابة التاريخ العام، أما التحول النوعي الكبير، الذي عرفه تاريخ هذا الأدب، فتمثل في كتابة السيرة الذاتية الفنية.


لقد مر أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة بثلاثة أطوار تكوينية رئيسة:

أولها: طور التأسيس، أو مرحلة التجريب والمحاولات الأولى في تاريخ الأدب العربي الإسلامي.
ثانيها: طور الإحياء والبعث، أو مرحلة المحاكاة والتقليد.
ثالثها: طور التجنيس، أو مرحلة التجديد والإبداع .

و هذه الأطوار التكوينية الثلاثة أثمرت بدورها ثلاثة ضروب من أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية، وثلاثة أنماط من الوعي موازية لها تاريخيا، فأما ضروب هذا اللون الأدبي، التي عرفت على التوالي، منذ القرن الثالث الهجري، الموافق للقرن التاسع عشر الميلادي وإلى غاية اليوم ، فهي:
الأول : السيرة الذاتية التأسيسية، التي سادت ابتداء من القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي وإلى غاية القرن التاسع الهجري / الخامس عشر الميلادي، وبذلك يكون هذا الضرب قد امتد حوالي سبعة قرون من التاريخ
الثاني: السيرة الذاتية التقليدية، التي امتد وجودها ابتداء من القرن الثالث عشر الهجري/ أواخر القرن الثامن عشر الميلادي وطوال القرن التاسع عشر الميلادي وإلى غاية حدود النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري/ بداية القرن العشرين الميلادي، بعد مضي أربعة قرون تقريبا من الركود الشامل ، الذي عانى منه العالم العربي الإسلامي .
الثالث: السيرة الذاتية الفنية، وقد سجلت حضورها في منتصف القرن الرابع عشر الهجري/ ثلاثينيات القرن العشرين الميلادي، لكن ما يسمها حتى اليوم هو كمها القليل، فهي تحاول أن تثبت وجودها وتضرب بجذورها الفنية عميقا في أرض الثقافة الأدبية العربية الإسلامية، وأما أنماط الوعي التي واكب كل واحد منها وتزامن مع أحد الأضرب التي ذكرنا، فهي التالية :
الأول: الوعي التأسيسي، و هو وعي التجريب الذي ساد في الحقبة الأولى.
الثاني: الوعي التقليدي، وهو الوعي الذي جمع بين الإحياء والمحاكاة.
الثالث: الوعي التجنيسي، ونقصد به النزوع بحس فني وجمالي إلى تحديد ماهية، وقواعد، وخصائص أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية، في ضوء مستحدثات التجديد ومستجدات النقد والإبداع.

وثمة ثلاث ظواهر أو معالم بارزة طبعت مسيرة أدب السيرة الذاتية في البلاد العربية الإسلامية، وذلك ابتداء من العقد الثالث في القرن العشرين، وهي:
الأولى: تمثلت في التحول من كتابة السيرة الذاتية التقليدية إلى تأليف السيرة الذاتية الفنية، وهذا التحول الكبير يشهد على مدى تطور مستوى الوعي بأدب السيرة الذاتية، ثم بحجم الإضافة الثقافية ، التي أغنت المنظومة المعرفية الخاصة بهذا الجنس الأدبي.
الثانية: تجسدت في استكمال أدب السيرة الذاتية لشروط و مقومات الجنس الأدبي.
الثالثة : اختزلتها الكتابة في دائرة المكونات الكبرى ـ أو ما يسمى بالأجناس الأدبية الصغرى ـ الخاصة بخطاب أدب السيرة الذاتية .

أما الظاهرتان: الأولى و الثانية ، فكانتا بحق تجسيدا لتطور جلي، و تحول بارز عرفه تاريخ الأدب العربي الإسلامي في العصـر الحديث، و تحديدا سنة 1929 ميلادية، لما نشر طه حسين الجزء الأول من سيرته الذاتية "الأيام "، فكان هذا الحدث مدخلا إلى طور التجنيس في تاريخ أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية، وثمرة احتكاك ثقافي بين العالمين: العربي الإسلامي والغربي، أما كتاب "الساق على الساق فيما هو الفارياق" لأحمد فارس الشدياق، فعلى الرغم من سبقه في البلاد العربية بأزيد من سبعة عقود قبل بزوغ كتاب (الأيام)، إلا أن التسليم بكونه سيرة ذاتية فنية مكتملة يعد من قبيل الإسراف في الوصف والحكم .

وأما الظاهرة الثالثة، فتجسدت في ذلك النزوع من قبل الكتاب العرب المسلمين المحدثين إلى إدراج مجموعة من إنتاجاتهم الأدبية في إطار أحد أو جملة من المكونات الكبرى ـ الأجناس الأدبية الصغرى ـ الخاصة بجنس السيرة الذاتية، إذ قاموا بتصنيف بعض من كتاباتهم تمييزا لها، وذلك تبعا لعدد من الاصطلاحات الأدبية الدالة على مكون خطابي معين، مثل: المذكرات، والذكريات، والاعترافات، واليوميات، ومما يثير الاستغراب في أكثر الأبحاث والدراسات العربية، التي عالجت أدب السيرة الذاتية في العالم العربي الإسلامي، هو احتفالها بما كتب في هذا الباب من طرف أدباء وعلماء المشرق العربي، وخلوها من أدنى إشارة إلى حظ المغرب العربي من هذا الأدب !!

ثم إن من جملة ما أثار انتباهنا في بعض الدراسات التي تناولت أدب السيرة الذاتية العربية الحديثة، هو ذلك الاختزال ـ الذي كان يطل علينا بين الحين والحين ـ المقصود ربما أو غير المتعمد لهذا الضرب من الأدب في السيرة الذاتية المصرية، واتخاذها مقياسا، وهذا يذكر بما ساد ويسود من اعتقاد حول مركزية مصر الأدبية، وإذا كان الأدباء والعلماء العرب المسلمون قد أسهموا بحظ من كتاباتهم في التأسيس لأدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية، وهي كتابات موسومة بخصائص معينة، فإن أدب السيرة الذاتية في العالم العربي الإسلامي الحديث والمعاصر على حد سواء، قد خطا به الكتاب المحدثون خطوات نوعية في سبيل تجنيسه.

لقد تحققت في بعض من أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة جملة من السمات، التي تشهد له بالدخول في طور التجنيس، ويكفي أن نذكر منها :
1 ـ تقصي أثر الأحداث في باطن الذات الكاتبة.
2 ـ الكشف عن أهم الجوانب من الحياة الفردية، وبسط الحقائق المتصلة بها.
3 ـ تصوير الصراع الداخلي والخارجي.
4 ـ الحديث عن أثر الوراثة والبيئة في تكوين الشخصية.
5 ـ سرد الأحداث والوقائع حسب التسلسل الزمني.
6 ـ الكشف عن معالم الأمكنة والأزمنة.
7 ـ الترسل في السرد، والابتعاد عن الأسلوب التقريري الجاف.
8 ـ توظيف الأساليب المقالية، والقصصية، والروائية.
9 ـ التزام الصدق وقول الحقيقة في حدود معينة.
10 ـ الإفصاح عن باعث أو بواعث الكتابة.

ثم إن من سمات أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة في طوره التجنيسي، ذلك الميل الذي نلمسه بوضوح لدى أصحابه إلى توظيف الألفاظ والعبارات الدارجة في الحوار وغيره، ولنا في ما كتبه عدد من ألفوا في هذا الباب أمثلة كثيرة، وكان من شأن توظيف الكلمات الدارجة ـ خاصة المصرية منها والمغربية ـ في متن السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة أن مكن الكتاب من إضافة بعض القيمة الأدبية، المتمثلة في التصوير الفني للوقائع والأحداث، وللمشاهد والمواقف المختلفة، ثم تقريبها أكثر من القارئ، وذلك بقصد أن تنجلي في ذهنه، ورغبة من جهة ثانية في الحفاظ على الشحنة الدلالية للألفاظ والعبارات العامية في سياقات تعبيرية محددة، والباعث على هذه الرغبة، هو الحرص على نقلها بأمانة إلى المتلقي.
أما وقد بلغنا هذه الغاية من الختم، فإننا نأمل أن تكون هذه المساهمة المتواضعة باعثا على بحث ودراسة أدب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث، ومثيرا في ذات الوقت لأكثر ما يمكن من الأسئلة النقدية ذات الصلة بأدب السيرة الذاتية، الذي لقي غير يسير من التهميش، بقدر ما ناله من التجاهل نيلا منكــــرا ...فهل من رد للإعتبار؟

د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

الرباط ..المملكة المغربية

طارق شفيق حقي
22/02/2006, 01:05 PM
سلام الله عليك

أهلا بك أخي الكريم في المربد


السيرة الذاتية كانت البداية

بحوث هامة جداً
لكن أولا دعنا نرحب بك في المربد فأهلاً وسهلا بك

أبو شامة المغربي
22/02/2006, 02:44 PM
آفاق تلقي أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة

إن لجنس السيرة الذاتية أنفاسا فنية ، تتردد في كل الأعمال الأدبية: الشعرية والنثرية، فهو جنس يمثل الخفاء الذاتي في عمق الخطاب الأدبي، بينما تعيش "الذات" في أدب السيرة الذاتية أقوى تجلياتها، وذلك من خلال إعلان الكاتب عن نفسه بكشف (أناه) الساردة، وإبرام عقد مصارحة مع القراء، وبناء على هذا الطرح، فإن السيرة الذاتية تمثل النص الغائب في مجموع الكتابات الأدبية، المندرجة في باقي الأجناس الأدبية، أو الخطاب المتواري الذي لم يجسد أصحابه مادته اللغوية بعد .

وعلى الرغم من غياب هذا التجسيد الأدبي لدى أكثر الكتاب، فإن إنتاجاتهم النثرية والشعرية تحمل منه قليلا أو كثيرا، وهذا واقع بالإمكان أن نهتدي به إلى الإقرار بأن ثمة عملية تناص بين الأعمال الأدبية الحاضرة، سواء كانت قصة، أم رواية، أم قصيدة، أم غيرها والأعمال الأدبية الغائبة ، و على رأسها السيرة الذاتية، ولكي يمسك الكاتب سيرته، نراه يلجأ إلى التأليف في دائرة مختلف الأجناس الأدبية، فيتخذ منها مركبا و جسرا يعبر على متنه إلى حيث يلقى حقيقة وجوده وماهيته في هذه الحياة .

ولا شك أن السيرة الذاتية من أعقد وأصعب الأجناس الأدبية، بحكم أنها نشاط إبداعي ليس من السهل القيام به، لأن أكبر تحد يواجهه مؤلف السيرة الذاتية ، هو كيفية الإحاطة بذاته كتابة على الرغم من اتصاله الوثيق بها ، ولعل ما يسم مفهوم السيرة الذاتية من اختلاف محكوم بتنوع القراء ـ و منهم أهل الاختصاص ـ وتشعب نظرتهم إلى هذا الجنس الأدبي، لمن أدل مظاهر الصعوبة التي تكتنف الجهاز المفاهيمي الخاص بأدب السيرة الذاتية.

إن إمعان الأدباء، و المفكرين، والمؤرخين و غيرهم في الكتابة، ما هو إلا دليل على سعيهم الدائب إلى الإمساك بحقيقة وجوهر ذواتهم ، خاصة إذا ما علمنا أن الباعث على كتابة السيرة الذاتية كثيرا ما تتم تلبيته في عمل أدبي آخر ينفرد بأهمية متميزة لدى الكاتب، وعلى أساس هذا المبدأ، تتحول ذات المبدع إلى أفق انتظار، وملمح يصل بين الحلم والحقيقة ، بحيث أن للكاتب قناعة بكونه سيتمكن يوما من إدراك سر الذات الإنسانية و لغز الحياة، ثم إن المسافة الإبداعية التي يقطعها من يكتب سيرته الذاتية بحثا عن حقيقة ذاته ووجوده، ما هي في واقع الأمر إلا تجربة معرفية، يقدم عليها ليكتسب وعيا بذاته والعالم الذي ينتمي إليه، فهو في ترحال دائم بقصد البحث عن توازنه واستقراره، ولاكتشاف مجاهله، ورفع الحجاب عما خفي من حقيقته البشرية.

إن جدلية الخفاء والتجلي، التي تسم فضاءات الذات الساردة لتاريخها الفردي، تثير ـ على ما يبدو ـ مسألة الحدود الفاصلة بين الأجناس و تدعو الناقد، والباحث، والمهتم عموما بأدب السيرة الذاتية إلى إعمال النظر في مدى مصداقية هذه المسألة، ذلك لأن القول بالقطيعة في ما بين الأجناس الأدبية لا أساس له من الصحة ، إذا ما تفحصنا جيدا واقع الكتابة الأدبية ـ قديمها وحديثها ـ ونحن نعلم أن القدماء لم ينظروا إلى إنتاجهم الأدبي نظرة تصنيفية، تقوم على مفهوم الجنس الأدبي؛ وإنما نظروا إليه مصنفا إلى نثر وشعر أما مسألة الأجناس الأدبية، التي صارت متداولة حديثا، فهي إجراء منهجي خاص بالدراسات النقدية، يستعين به ناقد الأدب في البحث العلمي المنظم، و هذه الرؤية المزدوجة : التصنيفية والمنهجية لم تكن من قيم الأدب والنقد العربي الإسلامي القديم .

لا شك في كون مختلف الأجناس الأدبية ـ شعرية كانت أم نثرية ـ تلامس جنس السيرة الذاتية ، فهي تحمل من هويتها وملامحها، ومن روحها وظلالها الشيء الكثير، فكاتب القصة مثلا، أو المقالة، أو الرواية، أو القصيدة، يتمثل ذاته من خلال ما ينتجه بشكل أو بآخر، وهذا دليل راسخ الأركان ، يزكي تأكيدنا على أن جميع الأجناس الأدبية ما هي إلا فضاءات تحايلية، وتجليات إبداعية ، يحاور بها الكاتب ذاته ليعيها حق الوعي، ومن ثم تتسع دائرة التعبير الخاصة بأدب السيرة الذاتية .

أمام هذه المعطيات والحقائق، لا يمكن للباحث إلا أن يتساءل بشأن أمور كثيرة، ولا يسعه إلا أن يحاول الإجابة على ما يصادفه من أسئلة اجتهادا منه، و ذلك إسهاما منه في التنظير لأدب السيرة الذاتية، وإغناء الحوار الثقافي حول هذا اللون من التعبير المميز، على أمل أن تتكامل جهود الباحثين و المهتمين بدراسته في سبيل التوصل مستقبلا إلى إجابات مبنية على أساس علمي دقيق، لأن الوقوف على حقيقة جنس السيرة الذاتية وحدوده الإبداعية غاية لا بد منها .

ومن هذا المنطلق نؤكد على ضرورة إعادة النظر في الجهاز المفاهيمي الخاص بأدب السيرة الذاتية، لا سيما إذا علمنا بوجود من حاول مجتهدا ـ بين المحدثين من نقاد هذا الأدب ـ وضع تعريف لهذا الضرب من الإبداع، بينما تجنب البعض الخوض في مسألة التعريف، وانصرف يدرس جملة من القضايا المرتبطة بأدب السيرة الذاتية.

إن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يشكل مظهرا من مظاهر التعبير الحكائي، فهو ليس كيانا غريبا عن أدب الرواية ، خاصة و أن الخطاب الروائي في العالم العربي الإسلامي يقدم لنا تاريخا للذات العربية المسلمة ، مما يجعل من خطاب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث سمة ملازمة للسرد الروائي الحديث، والملاحظ أن الكاتب العربيالمسلم هو في حاجة بالغة اليوم، و أكثر من أي زمن مضى، إلى كتابة تاريخه الخاص، و تدوين سيرة الأمة أو تاريخ الذات الجماعية من خلال ذلك التاريخ، وبسبب هذا النزوع الواعي يلامس ـ في الغالب ـ منحى أدب السيرة الذاتية المنحى التاريخي، وعلى الأرجح يتضح جليا ذلك التجاذب القائم بين الخطاب الروائي وخطاب السيرة الذاتية في العالم العربي الإسلامي، الذي يوحي في بعض الأحيان ببلوغه درجة التماهي، التي تصير معها الكتابة الروائية و كأنها وسيلة للتأريخ الضمني لما هو ذاتي، وجماعي، وموضوعي .

وبإلقاء نظرة على تاريخ الظواهر الأدبية في العالم العربي الإسلامي ، سنجزم بكون أدب السيرة الذاتية متأصل فيه منذ زمن بعيد ، بخلاف الفن الروائي الذي عرف نهضته القوية وتطوره السريع في العالم الغربي، مع صعود الطبقة البورجوازية، التي عبرت به عن كيانها، وذلك قبل أن يتحول إلى أدب مطروق لدى مختلف الطبقات الاجتماعية، وعلى الرغم من التأثير الغربي، فإن الكتابات الروائية العربية ظلت موسومة بروح السيرة الذاتية، وهذا لا يعني أن هذا التوجه في الكتابة الأدبية ينفرد به المؤلفون العرب وحدهم في العصر الحديث؛ بل حتى كتاب الرواية الأجانب نهجوا هذا المنحى في التأليف .

إن المثير حقا في أمر التجربتين السرديتين : العربية والأجنبية ـ خاصة الغربية ـ هي هذه العودة إلى قراءة الذات واقتفاء أثر التجارب الفردية الماضية، إذ في الوقت الذي نجد فيه الرواية العربية ما تزال من النمط الذاتي الشخصي، نرى الكثير من الكتاب الغربيين يستهلون مسيرتهم الإبداعية بكتابة الرواية، وبعد ذلك ينصرفون إلى تأليف سيرتهم الذاتية، وهذه الظاهرة تبعث على الاعتقاد في كون الكتابة الروائية لم تعد تستجيب لطموح الكاتب الغربي وقوة رغبته في التعبير، ربما لأن الذات الغربية الكاتبة أدركت بأن هذا اللون من الإنتاج الأدبي ليس بإمكانه استيعاب حياتها الفردية، وأهم ما تريد أن تفضي به إلى الآخرين، مما جعلها تعمد إلى كتابة السيرة الذاتية، بهدف إشباع رغبتها في الإفصاح أكثر، وتحقيق تواصل مكثف وفاعل مع القراء.

ولعل أهم الأخطاء التي أوقعت عددا من المؤلفين العرب، اختزلته الكتابة انطلاقا من أفق غريب عن الذات العربية المسلمة، والذي تجسد في هاجس الكونية أو العالمية ، خاصة عندما صار بؤرة اهتمام لدى طائفة من الكتاب في العالم العربي الإسلامي، الذين حاولوا تهميش أدب السيرة الذاتية لصالح الكتابة الروائية، اعتقادا منهم في سلامة هذا النهج، وطمعا في أن يرقى أدبهم إلى مستوى العالمية، وأن يتخذ سمة إنسانية كونية ، فأضاعوا باختيارهم هذا المنحى الطريق إلى المحلية والعالمية معا، في حين كان عليهم أن يحققوا ويحفظوا لأدبهم هاتين الخاصيتين من خلال الاهتمام بأدب السيرة الذاتية.

فهل عرفت الرواية العربية شكلا واحدا هو شكل السيرة الذاتية ؟ ثم هل ما نلاحظه من تصوير الكتاب العرب حديثا لحياتهم باعتماد الصياغة الروائية دليل على اقتدائهم بالكتاب الغربيين في هذا النهج؟

ثم هل الرواية العربية الإسلامية ـ كما الرواية المغربية ـ مرشحة للبحث والدرس النظري والتطبيقي من زاوية أدب السيرة الذاتية، الذي يسود فيها حيزا كبيرا؟ أم أنها بلغت سن الرشد حقا، والمتمثل من جهة في تقلص درجة التطابق والتماهي ما بين الكاتب وأبطاله في الرواية، وفي تراجع المكون الواقعي الذاتي من جهة ثانية؟

ثم إننا نطرح سؤالا آخر حول مدى صحة الاعتقاد في كون الكتاب العرب المسلمين يستهلون مسيرة كتاباتهم الأدبية بتأليف سيرهم الذاتية، التي يتخذونهاجسرا يبلغون به كتابة الرواية، بخلاف الكتاب الغربيين ، الذين يبدؤون بالكتابة الروائية ليعبروا من خلالها إلى كتابة سيرتهم الذاتية؟

إن ظاهرة التحول من كتابة السيرة الذاتية إلى الكتابة الروائية في العالم العربي الإسلامي، سجلت حضورها ابتداء من منتصف القرن العشرين، لكن هذا التحول لم يعرفه جميع الكتاب؛ بل إن عددا منهم هو الذي خاض هذه التجربة، وتحديدا أولئك الذين مارسوا الكتابة الروائية تقليدا، واتخذوا من تجاربهم الذاتية، ومن التقاليد الخاصة بكتابة السيرة الذاتية أو التي تسم أحد مكوناتها الكبرى: مذكرات، أو ذكريات، أو اعترافات مادة وصياغة روائية، وهذه إشارة دالة تجعلنا نتساءل من جهة حول مستقبل الكتابة الروائية العربية الإسلامية؟ وعن مدى إمكانية تحولها إلى قناع يتستر خلفه وجه السيرة الذاتية؟

ومن جهة ثانية يبعثنا على السؤال عما إذا كان عمق الجدلية القائمة بين الرواية والسيرة الذاتية دليل على عودة قوية ومرتقبة لأدب السيرة الذاتية إلى الواجهة الإبداعية والنقدية؟ ثم ألا يستحق أدب السيرة الذاتية أن يكون الجنس الأدبي الأكثر قدرة على التعبير الإنساني في العصر الحديث؟

إن ما نراه في أفق الإبداع الأدبي على صعيد العالم العربي الإسلامي الحديث، هو تلك العودة المرتقبة والقوية لأدب السيرة الذاتية عموما والإسلامية بوجه خاص، ورؤيتنا هذه ليست نابعة من فراغ؛ بل هي مبنية على معطيات جد هامة وجلية، نستطيع إجمالها في كون تاريخ أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية سجل انبعاثا قويا في عدة ظروف ومحطات تاريخية متأزمة ومضطربة، وإن كانت متقطعة وغير متواصلة.
ونحن نعتقد أن هذا اللون من التعبير الأدبي في العصر الحديث قد سجل منذ زمن بوادر عودته القوية، التي واكبت الضربات الأولى المتوالية على العالم العربي الإسلامي، والتي كان من أبرز نتائجها ومظاهرها انهيار الخلافة الإسلامية العثمانية، وإذا كان معظم النقاد اليوم يجمعون على ندرة السير الذاتية العربية الإسلامية، فذلك لأنهم قليلا ما يصادفون سيرا ذاتية صريحة وغير مقنعة، يبرم فيها أصحابها مواثيق واضحة مع القراء.
لكن هذا لا يعني في شيء ريادة الشعر أو غلبة الرواية في العصر الحديث، وإنما الريادة الحـقة والغلبة المؤكـدة ـ تبعا لما نعتقده ونذهب إليه من اجتهاد في الرؤية ـ هي لأدب السيرة الذاتية، وإن كان يحتفل بنفسه بين التجلي حينا والخفاء في كثير من الأحيان، وذلك على امتداد الكتابة الإبداعية شعرها ونثرها، وهذه حقيقة قليلا ما ينتبه إليها دارسو الأدب العربي الإسلامي والباحثون فيه.

إن العصر الأدبي الحديث ـ خاصة في البلاد العربية الإسلامية ـ هو عصر أدب السيرة الذاتية بامتياز كبير، إذ أن ما يميز هذا العصر من نماء الروح العلمية، التي لا تخلو في الغالب من أي دراسة، يجعل السيرة الذاتية أقرب الأجناس الأدبية إلى هذه الروح من حيث قوة النزوع إلى البحث عن الحقيقة الإنسانية والتاريخية.

فهل نستطيع القول بأن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة صار يمثل ديوان العرب وغير العرب المسلمين؟ وأن أدب السيرة الذاتية بوجه عام أضحى ذلك الأفق المفتوح، الذي يحتضن كل ضروب الإبداع الأدبي، ويستقي منها الكثير من الخصائص والسمات؟

هذا مقال آخر/ حلقة أدبية نقدية من سلسلة مقالات جد مركزة حول أدب السيرة الذاتية الإسلامية على المستوى الخاص، وحول جنس أدب السيرة الذاتية بوجه عام، وما هي إلا جملة من الكتابات النقدية الهادفة إلى دعوة ذوي العناية الأدبية والاهتمام النقدي بقصد إسهامهم في إعادة تمام الاعتبار لأدب السيرة الذاتية، ومنح هذا الضرب من الأدب نثره وشعره حق قدره، فهل ثمة في الأفق القريب من أقلام إبداعية نقدية وثابة متحمسة لما ندعو إليه صادقين؟

د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

الرباط .. المملكة المغربية

أبو شامة المغربي
22/02/2006, 03:16 PM
أدب السيرة الذاتية واغتراب الذات المسلمة في العصر الحديث



تعتبر مقولة "الاغتراب" من أكثر القضايا إثارة للجدل، ليس بسبب ما يكتنف معناها، أو ما يشوب أبعادها الدلالية من غموض، ولكن بسبب كثرة المفاهيم التي صيغت ووضعت لها، ثم تنوع استعمالها وتوظيفها في سياقات مختلفة؛ إنها من قضايا الإنسان الكبرى التي لا تتغير مع توالي الأزمان، باعتبار صلتها الوثيقة بوجوده ومصيره.




ولا شك أن الاغتراب ظاهرة إنسانية، ومكون من جملة المكونات الخاصة بالطبيعة البشرية؛ بل إنه معاناة ناتجة عن ذلك الاصطدام بين المؤثرات الخارجية، أو طبيعة الحياة السائدة في محيط اجتماعي معين من جهة والقيم الإنسانية الراسخة من جهة ثانية، سواء في الذات الفردية أم في الذات الجماعية، باعتبار أن الاغتراب حال تعتري الفرد بقدر ما تعتري الجماعة.




ثم إن للاغتراب آثارا مختلفة ومتضاربة إلى حد التناقض، إذ أن بعض الناس يرون فيه تجربة رهيبة لا تنتهي، بينما يعيشه البعض الآخر راضيا مطمئنا، بعد أن تعذر عليه الانسجام مع محيطه الاجتماعي وبيئته المكانية، التي هيمن فيها كل ما هو دخيل على ما هو أصيل، لكن المعاناة الإنسانية، بدون شك، تزداد شدة وحدة في واقع تهيمن فيه المتغيرات والانحرافات على كافة المستويات، والتي يتم تكريسها بالقوة والإكراه على حساب الثوابت ومناهج الحياة السوية، حتى إن طغيان كل ما هو دخيل وغريب في المجتمع الإسلامي جعل الإنسان المسلم يحس بالاغتراب المتعدد الأوجه، فهو غريب عن ذاته، وعن بني قومه، وعن ثقافته وتاريخه.




ومن المرجح أن نعثر على جذور اغتراب معين في داخل كل ذات إنسانية وفي كل عمل أدبي، إلا أن الاغتراب كيف ما كانت طبيعته، يزداد حدة و تشعبا مع مرور الزمن، وما تعانيه المجتمعات الإنسانية من اغتراب في العصر الحديث شاهد على هذه الحقيقة، وهو العصر الذي غدا فيه الاغتراب شعارا وسمة غالبة، واكتسب فيه مفهومه عمقاملحوظا، بسبب ما تعرفه العلاقات الاجتماعية من تعقيدات، وما تشهده المجتمعات من تطور، وكذلك بسبب ما خلفه الاستعمار بكل أشكاله من آثار سلبية، وما أفرزته الحضارة المادية مـن سموم مدمرة للإنسان، وقاتلة للحياة الإنسانية.




أ ـ الاغتراب الديني

إن الشعور أو الإحساس بالاغتراب يختلف من إنسان إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى، تبعا لطبيعة المجتمع والعصر من حيث القيم، والثقافة، والعقيدة الدينية السائدة فيهما، مع أن ظاهرة الاغتراب، سواء في العالم العربي الإسلامي أم في البلاد الغربية، تتخذ في الغالب سمات متنوعة، وتتجسد تبعا لظروف متباينة، لكن ثمة قاسما مشتركا ورئيسا، ذا طبيعة كونية بين الذوات المسلمة، بالإمكان أن نصفه بعبارة " الاغتراب الديني".




هذا لا يعني أن الاغتراب الديني أو العقدي هو الوحيد الذي يعد قاسما مشتركا بين مجموع الأفراد الذين يدينون بالإسلام ؛ بل إن سمة الكونية تشمل قواسم مشتركة أخرى بين هؤلاء الأفراد، نذكر منها على سبيل المثال: "الاغتراب الاجتماعي" و"الاغتراب الفكري" و"الاغتراب العرقي" و" الاغتراب البيئي"، هذا فضلا عن كون ما نلمسه من اغتراب متمثل في افتقاد حرارة العلاقات بين الأفراد في المجتمع الواحد، وتنامي ظاهرة الإلحاد، والافتقار إلى الشعور بمعنى الحياة.




والظاهر أن الإحساس بالاغتراب الديني من جهة، ومكابدة الاغتراب المتعدد الصفات من جهة ثانية، كان من أهم البواعث على كتابة السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، التي أتاحت لمؤلفيها صياغة شكل من أشكال تجاوز المعاناة، واسترداد بعض التوازن الذاتي من خلال التعبير عن عمق الحياة الباطنية والروحية.




إن الذات المسلمة، عربية كانت أم غربية ، تعاني اغترابا شديدا في العصر الحديث، سواء داخل وسطها الاجتماعي القومي أم في الوسط الاجتماعي العالمي؛ إنها تخوض مواجهة كبيرة ضد قوى الشر المعاكسة، التي تسخر وتحشد جهودها في حرب عنيفة حادة، مكشوفة حينا، ومقنعة أحيانا، من أجل القضاء على الإسلام وطمس الشخصية الإسلامية.




ثم إن الإنسان المسلم ينظر إلى هذه المواجهة على أنها من سنن الحياة الإنسانية، التي تتجاذبها أسباب الخير والشر، وهي نفس الأسباب الدائرة في حلقة الاكتشاف والاكتساب، والمتدافعة كذلك في أعماق الإنسان، الذي لا تنفصل حياته عن عالمي: المادة والروح، بحيث تنظر الذات المسلمة إلى الواقع ببعديه : المادي والروحي، وتعي جيدا أن الكائن البشري يعاني في حياته الدنيوية من الضعف والضياع، بحكم اضطراب قواعده وقوانينه الموضوعة، وثبوت القوانين والقواعد التي سنها الله عز وجل لعباده في الأرض.




إن الذات العربية المسلمة في العصر الحديث، سواء المغتربة بعقيدتها أم المغتربة عن عقيدتها، تعيش وضعا مضطربا أشد الاضطراب، وجدت نفسها فيه مكرهة، وقد أحاطت بها عادات وتقاليد، وتصورات وسلوكيات، ومواد ثقافية ومناهج لا صلة لها بالإسلام، فكان حالها بوجه عام يشجع على العزلة والانفصال، أكثر مما يشجع على الاندماج والاتصال، بحكم أن الواقع الذي تم فرضه عليها يناقض التصور والمنهج الإسلامي ويصـطدم به.




ثم إن الذات العربية المغتربة بعقيدتها، بذلت كل الجهد في سبيل الحفاظ على شخصيتها الإسلامية، فبدأت بالعودة إلى الإسلام، بقصد فهمه على حقيقته وتمثله بكيفية دقيقة، فكانت هذه العودة بالنسبة إليها جد ضرورية وحاسمة، وذلك حتى تستقيم لديها مبادئ الإسلام وقيمه، ويتضح في ذهنها التصور والمنهج الإسلامي الشامل، وقد أقدمت على هذه الخطوة لأنها أدركت بأن قضية العقيدة، المتمثلة في علاقة الكائن العاقل بخالقه، وبالكون، وبالأحياء، هي أولى القضايا وكبراها.




لقد سعت الذات العربية المسلمة، المغتربة دينيا ، في وسطها الاجتماعي أن تجمع بين اعتزال الأجواء الفاسدة والمختلة في الحياة، وربط الاتصال و بناء التواصل مع الجماعة الإنسانية، وذلك بقصد التأثير فيها، والاتفاق معها على رؤية عقدية واحدة ، تتمكن الذات العربية المسلمة من خلالها من تجاوز اغترابها الديني من جهة، وتكسير اغتراب مجتمعها العربي عن جوهر عقيدته الإسلامية من جهة ثانية.




وإذا كان الشعور بالاغتراب يجسد واقعا مشتركا بين الذات العربية المسلمة والذات المهتدية إلى الإسلام، سواء الغربية منها أم الأجنبية، فإن ثمة تمايزا بين الاغترابين من حيث الطبيعة، والمدلول، والرؤية، والموقع الخاص بكل ذات على حدة، بحكم التفاوت في درجات حدة ذلك الإحساس أولا، وباعتبار أن الذات العربية المسلمة تنتمي إلى واقع إنساني واجتماعي معين، له معطيات وسمات ذاتية بارزة.




وكذلك الذات الأجنبية المسلمة لها واقع فردي وجماعي تنتسب إليه نشأة وثقافة، خاصة قبل دخولها في الإسلام، حيث كانت على دين أهلها، أو كانت على قيد حياة بغير معتقد، هذا بالإضافة إلى أن كثيرا من التناقضات تسود بيئة كل من الذات العربية والأجنبية.




إن الذات العربية المسلمة تعاني وتقاوم في سبيل التمسك بتعاليم الإسلام والدعوة إليه، أما الذات الغربية فتعيش معاناة من نوع آخر في سبيل العثور على حقيقتها المفقودة وسعادتها الضائعة، فتندفع بكل قوتها إلى البحث وطرح السؤال العقدي حول الدين الحق وسط تراكمات الجهل بطبيعة الأمور والمعرفة الخاطئة، وفي ظل صراع ذاتي ضد حقد دفين وكره لا حدود له للإسلام والمسلمين، تناقلته أجيال الغرب منذ الحروب الصليبية الأولى توارثا واكتسابا.




ولا شك أن الأجواء المظلمة والمعاكسة، التي تحيط بالذات الغربية والأجنبية بوجه عام، تفسد عليها الحياة السوية، وتعمل على حجب الوجهة السليمة عنها، ولكن بقدر ما تشتد معاناة الإنسان الغربي، الذي يجتهد في سبيل التخلص من كل وعي خاطئ، أو فكرة موروثة، أو حكم مسبق جاهز، فإن القوة الدافعة له تتضاعف في مسار تحقيق التوازن بين التوازن بين عالمه المادي وحياته الروحية.




ثم ما إن تعلن الذات الغربية والأجنبية عموما إسلامها جهارا في وسطها الاجتماعي حتى تبدأ أطوار اغترابها بين أهلها وقومها، فتتفاقم الهوة بينها وبينهم ، لتدخل بعد ذلك شيئا فشيئا في شبه عزلة، وقد يتم اتهام كل من دخل في الإسلام بما يمكن تسميته بالخيانة الدينية، أو الارتداد عن دين الآباء والأجداد، فيظل في نظر أغلب قومه كائنا شاذا عن القاعدة، ومعتلا في عداد المرضى.

أما الإنسان المهتدي إلى الإسلام، فينظر إلى الخطوة التي أقدم عليها من زاوية أخرى مغايرة تماما، فهو يرى أن ما قام به من فعل وبادر إليه ، إنما جاء ثمرة لرحلة طويلة شاقة، واهتدى إليه بعد بحث جاد وجهد كبير، تطلب منه الصبر والأناة، وعمرا غير هين أنفقه حتى يتمكن من تجاوز المعرفة الخاطئة حول الإسلام، التي نجد لها جذورا عميقة في الأدب والفكر السياسي الغربي القديم.




ب ـ الاغتراب العرقي

لقد شهد تاريخ البشرية على امتداده وحتى يومنا هذا كثيرا من وصمات الغار والتردي، التي ستظل وشما أسود لا يمحي من جبين الإنسانية، ومأساة ذات أثر عميق في الذاكرة الجماعية الحافظة جيدا لتفاصيل الواقع الرهيب ، الذي لا يزال معاينا بين الناس، كما عاينه أسلافهم قديما داخل أوساطهم الاجتماعية ، حيث كان غير قليل من الأقوام يستعبد بعضهم بعضا، ويدسون في حياتهم اليومية سموم النزعات العرقية و التمييز العنصر، وقد رفع عنترة بن شداد العبسي، المتوفى سنة 22 قبل الهجرة/ 600 للميلاد، صوته في العصر الجاهلي محتجا على قومه الذين نبذوه لسواد بشرته.



وفي قلب العالم الغربي، وهو أكبر مسرح لظاهرة التمييز العرقي العنصري، صارت وحدة الإنسان متكسرة وممزقة في ذاكرة السود الجماعية، وغدا الكائن الاجتماعي موضوعا للعبث وعرضة للتصنيفات والأهواء، وعلى إثر هذه النظرة المنحرفة، وهذه النزعة العدائية، أرادت قوى الشر للإنسان أن يتحول إلى كائن متعدد، وأن يخضع للتصنيف تبعا لدرجات متفاوتة في القيمة.




ولم تكن ظاهرة العنصرية الحديثة إلا امتدادا لإرث أوربي قديم، ولقد كان اليونانيون والرومانيون ينظرون إلى أنفسهم على أنهم أهل مدنية، وأن غيرهم متوحشون، ومنذ عهد قديم والأوربيون يتوهمون تفوقهم العرقي على سائر الشعوب، ويعدونه أمرا حتميا لا جدال فيه.




ثم إن الاعتقاد في العصر الحديث ساد داخل الأوساط الغربية المنحرفة بكون الجنس الأبيض هو أرقى الأجناس البشرية، وأن مجتمع السود أو الزنوج هو أحطها؛ بل إن هذه الآفة لم تقف عند هذا الحد، إذ سعى الكثيرون بدافع الحقد والعدوانية إلى تجريد الإنسان الأسود من هويته الآدمية، بدعوى أن له بشرة سوداء، وأن السواد لون يميز العبيد الضعفاء، والبياض لون يميز الأسياد الأقوياء.




إن أنماط الاغتراب العرقي كثيرة ومتنوعة، لكن أبرزها على الإطلاق، ظاهرة اغتراب المسلمين السود في البلاد الأوربية، وفي الولايات المتحدة الأمريكية بوجه خاص، لذلك سنتخذ من هذه الظاهرة نموذجا متميزا في إطار مسألة الاغتراب العرقي، خاصة وأنها تجسد اغترابا مزدوجا، يعانيه المسلمون السود في أمريكا تحديدا؛ إنه اغتراب عرقي من جهة، واغتراب ديني من جهة ثانية .




ومن أهم القادة الذيـن شاركوا في قيادة جماعة ( المسلمين ) السود وتعاقبوا على زعامتها، نذكر : مالكولم إكس ( MALCOLM X )، الذي نشأ داخل الولايات المتحدة الأمريكية في أجواء تضيق بالتمييز العنصري بين البيض و الزنوج، وبعد أن سلك سبيل الجريمة، دخل السجن، وفيه تعرف على ( الإسلام ) من خلال بعض الكتب ومجموعة من الرسائل، التي كانت تصله من إليجاه محمد ، ثم إنه خرج من السجن منتصرا لما تعتقده جماعة أمة الإسلام من أفكار ومبادئ منحرفة عن الإسلام.




وبعدما دخل الحركة سرعان ما تمكن من منافسة زعيمها إليجاه ( ILIJAH ) في مجال دعوة السود داخل الولايات المتحدة الأمريكية إلى الانضمام لجماعة أمة الإسلام، وفي سنة 1964 للميلاد أتاح له الحج إلى مكة، التعرف أكثر على الإسلام والوقوف على حقيقته، وأسسه، وتعاليمه، فكان من الطبيعي أن يتراجع عن نظرته العنصرية اتجاه الإنسان الأبيض، ويطهر نفسه من الحقد الذي لم يفارقه منذ صباه، ومن ثم رأى من واجبه أن يسعى إلى تصحيح حقيقة الإسلام داخل جماعة ( المسلمين ) السود ، وهذا ما أثار إليجاه

(ILIJAH )، الذي كان قد أسرف في الانحراف عن التعاليم الإسلامية.




أما إليجاه محمد، فقد ظل ينادي بقيام دولة مستقلة في الولايات المتحدة الأمريكية خاصة بالسود حتى وفاته، ومنذ هذا التاريخ بدأت تتحسن أوضاع وأفكار جماعة أمة الإسلام، إذ أخذت تقترب هذه الأقلية المسلمة من المفاهيم الإسلامية الصحيحة بالجهود المبذولة من طرف المصلحين، وخاصة منهم وارث الدين (ابن الزعيم إليجاه محمد)، الذي عمل على تصحيح ما نشره والده من أفكار خاطئة عن الإسلام.




ثم إن جماعة أمة الإسلام عملت على نشر تاريخ أسطوري، غريب الوقائع والملابسات، بين السود في أمريكا حول الكيفية التي ظهر بها الرجل الأبيض أو الشيطان، وأول ما نصادفه في هذا التاريخ، لعله من نتاج ما لحق كتاب التوراة من تحريف، هو أن الرجال السود الأوائل أقاموا في مدينة مكة، وكان يوجد بينهم أربعة و عشرين حكيما اعتزلوا باقي السود وتجمعوا في قبيلة الشاباز ( CHABAZ ) القوية، التي يعتبر أفرادها أجداد السود المتواجدين في أمريكا.

ولقد ترسخ في أذهان جماعة أمة الإسلام أن البيض حرفوا تاريخ الإنسان الأسود، الذي كان يعيش في القارة الأفريقية، وهو الإنسان الذي شيد ممالك وحضارات عظيمة، في حين كان الرجل الأبيض يسكن الكهوف، ويمشي على أربعة قوائم؛ إنه الشيطان الأبيض الذي استغل، وقتل، ونهب، وانتهك حرمات السود وباقي الأجناس الملونة.




إن الرجل الأبيض في اعتقاد جماعة أمة الإسلام شيطان كان يلقن السود ما يشاء من الأكاذيب و الأوهام ، إذ عمل على حشو أدمغتهم بكون السواد هو لعنة على الزنجي، وأن أفريقية موطنهم الأصلي، وقد كانت آهلة بالمتوحشين والوثنيين السود، الذين كانوا كالقردة يتأرجحون على أغصان الأشجار، وأن عليهم أن يتخذوا ( المسيحية ) دينا لهم، وأن يعبدوا إله السيد الأبيض، ذي الشعر الأشقر، والوجه الشاحب، والعينين الزرقاوين.




وبهذا الإقتناع، وهذا الصوت الكامن في أعماق السود بالولايات المتحدة الأمريكية، والذي يختزل تاريخا داميا مليئا بالأحداث المشينة والمأساوية، صار الرجل الأبيض أو العرق الأبيض عموما رمزا للشيطان في عرف الإنسان الأسود؛ إنه الشيطان الإنسي الذي خدع السود بلون بشرته البيضاء، وأخفى عنهم باطنه الأسود، وقبح نواياه السوداء، وحقيقة مخبره المظلم الخبيث، فهو الذي سلبهم حريتهم و أعز ما يملكون، وهو أيضا من سعى في طمس تاريخهم و ذاكرتهم، واجتهد في اقتلاع جذورهم.




إن أي وسط اجتماعي تضيق فيه الجماعة الإنسانية بكل ألوان الظلم العرقي والتهميش، لا بد وأن يفرز وعيا جماعيا منفصلا ومستقلا عن الواقع السائد والحياة الوضعية، التي تخدم مصالح فئة دون أخرى، خاصة وأن هذا الوعي تدعمه ذاكرة جريحة تنزف بمآسي كبيرة عاشها الإنسان الأسود، وذلك عندما قضى زمنا طويلا في أسر العبودية، وحيل بينه وبين معرفة هويته، ولسانه القومي، وموطنه الأصلي.




وإذا كان العالم الغربي مسرحا لتنامي النزعة العنصرية ، فإن العالم العربي الإسلامي قد احتضن القوة المضادة لتلك النزعة؛ فبفضل الإسلام اكتسب الإنسان الأسود في أمريكا وعيا جديدا، ووقف بنفسه على مختلف أسباب وأبعاد معاناته وقضيته، فكان من الطبيعي جدا أن يعيد النظر في رؤيته السابقة، ويغير أفق انتظاره دفعة واحدة، بعدما كانت معاناته مسألة التمييز العنصري أمرا مرتقبا ومحتوما داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها.




هذه شهادة وخلاصة في آن واحد، وقد انتهى إليها مالكولم إكس ( MALCOLM X ) أخيرا، بعدما أسهمت آثار الظاهرة العنصرية في تأليف و ترسيخ وعي خاطئ ورؤية عمياء في وسط المجتمع الأسود، الذي قرن أفراده النزعة العرقية على الإطلاق ودون استثناء بالإنسان الأبيض حيثما كان، ثم إن الظلم الذي عاشه الإنسان الأسود في أمريكا، والصراع العنيف الذي فرض عليه خوض غماره كرها من أجل الحياة الكريمة، والحرية وإثبات الوجود، ثم بحثه عن جذوره وتأكيد إنسانيته؛ جميع هذه العوامل جعلته من جهة يصدرأحكاما من قلب واقع اجتماعي فاسد، تفشى فيه التمييز العرقي وبلغ أقصى الحدود، ويواجه من جهة ثانية حقد الأمريكيين البيض بحقد أقوى منه وأشد؛ بل جعله يستسلم بالرغم منه لسلطة الغضب.




تلك كانت عقدة الإنسان الأسود في الولايات المتحدة الأمريكية، و ذلك هو الواقع المأساوي الذي شغل كل تفكيره وما يزال حتى يومنا هذا، بعدما تحولت معاناته الشديدة إلى لازمة منكرة، تقتحم حياته الخاصة، وتلاحقه في يقظته ومنامه ؛ إنها الشر الذي لا يمل من مطاردته ولا يكف عن ترصده لحظة واحدة، حتى إنه يكاد يشل قدرته على تمييز داء الميز العنصري ووضعه في حجمه الحقيقي.

د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

الرباط .. المملكة المغربية

أبو شامة المغربي
22/02/2006, 04:38 PM
بواعث تلقي أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة

(الجزء الأول)


يتفق معظم النقاد والباحثين على أن إقبال القراء على قراءة أدب السيرة الذاتية، لا يرجع إلى إعجابهم بهذا النوع من التعبير، وإنما هو نتيجة لنزوعهم نحو البحث عن ذواتهم في سير الآخرين، ورغبتهم في الكشف عن مختلف جوانب الحياة المشابهة لما عاشوه ومروا به من تجارب، ولا شك أن القارئ الحديث والمعاصر يرغب في أن يرى ذاته في حياة غيره من الأدباء، والدعاة، وأهل الفكر، والعلماء، والمؤرخين، والساسة وغيرهم من ذوي الخبرة، والاختصاص، والموسوعية، والتجارب الإنسانية الحية.

ثم إن متلقي هذا اللون الأدبي حريص على المشاركة الوجدانية ، يبعثه على ذلك التطلع إلى المثل العليا، والوقوف على ما يزخر به واقع الحياة من صور وتجليات، وكذا النفاذ إلى ما هو ماثل في مختلف السير الذاتية من مظاهر القوة وأسباب الضعف، ثم اتخاذ هذه الأعمال الأدبية مراء تساعده على اكتشاف نفسه، فيتنامى شعوره بها و إدراكه لها، من خلال ما يصادفه ـ في كل سيرة ذاتية يقرأها ـ من تجارب ومواقف كثيرة ومتنوعة، منها ما يبعث على التفكير والتأمل، ومنها ما يثير في النفس انفعالات متفقة و أخرى متناقضة، ومنها ما هو للذكرى وللاعتبار.

ومما لا ريب فيه أن الذات المتلقية في حاجة دائمة إلى نتاج الذات الكاتبة، بقدر ما أن مؤلف الأعمال الأدبية عموما، وصاحب السيرة الذاتية بصفة خاصة هما في حاجة مستمرة كذلك إلى القارئ، علما بأن الذات، سواء كانت كاتبة أم متلقية، تحاول الانفصال عن نفسها إلى حين، وذلك بقصد تعميق تجربتها الفردية في ضوء تجارب الآخرين وخبراتهم، وهذا النزوع الجدلي هو الذي يمكن الكائن الاجتماعي من تحقيق ذاته عبر التواصل الإنساني.

وبناء على ما تقدم من استقراء، نلاحظ أن في أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ما يثير لدى القارئ جملة من ردود الأفعال، وهذا طبيعي إذا ما علمنا أن الذاكرة المشتركة بين الكاتب والقارئ هي الأساس في اشتغال نظام الأفعال ومختلف ردودها ضمن سياق فني معين، لا سيما وأن لجميع الناس تجارب وخبرات مماثلة، هي من بين القواسم المشتركة بينهم ، حتى إنه لا نستطيع أن نقر بشيء لا يعني غير فرد واحد دون سائر الناس، ثم إن المقصود بالذاكرة المشتركة أو الجماعية، تلك المواضعات الأدبية و القيم المتنوعة من جهة أولى، ومجموع العوالم، والظواهر و مناحي الحياة، التي تمثل قواسم مشتركة بين الذوات من جهة ثانية، وكذا تلك التجارب الواقعية التي تتشابه ملامحها ومعطياتها، وتصل بخيط رفيع حياة الكاتب بحياة القارئ.

إن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة خطاب مثير بالنسبة إلى القارئ ، الذي يتوفر على مرجعية وشبكة معقدة من التجارب الفردية و الجماعية ، فضلا عن مخزونه الثقافي، إذ الملاحظ أن ثمة توازيا بين التأثير الذي يحدثه خطاب السيرة الذاتية ذات الصفة الإسلامية الحديثة في ذهن المتلقي، والأثر الذي يستشعره الكاتب أثناء قيامه بعملية السرد أو الحكي الذاتي.

ولا شك أن فعل القراءة المنجز من طرف المتلقي هو المسؤول الأول، والعامل الأساس في تحديد طبيعة التواصل الأدبي بين صاحب السيرة و متلقيها، الذي يجد نفسه متقلبا بين التماهي والقبول، والانفصال والتعارض؛ إنها قراءة ذاتية في المقام الأول، يتفاعل من خلالها المتلقي مع هذا اللون من الإنتاج الأدبي ، ذي الطبيعة المتميزة والرؤية الخاصة، و هذا من شأنه أن يغذي فضاء الإنتاجات المقروءة بكثافة حوارية، ويبعث في مسارها حركة نقدية منتجة.

فما يسرده المؤلف من تجارب ذاتية لا يعكس فقط حياته الخاصة؛ بل إنه يجلي في آن واحد حياة القارئ، وهذه الوظيفة التي تبدو للوهلة الأولى ـ في نظر البعض ـ غريبة عن جنس السيرة الذاتية، قد أقرها كثير من المتمرسين في هذا الفن الأدبي، الذي يمثل مرآة إبداعية ينظر فيها المتلقي إلى نفسه، ونافذة يطل منها على ذاته، وغالبا ما يعثر على ما يماثل بعضا من تجاربه الحياتية معروضا أمامه إلى درجة التماهي في كثير من الأحيان.

ومؤكد أن القارئ يتحول إلى شخص معني بما تفشيه العديد من المقامات الخطابية، والمقاطع السردية ، والوصفية، والحوارية من أسرار ، و مواضيع ، و قضايا ، و من بين ما يثبت لنا هذه الحقيقة ويشهد لها ـ على سبيل المثال ـ تجارب الطفولة و المراهقة ، التي تشغل حيزا جد هام في أدب السيرة الذاتية ، وتأخذ من ناحية ثانية باهتمام القارئ، بحيث إذا كان الكاتب يحاول أن يبعث ماضيه ليحياه ثانية، فإن القارئ يطمح إلى الغاية ذاتها دون أدنى شك، لا سيما وهو يلتمس لدى صاحب السيرة الذاتية تلك القدرة على الإفصاح عما يحس ويشعر به؛ إنه يطمع في أن ينجح الكاتب ـ باعتباره مؤهلا بامتياز ـ في ما فشل فيه هو.

ثم إن ما نستطيع تسجيله من جملة الملاحظات في المتن العام لأدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ـ وإن كانت هذه الملاحظة / الظاهرة ليست وقفا عليه بطبيعة الحال ـ تلك الفراغات أو البياضات المتمثلة في نقط الحذف المبثوثة هنا وهناك في سياقات مختلفة، وهي في الغالب تفشي للقارئ بحمولتها المخفية أو الضمنية، وكأن الذات الكاتبة توجه دعوة من خلال تلك الفراغات إلى القارئ حتى يسهم بمخيلة وسرعة بديهته في ملئها وإنطاقها، وسيكون بذلك قد أضاء ما هي فيه من عتمة، وخلصها من قيود الصمت.

ونحن نعتقد بأن القارئ يبحث جاهدا عن التعبير الذي يعكس حقيقة نفسه من خلال أدب السيرة الذاتية، ولا يخفى ما لنهج كتاب السيرة الذاتية في الحياة من تأثير كبير على سلوك المتلقين لأدبهم الذاتي، وهو في الغالب تأثير مفيد، لأن قراءة العديد من السير الذاتية من طرف المتلقين تسمو بهم إلى حيث يتكامل الفكر والإبداع.

إن الخلاصة التي بإمكان المتلقي أن يخرج بها من مجموع التجارب الإنسانية ، التي يصادفها عند قراءته لأي سيرة ذاتية إسلامية حديثة ، لا تخلو من متعة ذهنية ، بقدر ما أنها لا تفتقر إلى مواد معرفية متنوعة ومفيدة تغني حياة القارئ، ويكفي أنها تشتمل على عصارة التفاعل المتبادل من جهة بين الإنسان ومجموع أفكاره، واقتناعاته، ومعتقداته، وبينه وبين الجماعة الإنسانية التي ينتمي إليها ـ بحكم ما هو مشترك بينهما من بيئة، وثقافة، ودين، ولغة، و غيرها من الخصائص الرئيسة المجسدة للهوية الإسلامية من ناحية ثانية، وعلى هذا الأساس سيظل أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة من أبرز الآداب العالمية تميزا وإثارة، ويكفي أنه يمثل علامة ثقافية مضيئة ، وإسهاما معرفيا لا يمكن تجاوزه أو تجاهله ، في وقت أخذت فيه السيرة الذاتية بوجه عام شكل الظاهرة الثقافية في العالم بأسره ، و إذا كانت السير الذاتية تشهد إقبالا كبيرا من طرف القراء في العالم الغربي المعاصر ، فإن هذه الحقيقة بدأت تشمل قراء العالم العربي الإسلامي.

وإذا كان الكتاب يفصحون عن بعض البواعث لهم على تأليف سيرهم الذاتية ، فكيف السبيل إلى الكشف عن بواعث قراءة أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ؟، والقراء خلافا للكتاب لا يفصحون عادة عن الأسباب الباعثة لهم على قراءة السير الذاتية.
ثم إذا كان أصحاب السير الذاتية عاجزون عن بلوغ المعرفة الدقيقة باهتمامات القراء المسبقة بأدب السيرة الذاتية، وبحقيقة ما يبعثهم على تلقي هذا الضرب من الأدب، فإنهم على ما يبدو يراهنون على فضول القارئ في المقام الأول، ولا يعملون على إثارة هذه الخاصية أو القوة الكامنة فيه أصلا، وكثيرا ما يتمكنون من استدراج المتلقي، وتوجيه اهتمامه إلى النص السير الذاتي، باعتباره علامة مجهولة بالنسبة إليه، وبؤرة أسئلة وحقائق متعددة، ومتشابكة، و مثيرة أحيانا، و ما نعتقده كذلك في سياق هذا المحور ، هو أن بواعث قراءة السير الذاتية عموما، والسير الذاتية الإسلامية الحديثة خاصة، تتجسد في نمطين من الفضول الفردي :
الأول : فضول فردي صريح ، لا يجد القارئ المتلقي حرجا في الجهر به، والكشف عنه، بناء على إدراك يطمئن إليه، ووعي يتمثل فصوله من خلاله، باعتباره رغبة إنسانية سوية غير منحرفة، تبعثه على معرفة أمور يجهلها، وتوجهه إلى قراءة أدب السيرة الذاتية، لكونه من الآداب التي تستجيب لحاجاته، الثقافية، والنفسية، والروحية، وتتلاءم مع طبيعة فضوله ورغبته في توسيع مداركه المعرفية.

الثاني : فضول فردي غير صريح، لا يتم الإعلان أو الكشف عنه من طرف القارئ، بحيث يحتفظ به لنفسه ويخفي حقيقته؛ إنه ضرب من الفضول الذاتي الذي ينشأ من بواعث يصعب على المتلقي الإفصاح عنها، وهي غالبا متمثلة في نزوعه ـ بناء على رغبة فردية واعية أو عير واعية ـ إلى رفع الحجاب عما يجتهد صاحب السيرة في ستره ومواراته، إما لأنه من العورات، وإما أنه من جنس ما يخدش الحياء، ويمس بالأخلاق و المروءة.


د.أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

الرباط .. المملكة المغربية

أبو شامة المغربي
22/02/2006, 04:42 PM
بواعث تلقي أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة

(الجزء الثاني)


وبالإمكان أن نتحدث عن ضرب آخر من البواعث على قراءة أدب السيرة الذاتية ، ومنه بطبيعة الحال أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وهو نمط مغاير يتجاوز دائرة الفضول العفوي أو التلقائي إلى دائرة الفضول المنهجي أو العلمي، القائم على طلب المعرفة القصوى بقضايا وظواهر معينة، وجميع البواعث المندرجة في حقل هذا النمط من الفضول الذاتي المكتسب صادرة عن هاجس علمي، يكتسبه القارئ بفعل تراكم الخبرات لديه، وتفاعله مع التجارب التي عاشها في حياته العامة والخاصة، ومن بين أهم بواعث قراءة أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ـ بناء على ما وقفنا عليه من قراءات وتلقيات في كتابات طائفة من نقاد هذا الأدب ـ الصادرة عن هذا الجنس من الفضول، نذكر:

أولا : باعث المقارنة و البحث عن الذات، وهو أحد الأسباب التي تدفع بالقارئ إلى عقد مقارنة بينه وبين صاحب السيرة، وهو في هذه الحال يهدف إلى التعرف على ذاته، وإيضاح غموض شخصيته، والنفاذ إلى عمق حياته الفردية، أكثر مما يهدف إلى الإحاطة النسبية بذات المؤلف، ومن الخطأ أن يعتقد المرء بأن شريط ذكرياته لا يؤثر إلا فيه دون غيره؛ بل إن صدق كاتب السيرة الذاتية في الكشف عن نفسه كفيل بمنح الفرصة للآخرين حتى يكتشفوا ذواتهم.

ثانيا : باعث الاكتساب المعرفي، وهو سبب آخر يثير ما لدى القارئ من فضول منهجي أو علمي، فيجعله يتناول أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة رغبة منه في تحصيل معرفة محددة أو جملة من المعارف الإنسانية : تاريخية كانت، أم أدبية، أم نفسية، أم اجتماعية، أم فكرية وغيرها، أو محاولة منه لاكتساب خبرة معينة أو نهج في الحياة ، و هذا الباعث متعدد الأوجه، لأن المتلقي غالبا ما يترصد في السيرة الذاتية ما يكتبه صاحبها بصفته شاهدا على نفسه من ناحية، وشاهدا على ما يحيط به من جهة ثانية.

ثالثا : باعث البحث عن الحقيقة، وهو دافع يلتمس القارئ في ظل تأثيره وفاعليته معرفة حقيقة معينة أو مجموعة من الحقائق، ظل يستفهم بشأنها ـ لمدة قصيرة أو طويلة ـ كثيرا، وربما تحول لديه بعضها إلى هاجس وقلق ملازم له طوال الوقت، وهذا الباعث بدوره له مظاهر متنوعة، إذ قد يسعى القارئ إلى العثور بين ثنايا أي سيرة ذاتية على حقيقة تاريخية، أو اجتماعية، أو عقدية، أو سياسية وغيرها .

ومن المؤكد أن بواعث قراءة السيرة الذاتية الحديثة ذات الصفة الإسلامية ، ترتبط أصلا ببواعث كتابتها والغايات المرجوة منها، بالإضافة إلى صلتها الوثيقة بمنازع الجنس الأدبي الذي تنتمي إليه عموما، فشأن بواعث القراءة والتلقي ـ من حيث الكثرة والتنوع ـ كشأن بواعث الكتابة، باعتبار أن هذا اللون من الأدب الإسلامي لا يتم إنتاجه استجابة لباعث واحد، وإنما يتشعب منحى الدافع إلى التأليف، بقدر ما يتشعب مسار الباعث على الكتابة .

فما هي بواعث القراءة القائمة و الكائنة من ناحية، والممكنة والمحتملة من ناحية ثانية، إذا ما حاولنا استخلاصها وتحديدها من خلال طبيعة، ومضامين، وعوالم هذا الضرب من الأدب الإسلامي الحديث؟ وفي ضوء الكيفية التي يتم بها تلقيه من طرف نقاد أدب السيرة الذاتية؟

في مستهل الإجابة على هذا السؤال، تقتضي الضرورة المنهجية أن نشير إلى أن قراء هذا اللون من التعبير الأدبي ذي الصبغة الإسلامية ليسوا طائفة واحدة، تتواصل مع أصحاب السير الذاتية أو في ما بينها بلغة واحدة ، كما أنهم لا ينتمون إلى حضارة وثقافة واحدة، ولا يدينون بنفس العقيدة؛ بل إنهم متلقون تختلف ألسنة تخاطبهم و تواصلهم، وتتمايز بيئاتهم وعقائدهم، إذ هم باعتبار عنصري : اللغة والدين أربع طوائف:
أولا: طائفة القراء العرب
ثانيا: طائفة القراء العرب المسلمين
ثالثا: طائفة القراء الأجانب
رابعا: طائفة القراء الأجانب المسلمين .

فتبعا لهذا التصنيف، نلاحظ أن بين الطائفتين : الأولى والثانية قاسما مشتركا يتمثل في عنصر اللغة، و من ثم فإن لهما ذاكرة لغوية مشتركة، كذلك نفس القاسم يجمع بين الطائفتين: الثالثة والرابعة، في حين أن عنصر العقيدة الإسلامية يمثل قاسما وذاكرة مشتركة بين الطائفتين: الثانية والرابعة، ومن جهة ثانية نرى أن نذكر في هذا المقام بأن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة غير صادر عن ذات واحدة ، بحكم الخصائص التالية المميزة له، وهي: الانتماء القومي والتواصل اللغوي، والتراث الثقافي؛ إنها خصائص تدل على أن هذا الخطاب موزع بين فئتين من الكتاب:
الأولى : يمثلها الكتاب العرب المسلمون
الثانية : يمثلها الكتاب الأجانب المسلمون

ثم إن لكل قارئ، ولكل طائفة من القراء ـ كما سبق ورأينا ـ زوايا اهتمام مفترضة ومحتملة بأي سيرة ذاتية إسلامية حديثة، وهي كثيرة يصعب حصرها، ومختلفة يعسر ضبطها، لكنها شديدة الارتباط بنوع التساؤلات من ناحية، وبطبيعة الانشغالات الفردية والجماعية من ناحية ثانية، و هي استفهامات واهتمامات يغذيها حظ غير قليل من الفضول والحدس، سواء كانا ذوا طبيعة تلقائية أم منهجية، و بإمكاننا أن نلمح بجلاء مدار احتفال المتلقي بأدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، والذي يتمثل في ثلاثة محاور : الأول: محور الإسلام (العقيدة)، الثاني: محور الذات المسلمة (الإنسان المسلم)، الثالث : محور التجربة الإسلامية الواقعية (الفعل و الحدث) .

إن أهم بواعث القراءة والتلقي ، المتصلة بهذه المحاور الثلاثة، هي بواعث كبرى، يكاد خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ينفرد بها، بفعل الخصائص الإسلامية المميزة له، دون سائر الخطابات الأدبية، التي لا يدين أصحابها بالإسلام، وهي ذات الخصائص التي ستجعله يستقطب اهتمام مختلف القراء، سواء العرب منهم أم الأجانب.

فالمسألة تتعلق أصلا بالرغبة في التعرف على حقيقة العلاقة التي تجمع بين الإنسان و العقيدة الإسلامية، وبين الإنسان والتجربة الإسلامية الواقعية من ناحية ثانية ، مما يسمح للمتلقي بتمثل ومقارنة تجليات التواصل بين الذات العربية والإسلام مع تجليات التواصل بين الذات الأجنبية والإسلام، ثم مساءلة التجربة الإنسانية ذات الطابع الإسلامي في إطار هذه الشبكة من العلاقات التواصلية.

والراجح في ما يجعل من خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة محط اهتمام من طرف الذات المتلقية، وباعثا متشعب الأبعاد و الغايات على إنجاز قراءات خصبة و عميقة، هي مادته المتنوعة، وكثافة القضايا والمواضيع الغنية المطروحة فيه، ولم يكن هذا الخطاب ليعدم قاعدة واسعة من أصناف القراء وأنماط القراءات، بدليل انفتاحه على مجالات ينشط فيها الإنسان كثيرا، ويكفي أن نذكر أهم المحاور الخطابية الأكثر حضورا ، والتي تبعث المتلقي في الغالب، سواء كان عربيا أم أجنبيا، على تغذية فضوله المعرفي، وعلى اكتشاف ما انفردت به الذوات من تجليات، واستطلاع ما اختزنته الذاكرات من فضاءات زمانية، و مكانية ، وحدثية:

الأول: يتجسد في ظاهرة الصحوة الإسلامية الحديثة في العالمين : العربي و غير العربي، بحيث أن جانبا كبيرا من خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يشغله فعل التأريخ للصحوة الإسلامية بمختلف مظاهرها وآثارها ، و هو تأريخ في ذات الوقت لمعاناة الذات العربية المسلمة في سبيل التمسك بتعاليم الإسلام و الحرص عليها ، ثم الدعوة إليها بعد ركود حضاري طويل ، و في عصر نشط فيه الاضطهاد ، و صار فيه الفراغ الروحي شبه سائد ، و استشرى أمر العداء ضد كل ما هو نابع من الإسلام ، أو له صلة بالعقيدة الإسلامية .

الثاني : يتمثل في ظاهرة اعتناق الإسلام ، و التي تعتبر بدورها موضوعا مثيرا لفضول القارئ ، و إن كانت تمثل مظهرا للصحوة الإسلامية ، التي يشهدها العالم اليوم قاطبة، وهي لا تخلو من أهمية في تقدير المتلقي لها و حكمه عليها، باعتبار أن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ينطوي على فعل الشهادة من جهة، والتأريخ لتجربة الاهتداء إلى الإسلام، الغنية بما تجتازه الذات الأجنبية من معاناة من أجل العثور على الدين الحق، وذلك في وسط اجتماعي ينتقص ويزدري كل إنسان يهتدي إلى الإسلام و يدخل فيه .

ثم إن الذات القارئة تحاول إعادة التوازن المفقود لديها من خلال الاحتفاظ بقيم معينة، وتجاوز الأخطاء والعثرات؛ إنها تجربة يدخل المتلقي غمارها لبناء ذاته من جديد في ضوء تجارب وخبرات الذات الكاتبة، ومن ثم فإن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يحقق غاية مزدوجة يتقاسمها الكاتب والقارئ على حد سواء، باعتبار أن فعلي: الكتابة والقراءة يمثلان متنفسين متميزين، ينفرد الإنسان بالاستفادة منهما، ومن خلالهما تستعيد كل من الذاتين: الكاتبة والقارئة الكثير من انسجامهما وتوازنهما الطبيعي، وتتأملان بعمق وجودهما بمختلف أبعاده.

هذه حلقة أدبية نقدية نضيفها إلى سلسلة المقالات التي سردناها في باب أدب السيرة الذاتية، وهي حلقة تثير موضوع تلقي هذا اللون من الأدب، وعسانا مستقبلا بتوفيق من الله تعالى وسداد منه نسهب الحديث في شأن هذا الموضوع المحوري والهام ...


د.أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

الرباط ..المملكة المغربية

طارق شفيق حقي
22/02/2006, 04:56 PM
سلام الله عليك الدكتور أبو شامة الكريم


نرى فيما نرى أن نجمع هذه المقالات والبحوث في موضوع واحد يجمعها ,وقبل الدمج نطرح عليك الفكرة كما عادة المربد في هذه المقالات , وليكن العنوان ملف خاص عن السيرة الذاتية

ثم لو أحببت كذلك فبعد أن تكمل هذه البحوث ان أجمعها لك في كتاب الكتروني نضعه في مركز التحميل ويستفيد منه الجميع

ماذا قلت

تقبل تحياتي

أبو شامة المغربي
22/02/2006, 05:02 PM
درجة الصدق في أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة

إذ ا ما ألقينا نظرة على أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ، وجدناه فضاء تنشط فيه الذاكرة الفردية بامتياز كبير، ففي هذا اللون من الأدب يمارس الكاتب المسلم عملية الاسترجاع بشكل مكثف ، فنراه يبحر بذاكرته عائدا من الزمن الحاضر الذي يشهد فعل الحكي بالكتابة إلى الزمن الماضي الذي شهد مختلف التجارب التي خلفت في نفسه عظيم الأثر، و احتمل جميع الوقائع و الأحداث التي نحتت في قلب حياته آثارا ومعالم جد هامة .

ومن المؤكد أن الذات الإنسانية تستعيد سيرتها الماضية كي تسجل حضورها الفاعل في زمنها، الذي هو في نفس الوقت زمن الآخرين؛ إنها لحظة معرفة جذرية، تتأمل فيها الذات ذاكرتها، ولا شك أن من يكتب سيرته الذاتية يتحدث عن بني جنسه من خلال الحديث عن نفسه.

ثم إن عملية الاسترجاع لازمة أساسية بالنسبة لكاتب السيرة الذاتية ، الذي لا يستطيع أن يسرد تاريخه دون أن يطرق باب ذاكرته باستمرار، وذلك حتى يستقي منها مادة مشروعه الإبداعي، ويعيد من خلالها ماضيه من جديد، ثم إن القصد المبدئي من عملية الاسترجاع، يتمثل في تحقيق قراءة حاضرة، تساعد الذات الكاتبة على التعريف و الوعي بنفسها، وبيئتها، ونهجها في الحياة.

ثم لا شك أن الذاكرة هي المبدأ الإبداعي الفاعل في كتابة السيرة الذاتية، فهي لم تعد حضنا للذكريات؛ بل صارت عنصرا فاعلا في تقديم تلك الذكريات، بالإضافة إلى كونها تمثل الأساس الذاتي للماضي، ولا تشكل ترتيبا موضوعيا مطردا، متتاليا، وإنما تعكس حالة من التداخل بين الأحداث والوقائع؛ إنها ينبوع الهوية الشخصية لدى الكائن البشري، إذ تدخل كجزء رئيس في عملية بناء الهوية الذاتية للشخص، بحيث أنها ليست سجلا ينفعل فحسب؛ بل إنها مشارك فاعل بامتياز، وليست الذاكرة خازنة فقط للأفعال، والأحداث، والأمكنة، والأصوات، والأشياء.

ثم إنها تضفي على ما تختزنه جملة من القيم الإيحائية، ومن المؤكد أن التماهي بين الذاكرة والواقع، ومعادلة هذه الملكة لماضي الإنسان وحياته أمر غير وارد في أدب السيرة الذاتية بوجه عام، في حين أن الذاكرة هي وعي بمختلف هذه المرجعيات، وإدراك منظم لما تعرفه من تعقيدات وتشابكات.

لقد اجتمع واتفق رأي الأدباء والنقاد معا على خصائص ذاكرة الإنسان، بحيث ساقوا في شأنها الأمثلة، والشواهد، والخلاصات في كثير من كتاباتهم، بناء على كون الذاكرة ملكة عقلية مستبدة، والظاهر أن السيرة الذاتية في العمق ما هي إلا فعل أدبي وتاريخي، يستعين به الفرد ليعكس بالجهد بعض مخزون ذاكرته، المتمثل في جملة من المكونات الإسترجاعية الكبرى، التي تقتسمها الأطوار الحياتية المتلاحقة.

ولا شك أن الكثير من الأحداث والموضوعات المسترجعة تبقى راسخة بقوة في الذاكرة، لا تمحي وإن مر عليها زمن طويل، كما أن للزمان فعلا مباشرا، وسلطة واضحة الأثر في نسيان الكثير من الوقائع والمشاهد، إذ ـ في الغالب ـ كلما طال الزمن بالشيء إلا وصعب علينا تذكره، ومع ذلك لا يجب إغفال مفهوم الزمن الذي يقوم في أذهاننا، ويمكننا من تصحيح الشعور الذاتي بزمن الذكريات، فندرك أنها أحداث و تجارب لها صلة بالماضي.

ثم إن تحصيل الخبرات المختلفة ، أو معاينة عدد من المشاهد في آن واحد، يمنع الإنسان من استرجاعها جميعا، وقد يعود النسيان أيضا إلى وجود دوافع وأسباب شعورية معينة، بحيث يثير تذكر بعض الأسماء و جملة من الأشياء مثلا، أو بعض الأماكن، والمشاهد، والمواقف الشعور بالألم والمعاناة في أعماق الإنسان.

ومؤكد أن الذات تحاول قمع ما لا ترغب في استرجاعه والاحتفاظ به في العقل الباطن، لأنه يمثل في الأصل تجارب مؤلمة: هي إما رغبات لم يتم تحقيقها، أو مخاوف هزت كيان النفس، وليس بإمكان الذات الإنسانية أن تنفصل عن ماضيها، ذلك أن الحياة لا تغادر هذا الماضي وما يمثله من حمولة جد هامة، قد تنبعث أصداء أحد مكوناتها في أي لحظة من الزمن الحاضر، فتبسط سلطانها على الذات الفردية.

ثم إن أدب السيرة الذاتية هو احتفال في حد ذاته بالذاكرة، ومحاولة تهدف إلى إنقاذ حمولتها من آثار النسيان، الذي يترصدها على الدوام، كما أن هذا الأدب يفصح عن الرغبة في العودة إلى الماضي البعيد، ويفشي سر الحنين إلى البدايات والتجارب المبكرة، وذلك بقصد بعثها في الزمن الحاضر، ونحن نتفق مع من يرى بأن النسيان مصفاة لا تبقى إلا على ما هو أساسي، ولا تسمح بالمرور إلا لما هو جوهري.

ونحن نسجل هنا فارقا دقيقا بين الاسترجاع والاستعادة ـ حسب ما هو متعارف عليه في علم النفس ـ إذ العملية الأولى (الاسترجاع) هي بمثابة استحضار تلقائي لمكتسب أو واقعة حدثت في الماضي، أما العملية الثانية (الاستدعاء) فهي استرجاع إرادي متعمد لموضوع قديم.

ثم إن كل مادة مسترجعة يتم تذكرها بمساعدة مثير خارجي أو داخلي، يكون في الغالب من جنس المادة أو الذكرى ، كأن تكون المثيرات المرئية مثلا، باعتبارها موضوعات قائمة في العالم الخارجي، وشواهد على تجارب وأحداث ماضية ـ سببا في استرجاع الإنسان ذكريات مرئية، لكن المثير المساعد على التذكر ، قد يكون من جنس ذكرى أخرى مغايرة، إذ في بعض الحالات يكون المثير المرئي سببا في استحضار ذكرى مسموعة، أو مادة صوتية معينة، أو يكون المثير الصوتي المسموع عاملا مساعدا على استعادة ذكرى مرئية في الماضي.

إن المسافة الزمنية الفاصلة بين تاريخ السرد أو زمن الحكي في الحاضر و تاريخ وقوع الحدث المسترجع والتجربة المستعادة من الزمن الماضي، هي العامل الرئيس الذي يمكن الكاتب من كتابة سيرته الذاتية بقدر ملحوظ من التنظيم والتماسك، ومن إعادة ترتيب وقائع حياته الماضية، وهذه أهم السمات المميزة لأدب السيرة الذاتية، والملاحظ أن عددا من الأحداث والتجارب الذاتية تحتوي بعد وقوعها دلالة عميقة أكثر من غيرها، وتظل منفردة بقوة انبعاثها ومهابة حضورها، وذلك في كل مرة يبعث على استرجاعها أحد العوامل المثيرة، داخليا كان أم خارجيا.

ولا شك أن كتابة السيرة الذاتية تعكس واقعا ذاتيا غير مطلق، وذلك لكون هذا الواقع يجمع بين الحقيقة والتخيل في حدود معينة، وهي ازدواجية تقيم صلب الحياة الواقعية للذات الفردية، ولهذا السبب نرى من يكتب سيرته الذاتية، يجد نفسه مضطرا إلى ترميم ماضيه المسترجع بنسج تخيلي، لكن بشرط أن لا يخل بدعامة الصدق، وأن لا يحجب وجه الحقيقة، وهذا شرط لازم ودقيق، يتطلب من الكاتب قدرا من المرونة، وكثيرا من الحذر ساعة يعجز عن تذكر ما تنطوي عليه التجربة أو الحدث المسترجع من تفاصيل، يجهد نفسه في إحيائها من جديد بالكتابة.

إن كاتب السيرة الذاتية غالبا ما يلجأ إلى عملية الربط بين ذكرياته، محاولة منه لسد ما يصادفه من فراغات في سرد حياته المسترجعة، ومن ثم فإن الإبداع السيرذاتي يقوم على المزج بين حمولة الذاكرة الفردية وعنصر الخيال، فكاتب هذا الضرب من الأدب يستعين بذاكرته ومخيلته لبناء وترميم قصة حياته، وبذلك لا محيد عن الإقرار بضرورة وجود قدر من التخيل في تركيب خطاب السيرة الذاتية.

فهل يحق لنا أن نعتبر "الصدق" و"الحقيقة" في أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة قضيتين أو قيمتين زائفتين؟ هل بالفعل أن ما سنطلع عليه من خطاب ينتمي إلى هذا النوع الأدبي الإسلامي هو زيف بعيد عن الحقيقة ، و كذب بعيد عن الصدق؟ ثم هل من المستحيل أن يسترجع كاتب السيرة الذاتية ماضيه مطابقا للحقيقة و الصدق التامين؟

ومن الأسئلة التي يطرحها نقاد السيرة الذاتية عموما ، ما يتعلق بمدى وفاء الذاكرة الفردية للماضي؟ ومدى وفاء الكتابة للذاكرة؟ وما إذا كانت السيرة الذاتية قادرة أن تكون وفية للحياة الحقيقية لصاحبها؟ ثم هل الحقيقة معرفة لا تخضع للتغيير والتحول؟ وهل صدق الكاتب في سيرته الذاتية يظل مشوبا بالنقص؟ وأن قارئ الرواية يكون قريبا من الحقيقة أكثر من قارئ السيرة الذاتية؟

لا شك أن الاعتقاد في كون الرواية أصدق من السيرة الذاتية هو وَهم ساذج، وبقدر ما يتساءل النقاد يتساءل القراء عن الحد الفاصل بين الحقيقة والخيال في أدب السيرة الذاتية؟ وما نلمسه ـ في ضوء هذا التساؤل ـ من قلق ورغبة ، ينزعان بالمتلقي إلى تحري كل من الحقيقة والصدق في ما يقرأه من سير ذاتية، هو أمر طبيعي، يعود إلى الأصل الاجتماعي للكائنات البشرية، التي يرجع بعضها إلى بعض، باعتبارها مصادر معلومات، وإذا كان كل من كاتب السيرة الذاتية ومتلقيها يمتلكان ذاكرة، وهي الملكة الفردية الحافظة التي تمكنهما من التواصل المشترك، فإن السيرة الذاتية المكتوبة بالنسبة إليهما معا تمثل ذاكرة نصية مستعادة بوسائل لغوية وأدبية، وهي التي تتيح لهما ذلك التواصل.

إن من الواجب التمييز بين مفهومي: "الصدق" و"الحقيقة "، وما تعنيه "عملية الاسترجاع" الموسومة بالنسبية، وإلا فإن النظرة النقدية المتعلقة بهذه المسألة ستكون معرضة للخلل الاصطلاحي لفظا، ومعنى، ودلالة، وهذه ثغرة لن تخدم البحث العلمي في شيء، إذ ليس من الكذب أن يقيم كاتب السيرة الذاتية ـ بعد انتقاء مادته المسترجعة ـ جسرا من الخيال ييسر للحقيقة عبورها ، وهو بالطبع عنصر جوهري محكوم بحدود الصدق.

ثم إن إمكانية العثور على عقد أو ميثاق للسيرة الذاتية ، يلتزم من خلاله الكاتب مع القراء بقول الصدق وذكر الحقيقة غير مستبعدة تماما أو مستحيلة، وأدب السيرة الذاتية الإسلامية ـ الحديثة منها والقديمة ـ خير دليل على ذلك، ثم هل من الصواب أن نقرن من جهة ثانية الحقيقة والصدق بسير المشهورين دون المغمورين ؟

ومن الخطأ أن تتم استعارة النموذج الغربي جملة وتفصيلا لكتابة السيرة الذاتية الإسلامية ، فمفهـوم الجرأة ـ المحكـوم بالـنزوات و الأهواء ـ لدى الغرب ليس هو نفس المفهوم ـ المشبع بروح العقيدة والأخــلاق الإسلامية ـ لدى العرب المسلـمين، ولا شك أن الأدب الإسلامي لا يبيــح (الأدب) الجنـسي الصريح ، لأنه يشيـع الفاحشة.

ثم هل عيب السيرة الذاتية كامن في ذاتية مؤلفها ؟ بدعوى أن الإنسان لا يستطيع تحليل نفسه، وعرض تاريخه بكيفية موضوعية، لأن كثيرا مما يراه غيره فيه يتعذر عليه رؤيته في نفسه، والنفس لا ترى نفسها إلا بمرآة، والشيء إذا زاد قربه صعبت رؤيته؟ وهل صحيح ما يعتقده البعض من انعدام العلاقة بين الأخلاق والصدق والأدب؟ !

إن الأدب الإسلامي لا يقيم أي وزن لما يسمى (الأدب المكشوف/ الأدب الإباحي)، المتصف بالعري والإباحية، والذي عرفه الأدب العربي القديم كما يعرفه اليوم الأدب العربي الحديث، ولا شك أن العلاقة الوثيقة بين الأدب والأخلاق دليل على مدى تفاعلهما الحتمي والمتواصل، وأن المذهب الذي ينادي أصحابه بإجراء القطيعة بينهما لا يشهد له ولا يزكيه أبسط ما في الكون من حقائق.

ثم إن الدعوة إلى (الأدب المكشوف/ الإباحي) الذي تنادي به طائفة من (الأدباء)!؟
و(النقاد)؟ المنتمين إلى (مدارس نقدية) !؟ نابعة من الاعتقاد الشاذ في ضرورة إقامة القطيعة ووجوبها بين الأدب والأخـلاق، أو بين الأدب والدين، استنادا إلى نظرية الفن للفن، التي راجت في أواخر القرن التاسع عشر.
إن الكاتب المسلم ملزم أن يضع الصدق الفني في خدمة الصدق المجرد الطبيعي، وهو الصدق اللازم أصلا لنقل التجارب الذاتية بما تنطوي عليه من حسنات وسيئات، وأخطاء، وعيوب، لكن في غير ميع أو انحلال خلقي، ودون مزجها بالمتخيل والمتوهم من الأحداث، والوقائع، والمواقف، ثم إن من حق القارئ أن يطالب من يكتب سيرته الذاتية بالتزام الصدق في ما ينقله إليه كتابة من تاريخ حياته الخاصة، وأن يفصح بوضوح عن نيته في ذلك، ثم ليس قارئ السيرة الذاتية وحده الذي يرغب في معرفة الحقيقة والوصول إليها في سيرة الكاتب الذاتية؛ بل إن كثيرا من كتاب هذا الجنس الأدبي، يحرصون على التزام ذكر الحقيقة وبلوغها في سرد تاريخهم الفردي.

لكن من الخطأ ـ كما أسلفنا الذكر ـ أن نخلط بين قول الصدق والكشف عن الحقيقة، فقد يكون صاحب السيرة الذاتية صادقا دون أن يذكر كل الحقيقة، وإذا كان التزام الصدق في كتابة السيرة الذاتية هو المطلب الوحيد، الذي بإمكـانه أن يدفع كل شبهة عن ضمير المتكلم ( أنا )، وكل ما قد يـوحي به من نزوع صـاحبه إلى الكذب، فإن قارئ الـسيرة الذاتية يعمل على تقدير درجة الصدق فيـها، وموقفه رهين بمدى شعوره بالصـدق في كل سيرة ذاتية يقرأها.

ثم إن كان أصحاب الكتابات التاريخية الجادة يحرصون أشد الحرص على اقتفاء أثر الحقيقة، باعتبارها النواة الجوهرية في هذا الضرب من التأليف، فإن كتاب السيرة الذاتية مطالبون بذكر الحقيقة وملازمتها في ما يسردون من أحداث و تجارب ذاتية على القراء، لكنهم عاجزون عن تحقيق وإنجاز سيرة ذاتية لا تغادر صغيرة ولا كبيرة، بدءا من الميلاد إلى قبيل الوفاة، فهذا بالطبع أمر يلحق بالمستحيل، إذ لا تستطيع السيرة الذاتية أن تحيط بحياة صاحبها كاملة، لأن نصها المكتوب ينطوي على مسافات شاسعة من الصمت المضروب حول وقائع، وأحداث، ومحطات حياتية كثيرة، ثم إنه من المستحيل ـ وإن كان الإنسان يعيش مرة ثانية، حين يعود من خلال الذاكرة ليسترجع حياته بأكملها ـ أن يعيد من يكتب سيرته الذاتية خلق الحياة التي عاشها خلقا حقيقيا و بكيفية محكمة.

إن السيرة الذاتية لا تعني تمام حياة صاحبها يوما بيوم؛ بل هي جنس أدبي يعكس لنا ذات الكاتب ومخزون ذاكرته في حدود نسبية، وهذه الخاصية ليست مؤشرا على نية صاحب السيرة في إخفاء الحقيقة، أو قناعا يخفي وراءه نزوعه إلى الكذب؛ بل هو الدليل على قصور الكائن البشري، وعجز الإنسان عن بلوغ الكمال، والملاحظ أن كتاب السيرة الذاتية لا يسردون سوى التجارب التي أسهمت في تشكيل مسار حياتهم، وتدخلت في تكوين شخصيتهم، وأنى لهم أن يعرفوا أنفسهم و ذواتهم ليكتبوا عنها في ظل قصورهم وعجزهم الطبيعي ؟!




د. أبو شامة المغربي



kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

طارق شفيق حقي
22/02/2006, 05:11 PM
سلام الله عليك د أبو شامة مما سرني أن داء الدال لم يصبك كما أصاب غيرك

ويروق لي أن أناديك أخي الكريم

قد لامست معمل الفكر والقلب حين يعمل وأنت تفصل القول في البواعث وما هي إلا انعكاس منظم للعمل الأدبي القائم في المذكرات او السيرة الذاتية

قد كتبت نمطاً لا أعرف ماذا تسميه أنت وأترك لك ذلك : قصة بعنوان مذكرات شيطان مستجد
على الرابط

http://www.merbad.org/vb/showthread.php?t=1085 (http://www.merbad.org/vb/showthread.php?t=1085)


الفكرة راقت لي نوعاً ما وراقت للبعض وقد طالبني البعض أن اكملها وقد قلت ربما تكون مشروع رواية عربية وهي تعكس ما يمر على الإنسان من خلال تجاربه بالرغم من القناع المتحرك من شخصية لأخرى

لكني كما كنت أعترض على تقليد الرواية الغربية بمقوماتها وافرازاتها التي تليق بمجتمع غربي ولا تليق بنا


ثم أقول هناك من أطلق لقب سيرة ذاتية على الرواية ولم يفرق بينهما وفي الواقع الراوي أو الروائي لا يستطيع كتابة رواية إلا بعد كم وتراكم معرفي من خلال التجارب التي يمر بها

هنا أقول أننا علينا أن نكتب الرواية العربية او السيرة العربية لا الفن المستورد


لك تحياتي

أبو شامة المغربي
22/02/2006, 05:37 PM
سلام الله عليك الدكتور أبو شامة الكريم


نرى فيما نرى أن نجمع هذه المقالات والبحوث في موضوع واحد يجمعها ,وقبل الدمج نطرح عليك الفكرة كما عادة المربد في هذه المقالات , وليكن العنوان ملف خاص عن السيرة الذاتية

ثم لو أحببت كذلك فبعد أن تكمل هذه البحوث ان أجمعها لك في كتاب الكتروني نضعه في مركز التحميل ويستفيد منه الجميع

ماذا قلت

تقبل تحياتي
سلام الله عليك أخي الكريم طارق
في البداية أحييك على بالغ اهتمامك بمقالاتي حول أدب السيرة الذاتية، وإني لا أجد عبارات الشكر الأخوية التي توفي حق شكرك سوى مبادرتي إلى القول: جزاك الله عني خير الجزاء، وإني أحب أن أهمس لك أخي بأن أبا شامة ما هو إلا اسم مستعار لشخصي ..أما اسمي الكامل، فهو عبد الفتاح أفكــوح ..ويسعدني أن تكون أول من يعرف اسمي تاما غير منقوص ...هذا من جهة
أما بشأن ما تفضلت باقتراحه حول تجميع مقالاتي حول أدب السيرة الذاتية، فلا مانع لدي أخي الكريم ..وسأكون شاكرا لك جزيل الشكر إن بادرت إلى ما اقترحته علي مشكورا ...كذلك سأكون جد سعيد إن تم تجميع مختلف المقالات في كتاب إلكتروني ..وإنها لفكرة جميلة أخي طارق ...
تحياتي لك وللإخوة الساهرين على المربد مرفوقة دائما بالشكر والتقير
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
أخوك: أبو شامة المغربي ..عفوا، بل أخوك: عبد الفتاح أفكوح



د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

أبو شامة المغربي
22/02/2006, 10:58 PM
أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية وموضوعة المكان

(الجزء الأول)
إن آصرة الذات المسلمة بعنصر المكان قوية عموما، والسيرة الذاتية الإسلامية الحديثة من بين أنماط الأدب الإسلامي، التي تعكس طبيعة وتماسك تلك العلاقة، خاصة عندما يرتبط عدد من التجارب الفردية بأمكنة متميزة، تعثر فيها الأنا على امتدادها الروحي، ولا شك أن التأثير جد عميق ومتبادل بين الذات المسلمة والمكان الخارجي، ثم إن من الأمكنة ما يمتلك سلطة وقوة فاعلة في حياة الإنسان، هذا فضلا عن اشتمال المكان على قيم، ودلالات، وإيحاءات.
وإذا كان المكان فضاء يختزل شحنات دلالية، فإنه ينطوي على قيم ترتبط أساسا بالحياة الاجتماعية، والفكرية، والدينية، التي خاض غمارها كتاب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث، ومن ثم فإن المكان سيظل ذاكرة موضوعية، تتكامل مع ذاكرة الذات المسلمة إلى درجة التمازج، ويمكن اعتباره ـ بكل ما يشتمل عليه من معالم وموضوعات خارجية ـ موطنا خصبا للتأمل، والذكرى، والاعتبار، ومثيرا مساعدا على استرجاع أدق تفاصيل رحلة الفرد الحياتية؛ فالمكان يكاد يكون مدارا و نواة، بحكم ارتباط الذات المسلمة به، لأدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة.
ثم بالإمكان أن نقترب أكثر من تجليات المكان، ومظاهر الامتياز التي ينفرد بها في إطار هذا الفرع الأدبي المندرج في دائرة الأدب الإسلامي، والتي تكشف لنا بالتالي سبل توظيف الذات المسلمة الكاتبة لهذا العنصر الحيوي، وذلك في سبيل نشر تجربته الحياتية المتميزة، والإسهام في الدعوة إلى ما يعتقده و يؤمن به، ثم من أجل تحقيق تواصل فاعل مع المتلقي ، إذ من خلال المكان يبسط الكاتب المسلم أمام القراء مشاعره وانشغالاته، ويضفي عليه بعقيدته حلة إيمانية، يتجاوز بها ما يقبع فيه من آثار القلق، واليأس، والغربة، والتمزق.
إن القيمة الإضافية للمكان كامنة، كما أسلفنا، في خصب إيحاءاته ودلالاته من جهة، ورهينة بطبيعة الأحداث ومدى تأثيرها من جهة ثانية، إذ أن من الوقائع الحاسمة ما يذكر بأمكنة معينة، ومن الأمكنة كذلك ـ بكيفية جدلية ـ ما يذكر بلحظات سعيدة وإنجازات كبيرة في حياة الإنسان، ومنها بطبيعة الحال ما يذكره بنقيض ذلك كله.
ثم إن من الأماكن ما يذكر الإنسان بأحداث طفولته، ومنها ما يذكره بأحداث فتوته وشبابه، ومنها ما يذكره بتجاربه المتميزة، وبأحداث متفردة عاشها في أحد أطوار حياته المتأخرة، وقد تتفق بعض المواقف مع بعض في مكان معين و قد تتباين في آخر، وقد تنسجم جملة من الإنجازات في أحد الأمكنة وقد تتنافر في غيره، وربما تعايش بعض الأفراد في مكان، لكن بعضهم يصد عن بعض في مكان آخر، إلا أن المؤكد هو امتلاك عنصر المكان تأثيرا وسلطة على سلوك الإنسان، عادة ما تكون منسوبة إلى عنصر الزمان.
وإذا كان الروائي يصطنع بعض الأمكنة في ما يكتبه من رواياته، فإن الأمكنة في أدب السيرة الذاتية غير مصطنعة، لأن لها وجودا حقيقيا في العالم الخارجي، ثم إذا كانت للغة إمكانات التعبير عن المشاعر والرؤى الوثيقة الصلة بالمكان، فكذلك لها ذات الإمكانات على التعبير عما يختزنه خطاب السيرة الذاتية من شحنات الانطباعات والأحاسيس، النابعة من تفاعل الذات الإنسانية بالأمكنة على اختلاف طبائعها وإيحاءاتها.
ونحن نرى عنصر اللغة مفتاحا لبلوغ الحقيقة ومعرفتها، بقدر ما نراها ـ أي اللغة ـ كشفا للذات والتاريخ، إلا أن لها حقيقة خاصة تميزها في قلب خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وهي التي تسمح بإنتاج قناة خطابية تواصلية، وإنشاء جسر رابط بين الفرد والمجتمع.
فما من شك في كون المكان في أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة عنصرا جد هام، يسهم في إنتاج العديد من المشاهد والخبرات، ويشارك في إغناء الخطاب، فهو متعدد ومتنوع، قد يكون على سبيل المثال مغلقا أو مفتوحا، وقد يكون رئيسا أو ثانويا، فرديا أو جماعيا، ثابتا أو متحركا، وقد يكون إيجابيا أو سلبيا، مساعدا أو معاكسا، موحشا أو مؤنسا، ثم إن المكان يتميز بصفات أخرى غير هذه، كما أنه قد يجمع بين صفات متآلفة أو متناقضة، هذا بالإضافة إلى أن ثمة فضاءات مكانية مرئية في اليقضة والمنام في سياق رؤى معينة أو أحلام، وفضاءات مكانية متخيلة نادرا ما نصادفها.
ولا شك أن صفات المكان الكثيرة والمختلفة تدخل في علاقات متشعبة مع نفسية الكاتب، ومن ثم يضفي عنصر المكان تلقائيا جمالية معينة على فضاء السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، لا سيما عندما يقترن بأجواء الطفولة، أو الحياة العقدية والروحية للذات الكاتبة، وهو بالتالي يقوم وسيطا بين المؤلف والمتلقي في نقل كثير من الأحاسيس والإيحاءات، الدلالات والرؤى.
وقد يختزل المكان رؤية كاتب السيرة الذاتية، وكثيرا ما يكون أول عنصر يطالعنا في أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، خاصة عندما يتخذ منه الكاتب عنوانا ونافذة يطل منها المتلقي على فضاءات النص والخطاب، ويكفي أن نذكر على سبيل المثال العناوين التالية: (الزاوية)، (عالم السدود والقيود)، و(الإلغيات)، و(عن السجن والحرية)، و(الطريق إلى مكة)، و(رحلتي من الكنيسة إلى المسجد .. لماذا ؟!)، و( لماذا اعتنقت الإسلام؟ .. من روما إلى مكة).
إن للمكان في مختلف السير الذاتية الإسلامية الحديثة حضورا مكثفا، يفوق بكثير الواقع الزماني في أغلب المواقف والتجارب، ذلك لأنه عنصر و عامل مثير في حياة الإنسان المسلم، وفضاء واسع للاعتبار، والتدبر، والأمل، وهو من ثم عالم للاستفهام، والتطهير، والذكرى، ثم ليست مختلف الأمكنة ـ التي نصادفها في أي سيرة ذاتية إسلامية ـ عبارة فقط عن بؤرة تتجمع فيها العديد من القيم؛ بل إنها تمثل محاور معينة، منها الثابت القار، ومنها المتغير المتحول، وبعبارة أخرى نقول: إن من الأمكنة ما يمثل قوة موجبة، ومنها ما ينطوي على قوى سالبة.
فالصحراء ـ مثلا ـ والبحر، والقرية، والكتاب، والمسجد، والمقبرة، والمستشفى، والأماكن الإسلامية المقدسة (مكة و بيت المقدس)، جميعها أماكن تبعث في الذات المسلمة شعورا متفردا بقوة العقيدة، وأصداء مترددة من عالم الغيب ؛ إنها علامات بارزة راسخة في الذاكرة الإسلامية، يجدها الباحث ماثلة في الفضاءات التي يشتمل عليها خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، ثم إنها شحنات دلالية كثيرا ما تجسد رمزا كثيف الدلالة ، يفصح عن التحولات النفسية والفكرية للذات المسلمة.
إن الوجود بأكمله خطاب مفتوح من الله عز وجل موجه إلى الذات الإنسانية لتقرأه وتتدبره، ثم لتنظر في خلقه تعالى نظرة معتبر، ولتصغي في النهاية إلى صوت الفطرة، وتتمسك بالنهج الذي ارتضاه لها في حياتها الدنيوية، لكن ثمة أماكن أخرى، أبرزها السجن و المنفى، تشكل فضاء كثير من التجارب الحياتية بالنسبة للذات العربية المسلمة، ومجالا ضيقا معزولا عن العالم الخارجي، يحتد فيه الإحساس بالزمان والمكان، وتتضاعف فيه المعاناة النفسية بالدرجة الأولى.
إلا أن قوة العقيدة تفرغ كل تلك الأماكن المعاكسة من معناها المتواضع عليه بين سائر الأحياء من الناس على الأرض، لتكسب فيها معاني و مدلولات مغايرة تماما، لا تزيد الأنا المسلمة، سواء الفردية أم الجماعية، إلا قوة وارتقاء، واقترابا من الله عز وجل، ولا تزيدها إلا دنوا من حقيقة عقيدتها ومغزى خلافتها في الأرض.
هكذا تتمثل حياة الذات المسلمة ، بدءا وانتهاء، من الكون الفسيح وسط أحيائه وجميع موضوعاته إلى سجن النفس ومجاهدتها، ومن الاغتراب بين الأهل والناس وسط المجتمع إلى المنفى حيث العزلة عن العالم الخارجي، ثم من قلب الحرية وأحضان الحياة الكريمة إلى قلب المعتقل والسجن وما وراء قضبانه، ومن بهرجة واختلال المدينة وزيفها إلى توازن و تلقائية وبساطة القرية.
وإذا كانت للذات المسلمة، عربية أم أجنبية، تجارب مشتركة مع عنصر المكان، الذي تتماهى إيحاءاته مع شعور الإنسان المسلم، على أساس أن المكان هو جزء من تجربته الإنسانية، فإن ثمة أمكنة ترشح بالهدوء والسكينة، وأخرى تضيق بالقلق، والتمزق، والاغتراب، كما أن هناك أمكنة تزخر بالأسرار وتدعو إلى التأمل، وأخرى تعد ملجأ لمن ضل وأراد الاهتداء، ساعة هيمنة الشك وسواد الاضطراب.
إن للمكان إيحاءات ودلالات في حياة الإنسان المسلم ، الذي له بدوره انطباعات معينة عن الأمكنة التي عاش فيها وعرفها في حياته، ثم إن للمكان طبيعة خاصة، تتحدد من خلال جغرافيته أو معماره، فمن الأمكنة ما يتميز بجغرافية بسيطة، ومنها كذلك ما يتسم بجغرافية معقدة، ومن الأمكنة بالتالي ما يتصف بمعمار بسيط، ومنها ما يقوم على معمار معقد، وجميعها تخلف آثارا في ذهن الفرد المسلم، ومؤكد أن المكان مسرح لكثير من الأحداث والوقائع، التي تحتفظ بها الذاكرة الفردية والجماعية الإسلامية؛ إنه فضاء يوقظ في الإنسان المسلم أحاسيس ومشاعر تختلف بواعثها.
ولا شك أن المكان قد أصبح عنصرا حيويا في حياة الكاتب المسلم بامتياز، ذلك لأنه ارتبط بتجاربه الإنسانية، وبمسيرته الفكرية و العقدية، حتى صار ملجأ للتطهير ومحاسبة النفس، وباعثا على التأمل والتدبر، ومتنفسا للذات المسلمة المحتقنة بالأحزان والهموم الثقال، وفضاء مساعدا لهذه الذات على السمو و تجاوز ما يزج بها فيه من محن، وما تتلقاه من صدمات مدمرة.
وفضلا عن كون المكان يمثل مثيرا خارجيا وموضوعيا، يبعث على استرجاع حدث معين، أو تذكر تجربة فردية أو جماعية، فإنه محط اهتمام الذات المسلمة، باعتباره ظرفا ماديا مسخرا لبذل الجهود، وتحقيق الأفعال، وخوض التجارب، والتعرض للابتلاء؛ إنه وعاء موضوعي، يحتوي تفاصيل التاريخين :الفردي و الجماعي، وفضاء مساعد على اكتساب الخبرات، وبناء الحقائق، وتطهير النفس.
ثم إن أغلب التجارب التي يخوض الإنسان غمارها في مختلف أطوار حياته، ومعظم الأحداث التي يكون سببا مباشرا في وقوعها أو طرفا فيها، هي أحد المكونات الرئيسة للتاريخ الفردي الأكثر ارتباطا بعنصر المكان، الذي يظل بدوره المثير والباعث الأساس على استرجاعها.
إن ما يثير الانتباه من بين هذه الأنماط المكانية المختلفة، التي تطبع خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة بمنحى خاص، هي تلك الأمكنة المرتبطة بطور الطفولة، والمساعدة في كثير من الأحيان على تشكيل أحد أهم المكونات الإسترجاعية، الذي يمثل لوحده وبغير منازع معلما بارزا وسلطة قوية، تبسط ظلالها على محكي السيرة الذاتية بوجه عام.
هذا بالإضافة إلى أن الطفولة هي أهم طور تختزنه ذاكرة الإنسان، وإن كان من المتعذر الوقوف في أدب السيرة الذاتية على مستويات لغوية لفظية، تتدرج الذات الكاتبة عبرها من لغة الطفولة إلى لغة الشيخوخة، مرورا بلغة الفتوة، والشباب، والرجولة، والكهولة، بحكم أن أغلب السير الذاتية تكتب في مرحلة متأخرة من حياة أصحابها .
ولا شك أن الامتياز الذي ينفرد به المكون الإسترجاعي الطفولي، يعود من جهة إلى انجذاب الإنسان نحو زمن طفولته في المقام الأول، وإلى حنينه المتنامي ثانيا إلى ذكريات سنه المبكرة والحياة في الصغر، خاصة وأن الإنسان كلما شعر بالحاجة إلى الأمن والسكينة إلا ويعود بذاكرته إلى عهد طفولته، الذي يمثل المهد، والبداية السعيدة، هذا فضلا عن كون كاتب السيرة الذاتية يجد فضولا شديدا في أعماقه، ورغبة جامحة في التغلب على استفزاز الذاكرة الطفولية، ولا شك أن من يكتب تاريخه الخاص لا يقدم على هذا الفعل إلا طلبا للإحاطة بجذوره ومنطلق حياته ووجوده، وفي هذاالطلب دلالة على المكانة الهامة جدا لطور الطفولة، وما للذكرى الأولى من قيمة متميزة في تاريخ الفرد و في أدب السيرة الذاتية.
ثم إن الطفولة في حد ذاتها تعتبر من بين أهم ما تختزنه الذاكرة، وهي تمثل أداة دفاعية ووقائية بالنسبة إلى الفرد، الذي يستعين بها عن طريق الاسترجاع لمواجهة قسوة الواقع في الزمن الحاضر، وقد يتم اختزال العودة إلى الماضي في طفولة الإنسان، التي هي بدون شك فاعل أساسي في بناء أدب السيرة الذاتية، ولا شك أن المكان غالبا ما يشكل معالم الصور الأولى المختزنة في الذاكرة، والمسترجعة من طرف كتاب السيرة الذاتية.
ثم لا بد من الوقوف عند الهوية الحقيقية لمؤلف السيرة الذاتية، وذلك من خلال التمييز بين السيرة الذاتية التي يتخذ صاحبها طور الطفولة محورا في جزء منها، والسيرة الذاتية التي يحتفل كاتبها بطور أو أطوار حياتية معينة في جزء منها، خاصة وأن الهوية الإسمية تجمع بين السارد وما تجسد في ذاته من أطوار حياتية .
إن المكان عموما بالنسبة إلى الإنسان، والمكان الطفولي بوجه خاص، يمثل ذاكرة موضوعية ماثلة أمام عينيه، وقد اكتسبت هذه الذاكرة المادية قوتها ورسوخها على مر السنين لسبب واحد، هو أن الذات الفردية قد تستطيع أن تتمثل نفسها بدون مساعدة العنصر الزمني ، لكن ليس بمقدورها أن تستغني عن الظرف المكاني في تمثلها الذاتي، وهذا العجز هو الذي جعلها أكثر قربا من المكان وأكثر ارتباطا به.
وإذا كان بمقدور الإنسان أن يدرك الزمان بشكل غير مباشر من خلال فعله في الأشياء، ويحدد الأحداث عن طريق التأريخ لها، فإنه يستطيع كذلك أن يدرك المكان حسيا وبكيفية مباشرة، ويميز ما بين الموضوعات المتواجدة فيه، ثم إن المكان يمارس على الإنسان سلطة من خلال تأثيراته البالغة الأهمية، وبناء على ما تعكسه طبيعته، وما يوحي به شكله ، فهو يثير فضوله ويشد انتباهه، ويوحي له بأفكار، ويخلف لديه انطباعات.
وكلما ارتد سارد سيرته الذاتية إلى عهد طفولته، إلا ويجمعه اللقاء بهذه الذكرى أو بتلك، وهي في الأصل وقائع أو تجارب تجري في مكان معين، ولا تزيدها الأيام إلا رسوخا في الذاكرة الفردية؛ بل إنها قد تصير مصنفة لدى كاتب السيرة الذاتية إما من بين أجمل وأحسن الذكريات، أو من أقبحها وأسوئها.
وغالبا ما يدخل عنصر المكان طرفا في تشكيل جمالية الذكرى، التي يرتبط سر المتعة فيها بالحركة عموما، وهي تعد بمثابة الروح المانحة لعالم الطفولة معناه الحقيقي المتميز، إذ الحركة تختزل عالم الصغار (الطفولة)، بقدر ما يختزل السكون عالم الكبار (الشيخوخة)، ثم إن كل الأحداث / الذكريات التي تقوم على مبدإ الحركة في أمكنة محددة زمن الطفولة، يستعصي على من هم ليسوا أطفالا أن يدركوا حجم معناها، وعمق دلالتها، وكذا أبعادها الإنطباعية.
من المؤكد إذن أن لطور الطفولة في حياة الإنسان تأثيرا مميزا، وأن الطفولة باعتبارها موضوعا، ورمزا، ودلالة، لها من العمق والرسوخ في ذاكرته ما لاسبيل إلى إغفاله، إنها بحق موطن التجارب الإنسانية الأولى، ونبع إشعاع حيوي يستعصي جوهره على الوصف، ويعز عمقه على التحليل.





د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

الرباط .. المملكة المغربية

طارق شفيق حقي
22/02/2006, 11:21 PM
سلام الله عليك د أبو شامة
تم دمج المواضيف بملف السيرة الذاتية

تقبل فائق الاحترام على هذا الابداع والجهد
وسنحاول بعد أن تكمل هذه السلسلة أن نجمعها بكتاب الكتروني

تحياتي لك

أبو شامة المغربي
23/02/2006, 07:34 AM
:neeww:



أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة وموضوعة المكان

(الجزء الثاني)

أ ـ الكتاب القرآني
لا شك أن الكتاب القرآني يعد من بين الموضوعات، التي ينفرد بها الأدب العربي الإسلامي دون سائر الآداب في العالم، ويتميز بها الأدب العربي الإسلامي في العصر الحديث بوجه خاص، لكن حال الكتاب القرآني اليوم، تختلف عن حاله في السابق، حين نشأته وظهوره في المجتمعات العربية المسلمة، ويعود السبب في هذا الاختلاف والتباين إلى انحراف دور هذه المؤسسة التعليمية التقليدية، وغياب الالتزام بمبادئها وبكل أهدافها الأصلية ومناهجها الأساسية، وقد ظهر هذا الزيغ ابتداء من العصور التي شهد فيها العالم العربي الإسلامي انحطاطا فكريا واقتصاديا.
وقد شغل موضوع الكتاب القرآني اهتمام كتاب الرواية والسيرة الذاتية العربية الإسلامية الحديثة، إذ أجمعوا في إبداعاتهم على تناول نفس المشاهد والتجارب، والتمثلات والانطباعات المتعلقة بالكتاب، وهو المكان الذي يجسد إحدى العلامات المميزة للمكون الإسترجاعي الطفولي، والتي تندرج في إطار تشكيل فضاء الذاكرة الجماعية العربية الإسلامية.
ثم إن الكتاب هو المكان المتفرد بصلته الوثيقة بطور الطفولة، الذي قل بين مؤلفي السيرة الذاتية العرب من لم يعرج عليه متذكرا في سياق سرد تاريخه الخاص، وذلك بالنظر إلى طبيعته وإلى ما يحفل به من متناقضات وذكريات، يقتسمها الخوف، والألم، والغرابة .
لقد تم اختزال تلك الحياة المرعبة والمتقلبة، التي يحياها الطفل داخل الكتاب القرآني، في وقائع مرئية ومسموعة، ظلت مختلف طقوسها وتقاليدها منـزوية في ذاكرة كتاب السيرة الذاتية العرب، بحيث أن الكاتب العربي لا يجد أدنى صعوبة في استعراض مجريات أولى مراحل حياته التعليمية، وأكيد أن هذه المرحلة وما رحبت به من الآثار الموشومة في الذاكرة، كانت عاملا حاسما أسهم بكيفية مباشرة في تحنيط أجواء الكتاب القرآني في ذاكرة الإنسان العربي، حديثا وقديما.
ثم إن الحديث عن الكتاب القرآني في مرآة الذاكرة الإسلامية الحديثة يُلازم الإشارة إلى موضوعات كثيرة إذ يكاد الكتاب القرآني يكون ذاكرة موضوعية مشتركة بين الذوات العربية المسلمة، فذات الأجواء ونفس المشاهد والمواقف، والمعالم المكانية المرتبطة بالكتاب القرآني هي قواسم مشتركة بين الخطابات التي يشتمل عليها أدب السيرة الذاتية العربية عموما والإسلامية بوجه خاص، وهي خطابات يشهد بعضها لبعض في العمق والجوهر، ثم إنها دالة على التشابه والمماثلة القائمة بين طبيعة الكتاتيب القرآنية في أقصى المشرق العربي وطبيعتها في أقصى المغرب العربي.
أما الموضوعات المقرونة بالكتاب القرآني، والتي تكاد تسمه وترمز إليه، فيكفي أن نذكر منها القمع، والرعب، والضرب، والقسوة، وهي ممارسات تلحق الأذى النفسي والجسدي بالطفل في حاضره ومستقبله، ثم إن جميع هذه الممارسات وغيرها تصير صورة (الفقيه) أو (سيدنا) مختزلة لها في ذاكرة الطفل.
ثم إن ما يعتمد في الكتاتيب القرآنية من نهج غير سليم لا علاقة له بالتربية والتعليم، بل هو في واقع الأمر وحقيقته نهج قمعي مدمر لحياة الطفل المبكرة : النفسية والجسدية، وقد ساد ـ وربما لا زال يسود في حدود معينة داخل البلاد العربية الإسلامية ـ الاعتقاد لدى طائفة من الآباء في إيجابيته وفاعليته التربوية والتعليمية، ولم يشكوا لحظة واحدة في مصداقيته، وقد ظلوا راعين له مدافعين عن بقائه واستمراريته، لأنهم وجدوا آباءهم عليه معتادين؛ بل صار لديهم عرفان وميراثا تجب حمايته من الاندثار، فكان الأطفال ضحية لذلك النهج العقيم، وكانت آثاره ومخلفاته سيئة وجلية طوال مسيرتهم الحياتية.
تتفق إذن معظم الانطباعات عن الكتاب القرآني، وتتماهى الأوصاف لما يجري داخل هذا المكان من أحداث؛ إنها انطباعات سلبية و أوصاف مثيرة ومخيفة، تجمع على أن الطفل العربي المسلم يخوض تجربة قاسية في أولى مراحل حياته التعليمية، ويعاني منها أشد العناء، فهو مطوق بالقمع والخوف، ومهدد بالضرب والزجر لأتفه الأسباب في أي لحظة من طرف (الفقيه).
إن المعاناة النفسية تبدأ عند هذا الطفل، وتظهر آثارها عليه قبل أن يلتحق بالكتاب القرآني، بحكم ما يتراكم في ذاكرته من مشاهد، ووقائع مسموعة منفرة ومنكرة حول ما يدور في داخل هذه المؤسسة التعليمية التقليدية؛ لقد صار الكتاب القرآني، من خلال شكله المعماري والطقوس التي تجري فيه، مؤسسة تكرس نشاطا تعليميا قائما على ممارسات قمعية.
وتكاد تكون الأجواء السائدة داخل الكتاتيب القرآنية الحديثة صورة مرئية وسمعية واحدة، فإذا ما استعرضنا مختلف الشهادات الواردة في متون السير الذاتية العربية الإسلامية الحديثة، خلصنا من خلالها إلى مشاهد، وانطباعات، وأوصاف دقيقة للكتاب القرآني من الداخل؛ هذا العالم البسيط في مظهره، والمثير في مخبره، لا نعثر له غالبا في شهادات كتاب السيرة الذاتية العرب المحدثين إلا على صور سيئة، لا علاقة لها بتربية الطفل وتعليمه.
ولا شك أن مجموع تلك الصور السيئة تشكلت بناء على معطيات واقعية، إذ أن إرهاب الطفل وقمعه، ثم إكراهه على الخضوع لتقليد صارم ومنحرف منتهج في التعليم، وتعرضه لسوء المعاملة من خلال ممارسة العنف البدني عليه؛ هذه كلها أفعال تراكبت سلبا في ذهن الطفل، وخلفت لديه جراحا نفسية بليغة في حياته الدراسية، كما أسهمت في تكوين شخصية مضطربة وفاقدة للثقة في نفسها، فلم يكن الأسلوب المتبع لتعليم الأطفال داخل الكتاتيب القرآنية غير فعل تكميلي لمنهجية القمع المتبعة في الوسط الأسري، وهو حصار قمعي يتحول لدى الطفل إلى مصدر للرعب والانطواء على النفس نهارا، وإلى كوابيس متلاحقة ليلا.
لقد كان الحديث عن موضوعة الكتاب القرآني في أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية الحديثة مرآة عاكسة لكل ما له صلة وثيقة بهذه الموضوعة التي شغلت مكانا متميزا في الذاكرة العربية ذات الطابع الإسلامي الحديث، فهي تجسد إحدى أهم محطات طور الطفولة في البلاد العربية؛ بل إنها وشم في ذاكرة الإنسان العربي على وجه العموم.
ومما لا شك فيه أن موضوعة الكتاب القرآني قد أمدت من تحدثوا عن أنفسهم بنفس إبداعي مثمر، ومكنتهم من امتلاك شحنة سردية ووصفية بليغة وفنية، قد سرى مفعولها واتضح أثرها في الصياغة الأدبية لجانب متميز من مرحلة الطفولة.
ونستطيع أن نقول ـ بناء على ما اطلعنا عليه وسبرنا أغواره في شأن موضوعة الكتاب القرآني ـ إن هذه الموضوعة هي بمثابة عنوان رئيس وعلامة أساسية في مسار حياة من كتبوا سيرتهم الذاتية، إنها تجربة خصبة على مستوى ما توحي به وتفصح عنه من حقائق وإشارات، وعلى الرغم من قساوتها، فقد أفادت كثيرا في بناء قناعات مغايرة لتلك التي سادت في الماضي، وكانت سببا في إعادة النظر وتقييم العملية التربوية والتعليمية من جهة، وباعثا على التجديد، والاجتهاد، ثم بذل الجهد في سبيل تجاوز مختلف الانحرافات السابقة وكافة الممارسات العدوانية والمرضية التي يتبرأ منها العلم جملة وتفصيلا.

ب ـ القرية والمدينة
في البدء كان المجال الجغرافي والاجتماعي، الذي اصطلحت عليه الجماعة البشرية بالبادية، والريف، والقرية، أما المدينة أو الحاضرة فهي مكان جغرافي واجتماعي آخر، هو وليد منعطف تاريخي في دنيا الإنسان، ومن ثم فهو مجال محدث بالمقارنة مع الريف أو البادية، وقد كان الارتباط قويا وما يزال بين الكائن الإنساني والبيئة القروية، وربما بسبب قدم تاريخ القرية وعراقتها كان هذا النوع من الارتباط، وربما للسبب ذاته لا يغادر الحنين الإنسان إلى الوسط البدوي الريفي، الذي تتردد معالمه وخصائصه وأجواؤه كثيرا في متن السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة.
ويظهر جليا في ضوء كثير من القيم والأبعاد المرتبطة بعالم القرية أن الذات المسلمة تنجذب إلى امتداد فطرتها وحسها الإنساني في المجال الطبيعي الأول، المتمثل في الريف، وهذا الانجذاب يتخذ شكل موضوعة دالة على الطبع السليم في إطار رؤية إسلامية، إذ في القرية، حيث التواصل الحميم والألفة الشديدة، يجتمع الناس لينعموا بالحديث على طبيعتهم وبكل تلقائية في أجواء بسيطة، فيصير الإنسان مسكونا بروح الجماعة، بخلاف ما تشعر به الجماعة البشرية في المدينة، حيث يسود الزيف، والغربة، والوحشة، وحيث يتفشى الخداع ويكثر ارتداء الأقنعة .
إن المدينة مكان مفتوح، لكنها مع ذلك مكان يسوده الاغتراب والاضطهاد الإنساني، وهي في الغالب تحمل معاني معادية ونقيضة لمعاني القرية، وتأخذ في متن السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة رمز السلبية، والدخيل، والمصطنع، وذلك في مقابل الريف، والصحراء، والبحر، وهي أماكن من بين رموز الطهر، والأصالة، والسكينة، خاصة أن للمكان علاقة جوهرية بالإنسان، كما أن للموضوعات الطبيعية صلة جد وثيقة بالحالات النفسية للكائن البشري.
إنه الاصطدام الذي تعانيه الذات المسلمة مع بيئة مدنية، تناقض طبيعة الإنسان المشبعة بصفاء القيم، وقوة الفطرة التي تشكل مناعة ذاتية، تدفع بالكائن الاجتماعي إلى الانتصار للبيئة الريفية، المحافظة على نقائها وتلقائيتها، وإعلان المواجهة والحرب على قساوة الوسط المدني، فالقرية بيئة هادئة ومونسة، بينما المدينة بيئة مضطربة وموحشة، ثم إن الحركة التي تدب في أنحاء الريف تختلف عن الحركة التي تسود أرجاء المدينة، ومن أهم ما ترتبط به الحاضرة القلق الإنساني، والفقر المادي، والفراغ الروحي، والأمل الضائع، والطموح المتكسر، وبمراحل العمر الفارغة، التي تنتقل الذات بين شعابها تائهة من جدب إلى جدب، وسط أجواء عدالة مختلة، وهذه الثغرات هي مصدر أدواء المدينة.
ثم إن أفعال الإنسان غالبا ما تصرف في الوسط المدني وتذهب سدى عبر مسالك منحرفة ـ تفضي إلى فساد السلوك البشري، بحيث تتحكم الأهواء وتعمل على تنوعها ضد قيام وبناء وسط اجتماعي سليم، كان من المفروض أن يتحقق ويسفر عن وجهه بغير أقنعة مخيفة وصور مريبة، أما اليوم وقد تحولت المدينة إلى عالم كئيب يبعث الرعب في قلب الإنسان، ويذهب بعقله مذاهب شتى، فإن الذات المسلمة تستشعر قربها من الوسط الريفي، خاصة عندما تكون في أوج صفائها الذهني والروحي، باعتبار ما تعثر عليه من حياة مغايرة، مبنية على الانسجام والاعتدال، وهي حياة تظل الذات في شوق دفين إليها على الدوام ، لأنها الأصل والقاعدة البيئية الاجتماعية.
لا يخفي الإنسان حبه الشديد للقرية، لكن شوق الذات المسلمة إلى الحياة الريفية البسيطة في العصر الحديث، سرعان ما سيخبو ويصطدم بحقيقة القرية ، التي لم تسلم من سيئات المدينة، وإذا أمعنا النظر جيدا، فإننا لا محالة سنكتشف أن الأديب المسلم عاش تجربة الهروب من المدينة واللجوء إلى القرية منقوصة وغير مستوفية لشروطها، لأنه أدرك بأن المدينة صارت قدوة وحلما بالنسبة إلى الريف.
وقد نتج عن هذه الصدمة غربة مزدوجة تلاحق الذات المسلمة وتحاصرها، ثم إن الإنسان في هذه الحال سيجد نفسه مضطرا للعودة من جديد إلى البحث عن وضعه السليم ووظيفته المحددة داخل وسط اجتماعي آخر وبيئة مغايرة، بعد أن يكون قد أعياه الجري وراء سراب السعادة الوهمية، وأنهكته الحياة المادية الجافة بمتاهاتها، ثم إنه سيستشعر الحاجة في أعماق نفسه إلى طرق باب البساطة والاعتدال في الوسط الجديد، واتخاذهما بديلا للتعقيد والتطرف، فتصير لديه البداوة السوية عوضا للمدنية المنحرفة، وهذا الخيار طالما ازدراه وحط من شأنه، لما كان في غمرة انبهاره بالمظاهر دون الجواهر .

ج ـ البحر والصحراء
إن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة من بين الخطابات الأدبية الغنية بجملة من الموضوعات المحورية المتميزة، التي تدخل في تشييد بناء ومعمار دلالي متكامل ومحكم، باعتبار أن لها حضورا مكثفا وقويا في مسار هذا اللون الخطابي، فالصحراء مثلا موضوعة أساسية فاعلة في الذات المسلمة، وكذلك الشأن بالنسبة للبحر، إذ أن كلا من الموضوعتين يمثل فضاء رحبا للنظر، والتأمل، والمناجاة، وعالما جد مثير لطلب السكينة والاستقرار النفسي؛ هذا فضلا عن كونهما متنفسان تعاد في قلبهما صياغة الأسئلة الحاسمة، وصفحتان مجردتان من كل زيف أو تمويه، تتلاشى فيهما حيرة الإنسان وارتيابه، ونزواته وأوهامه، فالبحر والصحراء من الأماكن الغنية بالدلالات، ومن العوالم التي تكسب الإنسان معارف متجددة وخبرات متميزة.
ولا غرابة في كون البحر و الصحراء موضوعتين كونيتين ، دخلتا التاريخ الإنساني من أوسع أبوابه، واحتلتا ببساطتهما مكانة في حياة الأفراد، فهما من بين الفضاءات والعوالم الطبيعية، التي صاحبت الإنسان على امتداد وجوده، فكانت الصحراء مهدا احتضن رسالات التوحيد، التي كلف الأنبياء والرسل عليهم السلام بتبليغها للناس، فالبحر والصحراء منذ وجدا وهما بمثابة مرآة تنزع الأقنعة من الوجوه، ولسان كوني فصيح، يكشف حقيقة الإنسان كلما حاول الاستعلاء أو توهم القوة؛ إنهما فضاءان يلجأ إليهما الكائن الاجتماعي، عندما يضيق باختلال حياته وفسادها طلبا للحقيقة ، و بحثا عن الاستقرار و التوازن .

1 ـ البحر
والبحر واحد من تلك المخلوقات الكونية، التي تذكر الإنسان بوهنه وقلة حيلته في هذا الوجود، وهو واحد من تلك الآيات الشاهدة على قدرة الخالق و عظمته، وسعة رحمته سبحانه وتعالى، وواقع قائم في عالم الشهادة، وخطاب مفتوح يفصح للمخلوق العاقل عن حقيقته و يعظه؛ إنه كائن مسخر لدعوته إلى التأمل، والتدبر، واستخلاص العبر والحقائق، ثم إن اهتمام الإنسان بهذه الآية الكونية: (البحر)، ينشأ في وقت مبكر سابق عن لحظة المعاينة الفعلية، التي تمثل حدثا متميزا في حياة كل فرد، وتحقيقا لرغبة مؤجلة، وإشباعا لبعض الفضول.
إن لقاء الإنسان بالبحر هو حدث يجمع بين كائنين، تمتد بينهما جسور من الخطاب الرمزي، والتواصل الكوني، والشبه المجازي، إذ كل من الإنسان والبحر يعتبر كائنا غامضا، ينطوي على أسرار كثيرة، ويتسم بشكل ظاهر وعالم باطن، وكلاهما متقلب لا يستقر على حال؛ إن آثار اللقاء الأول للإنسان بالبحر، التي تختزلها وتمتصها الدهشة، ويتملكها الانبهار والإعجاب وتلك المعاينة الأولى للبحر كافية لتخلف لدى الإنسان انطباعات شتى ستحفظها ذاكرته على الدوام، ذلك لأن رؤية البحر لأول مرة، يندرج بين الأحداث واللحظات الحميمية، التي لا تمحي من ذاكرة الإنسان.
ثم إن البحر، باعتباره واحدا من بين الكائنات الطبيعية أو المخلوقات الكونية، يفضي إلى الإنسان ـ من خلال حوار خفي _ ببعض أسراره ودلالاته، بقدر ما يفضي إليه الإنسان بهمومه وانشغالاته، فتمتزج إيحاءات البحر ومظاهره بمشاعر الكائن العاقل ووجدانه، إلى الدرجة التي يبلغ فيها ذلك التمازج نوعا من الاتحاد الرمزي أو المجازي، ففي هدوء البحر واضطرابه، وفي مده وجزره، وفي سعته، وعمقه، وأسراره إشارة إلى طبيعة الإنسان وإحالة على تنوع انفعالاته، من سكون وحركة، وصمت وصخب، وسكينة وغضب، واندفاع و تراجع، وقلق واطمئنان، وظاهر جلي وباطن غامض.
وعندما تتمكن الذات من إبرام ميثاق تواصلي بينها و بين الأمكنة و غيرها من الموضوعات في العالم الخارجي، فتجري معها حوارا حميما و مسترسلا، فإن وقع الاغتراب يكون في هذه الحال قد اشتد عليها بين بني جنسها، وتكون حدة السؤال قد شغلت كل تفكيرها، فتزداد الهوة اتساعا بين مركز الذاتية وضفاف الغيرية، مما يحتم على الإنسان البحث عن محاور بديل، بقصد أن يلتمس عنده بعض الإعانة على تبديد قوة الشك والحيرة المتنامية، وأيضا بهدف العثور على الإجابة الشافية على كثير من الأسئلة عنده، بعد أن تكون قد استفزته واستعصى عليه أمرها.




د. أبو شامة المغربي


kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

أبو شامة المغربي
23/02/2006, 02:59 PM
:neeww:


أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة وموضوعة المكان
(الجزء الثالث)



2 ـ الصحراء
إن الصحراء مرآة للنفس البشرية المجردة، وللحياة الطبيعية دون قناع، ففي شساعتها وبساطتها ونظافتها عودة بالإنسان إلى فطرته وأصله ، و تطهير له من انحرافاته وأهوائه، ولا شك أن الصحراء بما هي عليه من صفات ومعالم، تجرد حياة الإنسان من كل الأقنعة والأوهام، ففي نظافتها وطهرها شفاء لما تراكم في أعماق الكائن البشري من علل وأدواء؛ إنها صارمة في كشف ضعف الإنسان ورفض عبثه وضلاله، وليست الصحراء ـ كما يعتقد أكثر أهل البلاد الغربية ـ مكانا تسوده قسوة البداوة وتمزق المجتمع؛ بل هي عند العرب وغير العرب المسلمين فضاء رحبا موحيا بأبلغ وأسمى القيم الإنسانية، ومجالا يفيض طهرا وصفاء، وخطابا كونيا مفتوحا، يوحي بالتوحيد والحياة المجردة من كل زيف وقناع.
إن الحالات التي تعتري الإنسان وهو في قلب الصحراء متكاملة الوظائف، إذ أن هذا الفضاء الجغرافي يمثل مسرحا لاكتشاف قيمة الحياة، واختبار الطباع البشرية مجردة من كل مظهر مزيف، وعلى الرغم من بساطة الصحراء والفراغ السائد فيها، فالجديد مباغث للإنسان على امتداد أرجائها، والإنسان الذي يخوض مشقة الرحلة والسفر فوق رمالها، وبين تلالها وكثبانها المتلاحقة، يكتسب باستمرار معرفة جديدة، ويكتشف أشياء كثيرة.
فالرحلة في الصحراء أشبه ما تكون بركوب البحر، بحيث إذا كان ركوب البحر يوحي بترقب سفينة أو رؤية يابسة قد تلوح في الأفق، فكذلك الرحلة في الصحراء توحي بترقب قافلة أو رؤية واحة قد تلوح وسط السراب، ثم إن كثبان الصحراء وتلالها تذكر كل من شاهدها بأمواج البحر.
أما اللقاء بين الناس المتنقلين في هذه الأجواء الصحراوية القاسية، والتحدث في ما بينهم، فذو طبيعة متميزة وألفة شديدة، وتمثل الصحراء إذن منبعا للحكمة، والمبادئ، والقيم الأصيلة، فالحضارة في أبهى صورها الروحية قائمة في الصحراء، وتحديدا في شبه الجزيرة العربية، بفضل الإسلام الذي أنار أرجاءها.
ومن ثم فالصحراء تعد سرا من أسرار الحياة، ومكانا يحث الإنسان على التخلص مما علق به من نواقص ورذائل، واكتسبه من شرور وآثام، ثم إن الصحراء آية سخرها الله لعباده لتوحي إليه بما عليه من مجاهدة نفسية، تقتضي الصبر والإيمان، وذلك في سبيل الوصول إلى الحياة الدنيوية المثلى.
إن ثمة فضاءات لا يملك الإنسان دفع تأثيرها، فهي بمثابة مثير خارجي للمشاعر والأفكار؛ بل إنها بواعث قوية لما تحتفظ به الذاكرة الفردية من أحداث ومواقف، خاصة منها تلك التي تتصل بالحياة العقدية للإنسان، فبإمكان المرء أن يستوعب التأثير المكثف لبعض الأمكنة المتميزة، التي تبعث في النفس انطباعات مختلفة، وتعمل على إحياء مشاعر دفينة في أعماق الإنسان، كما أنها توقظ في الذهن جملة من الإدراكات والتأويلات، حتى إن الذات تستشعر جاذبية الفضاء المكاني، وتتجاوب إيجابا مع جميع ما يشتمل عليه من موضوعات وآثار فعلية بالقدر الذي تعي به غنى وخصب إيحاءاته الرمزية.
ثم إن كل أدوات الاستقبال الطبيعية لدى الفرد، تسهم بتكامل وظائفها في تشكيل علاقات جديدة من داخل العالم الخارجي، فضلا عن كونها تمثل جسرا واصلا بين ذات الإنسان ومحيطه، حيث تختزل الأشياء ومختلف المعالم المكانية شحنات من الأفكار، والمعاني، والدلالات، وما هذه الشحنات في الأصل إلا نتيجة لما يخلفه الفرد من آثار خارج ذاته، ولما يضفيه من إنسانيته وروحه على كل الموضوعات المادية، التي تنخرط بهذا الفعل ومن هذه الزاوية في دائرة التجريد، لتدخل بعد ذلك في علاقات معقدة مع الذات.
وعندما يحتد انفعال الأنا بالمكان، يجد الإنسان نفسه في قلب فضاء يتأمله بكل ما أوتي من قوة تركيز، وكأنه يكتشفه لأول مرة في حياته، لكنه لا يستغرب وجوده بداخله، ويرى نفسه بعضا من الحياة التي يوحي بها المكان، وجزءا من حركة في مدار، ومن ثم يدرك بأن الذات الإنسانية ليست مركزا أو محورا، وإنما هي ذرة تسبح في فلك دائري، وبالتالي يظل المكان عاملا مساعدا على اكتشاف حقيقة بهذا الحجم و هذه القيمة.

د ـ المسجد
يعد المسجد من بين الأماكن الرمزية والهامة في العمران الإسلامي، فهو رمز للإسلام القائم على مبدأ التوحيد، وهو كذلك رمز لوحدة المسلمين، وعلامة بارزة تطبع الحياة الإسلامية اليومية، ثم إنه دعوة في حد ذاته إلى اتباع تعاليم العقيدة الإسلامية والتمسك بها، فهو فضاء ينطق ببساطته، وهدوئه، وإيحاءاته، ومكان تطمئن إليه النفس وتنجذب إليه، وعالم يذكر الإنسان بخالقه سبحانه وتعالى و بالدار الآخرة، ويذكره بحقيقة نفسه وبوظيفته ورسالته في هذه الحياة الدنيا.
وإذا كان المسجد يحتل مكانة كبيرة في نفوس العرب المسلمين و حياتهم اليومية، فإنه بالتالي ذو أثر بليغ في حياة الإنسان، الذي يهتدي إلى الإسلام ويدخل فيه بعد ضلال وبحث جهيد، رغبة منه في العثور على الدين الحق، ومن ثم فهو معلم جد هام وإشارة متميزة في تجربة الاهتداء، التي تعيش الذات الغربية و غيرها فصولها المثيرة، ويكفي أن المسجد (بيت الله تعالى) يرتبط في الغالب لدى الذات المهتدية بحدث دخولها في الإسلام، وذلك من خلال النطق بالشهادتين،.
ثم إن لفضاء المسجد ولجغرافيته وهندسته الأثر الروحي البليغ في نفس الإنسان المسلم، كما أن لأصوات المؤذن الذي يرتفع بالأذان عاليا من قلب المسجد ذات الأثر، فالفضاء الفسيح، وجمال الهندسة، وعذوبة الصوت، ثم ما يظهر على وجوه المصلين من سكينة وخشوع، جميعها عناصر تمارس جاذبيتها على الذات الإنسانية؛ بل وتمنحها من قوتها الروحية وإيحاءاتها العميقة حظا وافرا، وتعكس عليها جوهر البساطة ومنتهى التواضع.
ولا شك أن المسجد بالنسبة إلى الإنسان خطاب مفتوح على العين، والنفس، والروح، وبقدر ما هو خطاب موضوعي قائم في العالم الخارجي، بقدر ما هو دعوة إلى توحيد الخالق عز وجل، ثم إنه مثير روحي وباعث على معرفة الإسلام والتطلع إلى الحياة الآجلة الباقية؛ إنها الانطباعات، والشهادات، والأوصاف تدل على التأثير البالغ للمسجد في حياة الإنسان العربي المسلم، وهي عبارات تفضي بنا إلى حقيقة مؤداها أن المسجد مكون أساس وموضوعة مكانية رئيسة، لا يكاد يخلو منها متن السيرة الذاتية الإسلامية بوجه عام، ومتن السيرة الذاتية العربية الإسلامية بصفة خاصة.
ومن المؤكد أن تأثير المسجد في الذات العربية المسلمة، يتمثل في عمق العلاقة القائمة بينهما، فالمسجد مدرسة تصقل فيها أخلاق الإنسان المسلم، وتسدد في رحابه سلوكاته، ويتعلم فيه الكثير من القيم الإسلامية، حتى إن تنظيمه المعماري يعكس جوهر تلك القيم، هذا بالإضافة إلى أن المسجد يلزم من يلج إليه بسمات معينة، ومعنى هذا أن هذا المكان كغيره من الأمكنة لا يشكو فراغا أو سلبية، وأن الكيفية التي يتم إدراكه بها، تزكي فيه ما يكتسيه من دلالات خاصة.
ثم إن المسجد مكان يثير فضول الذات الحديثة العهد بالإسلام، ذلك أن أول ما يحرص عليه الإنسان المهتدي هو التعرف أكثر على هذا المكان ووصفه من الداخل بدقة متناهية، والاجتهاد في استقراء كل ما يجري فيه، ومحاولة النفاذ إلى عمق كل جزئية وثيقة الصلة به، وكأنه يحاول من خلال الكلمات أن يلتقط له صورة معبرة أساسا عن الأجواء الروحية الماثلة فيه، وأن يفضي إلى جوهر الإسلام من خلاله.
إن المسجد بالنسبة إلى الإنسان الداخل حديثا في الإسلام فضاء يحثه على القيام بمقارنة بين أجواء التوحيد السائدة فيه، المحكومة بالخشوع والنظام، وأجواء الكنيسة التي يسودها الشرك، والضلال، والتحريف، ومن ثم تخلص الذات المهتدية إلى تلمس الفرق الكبير بين وظيفة المسجد ومدى تأثير الحياة التي تسري فيه، ووظيفة الكنيسة المفتقرة إلى روح العبادة الحقيقية، فما يستشعره الإنسان في المسجد بعيد كل البعد عما يستشعره المرتاد للكنيسة ومناقض له تماما.
ثم إن المسجد مكان يثير فضول الذات الحديثة العهد بالإسلام، ذلك أن أول ما يحرص عليه الإنسان المهتدي، هو التعرف أكثر على هذا المكان ووصفه من الداخل بدقة متناهية، وكأنه يحاول من خلال الكلمات أن يلتقط له صورة معبرة بالدرجة الأولى عن الأجواء الروحية الماثلة فيه.
ثم إن ما يختلج في أعماق الإنسان الغربي، المقبل على الدخول في الإسلام، أو الداخل فيه، من مشاعر وتحولات، قد يكون باعثا قويا له على استكشاف المسجد الذي يرمز في وجه من وجوهه إلى إقامة الصلاة، باعتبارها أحد أركان الإسلام الخمسة، وغالبا ما ستكون للمهتدي عين واصفة دقيقة، سيحرص من خلالها على النفاذ إلى جوهر العلاقة القائمة بين ظاهر المسجد وباطنه، وسيجتهد ما وسعه الاجتهاد في استقراء حقيقة ما يجري داخل هذا المكان المميز عن غيره من الأمكنة.

هـ ـ مكــــة / الحج
موضوعة مكانية أخرى نعثر لها على أصداء، وإيحاءات، ودلالات في خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة؛ إنها مكة المكرمة، وعندما يذكر هذا المكان نستحضر فريضة الحج والركن الخامس في الإسلام بكل حمولته العقدية والشعائرية ذات الأبعاد الرمزية الكبرى في حياة الإنسان المسلم، الذي يتملكه الشوق والحنين إلى حج بيت الله تعالى وزيارة مدينة مكـة، تلك الأرض الطاهرة التي ترتدي حلة من البساطة والهيبة، والتي كانت مسرحا لكثير من الأحداث التاريخية الكبيرة في صدر الإسلام، بقدر ما كانت فضاء لمشاهد ومواقف عظيمة ومازالت، ويأتي في مقدمتها مشهد الحج الذي يتكرر مرة في كل سنة هجرية.
إن مكة موضوعة مكانية حاضرة في خطاب السيرة الذاتية الإسلامية العربية والأجنبية على حد سواء، وتكاد قراءة هذه الموضوعة أو استعادة مشهد الحج، سواء من طرف الذات العربية أم الأجنبية، تكون واحدة، ثم إن مكة / المكان، والحج / الحدث والمشهد، يجسدان في تكاملهما ذاكرة مشتركة بين الذاتين، مثلها في هذه السمة كمثل ذلك التكامل القائم بين المسجد / المكان والصلاة / الحدث، والذي يجسد بدوره ذاكرة مشتركة بينهما.

وثمة إشارات جد مركزة تثير انتباه من يقصدون مكة وبيت الله الحرام، فاختلاف الأجناس والألوان، واللغات، واللباس الأبيض الموحد والبسيط، ثم الكعبة، والطواف، وعرفة والوقوف بها، جميعها مثيرات خارجية تذكر الإنسان بفناء الدنيا وزوال زخرفها ونعيمها، وتبعثه على تدبر آيات الله عز وجل، وإدراك ماهية النفس وقدرها، ثم تحثه على محاسبة الذات والإعداد ليوم الرحيل واستقبال الدار الآخرة.
إنها علامات دالة في جوهرها على توحيد الله تعالى، وعلى وحدة المسلمين ومساواتهم، ولا شك أن مشهد الحج يوحي بعالم آخر جديد، كل ما فيه يشهد له بالسمو والتجرد، ويتوجه إلى الإنسان بالدعوة إلى الله عز وجل، ويذكره في العصر الحديث بذلك المجد والإرث الإسلامي القديم الذي ملأ الدنيا بنوره وأصدائه الإيمانية.




د. أبو شامة المغربي


kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

أبو شامة المغربي
23/02/2006, 04:43 PM
:neeww:




المكونات الخطابية الكبرى لأدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة

لقد أجمع أكثر النقاد والدارسين على أن السيرة الذاتية الفنية ترتكز على وحدة البناء، وتطور الشخصية، وقوة الصراع، والحقيقة التاريخية، ومصداقية السرد الأدبي الواضح والمباشر، هذا بالإضافة إلى رصد العالم الداخلي للذات الكاتبة، دون إغفال النظر إلى العالم الخارجي، ثم انتقاء كل ما يتناسب من المواد مع الصياغة المعتمدة من قبل المعني بالسيرة في هذا اللون من الأدب.
والملاحظ هو أن السيرة الذاتية المكتوبة، تختزل بشكل جلي ذات الكاتب والحياة التي اقترنت بها، وتسعى من جهة ثانية إلى الإحاطة نسبيا بما تبقى للكاتب من ماضيه، الذي يكتسي معنى ومدلولا ذاتيا وفقا لرؤية معينة، ثم إن هذا العمل الأدبي ـ الذي يجسد المعادل الموضوعي لسيرة المؤلف ـ يحمل في ثناياه نوعين من الازدواج: الأول متمثل في تكامل البواعث/ الأغراض الظاهرة مع البواعث / الأغراض الباطنة ، والثاني تترجمه تلك العلاقة الوثيقة القائمة بين الاستقراء الموضوعي مع التسويغ الذاتي، ومن ثم فإن مدار نجاح الكاتب في صياغة سيرته الذاتية على هذه الطبيعة الازدواجية ، التي تسم جنس السيرة الذاتية عموما.
ولا شك أن صاحب هذا المشروع الأدبي ، يدرك جيدا ما تعنيه الأبعاد المزدوجة ، التي تنطوي عليها سيرته الذاتية، خاصة إذا علمنا بأن هذا الضرب من الأدب له الكثير من أسرار الحكي ولذة القص وإمتاعه، وله من قوة التحليل النفسي وقوته، وكل ما يمنح العمل الفني ذلك الإشراق الإبداعي المتميز.
ثم إن كل من يكتب سيرته الذاتية، نراه يجد في بعث ماضيه و إحياء ذاته من جديد عن طريق الكتابة، وحتى يكتب له التوفيق في هذه المبادرة، لا بد من أن تشتمل سيرته المكتوبة على العبارة الموحية، والتجربة الشعورية، وذلك لتبلغ كل من التجربة والعبارة درجة التماهي النسبي عند الذات الكاتبة والذات المتلقية على حد سواء.
صحيح أن هذه الثوابت تمثل في واقع الكتابة الأدبية أركانا لا تقوم بدونها السيرة الذاتية الفنية، ونحن لا نرى لنا حولها جدالا أو عليها اعتراضا؛ لكننا لا نتفق ـ في سياق آخر ـ مع من يعتبر كتابة (الذكريات)،
و(المذكرات)، و(اليوميات)، و(الاعترافات) أشكالا من أدب السيرة الذاتية؛ بل نعتقد بأنها مكونات كبرى خاصة بخطاب السيرة الذاتية، أو هي أجناس أدبية صغرى، متفرعة من جنس السيرة الذاتية.
ثم إننا نعتقد اعتقادا راسخا بكون أدب السيرة الذاتية ليس مفهوما مرادفا أو مطابقا لأدب الترجمة الذاتية ـ وقد أفضنا الحديث في هذا الشأن في مدخل هذه الأطروحة، واجتهدنا ما وسعنا الاجتهاد في إيضاح مدلول كل من (السيرة الذاتية)، و(الترجمة الذاتية) من جهة، وفي التمييز بين الاصطلاحين من جهة ثانية ـ وانطلاقا من هذه القناعة، يقتضي المنهج العلمي السليم ضبط وتحديد مختلف الاصطلاحات التي تدور في فلك جنس السيرة الذاتية ، خاصة بعدما تحولت الذات الفردية إلى بؤرة اهتمام دقيق، وصارت مادة خصبة لعملية السرد الأدبي، إذ أنها ماثلة بدرجات متفاوتة في عدد من الإنتاجات الأدبية.
إذن من الضروري تحكيم ثلاثة معايير أساسية قبل الحكم على أي نص أدبي، يندرج في الإطار العام لجنس السيرة الذاتية، وذلك بقصد تصنيفه، ومعرفة ما إذا كان سيرة ذاتية مستوفاة لجميع شروطها وأركانها؟ أم أنه فقط أحد مكوناتها الكبرى وأجناسها الصغرى؟ أما المعايير فهي:
أ ـ شكل النص الأدبي: حكائي، ونثري أو شعري، ثم إرجاعي.
ب ـ الموضــــوع: التاريخ الفردي الخاص.
ج ـ وضع الكاتــب: مؤلف، وسارد، وشخصية رئيسة.
إن (المذكرات)، و(الذكريات)، و(الاعترافات)، و(الترجمة الذاتية)، لا تستجيب للمعيار الثاني، المتمثل في طبيعة الموضوع، الذي يجب أن يكون تاريخا فرديا خاصا وشاملا، و(اليوميات) لا تستجيب للمعيار الأول، المتمثل في شكل النص الأدبي، الذي يجب أن يتصف بالحكائية، ويتسم باسترجاع الماضي، أما السيرة الذاتية الروائية، فلا تلبي شرط المعيار الثالث، الذي يقضي بأن يكون الكاتب في ذات الوقت مؤلفا، وساردا، وشخصية رئيسة.
إن السيرة الذاتية ، باعتبارها جنسا أدبيا، تتسع لجميع تلك المكونات الخطابية الكبرى/ الأجناس الأدبية الصغرى، ووحدها تستجيب للمعايير الثلاثة، وبذلك استطاعت أن تنفرد بصفة الجنس الأدبي عن أدب المذكرات، والذكـريات، واليوميات وغيرها من مكوناتها الخطابية الكبرى، ولا بأس أن نسترسل قليلا في الحديث عن المكونات الكـبرى لأدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديـثة ـ والتي بطبيعة الحال ليست حكرا على هذا اللون من الأدب الإسلامي ـ أو ما يسمى تارة بالأنواع أو بالأنماط، ويطلق عليه تارة أخرى الأجناس الأدبية المجاورة لجنس السيرة الذاتية، فهل بالفعل ثمة صعوبة في الوصول إلى تحديد الفوارق القائمة بين (السيرة الذاتية) ومكوناتها الكبرى؟!
1 : أدب الترجمة الذاتية: وهو بإيجاز فن تأريخ الحياة الموجز، الذي يهدف به الكاتب إلى تقديم نفسه والتعريف بشخصه في صفحات قليلة، ونقتصر هنا على الإشارة إلى أن الترجمة الذاتية مكون لا تخلو منه أي سيرة ذاتية إسلامية حديثة بوجه خاص، وأي سيرة ذاتية على العموم.
2 : أدب المذكرات : هو ما يكتبه عادة شخص قام بدور بارز في مجرى الأحداث، سياسية كانت على سبيل المثال أم اجتماعية، ويهتم فيه أساسا بالأحداث التاريخية التي شارك فيها من بعيد أو قريب، وبالأحوال المحيطة به أكثر ما يحفل بوقائع حياته الخاصة، ذلك أن المذكرات تحتفل في المقام الأول بالشخصيات والأحداث، وكل ما يجري خارج وحول الذات الكاتبة؛ لكن هل صحيح أن جنس المذكرات هو أصل أدب السيرة الذاتية وباقي الأجناس الأدبية المتقاربة؟
وغالبا ما تجمع المذكرات الإسلامية الحديثة بين ما شاهده و سمعه الكاتب، وبين ما صدر عنه من أحاديث وأقوال وما أتاه من أفعال، وثمة بالفعل علاقة قائمة بين كتابة السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة وكتابة تلك المذكرات، إذ نادرا ما لا يتدخل كاتب المذكرات من حين إلى آخر في ما يكتب، وكذلك مؤلف السيرة الذاتية، قل ما تخلو كتابته من الأحداث العامة التي سبق له أن عاشها.
ولا شك أن "المذكرات" لها مكانتها العضوية، وحضورا طبيعيا لا ينكر في قلب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، باعتبارها مكونا فاعلا، بحيث من الخطأ أن ننتظر من كاتب هذا الضرب من الأدب الإسلامي التغاضي ـ حين سرده لتاريخه الشخصي ـ عما يجري حوله من أحداث ووقائع، وعما يشهده محيطه من الأوضاع والظروف، إذ لا يستطيع أي كاتب أن يتجرد من مشاعره وأحاسيسه إزاء ما يحتك به من مجريات العالم الخارجي.
إن "المذكرات" مكون أساس في كتابة السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وليس بالإمكان أن نتمثل أي سيرة ذاتية مكتوبة في غياب هذا المكون وغيره من المكونات الخطابية الكبرى، إذ أن السيرة الذاتية في النهاية ما هي إلا صياغة فنية، تجمع بين سائر مكوناتها، وليس صحيحا ما يعتقده البعض من أن لا خط يفصل ما بين السيرة الذاتية والمذكرات، وما بين السيرة الذاتية والرواية، وأن الأمر لا يعدو أن يكون مسألة نسب ودرجات.
ثم إن "المذكرات" ذات فائدة كبيرة، وتكتسي أهمية بالغة، وهي مدرجة في السيرة الذاتية، لأن التفاعل قائم بالضرورة بين شخصية الكاتب و الأحداث الخارجية، ومن ثم تتخذ صفة الوثيقة التاريخية، التي تكشف عادة عن خفايا ومجاهل تتصل أساسا بالذات الكاتبة، وتجلي طبيعة ما يربطها من علاقات متشعبة بعدد من الشخصيات، والمؤسسات وغيرهما، ثم إنها تعكس مختلف مستويات ومناحي الحياة السائدة في الوسط الذي نشأ فيه المؤلف.
3 ـ أدب الذكريات : هو فن تعبيري يحتفل بالمسترجعات من المشاهد و الأحداث، والمواقف واللحظات الأكثر إثارة و دلالة في حياة الإنسان، والأكثر رسوخا في ذاكرته، وكتابة الذكريات أوثق صلة بأدب السيرة الذاتية، إذ تتخذ "الذكرى" محورا ومدارا، وقد لا يعتمد فيها الكاتب الترتيب الزمني، بحيث يكتفي بالتذكر والاسترجاع التلقائي لأهم ما رسخ في ذاكرته وخلف في نفسه أثرا متميزا في الماضي، لكن عندما يتعلق الأمر بصياغة السيرة الذاتية، فإن الذكريات يجب أن تستجيب لشرط الترتيب الزمني، ولتحقيق هذه الغاية، يلزم أن يتمتع المؤلف بذاكرة قوية، تساعده على ضبط زمن كل ذكرى على حدة.
لكن إنجاز مثل هذا العمل، يظل متعذرا في الغالب، مما يحتم على الكاتب اللجوء إلى عملية الاسترجاع التلقائي أو التذكر العفوي لما مر به من تجارب في حياته، ثم إنه كثيرا ما يلجأ إلى عملية التخيل ليستعين بها في ترميم بعض ذكرياته والربط بين العناصر المكونة لها، خاصة تلك التي تؤرخ لطفولته.
4 ـ أدب الاعتراف: هو ضرب من الكتابة الأدبية، يفشي من خلاله المؤلف أسرارا شخصية جديرة بالذكر، ومفيدة بالنسبة إلى الآخرين في إضاءة جملة من الخبرات: من ميولات، وأهواء، وعثرات، ونزوات، ومشاعر، وأخطاء، و آثام، وأفكار، وآراء وغيرها مما له سمة الأسرار والمكتومات الشخصية، التي يضن ويحتفظ بها الإنسان لنفسه في الغالب، فنرى كاتبها يبوح ببعض ما يحرص الكثيرون على كتمانه وإخفائه عن غيرهم، و"أدب الاعتراف" مكون رئيس في كتابة السيرة الذاتية.
لكن الكاتب المسلم لا يذهب في اعترافاته إلى حد ذكر عوراته و كشفها أمام القارئ المتلقي، ولا يبلغ في ما يكتب من اعترافات درجة خدش الحياء، وإثارة الميع الخلقي في القراء، وإفساد الذوق العام؛ بل نجده يحرص على القيمة الأخلاقية في كل ما يعترف به، ويكتبه من ألفاظ وعبارات.
5 ـ أدب اليوميات: ضرب آخر من الكتابة الأدبية، وأحد المكونات الخطابية لأدب السيرة الذاتية، بحيث يتم من خلاله رصد الأحداث اليومية، أو وقائع أيام دون أخرى، حسب أهميتها التاريخية، وباعتبار ما تمثله في حياة الكاتب، وما حفلت به مميزات، وهي أيام كثيرا ما يجتمع ويتداخل فيها الذاتي والموضوعي من العناصر؛ إنها تسجيل مباشر للتجارب، لا يغيره أي تأمل لاحق.
ثم إن من طبيعة "أدب اليوميات" أنه يمتاز بالمباشرة الآنية، والتمكن من رصد ومتابعة الأحداث والمستجدات اليومية، مما يسمح للكاتب بتدوين ما مر به في يومه من وقائع هامة ومثيرة بدقة، باعتبار أنه يتخذ من مجريات الزمن الحاضر موضوعا لكتابته، وفي هذه الحال لا يسترجع ماضيا، ولا يسجل مستقبلا، لكن "اليوميات" تظل الأقل اعتمادا على تأمل الأحداث وتحليلها، والأقل ارتباطا و تماسكا.
وإذا كان من بين كتاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة من يحرصون على إفراد يومياتهم بمؤلف مستقل أو إدراج بعض منها في ثنايا ما يؤلفونه حول ذواتهم ، فذلك لأن لها قيمة أدبية وتاريخية لا يستهان بها، فهي قريبة جدا من الأحداث التي تحيطها بالوصف، وبذلك فهي مؤهلة لتجنب عامل النسيان، ثم إنها الأكثر تميزا بسمة الصراحة المباشرة، والكشف عن الكثير من طباع كاتبها، وهي فضلا عن هذا تسجيل دقيق، واقتفاء متواصل لانفعالات وأحاسيس صاحبها، وتطور شخصيته بوجه عام، ونذكر من بين كتاب اليوميات الإسلامية الحديثة، زينب الغزالي، وأحمد أمين، محمد المختار السوسي، وأحمد رائف، و مراد ويلفرد هوفما ( MURAD WILFRIED HOFMANN ).
6 ـ أدب الرسائل: فن تعبيري غالبا ما يتواصل كتابة من خلاله الأدباء، والعلماء، والمفكرون وغيرهم، وهو مكون خطابي في أدب السيرة الذاتية، يتخذ في معظم الأحيان صفة الوثيقة داخل هذا الأدب، والتي قد يقصد بها صاحب السيرة الذاتية استعادة الحقيقة التاريـخية المشوبة بالزيف والتحريف، ولتكون شاهدا على صدق حديثه من جهة، أو ليتخذها سبيلا إلى بعث مشـاعر، وأحاسيس، وانفعالات خبت جذوتها بفـعل طي الزمان لها، إذ يحاول بإحيائها استرجاع اللحظات المثيرة والمميزة التي كانت في تاريخ مضى فضاء لجملة من المواقف، والتجارب وغيرها من جهة ثانية.
ومن بين ما تتميز به المراسلات الشخصية، تلك المعلومات الثمينة التي تشتمل عليها في موضوع جملة من المواقف والأحداث، وفي ما يتصل بعدد من الأشخاص، إنها بحق أداة مساعدة ومكملة لما تنطوي عليه كتب التاريخ والحضارة الإنسانية، وليست مجرد وسيلة نتعرف من خلالها على شخصية كاتبها، أو أنها مجرد تعبير عن طبيعة مشاعره.
ثم إذا كان أدب الرسائل يشكل رافدا أسلوبيا ودلاليا بالغ الأهمية لمختلف ضروب التعبير الأدبية، وفي مقدمتها أدب السيرة الذاتية، فضلا عن الخصائص التي تسمه باعتباره خطاب شخصي في المقام الأول، فإنه في ذات الوقت يمثل جزءا هاما من ثقافة الشعوب، وشاهدا على الظرف التاريخي الذي عاش فيه مبدعوه، بقدر ما هو إنتاج إبداعي يساعد على اكتشاف جوانب خفية من حياة الأفراد...
هذه جملة من الأفكار النظرية والنقدية المتواضعة نبسطها أمام الباحثين، والدارسين، والمهتمين بأدب السيرة الذاتية، الذي لقي للأسف الشديد قدرا غير هين من التهميش والإهمال في البلاد العربية الإسلامية، فكان بالأحرى أن تتم العناية به، وإحاطته بما هو أهل له، وعسى أن تبعث هذه المقالة على السعي مستقبلا إلى تكريم جنس أدب السيرة الذاتية ...

د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

طارق شفيق حقي
24/02/2006, 11:17 AM
سلام الله عليك

جهد مشكور د أبوشامة

قام العزيز محمود بفتح موضوع قريب من السيرة الذاتية
http://www.merbad.org/vb/showthread.php?t=1639

أبو شامة المغربي
24/02/2006, 11:40 AM
أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة وموضوعة المكان

(الجزء الرابع)
وـ السجن و المنفى
لقد استطاعت السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة أن تكون إنتاجا يجمع من جهة بين الحس الأدبي الإسلامي والفعل التأريخي، وأن تصير ذات وظيفة مزدوجة: جهادية ومعرفية من جهة ثانية، ثم إنها استطاعت أن تفصح في جانب مهم من متنها وخطابها عن إدانتها للممارسات الوحشية والقمعية، التي شهدها العصر الحديث في كثير من السجون والمعتقلات داخل العالم العربي الإسلامي، والتي حولت الإنسان العربي المسلم إلى ذات موشومة بالأسى والحسرة، وذاكرة تنوء بجراح غائرة، وقد تمكن كثيرون ممن تعرضوا لمحنة السجن، والنفي، والاعتقال من التعبير عن التجربة، وتسجيل شهاداتهم نثرا وشعرا.
ثم إننا لن نكون مغالين أو مجانبين لقدر وافر من الصواب إن ألمحنا ونبهنا إلى كون تجربة السجن والاعتقال، تمثل في جزء لا بأس به من حيث الكم والكيف، داخل منظومة أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية، تلك الموضوعة المركزية التي تبسط سلطانها السردي على فضاءات وعوالم مكانية وزمانية، وتتخذ لها الشخوص والدلالات قطبا رئيسا؛ إنها التيمة/ الموضوعة التي كانت باعثا لكثير من الكتاب المشارقة والمغاربة على مصارحتنا بجانب متفرد من حياتهم الدامية، وإطلاعنا على تجارب عاشوها قاسية ومأساوية يجهلها أكثر الأحياء في العالم العربي الإسلامي؛ بل إن تجربة السجن والاعتقال كانت باعثا لهم على إشراكنا في بعض ما عانوه من ممارسات هادرة للكرامة، وفي بعض ما خلف جراحا عميقة في أنفسهم.
إننا أمام تجارب دامية، كُتبت ـ على حد تعبير نجيب العوفي ـ بنبض القلب وأشفار العين؛ بل إنها خطت بأنفاس الجسد ودمائه، ونحثت عميقا في الذاكرة قبل أن تصير حروفا على ظاهر الأوراق وباطنها، ولا شك أن ما كان من حظ الصفحات وبطون الكتب ليس سوى ظلال وأصداء بعيدة من عمق التجربة القاسية والمدمرة، ومن المؤكد الواجب أن تتم قراءة هذه التجربة بنبض القلب كذلك.
إن تجربة السجن والاعتقال والنفي تمثل إحدى أهم قضايا الاغتراب، التي ينطوي عليها أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة بصفة خاصة، لأنها تحكي جانبا كبيرا من تاريخ معاناة واغتراب الذات العربية المسلمة في العصر الحديث، ابتداء من منتصف الأربعينات من القرن الماضي، ولقد كتب لهذا الأدب (أدب السجون) أن يرى النور بقوة في مصر بصفة خاصة، ابتداء من أوائل السبعينات من هذا القرن، منشورا بين قراء العالم العربي الإسلامي من جهة، وبين قراء العالم الغربي و سائر بلاد العالم من جهة ثانية، إذ أن الكثيرين عبروا عن تجربة السجن، وسجلوا تجاربهم كشهادات وثائقية حية، أو من خلال أعمال روائية، وقد ارتأى كل واحد منهم أن يبسط أمام القراء بعضا من تجربته داخل السجون والمعتقلات، فجاءت كتاباتهم في هذا الباب شاهدا صارخا، وفصولا متكاملة لواحدة من أبشع و أفظع الممارسات القمعية التي ذهب ضحيتها الإنسان العربي المسلم الحديث.
ثم إن أدب السجون من الألوان التعبيرية، التي يتقاسمها النثر والشعر معا، ومداره من الناحية الموضوعية على المحاور التالية:
أولا: تصوير معاناة السجين داخل المعتقل، والمتمثلة في الآلام الحسية الجسدية والمعنوية الروحية الهائلة والمستبدة بشخص السجين نتيجة التعذيب الممارس عليه، بالإضافة إلى تصوير العلاقة القائمة بقوة الإكراه بين المسجون والسجان داخل المعتقل.
ثانيا: وصف نماذج بشرية، وأنماط سلوكية يرصدها السجين طيلة المدة الزمنية التي يقضيها داخل المعتقل.
ثالثا: الربط بين الحياة داخل السجن والأوضاع السياسية السائدة والقائمة، وما تشهده من اختلالات ، ومفاسد، و مظالم.
رابعا: الاستشراف النفسي المستقبلي، بين الأمل المشرق بالحرية الشاملة واليأس المطبق، الذي يسم الكلمات والعـبارات بلون قاتم، ثم النـظر إلى السـجن على أنه ابتلاء، وتجربة لها آثار وأصــداء نفسية وروحـية عمـيقة وبعيدة المدى.
لقد كانت المفاجأة والصدمة قوية و بالغة الأثر في نفوس قراء أدب السجون والمعتقلات في العصر الحديث، وذلك لما اشتمل عليه هذا الأدب من شهادات مؤثرة حول وقائع مأساوية ودامية، فكان بحق وثيقة تاريخية كشفت عن الوجه المرعب لواقع الأمة العربية المسلمة في العصر الحديث، ولم يكن التأريخ لهذه الحقبة الزمنية، من خلال أدب السيرة الذاتية أساسا، إلا مبادرة جاءت من باب الحرص على حفظ كثير من الحقائق التاريخية، التي شهدها التاريخ الحديث للأمة العربية المسلمة، وذلك خشية ضياعها، أو طمسها، أو تحريفها.
وقد عمل عدد من الكتاب على كتابة ونشر كل ما من شأنه أن يساعد على الإحاطة بملابسات تلك الحقبة الزمنية ومجرياتها المأساوية من جهة، بقصد الاستفادة من نتائجها المختلفة والمتعددة، وبهدف استخلاص العبر والدروس منها، وتلبية لنداء الواجب والمسؤولية، الذي يقضي بالتأريخ للدعوة الإسلامية في العصر الحديث، والعمل على استمرارها من جهة ثانية، وإنصافا كذلك للقادم من الأجيال العربية المسلمة، التي لها الحق في معرفة تاريخ آبائها وأجدادها، وماضيها وإرثها الحضاري بوجه عام، و تعد الأعمال الأدبية التي تم نشرها تباعا لهذا الغرض نمطا متميزا من أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة إذ يستقي خصوصيته من انفراده بسياق تاريخي معين، وبخطاب جماعي موحد، تحكمه لغة واحدة، وعقيدة دينية واحدة، وتتطابق فيه قناعات وانشغالات وتطلعات واحدة.
لا شك أن محنة الذات العربية المسلمة، وهي تخوض مكرهة تجربة السجن والاعتقال، كانت بالفعل عقدة مأساوية، ظل أكثر الناس في العالم العربي الإسلامي الحديث زمنا طويلا لا يعلمون وجودها، ويجهلون أحداثها الكبرى وتفاصيلها الدقيقة، لكن عددا من السجناء العرب المسلمين، الذين عاشوا تلك المأساة الدامية، حاولوا أن يترجموا شكلها ومحتواها من خلال الإدلاء بشهاداتهم، على الرغم من وعيهم وإدراكهم للعناء الذي سيلقونه في استعادة ما تعرضوا له من ألوان التعذيب والهوان، وما عاينوه من مشاهد وحشية، وعلى الرغم مما في سرد معاناتههم داخل السجون من الأذى لنفوسهم المكلومة، ومن الألم الشديد لذواتهم المتأزمة، إذ انهم رأوا التصريح بالشهادة واجبا مفروضا لا يجوز للإنسان المسلم أن يتخلف عنه، وأن من الإثم كثمان الشهادة.
إن في تأريخ الذات المسلمة لنفسها و غيرها ـ من خلال محنة السجن، والاعتقال، والنفي ـ معاناة جديدة لا تقل مأساة ولا تخلو من مشقة، إذ من العسير على السجين أكثر من غيره أن يقرأ ما احتفظت به ذاكرته من وقائع المحنة، ثم لا يجب أن يغيب عن الأذهان كون ما وعته ذاكرة السجين الفردية هو في ذات الوقت اختزال لما اشتملت عليه الذاكرة الجماعية التي يسمها تاريخ المحنة المشترك.
ثم ربما قد تواضع الناس منذ القديم على كون السجن في تاريخ البشرية، هو ذلك المكان المقتطع من العالم الخارجي والمعزول عنه، الذي بحكم انغلاقه وضيقه وعزلته، صارت الحياة بداخله ذات طابع خاص وطقوس غير مألوفة، باعتبار شذوذها وتناقضها مع تلك الحياة القائمة خارج أسواره، لكن الذي يحيا داخل السجن، تتطور نظرته مع مرور الأيام إلى هذا البناء، بقدر ما تتخذ الحياة في العالم الخارجي أبعادا جديدة ؛ فقط السجين وحده الذي يستطيع بين الأحياء أن يدركها حق الإدراك.
إن من الأمكنة ما يتحول لدى الذات المسلمة من عوالم وفضاءات معاكسة إلى مجالات مكانية مساعدة، باعتبار أن هذا الضرب من الأمكنة _ مثل السجن والمنفى _ يتخذ طابعا مزدوجا، يجمع بين بعدين متناقضين، يتجسدان في تقييد الحركة و التنقل الجسدي من جهة، وفي انطلاق الفكر متحررا من القيود المادية من جهة ثانية، وتعد الحرية الفكرية و الروحية ملجأ ذاتيا، يحتمي فيه السجين والمنفي من كثرة الضغوط الخارجية الممارسة عليهما وقساوتها، ومتنفسا طبيعيا لهما، ومصدر قوة يدفعان و يتحملان بها شدة معاناتهما.
ثم إن ما يمكن أن نفضي إليه من طبيعة الحياة الفكرية والروحية، والوجهة التي تأخذها هذه الحياة في إطار تجربة الذات المسلمة داخل السجن، نستطيع أن نستخلصه من نهج الحياة الذي تسلكه نفس الذات، وهي تعاني تجربة النفي، بحكم أن المنفى لا يقل قساوة عن السجن، ولا يختلف عنه كثيرا في التأثير، فكلاهما من طينة واحدة، إذ تعاني فيهما الذات الحصار والتضييق، بقدر ما تلاقي فيهما من الابتلاء والمجاهدة النفسية.
ولا شك أن كلا من السجن والمنفى من أكثر العوالم والفضاءات تجسيدا للمفارقات المبنية على الثنائيات الضدية، مثل ما بين داخل السجن والمنفى وخارجهما، وما بين الانفتاح والانغلاق، وما بين السعة والضيق، وهي ثنائيات جدلية، تتكامل ولا يلغي بعضها بعضا، ومن ثم فإن الإنسان وهو في قلب السجن والمنفى يشكلان ذلك التعارض بين الحيز المكاني المادي المغلق والمعزول والباطن النفسي الرحب.
ثم إن السجن يمثل واقعا خاصا، يجمع بين السجناء بحكم تواجدهم داخله من ناحية، وتتباين معاناتهم فيه باعتبار اختلاف انشغالاتهم ومدى تفاعلهم معها من ناحية ثانية، ومن ثم نخلص إلى أن السجن مكان يندرج ضمن الأماكن الباعثة على الحكي والكتابة، فهو فضـاء يشهد مخـاض وولادة الـتأريخ لتجربة خاصة، ذلك لأن الذات محاصرة فيه، والإنسان لا يستطيع الهـروب منه إلا بالاستغراق في التفكير، أو الاستعانة بالخيال، أو بإيجاد متنفس في أحلام ورؤى المنام.
لكن الكتابة والتأريخ لتجربة ذاتية في مثل هذا الوضع، يظل فعلا متميزا، ونشاطا من طبيعة متفردة، يمارس السجين والمنفي من خلاله حرية الفكر والتعبير، متجاوزا بذلك آثار الاعتقال والنفي وانعكاساتهما النفسية والجسدية، خاصة آثار تلك الأفعال القمعية التي تمارس على السجين المعتقل في مكان يفرض عليه باستمرار ضروبا من الرعب والقلق، ويسيج وجوده المادي كما يحاصر حياته المعنوية.
إن تأريخ الذات المسلمة لمحنتي السجن والنفي، هو رد فعل كبير على إهانة الإنسان المؤمن والعبث بكرامته، ودليل واضح على أن مصير كل محاولة تهدف إلى طمس الحقائق التاريخية واحد هو الفشل، هذا فضلا عن كون التأريخ للذاتين: الفردية والجماعية المسلمة وقراءة ذاكرتيهما هو ترجمة مختزلة لتجارب مأساوية، ظلت لأمد طويل مغيبة ومجهولة لدى عامة الناس.
ثم إن هذا الضرب من الكتابة يفيد الشعور بواجب الإدلاء بالشهادة، والإخبار، والاحتجاج، والدعوة إلى التأمل في طبيعة المواقف، والأحداث، وأسبابها، ونتائجها، وكذا مواجهة النفس وتطهيرها، وأخذ الدروس والعبر من الماضي، خاصة و أن الأيام التي يقضيها المعتقل والمنفي مكرها في السجن والمنفى ليست بالقصيرة وإن كانت معدودة، وكل من الذات السجينة، والذات المنفية تحرصان ـ في قلب الحيز المكاني الضيق والمعزول ـ على استجماع ما تفرق في العالم الخارجي من دقائق الحياة الشخصية، وهو فعل تقاومان به محنة السجن والنفي.
إننا أمام كتابة تعرفنا على أفراد حقيقيين، وتترجم لنا أحداثا وظروفا حقيقية لا نصيب للتأليف الخيالي فيها، فليست الذات وحدها التي تسجل حضورها في المنفى، وإن كانت الطرف المباشر الذي يخوض تجربة النفي، أيضا ليست الذاكرة فقط هي المنفردة بالتواجد فيه، على الرغم من أنها الملكة العقلية المسؤولة على تحنيط التجربة والاحتفاظ بها للذكرى؛ بل إن الكتابة بدورها شاهد على تجربة النفي، وحاضرة بقوة في نفس الحيز المكاني المحدود إلى جانب الذات والذاكرة.





د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

أبو شامة المغربي
24/02/2006, 12:10 PM
أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة وموضوعة المكان

(الجزء الخامس)
فليست الذات وحدها التي تسجل حضورها في المنفى، وإن كانت الطرف المباشر الذي يخوض تجربة النفي، أيضا ليست الذاكرة فقط هي المنفردة بالتواجد فيه، على الرغم من أنها الملكة العقلية المسؤولة على تحنيط التجربة والإحتفاظ بها للذكرى؛ بل إن الكتابة بدورها شاهد على تجربة النفي، وحاضرة بقوة في نفس الحيز المكاني المحدود إلى جانب الذات والذاكرة.
إن لفعل الكتابة في المنفى قيمة أدبية و تاريخية متميزة، فهو فعل إنسان منفي، ونتاج فرد في إطار ظرف خاص، هذا فضلا عن كونه أداة مساعدة لنشاط الذاكرة، ثم إن الوجود عادة في المنفى يعني العزلة عما يجري في العالم الخارجي، لكنه في نفس الآن يعني غوص هذا العالم _ المتجسد في الوطن _ عميقا في ذات الكاتب المنفي، مما يمنح الفرصة للمخيلة كي تنشط، وللأحلام والرؤى المنامية كي تتوارد.

إن تواجد الإنسان بغير إرادته في مكان مغلق، سواء أكان معتقلا أم منفى، هو سفر للذات بالإكراه داخل عالم محكوم بقوى معاكسة، يتحول فيه الزمن الحاضر إلى معاناة، وانتظار، وترقب؛ إنه زمن القيد والحصار العارض في مقابل زمن الحرية، وعندما يتحول الحاضر إلى فضاء للحلم، والرجاء، والإستشراف، ونافذة تطل منها الذات العربية المسلمة إلى المستقبل، يقوى الأيمان بفعل وقيمة الكتابة، وتسمو وظيفة التأريخ، باعتبار أنهما فعلان يمكنان من توثيق الأحداث، ورصد الأفكار والمشاعر، ومحاورة الذات المنفية أو المعتقلة من جهة، ويحفظان من جهة ثانية حق الأجيال اللاحقة في التعرف على أحوال أسلافهم .

ولا شك أن ارتباط حاضر الكاتب العربي المسلم بالسجن والمنفى، واقتران المستقبل بالإنعتاق والحرية، هو في الواقع ارتباط يتحول في ظله المستقبل إلى حياة مؤجلة، تفتقدها الذات المسلمة في زمنها الحاضر، وقد وظف معظم كتاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، الذين تعرضوا للنفي والإعتقال، سياقات خطابية دالة على تلك الحياة المنتظرة.

ليست ذاكرة السجين ملكة حافظة فقط؛ بل هي كائن فاعل ينحت فاعليته في قلب المحنة والعذاب، إنها ذاكرة مسكونة بمختلف الممارسات التعذيبية، والمشاهد الوحشية الفظيعة، التي تمثل في مجموعها بعضا من المعاناة المقترنة في حياة السجين بظروف عصيبة وأمكنة محددة.

ولا شك أن الإنسان السجين عندما يتذكر ما خاضه مكرها من تجربة الإعتقال، ويجسد ذلك بالكتابة، فإنه يبرهن على قدر كبير من الشجاعة، والفعل، والعطاء، في وقت لم يتمكن غيره من ممارسة ذلك الفعل وبذل هذا العطاء، ثم إن السجين يؤكد إنسانيته عندما يتذكر محنة الإعتقال بحمولتها القاسية، فهو يصرخ في وجه القائمين خلف مختلف الممارسات الحاطة من كرامة الإنسان، والمجتهدين في صياغة وحشد الأفعال المهينة والمشينة، محطما بذلك كل محاولات المحو والألم التي يستهدف الإنسان بها.

إن شهادة السجين مكاشفة صريحة، وفضح صارخ لممارسة تدمير القدرة الإنسانية، وطمس الهوية والكرامة، ومؤكد أن السجين قد خبر أقصى درجات المحو الوجودي، والبشاعة والرعب، وما تذكره لمعاناة الإعتقال في جوف الدهاليز، والأقبية، ومختلف الأماكن المعتمة إلا ألم وأي ألم.
ومن المؤكد ـ حسب اعتقادنا ـ أن أدب السجون يمثل إضافة نوعية إلى أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، ثم إنه بوجه خاص يشكل قيمة متميزة، ووجها إبداعيا بدأ في العقود الأخيرة يطل من نافذة هذا الأدب، وحتما سيشغل مكانة جد مهمة في ما يستقبل من الزمان.




د. أبو شامة المغربي


kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

أبو شامة المغربي
25/02/2006, 12:07 PM
:neeww:


السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة والأدب الإسلامي

تقتضي الضرورة المنهجية أن نتحدث قليلا عن "الأدب الإسلامي"، بحكم علاقته الوثيقة بموضوع هذه الدراسة، واعتبارا كذلك لما يشوب مصطلح "الأدب الإسلامي" لفظا ومفهوما من فهم خاطئ وريبة، وإدراك قاصر، وسنحاول التعريف بالأدب الإسلامي أولا، ثم نكشف بعد ذلك عن جميع الزوائد و الشوائب التي تحيط بماهية وأصالة هذا الأدب، إيمانا منا بقوة الصلة التي تجمع بين "السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة" و"الأدب الإسلامي" عامة.
إن معظم الأدباء، والنقاد، والباحثين يكادون يلتقون عند تعريف واحد للأدب الإسلامي، وهو الآتي : الأدب الإسلامي تعبير جمالي وفني مؤثر بالكلمة عن الحياة والإنسان، والكون، وهو صدى القيم في النفس والتصورات الفكرية من خلال الرؤية الإسلامية.
لقد اهتم كثير من الباحثين والنقاد بالأدب الإسلامي، فحاولوا كشفه وإيضاحه، واجتهدوا في إبراز خصائصه الفنية والموضوعية، منطلقاته وغاياته، عسى أن تتضح صورته النهائية في أذهان الأدباء، والنقاد، والقراء، ونجد أمامنا اليوم جملة من المؤلفات والدراسات النقدية والأعمال الأدبية، التي اتخذت الأدب الإسلامي محورا ومدارا.
وليست الدعوة إلى هذا الإتجاه الأدبي حديثة العهد، أو نتيجة لانتشار الصحوة الإسلامية؛ بل إن الأدب الإسلامي عتيق في آيات الذكر الحكيم وسوره الكريمة، وفي كلمات محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، وفي كم غير قليل من النثر والشعر العربي منذ بزوغ فجر الدعوة الإسلامية.
لكن ما يثير الإستغراب حقا، هو أن البعض يعتبرون مصطلح "الأدب الإسلامي" مجرد تعبير شاع في الأعوام القليلة الأخيرة، في ظل ما عرفته الحركات الإسلامية في مصر والعالم العربي الإسلامي من تطور ونمو؛ بل ويزعمون أن هذا الأدب لم يتم بعد تحديد اصطلاحه وضبط حمولته الدلالية بكيفية علمية، وهناك طائفة ثانية من الأدباء والنقاد ترفض الأخذ بمصطلح "الأدب الإسلامي"، وتأبى توظيفه بدعوى غيابه في الدراسات الأدبية التراثية، وثمة طائفة ثالثة تنظر إلى الأدب الإسلامي على أنه فكرة عاطفية غير ناضجة، تنطوي على نظرة تقديسية إلى الماضي، وتستدل على هذا الزعم والإدعاء بواقع العلاقة التي تجمع الأديب المسلم بالقرآن والسنة.

إن الأدب العربي الحديث يعاني من ظاهرة تغريب الذات المسلمة، وغياب الذاتية الإسلامية في هذا الأدب يعني أن الذات الكاتبة تشكو من انفصام شديد، وميزة الأدب الإسلامي تكمن في انفراده بقواعد أساسية لا تصدر عن مفاهيم وضعية، أو أهواء وتأملات بشرية؛ بل إنها قواعد نابعة من قلب العقيدة الإسلامية، القائمة على القرآن والسنة النبوية، ثم إن الأدب الإسلامي ليس مجرد تجربة عارضة أو عابرة، أو هو عبارة عن مغامرة فردية أو جماعية، قائمة على مبدأ "خالف تعرف "، وإنما هو أدب له من الخصائص المادية و الروحية ما لاسبيل إلى تجاهله أو إنكاره.

أما الشرط الأساس في الأدب الإسلامي، فهو أن يكون بالمعيار الإبداعي راجحا، وأن يكون الأثر الذي يتركه في النفس محمودا، وأن يرغب القارئ في الإسلام بمبادئه وقيمه السامية، باعثا له على الإقتراب منه، وليس المقصود بالأدب الإسلامى أن يكون تاريخا أو بحثا فقهيا، ولا تفسير آية أو شرح حديث، فهذه الأنماط من الكتابة ليست أدبا.

لكن الذي يجب أن نؤكد عليه وننبه إليه أولا و أخيرا، هو أن الأدب الإسلامي رهين بالإسلام، وموقوف على الأديب المسلم، وبعبارة ثانية نقول: إن الحديث عن الأدب الإسلامي في غياب العقيدة الإسلامية والذات المسلمة يعد ضربا من المستحيل؛ فنحن لا نتفق جملة وتفصيلا مع من يرى بأن الأدب الإسلامي يشمل كل نص أدبي، شعرا كان أم نثرا، يتحقق فيه المعنى الإسلامي، وإن كان صاحب النص لا يدين بالإسلام، ولا يلتزم به في واقع حياته.
صحيح أن جميع العصور التي عرف فيها الإنسان الأدب، لم تخل مما يجوز أن نسميه: "أدب الفطرة الإنسانية"، سواء الشفهي منه أم المكتوب، وهو أدب يتفق ولا يختلف في مضمونه ومحتواه مع "الأدب الإسلامي"، لكنه لا يتماهى معه أو يرادفه من حيث المدلول، واللفظ، والماهية، لأن أدب الفطرة الإنسانية يفتقد روح العقيدة الإسلامية، التي يجب أن تحكم رؤيته ومنحاه وغايته، بخلاف الأدب الإسلامي الذي ينبع من تصور الدين الإسلامي، ويهتدي بتعاليمه، وقيمه، ومبادئه.
نعم، قد تأتي على الإنسان غير المسلم أوقات يتحدث فيها أو يكتب تبعا لما فطر عليه، واهتداء بصوت الفطرة الذي يتردد صداه في أعماقه، لكن من المستحيل أن نلتمس الأدب الإسلامي عند كتاب يرفضون أصلا الانتساب إلى هذا الأدب، ويجهرون علانية بتمسكهم وإيمانهم بتصورات تناقض الإسلام في أصوله وفروعه.

ومما لا شك فيه أننا لن نتمكن بأي حال من إقرار المضمون الإسلامي لأي نص أدبي بدعوى أن صاحبه مسلم، لأن إسلام الشخص غير كاف للحكم بالـصفة الإسلامية لأي خطاب أدبي؛ بل إن الحكم بهذه الصفة يقتضي النظر في الإنتاج الأدبي، لكننا في ذات الوقت لا نتفق مع من يرى بأن مصطلح "الأدب الإسلام" لا صلة له بالأديب، وإنمـا هو دال على الأدب في ذاته، فهل نحـكم للـنص الأدبي بالصفة الإسلامية لمجرد أن صاحـبه استشهد بآية قرآنية أو بحديث نبـوي شريف؟!
وبناء على شرط الاعتقاد في الإسلام يظهر الفرق جليا بين "الأدب العربي" و"الأدب الإسلامي"، وهذه الحقيقة ليست وليدة اليوم؛ بل تاريخها يعود إلى مجيء الإسلام، حيث اتخذ الأدب منحى آخر ووجهة مغايرة لتلك التي عاشها في العصر الجاهلي، كما عرفت القراءة الأدبية تطورا ملحوظا، فصارت هي والأدب أداتين للتهذيب الخلقي، والتربية النفسية والروحية.
وبالفعل ارتقى الأدب العربي بفضل الإسلام إلى مكانة جليلة، بحيث لم ينف عنه المفهوم الذي عرف به في الجاهلية؛ بل قومه وسدده بأن وجهه الوجهة الصحيحة التي تمكنه من النمو والسمو الفكري والروحي، وهذه كانت روحا ودفعة جوهرية جدد الإسلام بها الحياة في قلب وجسد الأدب العربي، وهي نفس الروح التي يفتقر إليها معظم الإنتاج المنشور اليوم باسم الأدب العربي الحديث، الذي تحكمه في الغالب تصورات غير إسلامية، وتهيمن عليه رؤية غير واضحة المعالم، ويكفي أنه أدب تتنازعه مظاهر القومية، والإقليمية، والمحلية الضيقة من جهة، والمفاهيم والمواضعات من جهة ثانية.
إن الأدب الإسلامي هو الذي بإمكانه أن يشمل كلا من "الأدب العرب" و"الأدب الأجنبي"، لكن بشرط أن تكون الذات المنتجة لأي نص أو عمل أدبي معتقدة في الإسلام، وأن تكون كتاباتها الأدبية شاهدة على اعتقادها، إذ لا وجود إطلاقا لأي إنتاج أدبي مجرد؛ بل إن صلة كل إبداع وثيقة بما يدين به صاحبه، أو ما يؤمن به فكرا كان أم عقيدة، ثم إن الإسلام لم يكن يوما دينا موقوفا على العرب فقط، أو عقيدة مغلقة ومعزولة في مكان وزمان محدودين؛ بل منذ كان الإسلام وهو دين مفتوح أمام الأعاجم، وغير محرم على من يريد الدخول فيه طواعية.
هذه كانت نظرة وجيزة حول الأدب الإسلامي، الذي لقي بدوره دون وجه حق غير قليل من التجاهل المنكر من طرف الكثيرين، فهل من منتصر لهذا الأدب الشامخ العريق ..؟




د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

أبو شامة المغربي
27/02/2006, 10:56 AM
أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة في ضوء أساليب الكتابة

إذا كانت السيرة الذاتية تنفرد بمرونة سردية نادرة، تتجاوب وتتفاعل بها مع مختلف الأجناس الأدبية، فذلك لأن طبيعة جنسها قابلة لاستيعاب أي أسلوب أدبي، ومن ثم فإن درجة مرونتها البالغة، تسمح للكاتب أن ينحت لتاريخه الخاص جسدا مركبا من السمات المميزة لمجموع أجناس وألوان التعبير الأدبي المتنوعة.
ولا شك أن الأساليب المعتمدة في كتابة السير الذاتية الإسلامية الحديثة، تستجيب بمجموع مكوناتها لعملية التشكيل، التي تقوم على ما يرتضيه المؤلف من تنسيق لمواد سيرته، ثم بنائها على أساس الإحاطة بمسيرة حياته الخاصة، مع اعتبار نموه الداخلي وصراعه النفسي، والاهتمام بالملامح الخارجية وتحولها، علما بأن قيمة أي سيرة ذاتية من الوجهة الفنية تقاس بما فيها من الذاتية، وما تعكسه من قوة في استرجاع مختلف المشاهد، والمواقف، والأحداث ذات التأثير البالغ، و من معالم ولحظات التحول البارزة.
إن ثمة أساليب متنوعة لكتابة السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث، وهي أساليب مشاعة بين جميع كتاب هذا الضرب من الأدب الإسلامي، إذ منهم من ينهج في تأليف سيرته أسلوب السرد القصصي، أو أسلوب السرد الروائي، كما أن منهم من يسلك في تأليف تاريخه الشخصي أسلوب السرد المقالي، ومنهم من يمزج بين أسلوبين أو أكثر في الكتابة، على أن مختلف هذه الخيارات الأسلوبية لا تعفي المؤلف من شرط الاستقراء الذاتي، والغوص في أعماق النفس، والقدرة على التعبير و الصدق فيه.
فالأساليب: المقالية، والقصصية، والروائية حاضرة بنسب متفاوتة في نتاج السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وهي أساليب منتهجة من طرف المؤلفين، كل يأخذ بها حسب قناعته ورؤيته الإبداعية، وهي أساليب تساعد على القيام بنوع من التصنيف، والملاحظ ـ في ظل التمييز بين الأنماط الأسلوبية المعتمدة في كتابة هذا اللون من الأدب الإسلامي الحديث ـ هو إفصاح كل كاتب عن ذات نفسه، وذلك باختيار الأداة الأسلوبية التي اعتاد التعبير بها عن أفكاره، ومشاعره، وانطباعاته، فقد يكون متمرسا في كتابة المقالة، أو ذو حنكة في تأليف الرواية، أو له خبرة في كتابة القصة.
لكن هل لنا أن نقتنع بكون أدب السيرة الذاتية العربية في العصر الحديث غني بالأساليب والأشكال التعبيرية، وأن له بهذه الخاصية وهذا الغنى من القدرة الإبداعية ما يميزه عن باقي الأجناس الأدبية الأخرى؟ وهل بالفعل له من المرونة ما يمكنه من عدم التقيد بقواعد تجنيسية صارمة، وبالتالي يسمح له بالانفتاح على باقي الأجناس التعبيرية؟
إن الأساليب النثرية التي تطبع نتاج السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث، يتخللها حينا بعض الاجتهادات الفردية الملحوظة، لكنها في معظم الأحيان تظل محكومة بجملة القواعد المتواضع والمتفق عليها في تحديد ماهية جنس السيرة الذاتية، إلا أن السمة الغالبة في هذا اللون من التعبير الأدبي الإسلامي هي الازدواجية من ناحية والتعددية في الأسلوب من ناحية ثانية.
ومما يستحق الذكر في سياق هذا المحور، هو أن الفائدة الكبيرة التي خلص إليها كتاب السيرة الذاتية العرب المسلمون في عصرهم الحديث، والثمار التي جنوها نتيجة احتكاكهم بكتاب هذا الفن الأدبي من الأجانب ـ خاصة الغربيين منهم ـ قد تجلت آثارها في الأساليب التي صاغوا بها سيرهم الذاتية، ويكفي أن نستشهد في هذا المقام بما رسمه بعض الكتاب الغربيين من خطة لكتابة السيرة الذاتية، وكان ذلك أثناء دعوتهم محمد عبده إلى تحرير تاريخه الخاص .
أما الأسلوب المقالي، فله مظاهر وتجليات بارزة في كتابة السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، نذكر منها: التفسير، والتحليل، والإيضاح، بحيث تأتي السيرة الذاتية مكتوبة على شكل مقالة طويلة جد مسهبة، مشتملة على فصول قصيرة، تمت كتابتها في مراحل متباعدة من حيث زمن إنشائها مستقلة، لكنها ذات قاسم مشترك ـ متمثل في شخص المؤلف ـ تبدأ منه وتنتهي إليه.
ثم إن الكاتب باعتماده هذا الأسلوب، يبذل جهدا معينا في البحث عن وسيلة للربط بين فصول سيرته المقالية، معتبرا في هذه العملية مبـدأ التدرج في تسجيل أطوار حياته المتعاقبة، وحريصا في آن واحد على بناء قدر من الوحدة والتماسك بين أجزاء سيرته، حتى لا يستعصي على القارئ المتلقي أمر الجمع بين أجزائها، ومن خلال الأسلوب المقالي، يحاول كاتب السيرة الذاتية تفسير، وتحليل، وإيضاح وقائع حياته الماضية، وذلك باقتفاء أثر تحولاته المتلاحقة، وتسجيل تجاربه الفردية الحاسمة، ثم تمثل ذاته وكشف مجاهلها وما خفي منها، وبالتالي وصف تطور وعيه بالعالم وبذاته.
وأما الأسلوب الروائي، فليس له حضور مكثف في المتن العام للسيرة الذاتية ذات السمة الإسلامية الحديثة، إذ نلاحظ بجلاء أن القلة من الكتاب فقط هي التي استطاعت الارتقاء بكتابة السيرة الذاتية إلى درجة فنية متميزة، وذلك باعتمادها الصياغة الروائية دون غيرها من المقومات، في الوقت الذي انصرف فيه معظم كتاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة إلى التأليف وفق أسلوب المقالة، مع أن هذا الأسلوب كان يشوبه في بعض الأحيان ميل إلى التقرير، وتخالطه الصياغة الإخبارية الجافة.
ولا بأس أن ننبه هنا إلى كون السير الذاتية التقريرية والإخبارية الجافة، التي تفتقد القيمة الأدبية الفنية، والتي قد نعثر على البعض منها، لا تعني في شيء افتقار أصحابها إلى التجارب الفردية؛ بل إنها تدل على ضعف أداة التعبير الأدبي لديهم، وعدم تمكنهم من استيعاب مقومات الصياغة الفنية.
إن الأسلوب الروائي أسلوب تصويري، يتطلب من الكاتب الإفصاح عن جنس ما يكتب، وكل من يتخذ هذا الأسلوب أداة في ما يقصه من سيرته الذاتية، عليه أن لا يذكر إلا الحقيقة، وأن لا ينساق وراء الخيال، وأما المزج بين عدة أنماط أسلوبية في كتابة السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ، أو الإكتفاء بمزج أسلوبين فقط، فظاهرة ملحوظة، وإن كانت الازدواجية الغالبة في الصياغة، التي تمنح السيرة الذاتية إضافة نوعية، وقيمة أدبية، ودرجة فنية، متمثلة في الجمع بين أسلوب المقالة ـ المرتكز أصلا على التفسير والتحليل ـ وأسلوب الرواية المبني على السرد الروائي، والوصف، والحوار، وقدر من التخييل، الذي يلجأ إليه مؤلف السيرة الذاتية بقصد الوصل بين أجزاء الحقائق التي عرفها و أدركها في مسيرة حياته.
ثم إن هذا الطابع الأسلوبي الذي يجمع بين خصائص المقالة وخصائص الرواية، يمكن الكاتب من القيام بعمليتي: التحليل والتصوير، وذلك بهدف الإحاطة بمختلف التجارب الفردية، والمواقف الشخصية، والحالة الفكرية والنفسية، ويساعده على توظيف أدوات دقيقة لتحقيق تلك الإحاطة الذاتية؛ فالتأمل، والإيجاز، وربط النتائج بالمقدمات، بالإضافة إلى السرد الروائي المتسم بمسحة من التشويق ـ تشد القارئ المتلقي، وتثير فيه حس المشاركة الوجدانية مع صاحب السيرة ـ جميعها أدوات مساعدة.
إن كتاب السيرة الذاتية غالبا ما يتدرجون في سرد تاريخهم الفردي من الماضي إلى الحاضر، باعتبار أن الماضي وعاء لتجاربهم الخاصة المسترجعة في الزمن الحاضر، الذي يشهد إنجازهم الأدبي، لكن هذه الصياغة المنتظرة والمتوقعة ـ دون غيرها ـ من طرف القراء، والتي تطبع عملية السرد في السيرة الذاتية التقليدية عادة، وتحافظ على أفق انتظار القارئ ليست الخيار الوحيد المعتمد في متن السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة.
إن ثمة خيارات أخرى غير موقوفة على نمط بعينه، أو على توجه، أو تيار خاص في كتابة السيرة الذاتية، وإنما هي فسيفساء من فنون الصياغة، سائدة في العالمين: العربي الإسلامي والغربي، وأكثر تلك الخيارات أو الأوعية السردية وغيرها من الاجتهادات الممكنة في هذا الباب من التعبير الأدبي، تبتعد عن النمط التقليدي في كتابة السيرة الذاتية، وتؤسس آفاق انتظار مغايرة لما اعتاد القارئ، وتوحي في آن واحد بإمكانية إنتاج آفاق جديد.
والملاحظ أن كاتب السيرة الذاتية ـ ذات السمة الإسلامية الحديثة ـ غير مقيد في هذا التأليف بالتدرج التاريخي التقليدي، وفي اختياره للصيغة السردية المناسبة جزء من حريته الإبداعية، التي لا تضعف فضول القارئ، ولا تحد من رغبته في الاستطلاع؛ بل إنها قد تزيد بآثارها ونتائجها من درجة اهتمامه، وتغريه باكتشاف طريقة جديدة في عرض السيرة الذاتية، لم يعتد عليها كثيرا، وربما لم يصادفها قط.
ومن بين الخيارات السردية التي نصادفها في بعض السير الذاتية الإسلامية الحديثة ،تلك الصياغة المبنية على ترتيب لا اعتبار فيه للتسلسل الواقعي في الزمن، الذي ينتظم الأحداث والأطوار الحياتية، وإنما العناية فيه تنفرد بها الأحداث البارزة والدالة، التي يقع عليها اختيار صاحب السيرة، فيخصها دون غيرها بالذكر، أو يمنحها سمة الأولوية في فضاء إنتاجه الأدبي، ولا شك أن هذا الخيار السردي يسوده منطق القيمة الذي يحكم الحدث، مما يكشف بوضوح تام خطة المؤلف، وهو يتدرج في تقديم الأحداث الموصوفة في رأيه بأهمية بالغة وشحنة متميزة.
كذلك من بين الصيغ السردية التي نعثر عليها في متن السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، تلك الصيغة التي يبسط الكاتب من خلالها تركيبة معينة أمام القارئ، تتسم بالتلقائية و البساطة في التعبير، وذلك بقصد تحقيق تواصل أفضل، بعيد عن التكلف والتعقيد، وإذا ما نظرنا إلى عناصر: السرد، والوصف، و الحوار في أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وجدناها تتمثل في فضاءين اثنين هما: فضاء الذات (الفضاء الداخلي/ الخفي)، وفضاء العالم (الفضاء الخارجي / الجلي)، وهيمنة كل من تلك العناصر الثلاثة تبدو واضحة.
إن مختلف أساليب/ مناهج كتابة السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، تعكس ذلك الارتباط الوثيق بين السرد والأفعال المنجزة، لأن عملية السرد السير الذاتي بوجه خاص لا تستقيم إلا بتوالي الأفعال المسكونة بحركة معينة، وخطاب السيرة الذاتية ذات الصفة الإسلامية في العصر الحديث لا يزيغ عن هذه القاعدة، إذ يتخذ السرد منطلقا وبداية، باعتباره مستهل إبحار الكاتب في تاريخه الفردي.
ثم إن عنصري: الوصف والحوار يتكاملان مع عنصر السرد في تقريب المشاهد، والمواقف، والأحداث، والأماكن المسترجعة والماثلة في حاضر صاحب السيرة الذاتية، وما يضطرب من مشاعر وأحاسيس داخل الذات، وإذا كان التنوع يطبع أساليب ومناهج تأليف السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، فإن كتاب هذا الضرب من الأدب الإسلامي يوظفون السرد، والوصف، والحوار بوعي ملحوظ وإدراك بالغ، لأنهم يعلمون جيدا أن هذه العناصر الثلاثة هي أدوات مساعدة لهم على نقل سيرتهم الذاتية و صياغتها من جديد صياغة فنية إبداعية، إذ أنها ـ على الإطلاق ـ مكونات خطابية صغرى تقتضيها الكتابة الأدبية، وبتوظيفها يتمكن الكاتب من تحويل سيرته الذاتية من واقع عاشه بالفعل إلى ذاكرة نصية.
ولا شك أن ثلاثية: السرد، والوصف، والحوار، تسهم في تحقيق التوازن الخطابي في أي كتابة أدبية، وحاجة مؤلف السيرة الذاتية إليها تبدو ملحة أكثر من حاجة غيره، لأنه مطالب بإطلاع القارئ على تجاربه وخبراته الذاتية، ومكاشفته بأدق أحاسيسه ومشاعره.
ومن هذا المنطلق الرئيس، رأينا كتاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة كيف استعانوا بعنصر السرد لتنظيم خط سير الأفعال المنجزة على امتداد الزمان والمكان، وكيف وظفوا عنصر الوصف لتصوير ونقل نشاط ذاتهم الباطنة، ومختلف أنماط الحركة، والمظاهر القائمة والموضوعات الماثلة في العالم الخارجي، ثم رأيناهم كيف استخدموا عنصر الحوار، حتى يبعثوا من جديد محطات ومواقف من ماضيهم، ويجعلوا أجواء خطابهم أكثر حيوية وتشويقا.
وحسب اعتقادنا نرى بأن الوصف في أدب السيرة الذاتية لا ينحصر في توظيفه كأداء تبليغية يعتمدها الكاتب قصد الإفضاء بأخبار معينة إلى القارئ من خلال ما يكتبه من أدب ذاتي؛ بل إن الوصف أداة تتجاوز الوظيفة الإخبارية إلى وظائف أخرى أكثر أهمية، يأتي في مقدمتها رغبة صاحب السيرة الذاتية في إشراك المتلقي، وإطلاعه قدر الإمكان على ما يتفاعل ويضطرب في أعماقه.
ثم لاشك أن الحوار من العناصر المميزة في صياغة أدب السيرة الذاتية، إذ من خلاله تبدو المواقف، والمشاهد، ومختلف التجارب الفردية والجماعية الواقعية نابضة بالحياة، شأنها في ذلك شأن الذات الكاتبة وغيرها من الذوات، وبناء على هذه الضرورة الإبداعية والفنية، بالإمكان أن نلاحظ في غير مشقة تلك المقاطع الحوارية التي تشغل جزءا هاما من خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة.
ويكفي أن نذكر في هذا الباب بعضا ممن خاضوا تجربة السجن والاعتقال، واعتمدوا بشكل جلي عنصر الحوار في خطابهم، وهم أحمد رائف، وزينب الغزالي، وصلاح الوديع، وفاطنة البيه، وهؤلاء وغيرهم نهجوا توظيف الحوار، ليس رغبة فيه؛ بل لأن طبيعة الظرف المكاني (السجن/ المعتقل)، وما يعرفه من أجواء ويجري فيه من أحداث، يفرض ذلك النهج الخطابي في سياقات سردية معينة.
ثم باعتبار أن النسج الحواري يعكس أمام القارئ واقع الاستنطاق والتحقيق مع السجناء، وهذا الضرب من الحوار الإجباري هو السائد في الغالب داخل السجن بين السجين والسجان، دون أن نغفل ذكر تلك المقاطع الحوارية الدائرة بين السجناء خفية، والتي يدفعون بها العزلة والرتابة عن أنفسهم ما وجدوا إلى هذه الغاية سبيلا.
ثم إن الذات المسلمة تقوم بسرد سيرتها استنادا إلى خطة معينة، وتصور و منطق مسبق، فنحن أمام هذا اللون من التعبير الأدبي، نصادف مسافة لغوية لا بد من قطعها للوقوف على تجربة الأنا المحورية بكل أبعادها ؛ هذا فضلا عما للغة داخل خطاب السيرة الذاتية من صوت متميز، تأتى لها اكتسابه على امتداد تاريخ التواصل البشري.
إن من يكتب سيرته الذاتية، ينتقي من اللغة ما ينسجم من جهة مع خطابه، وما يتناسب من جهة ثانية مع سياق الحكي الذاتي، وذلك حرصا منه على تحقيق تواصل أدبي أفضل مع القارئ، بحيث يجعل من حياته الماضية والحاضرة نصا مفتوحا ورسالة يرغب في تبليغها، وأما الذي لا سبيل إلى الاختلاف فيه ـ على ما يبدو ـ هو أن كاتب السيرة الذاتية، عندما يقوم بتأليف قصة حياته، أو جزءا من تاريخه الشخصي، فإنه بالموازاة مع ما يسرده من تجارب ذاتية، ينشئ ويصوغ لأدب السيرة الذاتية جانبا من السيرة الخاصة به، ويقيم معلما من معالمه .


د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

أبو شامة المغربي
27/02/2006, 11:21 AM
أدب السيرة الذاتية الإسلامية وموضوعة الحدث

لا شك أن وجود التاريخ كان وسيظل رهينا بثلاثة عناصر هي: الإنسان، والزمان، والمكان؛ أما الإنسان فهو من ينجز الفعل، ويسهم في قيام الحدث، ومن ثم يعمل على تدوينه بعد المعاينة والمعايشة في دائرة وسجل التاريخ الخاص والعام، ليصير شاهدا عليه مستقبلا، ثم ليتركه بعد وفاته وثيقة حية بين أيدي الأجيال اللاحقة، التي لولا الكتابة والتقييد والتدوين لظلت تجهل عنه كل شيء، وبالتالي يتعذر عليها أن تربط ماضيها بمستقبلها.

أما الزمان ففي عمقه تعرف الذات وجهة سيرها في الحياة، ومدى القدر الذي استغرقته حركتها وسكونها، وفيه كذلك يتم لها ضبط الأزمنة الثلاثة: الماضي، والحاضر، والمستقبل، وأما المكان فهو مهد الحركة الإنسانية، والفضاء الذي تولد وتنشأ فيه الأحداث وأطوار التاريخ، مما يساعد الأجيال المتعاقبة على تناقل سيرتها الوجودية، مساهمة بذلك في تواصل حلقات التاريخ البشري وتراكمه جيلا بعد جيل.

إن المادة التاريخية المحفوظة في السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة لكفيلة بتلبية حاجة الذات المسلمة في العصر الحديث، وفي العصور الموالية بالنسبة للأجيال اللاحقة، سواء على مستوى الكتابة التاريخية أم على مستوى الوعي الحضاري الإسلامي، لأنها تعتبر بحق ذاكرة قوية وغنية، تؤرخ لأزيد من مائة سنة.
نعم، إنها ذاكرة تاريخية حافلة بصور التجارب الذاتية والجماعية، وبصفحات ومراحل من التاريخ العربي الإسلامي الحديث، بكل ما حبل به من آمال وآلام، وحسنات وسيئات، وطموحات وإحباطات، لا تزال آثارها وإفرازاتها قائمة.
وإذا كان الجدال قد بلغت حدته الذروة في العصر الحديث عن مدى مصداقية التاريخ وحقيقة معطياته، ومحتواه بشكل عام، إلى درجة أصبح معها قارئوه يلتمسون تمييز وجهه من قناعه، فإن السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، على ما يبدو، قد حالت دون إلباس تاريخ الذات المسلمة في العصر الحديث أقنعة تحجب جملة من الحقائق التاريخية، ولقد تأتى للذات المسلمة في العصر الحديث أن تحفظ فصولا جد هامة من تاريخها بفضل الرؤية الموحدة و الواضحة من خلال مضامينها، ومن عمق الخطاب السائد فيها، والذي يشهد بعضه على جدة وصدق البعض الآخر، بحيث يحق لنا أن ننظر إلى السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة على أنها إحدى المرايا التي تعكس الوجه الحقيقي للذاكرة التاريخية الإسلامية الحديثة.

أما الذي لا يمكن أن يختلف فيه اثنان، ويتضح بنظرة فاحصة ودقيقة، يلقيها الباحث على موضوع هذه الدراسة، هو أن الذاكرة الإسلامية في العصر الحديث جريحة ومنسية، تضج بكثير من الهزات، والحقائق الدامية، والصدمات العنيفة، ومما لا يقبل الجدل إقرارنا بكون الذاكرة الإسلامية شاهدة على ما تم الاصطلاح عليه تارة بالنهضة أو الصحوة الإسلامية، وبالبعث أو الإحياء الإسلامي تارة أخرى، وهي مرآة تجلي حقيقة هذا الحدث التاريخي من جهة، وتفصح عن واقع حي دفين في أعماق الإنسان العربي المسلم من جهة ثانية.

ثم إن هذه الذاكرة تختزن الباعث على طرح سؤال الإنسان العربي في علاقته بالعقيدة الإسلامية، الذي نبذته الذات العربية منذ زمن، ولم توف حق الإجابة عنه، مع أنه سؤال جوهري في حد ذاته، وعلى هذا الأساس كانت ولا تزال أهمية التاريخ، باعتباره يجلي حقائق الماضي، ومن ثم فإن الإنسان العربي لن يستطيع الانسلاخ عن ماضيه، لسبب بسيط هو أن التاريخ وثيق الصلة بالحاضر والمستقبل، وليس بالماضي وحده .

إذن ستظل السيرة الذاتية العربية الإسلامية الحديثة تمثل بامتياز الوجه الآخر للتاريخ العربي الإسلامي الحديث، المشوب بكثير من الزيف والمغالطات؛ بل إنها ستبقى فضاء وخطابا أدبيا موازيا للكتابة التاريخية المتخصصة، ومنارة تهدي الباحث والمؤرخ عندما يعود إليها ليستقي مادة تاريخية معينة، لأن أدب السيرة الذاتية واحد من أعمق تجليات النشاط الإنساني في التعبير عن الاتصال، وأكثرها دلالة على تعاقب الأجيال، وترسيخ ما للتاريخ من امتداد واستمرار.
ولا شك أن ثمة نداء ينبعث من خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، سواء كان عربيا أم أجنبيا، لدعوة المؤرخ إلى الوقوف على القيمة التاريخية المتنامية باستمرار بين أحضان هذا اللون من الأدب الإسلامي، ويكفي أن نذكر في هذا السياق بالصحوة الإسلامية التي غدت ظاهرة عالمية.
لقد كشفت الذات الأجنبية الداخلة في الإسلام بدورها، من خلال كتابة تاريخها الخاص، الوجه الثاني لأوضاع الإنسان الذي يتوق إلى معرفة الدين الحق، في عالم لا زال أهله يعانون من عواقب جهل بعضهم وتجاهل البعض الآخر لحقيقة الإسلام، ومن شبح رواسب نظرة متوارثة، ووعي خاطئ بأصول وأهداف هذا الدين، بالمقارنة مع مبدأ الحروب الصليبية التي شنت ضده.
أما الذات العربية المسلمة فقد استطاعت في العصر الحديث أن تكشف من خلال أدب السيرة الذاتية عن واقعها ومنحى نهجها في الحياة، وأن تسقط قناع مسار تاريخي حافل بالانتكاسات والرواسب السلبية، ثم إنها تمكنت من إضاءة مرحلة حاسمة من تاريخ الأمة العربية المسلمة في القرن العشرين، وهي في قلب هذه الحقبة الزمنية، التي لم تعرف بعد نهايتها، توجد وسط أجواء من المعاناة، والتأزم، والبحث الدائب عن الذات والوجهة الحضارية.
إن للحدث في أدب السيرة الذاتية عموما، وفي أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة بوجه خاص أهمية بالغة، تعكس ما تكون عليه الذات من ارتباط وثيق به، وتزداد درجة الصلة بينهما كلما كان الحدث عميق الأثر وقوي الدلالة، ومن المظاهر التي تفصح بوضوح عن واقع هذا الارتباط، ما يعيشه الإنسان من شعور في سن متأخرة، عندما يسترجع مجموع الأحداث التي تأثر بها، واستقى منها العبر والدروس، فصارت بذلك جزءا من ذاته وحياته.
ثم إن الحدث نافذة نطل منها على الأشخاص، والأفكار، والعلاقات الإنسانية بين الأفراد، التي تتفاوت درجة حدتها وتختلف ظروفها، وللحدث في أدب السيرة الذاتية وظائف رئيسة لا تقل أهمية عن وظائف الزمان والمكان، هذا فضلا عن قيمته الوظيفية، المتمثلة في كونه نتيجة لأحداث سابقة له، وسبب لأحداث لاحقة، إذ أن كل حدث في الأصل ما هو إلا حلقة مندرجة ضمن سلسلة متواصلة من الأحداث.
ولا شك أن الأحداث قد تكون عوامل مساعدة للإنسان على اكتساب معارف كثيرة، وإدراك حقائق معينة، وبناء شخصية قوية و متوازنة، كما أنها قد تكون معاكسة له، فتنمي لديه شخصية مضطربة، وتقتل فيه الفضول المعرفي والحس الاجتماعي من جهة، والرغبة في البذل والعطاء من جهة ثانية، إذ أن من الأحداث مثلا ما يحفز الإنسان على تكثيف التواصل الاجتماعي، ومنها ما يدفعه إلى اعتزال الناس والانطواء على الذات.
فكثير من الأحداث كان منطلقا لتحقيق إنجازات كبيرة، وكثير منها تحول إلى عقد وآثار نفسية بليغة، استطاعت أن تتحكم في نهج الإنسان ومساره طوال حياته، فما الأحداث إلا نتيجة لمجموعة من العلاقات في وسط اجتماعي معين، ولذلك ستظل الأحداث بفعل تأثيرها عنصرا رئيسا في معرفة حقيقة الإنسان، وفهم ما ينهجه من سيرة في حياته، وما يشكوه من اضطرابات نفسية واجتماعية بين بني جنسه، وهذا ما يحدد طبيعة انتقاء الأحداث لدى كاتب السيرة الذاتية.
كذلك من الأحداث ما يكون سببا في تبني الإنسان لفكرة محددة، أو مبدأ، أو اقتناع، أو رؤية ذاتية إلى الحياة، أو عقيدة، تزيد رسوخا مع مرور الأيام، بقوة ما تحمله تلك الأحداث ـ سواء كانت صغيرة أم كبيرة ـ في الذات الفردية من آثار حاسمة، ثم إن تفاعل الفرد مع الأحداث سلبا وإيجابا من شأنه أن يكشف طبيعة شخصيته، ويساعد على إدراك وفهم الأسس المرجعية لهذه الشخصية، وبالتالي فإن نفس التفاعل يفصح عن علامات دالة على نهج الفرد.
ولا شك أن كل حدث في حياة الإنسان هو رمز على مساره، وبواسطته يتم استكشاف مجاهيل شخصيته، فقد تقترن بعض الأحداث بمظاهر الحزن، أو الرعب، أو القمع، أو القلق لدى الإنسان، كما أن بعضها قد يرتبط لديه بمظاهر الفرح والسكينة، والأمن والطمأنينة.
ثم إن الأحداث ـ صغيرة كانت أم كبيرة ـ تتحول من وقائع ذاتية وموضوعية، فردية وجماعية إلى مكونات استرجاعية، تحتفظ بها ذاكرة الإنسان على شكل ذكريات مستقلة، لكن تفردها وتمايزها لا يمنع بعضها من أن يكون باعثا على استعادة البعض الآخر، باعتبار ما يجمع بينهما من القواسم المشتركة، المتجسدة في جملة من العناصر، والمضامين، والدلالات، والإيحاءات.
وقد يكتشف كاتب السيرة الذاتية، وهو يستعيد تاريخه الخاص، أن كثيرا من الأحداث التي عاشها لم تبرز قيمتها إلا ساعة الكتابة، وأن أحداثا أخرى لم تكن عواقبها لتخطر على الذهن في حال وقوعها، وقد يدرك أن الحادثة التي كانت حال وقوعها فاقدة للأهمية ومنعدمة المعنى، قد صارت بالغة الأهمية في طور لاحق من حياته.
إن للحدث تأثيرا بالغا على شخصية الفرد، وتبعا لهذا التأثير ونوعيته، يتمكن الإنسان من معرفة ذاته، والاقتراب منها أكثر، ذلك أن ردود الفعل التي تعقب وقوع حدث معين، تسهم بشكل كبير في الكشف عن طبيعة الشخصية المتلقية للوقائع والأحداث، فالحزن، والثورة، والقلق وغيرها من الانفعالات هي في الأصل آثار تترجم كل التحولات التي تضطرب في أعماق الإنسان، ثم إن كل رد فعل محدد إزاء حدث أو واقعة معينة ، يندرج في إطار من التعبير، تتم قراءته في سياق خاص.

وغالبا ما تكون مختلف الانفعالات الصادرة عن الذات دليلا على درجة حدة الحدث أو الفعل الذي تصطدم به، خاصة تلك الأحداث التي لها من القوة ما يكفي لشل تفكير الإنسان ونشاطه الذهني بوجه عام، والأحداث التي لها من التأثير ما من شأنه أن يلقي بذات الفرد في أسر الكآبة والمعاناة النفسية، ويتركها فريسة للاضطرابات و الهموم المتصلة.
ولا شك أن الوضع يزداد حدة كلما كان للحدث صلة مباشرة بعدد من المبادئ والقيم الإنسانية، وبجملة من القناعات التي يتمسك بها المرء، ويكره أن تنتهك و تداس، أو أن تعبث بها الأهواء؛ فهي أركان ومكونات أساسية في حياته، ومدار هويته و رسالته في آن واحد.
إن هذه القيم، والمبادئ، والإقتناعات، التي تندرج بين الثوابت المحفوظة عبر توالي الأجيال في قلب الذاكرة الجماعية، تسهم بقوة في تحديد درجة التفاعل مع الأحداث، بحيث يظل أي حدث يمسها من قريب أو بعيد، سلبا أو إيجابا، مثيرا وعنيفا، يبعث في الإنسان المنفعل به إما أصداء الفرحة و الارتياح، أو أصداء الحزن والانقباض.
ثم إن الوقوف على حقيقة تفاعل الإنسان مع الأحداث التي يعيشها ويتلقاها، وكذا الانتهاء إلى فهم صحيح ومتكامل لطبيعة ذلك التفاعل، يقتضي النظر والبحث في مسار حياة الذات التي تستقبل كل حدث على حدة بردود أفعال معينة.
ثم إن في الحياة الخاصة لكل إنسان حادثا أو عدة حوادث بارزة ومتكاملة في ما بينها، من حيث فعلها في النفس وتأثيرها العام على الشخصية الفردية ، فعلى إثرها يتحدد توجه المرء وسلوكه، وتتحدد الغاية التي سينتهي إليها في الحياة، وأهم الأحداث المحفزة والمؤثرة تقع في أولى مراحل العمر، وخاصة في طور الطفولة، إذ لا تخلو أي سيرة ذاتية من حدث كبير ظاهر القيمة، أو حادث (صغير) لا يقل أهمية ولا خطورة، ومختلف الأحداث هي نتيجة لما يقوم من علاقات بين الإنسان وأسرته، أو بينه وبين المجتمع الذي ينتمي إليه، أو بينه وبين الوسط البيئي الذي يتواجد فيه.

إن الشعور بآثار و أبعاد هذه الأحداث يتنامى مع مرور الزمن، إذ يتطور كل حدث من مجرد واقعة عادية أو صدمة عنيفة إلى هاجس يلازم الذات، وتعثر فيه الانفعالات وكثير من الاستفهامات على مرتع خصب لها، ومعين زاخر تتغذى منه طوال الوقت، فالحادث قد يبدو للوهلة الأولى بسيطا، فإذا به يتجلى على صورة مغايرة، ويتحول إلى بؤرة اهتمام لدى الذات المفكرة، التي تعمل على تطويرها وتعميقها، سواء عن قصد أم غير قصد.


د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

أبو شامة المغربي
27/02/2006, 12:19 PM
:neeww:


أدب السيرة الذاتية الإسلامية بين البيئة والوراثة

يستطيع كل إنسان أن يستشعر بغموض حينا، وبوضوح أحيانا جميع تحولاته الذاتية، مهما كانت دقيقة، وبإمكانه كذلك أن يضبط إلى حد معين الأسباب القائمة وراءها أو المنتجة لها، على تنوعها واختلافها، ثم يميز بالتالي بين العوامل البيئية والعوامل الوراثية، الفاعلة في تكوين شخصيته، فهل صحـيح أن ثمة نوعين من الوراثة: إحداهما بيولوجية، منتسبة إلى علم الأحياء ( LA BIOLOGIE )، وهي تنتقل من الآباء إلى الأبناء بكيفية طبيعية مباشرة، ولا تتطلب أي جهد، والثانية اجتماعية وثيقة الصلة ورهينة بالمجتـمع ، تستدعي من الإنسان بذل الجهد العقلي المتواصل، واعتماد الوعي المركز، واستحضار الانتباه؟
إن في حياة كل فرد لحظات صحو ويقظة، محكومة بتكامل البعدين الفاعلين: البيئي والوراثي؛ وهي اللحظات التي يعيد فيها اكتشاف نفسه بموازاة مع اكتشاف العالم الخارجي، ويجد نفسه في كل مرة مضطرا إلى وضع السؤال وتمحيص الإجابة، وربما قد يصل به الأمر إلى صياغة رؤى وتصورات يتجاوز بعضها بعضا، أو صياغة وعي جديد ينفي به ما كان لديه من قناعات سابقة.
كثيرا ما يتأمل الإنسان ذاته طمعا في معرفة بعض أسرارها الخفية، لكنه قد يستغرق من أجل هذه الغاية زمنا طويلا، أو قد ينفق معظم مراحل حياته في استقراء نفسه ومحاورتها، ومع ذلك فإنه لا يظفر في النهاية إلا بالقليل من خفاياها، خاصة وأن تأمله و تفكيره يظل موزعا بين عمق ذاته وسعة العالم الخارجي، وعندما يتحول في لحظة وجيزة كل من الذات، والزمان، والمكان، والأشياء إلى بوتقة معقدة، يهيمن فيها سلطان الروح والنفس الإنسانية على كثافة المادة، فإن الإنسان المتأمل يجد نفسه أمام واقع معنوي يثير فضوله.
وفي لحظة إشراق تمتزج أحلام اليقظة بالمرئيات، وتتكاثف قوى الإدراك والوعي بالذات والعالم، وكأن الأنا في غمرة هذه الأجواء مدعوة إلى ارتقاء مراتب الخلاص من سجن المادة، حتى يتمكن جوهرها من الاتحاد بمظهرها، فتغدو خلقا ينبعث من جديد، وحياة تسوى للمرة الثانية في دنيا صاحبها.
إن الإنسان عندما يختلي بنفسه ، فيعمد إلى المبالغة في بحث وتحليل دقائقها، نراه لا يخلص في النهاية إلا إلى ما يشعره بعجزه وضعفه، وفي سياق المجاهدة النفسية، يقف الإنسان على عتبة الاختزال الذاتي، وسرعان ما يتجاوزها ليحلق في فضاء روحي يسع ذاته، ويطرد شبحها المزيف من حياته، فيرد ذاته إلى حجمها الطبيعي، الذي تنكرت له في ساعات غفلتها وتجاهلها لمقامها وماهيتها.
ثم إن مجال الاهتمام والسؤال يتسع كلما أخذت الحيرة والقلق بمجامع الإنسان، فهو يتفقد ذاته تارة، فيجدها صاحبة عمق رهيب، بخلاف إحساسه بضيق العالم الخارجي، وتارة ينظر إلى نفسه على أنها مجرد ذرة في صحراء تغص بالرمال، لكن رحابة الفضاء في الخارج تستوعبها ولا تضيق بها؛ إنها معاناة الكشف عن حقيقة الذات والعالم.
إن حب الإنسان لذاته قد يدفعه إلى اعتزال الناس، و النظر إليهم من بعيد دون مخالطتهم في معترك الحياة، لكن هذا النزوع الذي يرتد بسببه المرء إلى نفسه لمساءلتها، والدخول معها في حوار تأملى، كثيرا ما يتخذ منعطفا إيجابيا ينتفي معه الإفراط في حب الذات، وتتغير على أساسه الرؤية الفردية إلى الناس والعالم، و لاشك أن الانغلاق العارض على النفس.
ثم إن الانقطاع عن العالم الخارجي، غالبا ما يفضي بالإنسان إلى اتخاذ مواقف جديدة من خلال إعادة النظر، ونقد ومحاسبة الذات على جميع ما اقترفته من أفعال، بالإضافة إلى إدراك مواطن الخلل والفساد في السلوك الفردي، وبين الناس في الحياة الجماعية.
إن كلا من عباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم يعود بأصول طباعه إلى والديه وما استقر فيهما من ميولات وسلوكات، ونقرأ في هذه العودة إثارة لمسألة الوراثة، التي حاول أكثر الأدباء، والعلماء، والمفكرين اقتفاء آثارها في ذواتهم والوقوف على معالمها ومظاهرها في أنفسهم، وما الذي كتبوه عن دقائق حياتهم وتحولاتهم إلا محاولة لتحليل ودراسة أثر الوراثة فيهم.
ثم إن الإنسان يدرك جيدا مدى تأثير العوامل البيئية والوراثية في تكوين شخصيته، فقد لا يتوصل في بداية حياته إلى فهم محدد لبعض سلوكاته وطباعه، بقدر ما لا يعي العديد من الأفعال والمواقف الصادرة عنه، والتي يتخذها في مناسبات كثيرة، ومن البديهي أن يحاول الفرد في مبتدأ حياته أن يقنع نفسه بتأويلات خاطئة لما يصدر عنه، فيسقط من حسابه تأثير الوسط الاجتماعي والبعد الوراثي، لكنه مع مرور الوقت يتدرج في الاعتراف، عن علم طبعا، بسلطة البيئة والوراثة على الشخصية الإنسانية، فتهوي كل تأويلاته الاعتباطية السابقة تباعا، لتفسح المجال للذات من جديد، كي تتمثل نفسها وتعيد قراءتها في ضوء التأثيرات البيئية و الوراثية.
بهذا التحليل تخلص الذات المسلمة إلى أنها أثر ونتيجة محدثة، لكن جذورها ضاربة في عمق القدم، وستظل هذه الذات حصيلة تاريخ معين، تضافرت معطياته وانصهرت بعض عناصره في بعض؛ إنها ثمرة عوامل كثيرة، وبناء إنساني معقد ومتشعب، أسهمت البيئة، والوراثة، والأحداث في صقله وتكوينه باستمرار، حتى انتهى إلى كائن اجتماعي، حامل لخصائص معينة، هكذا يعود الإنسان بطبيعته ومكونات شخصيته إلى أصولها الوراثية، فيتأمل كل ما دق من ميولاته، وطباعه، ونوازعه، وجميع الذي ترسب لديه دون وعي منه، والذات الساردة ترجع بجملة من خصائصها الفردية إلى الأم، باعتبارها إحدى المرجعيات الأساسية في بناء سلوكيات و معالم هوية الإنسان.
إن الإنسان يتواصل مع بني جنسه ويقيم علاقات معهم بدرجات متفاوتة من القوة، لكن صلته بالأم، وهي أقرب الناس إليه على الإطلاق قبل وبعد ولادته، أقوى وأعمق من أي علاقة اجتماعية أخرى، لأن الأم بالنسبة للفرد طرف وراثي في شخصيته، وذاكرة حية من العواطف والمشاعر، والقيم والمبادئ، تسهم في بناء جانب كبير من مسيرة حياته، وهي ذات راصدة لعمق الإنسان بامتياز، وضمير يمارس نشاطا متواصلا في كيان الفرد بصمت وفي خفاء.
ستظل الأم إذن من بين أسرار الإنسانية، التي لم تفقد ومضة واحدة من جاذبيتها، وستبقى أحد منابع قيمها السامية التي لا ينضب معينها، ولا تتلاشى معالمها في كل زمان ومكان؛ إنها عالم ثابت منذ القدم بقوة الوراثة الإنسانية وحياة رحبة للتأمل يسيح فيها الأحياء ويتمثلونها في حال حضورها وغيابها، بالقدر الذي يتألمون به لفقدانها.
وإذا كنا نعثر على لفظة "الأم" دالة في المعجم على معنى أو مفهوم مجردة، فإن الأمر يختلف عندما نتجاوز الحدود الخطية أو الصوتية، أو البناء الحرفي، ذلك أن الإنسان حينما يستحضر في حياته الخاصة لفظة "الأم" يجدها في ذهنه كائنة حية ، فهي ليست رسما خطيا مطروقا، أو فكرة متداولة فقط في الوجود البشري؛ بل إنها تلك الإنسانة التي تحيط بها، بامتياز، هالة من الذكريات الطفولية، وما عاشه المرء من علاقات وتجارب، وشهده من أماكن وأحداث.
أما الطرف الوراثي الثاني في شخصية الإنسان فهو "الأب"، الذي يتكامل مع الطرف الوراثي الأول: "الأم" على مستوى درجة التأثير في تكوين جانب مهم من ذاتية الفرد، فكل إنسان يمارس قراءة دقيقة لذاته، يستطيع أن يميز بين ما ورثه عن أمه من طباع وخصال، وما ورثه عن أبيه من سلوك ومزاج.
ثم إن الإنسان يستشعر في النهاية حلول والديه فيه، ويعتقد أنه ليس سوى امتداد لحياتهما، وكائن اجتماعي جديد له ذات واحدة متكاملة، أو مركبة في المقام الأول مما ورثه عن والديه من صفات وخصائص متعددة ومتضاربة، لكنها تبقى من أصل إنساني مزدوج، أما الذات التي تتلقى الموروثات، فهي أحادية في الظاهر، ومتعددة في الباطن والجوهر.
إن جميع المظاهر الوراثية التي وقفنا عليها في أدب السيرة الذاتية، تندرج ضمن الوراثة الفطرية البيولوجية والنفسية، التي يتأثر بمفعولها الإنسان، قبل وبعد ولادته ثم طوال حياته، لكن ثمة وراثة أخرى مكتسبة، تقوم على التقليد والمحاكاة بالدرجة الأولى، وخاصة في الأطوار المتقدمة من عمر الإنسان.

إن الوراثة المكتسبة أساسا في عهد الطفولة، وهي وراثة اجتماعية عقدية، والتي تتشكل من مجموع التعاليم، والسلوكات، والتقاليد، والمعتقدات السائدة داخل البيت، والمتلقاة بين الوالدين ووسط الأهل والأسرة، وفي المجتمع عموما، هي وراثة مكملة للوراثة البيولوجية والنفسية، الفاعلة في تكوين شخصية الفرد.
وإن كان الإنسان لا يستطيع أن يؤثر في ما ورثه عن أبويه على المستوى البيولوجي والنفسي، أو يغير شيئا منه، فإن بإمكانه أن يفعل ذلك إلى حد الثورة والرفض، عندما يتعلق الأمر بالوراثة الاجتماعية، ثم إن حياة الإنسان وشخصيته وحدة فردية مقيدة ومتأثرة بعنصرين اثنين:
أولها: العنصر الوراثي ، وهو الذي بإمكاننا أن نوجزه في وراثة جنسية جسمانية أو بيولوجية، كما أسلفنا، وهي وراثة ذات صفة مزدوجة، متمثلة من جهة في وراثة خِلقية، لا تؤثر إلا في الصفات الجسمانية ولا علاقة لها بالميزات العقلية، التي هي نتيجة لتأثير الحياة الاجتماعية والاقتصادية، والبيئة الجغرافية، والعادات والتقاليد، والمعتقد الديني، ومتجسدة من جهة ثانية في وراثة نفسية لها تأثير مباشر على تكوين خلق الفرد وطبعه ومزاجه.
ثانيها: العنصر البيئي، الذي يتغير باستمرار وإن طال مقام الإنسان في بيئة محددة، بخلاف العنصر الوراثي البيولوجي الذي هو أصل ثابت في الحياة البشرية، وهو عنصر لا تأثير للمكونات البيئية عليه، لكنه يسهم بقسط وافر في بناء و نماء شخصية الفرد، بحكم أن الكائن العاقل يتواصل ويتأثر بما ومن حوله، ويتفاعل مع كل ما يجري في وسطه الاجتماعي، فهو مظهر من مظاهر الجماعة الإنسانية، التي نشأ فيها واكتسب منها جملة الخصائص التي تسمها .
تتأرجح الذات المسلمة في البلاد الأجنبية بين البيئة العربية الإسلامية والبيئة الغربية؛ إنها تجد نفسها أمام خيارين: إما الانفتاح على الوسط الجديد عليها بكل حمولته وتأثيراته، أو الإعراض عنه واعتزاله إلى حد القطيعة، لكن الفصول المثيرة لهذه التجربة تدخل منعطفا حاسما عندما تحاول الذات الفردية الوقوف على أرضية توفيقية، تجمع بين انفتاح سليم على العالم الغربي المغاير، ومحافظة واعية ودقيقة على الشخصية الإسلامية.
ثم إن الفرد المسلم الذي يخوض هذا النمط من التجارب، الذي يتصل أساسا بمسالة الهوية والانتماء، حامل للتناقض والاختلاف الماثل في العالم الخارجي بين القيم والمبادئ العربية الإسلامية والموروثات الغربية، إذ أن الإنسان يعيش صراعا ذاتيا من أجل تحقيق سلام داخلي، ثم الخروج من عمق التجربة بتجاوز تلك الازدواجية العاصفة بوحدة الكيان البشري، خاصة وأن التأزم الفردي يبلغ ذروته القصوى نتيجة استسلام الذات لممارسات فعلية شاذة، يتم تبعا لها، بوعي أم بغير وعي، إخضاع ما هو أصيل في الهوية والشخصية العربية الإسلامية لمعايير دخيلة وغريبة.
إن التأثير الذي تمارسه البيئة المعقدة على الذات الإنسانية، ليس هو نفس التأثير الذي تمارسه البيئة البسيطة، باعتبار أن احتكاك الإنسان بنمط بيئي معين يؤدي إلى إنتاج قناعات، ومواقف، ورؤى معينة، تتحكم فيها جميعا الخاصية التي يتسم بها الوسط الجغرافي، الذي يعمل بكيفية مباشرة على تكوين الشخصية وبنائها من الداخل، حتى إن الذات تكاد تطمئن إلى البيئة الريفية البسيطة، وهي راغبة في آن واحد عن البيئة الحضرية المعقدة، لاعتقادها بأن ثمة علاقة انسجام وتناسب بين بساطة البيئة الريفية والإسلام، بخلاف ما بين تعقيدات البيئة الحضرية والإسلام من تنافر.
فهل من الممكن أن تكون البيئة الريفية عاملا مساعدا على الاقتراب أكثر من العقيدة الإسلامية؟ في حين تكون البيئة الحضرية عاملا معاكسا ، يحول دون البقاء قريبا من الإسلام؟
لا شك أن الإنسان عندما ينتقل إلى البيئة الريفية، فيعمد إلى مقارنتها وتقويم تأثيرها مع البيئة المدنية، فإنه يجد في هدوء الأولى وصفائها راحة للعقل والروح، ويستمد من بساطتها وجاذبيتها توازنا واستقرارا في الرؤية إلى ذاته وإلى الجماعة الإنسانية، وإلى العالم ثم يستوحي من فضائها ومعالمها الجغرافية ما يكفي لتذكيره بحقيقته وقدره، ومدى قوته وعجزه، وأما البيئة الحضرية فتفتقر إلى حيوية، وتلقائية، وبساطة البيئة الريفية، إذ ليس لها نفس العمق، والإيحاء، والتوازن، وهي خصائص تتناقض مع ما تنطوي عليه البيئة المدنية من اضطراب، وزيف، وتعقيدات تدفع بروح الإنسان إلى النفور، وتكدر نفسه وتعبث بها.
إن لجملة الأمور والوقائع و الملاحظات الدقيقة والمركزة، التي يصادفها الإنسان في مسيرته الحياتية، بالغ الأثر في تطوير و صقل شخصيته، ومن العوامل المساعدة كثيرا على التحول النفسي والفكري، تلك المعاينة والمعايشة المزدوجة لبيئتين متناقضتين، يؤدي فيها مبدأ المقارنة دورا كبيرا، ويكفي أن يكون هذا المبدأ قائما بين بيئة عربية إسلامية وبيئة أجنبية حتى تستشعر الذات وتدرك بجلاء درجة التباين الكبيرة بين الوسطين الاجتماعيين، بناء على معطيات محددة، يتصدر قائمتها كل من الجهل المتفشي في الوسط العربي الإسلامي، والعلم المتنامي والمتطور في الوسط الاجتماعي الأجنبي.
هذا لا يعني أن تحول الأنا العربية المسلمة، على مستوى الوعي والإدراك الإنساني والحضاري، رهين بمبدأ المقارنة في حد ذاتها، بين نمطين من البيئة أو ضربين من الوسط الاجتماعي؛ بل إن التحول والتغيير على مستوى الوعي بالنسبة للذات العربية المسلمة موقوف على مدى استفادة هذه الذات من مؤهلاتها وقدراتها الذاتية والموضوعية، من خلال توظيفها المناسب في سبيل الارتقاء.
إن تحقيق أي تحول على هذا المستوى من الأهمية ، هو غاية رهينة بمدى قوة الرغبة الفردية والجماعية في تجاوز أسباب وعلل الجمود الحضاري، ثم على درجة الاستعداد لترميم وبناء مقومات الشخصية العربية الإسلامية؛ هذه الشخصية التي تمتلك بفضل الإسلام قوة تغيير وتجديد هائلة، نابعة من جوهر الإنسان المسلم وغير مكتسبة من خارج ذاته، ولكن قوة التغيير تزداد عندما يتم توجيهها وتسخيرها باعتبار مختلف التجارب الإنسانية، فردية كانت أم جماعية، لتغدو في النهاية قوة فاعلة ومحركة.


د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

أبو شامة المغربي
01/03/2006, 11:01 AM
:neeww:


أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية والبحث عن الذات


لقد أرخ القرن التاسع عشر الميلادي لمرحلة البحث عن الذات العربية المسلمة، وتحديد مقومات شخصيتها وهويتها، لكن ما هي ظروف ومظاهر هذا النمط من البحث، التي عاشها الإنسان العربي المسلم في العصر الحديث؟
ثم ما هي طبيعة التجربة والمعاناة، التي أفضت به إلى التعبير من خلال كتابة السيرة الذاتية عن انشغالاته وطموحاته؟ وكيف تم بناء الشخصية العربية الإسلامية حديثا؟ وتكوين تاريخها الفردي والجماعي؟
هذه أسئلة لا بد من طرحها بقصد الاهتداء بأجوبتها إلى تحصيل فهم سليم خاص بطور الإحياء والمحاكاة في تاريخ أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية الحديثة، وطلبا لإدراك طبيعة وحقيقة الباعث و الدافع الرئيس إلى كتابة هذا اللون من الأدب الخاص.
لقد عاش الإنسان العربي في عصر النهضة تمزقا تاريخيا بين الماضي وما انطوى عليه من تراث حضاري وثقافي عريق، والحاضر وما حفل به من تحولات، واتجاهات، وتناقضات، وإن كان المفكر الفرنسي المسلم روجيه غارودي ( ROGER GARAUDY ) يرى من الغريب أن يتم الإجماع على التأريخ لبداية عصر النهضة في العالم العربي الإسلامي باحتلال نابليون بونابارت ( NAPOLEON BONAPARTE ) مصر عام 1798 من الميلاد، في حين أن هذا الحدث لم يكن سوى عملية غرس لأسلوب حياتي دخيل باسم الحداثة والمعاصرة في عالم عربي منحط .
وكانت قوى الاستعمار تراهن على هذه الخطة لتتحقق لها السطوة المطلقة على الشعوب العربية، التي ذهبت ضحية ذلك الالتباس بين مفهومي: الحداثة أو المعاصرة، التي اقترنت في ذهن الإنسان العربي بالتقليد الأعمى للغرب، ومفهوم التغريب ذي العواقب السيئة، والفاعلة في العالم العربي الإسلامي إلى يومنا هذا.
ثم إن كثيرا من الأدباء، والنقاد، والمفكرين، والساسة في عصر النهضة، سواء من العرب أم من الأجانب، توهموا خلاص العالم العربي الإسلامي من انحطاطه وتخلفه في تجاوز تراثه الحضاري العريق، ثم خوض نفس التجارب والمراحل، التي عاشها وقطعها الغرب في أربعة قرون دفعة واحدة، إن أرادت الأمة العربية المسلمة اللحاق بالركب الحضاري، ولم يكن هذا الوهم يعني إلا أمرا واحدا، هو أن تتخذ هذه الأمة ماضي الغرب مستقبلا لها.
وقد استطاع المبشرون بالتنصير، وطائفة من المستشرقين أن يمهدوا الطريق للهيمنة العربية على الشرق، وعلى باقي البلاد الغربية الإسلامية، فاجتهدوا في الإطلاع على التاريخ العربي الإسلامي، وتمكنوا من النفاذ إلى هذه المادة الحيوية، فاخذوا منها حاجتهم، ودسوا فيها ما شاءوا من الشوائب، وكان فعل الحركتين: التبشيرية والإستشراقية باعثا لرد فعل تجسد في إعادة كتابة التاريخ العربي والإسلامي، وكشف و إبراز دورهما في بناء الفكر الغربي والنهوض بالحضارة الغربية.

أما النزعة العنصرية فكانت مدار كثير من الحركات والتيارات العرقية، التي قادتها قوى الاستعمار بهدف تجريد الأمم غير البيضاء من حريتها، وبث الريبة حول قدرات الأمة العربية المسلمة، وحول إمكانية إسهامها في البناء الحضاري الإنساني، إذ لم تكن الهيمنة التي مارسها الاستعمار الغربي على البلاد والشعوب العربية المسلمة طيلة حقبة من التاريخ البشري الحديث إلا جولة من صراع طويل، شهد القرن الخامس الهجري، الحادي عشر الميلادي انطلاقته المتمثلة في الحروب الصليبية.

لقد حافظ أعلام الأدب والدعوة الإسلامية، سواء في عصر النهضة أم في القرن العشرين الميلادي، على التقاليد المتواضع عليها قديما في كتابة وتأليف السيرة الذاتية، بحيث ظلوا أوفياء لها، ومطمئنين إليها في التأريخ لحياتهم، ومعتمدين عليها في إخراج أعمالهم الأدبية مطبوعة بالأسلوب العتيق الذي ساد في سير العلماء والأدباء قديما.
وكان من أصول النهضة في الأدب الذاتي، أن يقوم أدب السيرة الذاتية العربية على المحاكاة والتقليد قبل أن يدخل طور التجديد والابتكار، باعتبار أن كل نهضة تقوم في مستهلها على المحاكاة قبل أن ترتقي إلى الإبتكار، فكان اهتمام الأدباء، والمؤرخين، والعلماء العرب المسلمين أول الأمر بأدب الترجمة الذاتية، وهو اهتمام سبق عنايتهم بأدب السيرة الذاتية إلى غاية الربع الأول من القرن العشرين.
لقد كان الانفتاح الحضاري والثقافي عاملا بالغ الأهمية، مكن الأدباء والنقاد العرب من أن يزدادوا معرفة بالآداب الغربية، واطلاعا على اجتهادات الكتاب الغربيين في أدب السيرة الذاتية، وإن كان أصحاب السير الذاتية الذين عاشوا هذا الظرف التاريخي ـ ومنهم عدد من أعلام النهضة الحديثة ـ أمثال أحمد فارس الشدياق ( 1805 ـ 1887م)، ومحمد عياد الطنطاوي ( 1810 ـ 1861م)، وعلي مبارك ( 1824 ـ 1892م ) ، نهجوا أسلوب العلماء والأدباء العرب المسلمين القدماء في تأليف سيرهم و تراجمهم الذاتية ، بحيث تمسكوا بذكر أنسابهم، وضبط مراحل تعلمهم ابتداء من سن الطفولة.
ثم إننا إذا القينا نظرة على سير بعض الأعلام المتأخرين في العصر الحديث، أمثال محمد عبده ( 1849 ـ 1905م)، ومحمد كرد علي المتوفى سنة 1954م، وجدناها تتفق مع روح السير والتراجم الذاتية التي واكبت حركة الإحياء والبعث الأدبي.
ثم إنهم كانوا يستعرضون أسماء الأعلام الذين تلقوا عنهم العلم، ويخصون بالذكر بعض الذي عرض لهم من أمور، و عاشوه من مواقف، وخاضوه من تجارب وشؤون الحياة، وجملة من أهم الأحداث التي شاركوا فيها، وكانوا لا يغفلون التحدث عن مبادئ دعوتهم إلى الإصلاح والإسلام.
ولم تكن السير الذاتية، التي صدرت في عصر النهضة العربية الإسلامية الحديثة، تتباين كثيرا عن الأعمال التي خلفها الأدباء والعلماء قديما، فهي من ناحية تمثل المحاولات الأدبية الأولى في أدب السيرة والترجمة الذاتية العربية والإسلامية بعد ركود طويل، وإحدى ثمرات حركة الإحياء الأدبي، لكنها من ناحية ثانية ـ وإن كانت تنطوي على قيمة تاريخية متميزة ـ لا تحمل قيمة فنية كبيرة، لأنها صيغت في معظم الأحيان بأسلوب جاف، وسرد إخباري تقريري، قليلا ما كان يفلت من شباك السجع وأنماط السرد التقليدية، وفي هذا النزوع جري على سنة الأسلاف، وباعث للرواد المحدثين على تأليف تراجمهم و سيرهم الذاتية.
وعلى الرغم من ملازمة كتاب عصر النهضة الحديثة لكثير من قوالب التعبير القديمة، فانهم أمدوا سيرهم الذاتية المكتوبة بمضامين جديدة، تجسدت في كل ما تركته الثقافة الأجنبية، وأنماط الحياة الجديدة في الغرب من اثر في نفوسهم، فغدت بذلك أجزاء من سيرهم مسرحا لما رأوه في العالم الغربي، وشاهدوه لأول مرة منبهرين، ثم إن الأحكام تباينت في ضوء المقارنة بين الحياة في الشرق العربي و الحياة في الغرب، فانحصرت بين انجذاب واستحسان وإعجاب، وتحفظ واستنكار.
وفي العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر الميلادي، عرف أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية عناية خاصة، وحركة إحياء جديدة في كتابات الأدباء، والعلماء، والمفكرين، الذين نظروا إليه من زاوية إثبات الذات، واعتبروه أداة للمواجهة والتحدي، وربط الحاضر بالماضي، وخطوة إلى الأمام على درب المسيرة الحضارية الإسلامية، وفضلا عن هذا كله رأوا فيه وسيلة للإصلاح والدعوة إلى الإسلام من جهة، والتصدي لمن يحارب دين الله عز وجل، ويحاول أن يطمس الإرث الإسلامي.
ثم إن نفس الرؤية والغاية نالت اهتمام عدد من الكتاب العرب في القرن العشرين، وتجسدت في سيرهم الذاتية، التي تعكس صورة معبرة عن مدى قوة انبعاث الدعوة الإسلامية من جديد، وقيمة الجهود التي بذلت طلبا للعلم والمعرفة، ودفع الجهل عن الناس، ودعوتهم إلى المشاركة في الإصلاح، والتمسك بتعاليم الإسلام.
ولقد كانت مرحلة البحث عن الذات طوال القرن التاسع عشر الميلادي حافزا على تعميق الشعور بالاستقلال الذاتي عن التبعية للاستعمار الأجنبي، ثم باعثا على قيام حركة الإصلاح الإسلامي، التي شملت مختلف مجالات الحياة العربية، وهذه كلها نتائج أدت بتفاعلها إلى ولادة أدب ذاتي معبر عن قوة الشعور بالشخصية العربية الإسلامية.
نعم، بعد ركود دام طويلا، عادت السيرة الذاتية العربية الإسلامية لتأخذ مكانتها في الساحة الأدبية، ولتشهد أولى تحولاتها الكبيرة، بعد ما ساد الاعتقاد بسلبية الكتابة حول الذات الفردية وعدم نفعها، وبضرورة العناية بكل أمر يخص الذات الجماعية، ثم إنهم كانوا كثيرا ما يخلطون بين مدلول السيرة الذاتية وما تعنيه الترجمة الذاتية.
والأكثر من هذا كله أنهم قرنوا كتابة التأريخ الخاص بالأعلام المشهورين، دون غيرهم من الأفراد المغمورين، وكانت هذه الأفكار حول السيرة الذاتية من أهم أخطاء المرحلة آنذاك، التي خلفت شبه غياب للكتابة التي تتخذ الذات العربية المسلمة موضوعا لها، والتي ما تزال تشوب الثقافة الأدبية المعاصرة .
إن اضطراب الرؤية، وقصور الإدراك ـ لدى كثير من الكتاب المحدثين ـ كانا سببا في التقليل من شأن الأهمية التي ينطوي عليها أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية في العصر الحديث، بالإضافة إلى أن ضعف الإلمام بعمق و مغزى هذا الضرب من الأدب، واقترانه في الأذهان ـ كما أسلفنا ـ بالأعلام ذوي الشهرة، حال دون النفاذ إلى جوهره والغاية منه بكيفية سليمة، كما أنه منع من الاستفادة من آفاقه الواسعة، بخلاف ما كان عليه واقع الأمر في البلاد الغربية، حيث تطور مفهوم وبناء أدب السيرة الذاتية بشكل كبير.
ثم هل صحيح أن الأدباء والمفكرين العرب يفتقرون في العصر الحديث إلى الصنعة الروائية؟ وأنهم في الغالب لا يدركون مدى الأهمية التي تنطوي عليها سيرهم الذاتية، التي من شأنها أن تجلي الكثير من الفضاءات المعتمة في حياتهم: الاجتماعية، الإبداعية، والفكرية؟


د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

أبو شامة المغربي
01/03/2006, 11:20 AM
:neeww:



أدب السيرة الذاتية الإسلامية وموضوعة الموت




من الطبيعي أن يفكر الإنسان في انقضاء أجله كلما تقدم به العمر، وامتدت به الحياة بين الأحياء، ومن البداهة كذلك أن تمتلكه الرهبة من الموت، لأنه يتمثل هذا الواقع الحدث عالما مجهولا بالنسبة إليه، لا يعلم طبيعته أو ما الذي سيلقاه فيه، إذ الموت لا يخضع لأي شكل من أشكال الممارسة، ولا يتيح للإنسان خوض التجارب فيه، وأحيانا قد يسعى المرء جاهدا إلى الاحتماء بالنسيان وتجنب ذكر الموت، فيحاول قدر ما يستطيع أن ينأى بتفكيره عن هذه الحقيقة القائمة، وهذا الواقع المحتوم، على الرغم من علمه بكون الموت غاية ومنتهى كل حي في هذه الدنيا، وأنها سنة من السنن الكونية الجارية بين الخلق.
وحتى إن حاول الإنسان التفكير في الموت، وأنفق زمنا طويلا في معرفته وتأمله، وتركيب صورة متخيلة له، فإنه في معظم الأحيان يحتفظ بهذا الجزء من نشاطه الذهني لنفسه، دون إطلاع الآخرين عليه، مع أن تدبر الموت من قبل الكائن العاقل يعد فعلا دالا على الوعي بمصير الذات الإنسانية، ولا شك أن الموت يبعث في كل إنسان ذلك الشعور القوي بالعجز والفناء، وتلك الرغبة المثيرة في الإحاطة بمعناه الدقيق، والنفاذ إلى سره العميق.
وأما الخوف من الموت، باعتباره واقعا لا يعرف استثناء أو تمييزا بين الأحياء على وجه الأرض، إنما هو في العمق تعبير عن إحساس الإنسان بمرارة التقصير وثقل الآثام، وبضياع أكثر العمر في العبث، وإفصاح عن وعيه بأن ليس في وسعه أن يفر من الموت، أو أن يبدأ حياة جديدة.
تتعاقب موضوعتا الحياة والموت، وتظل الذات ماثلة بينهما، تتمثل الحياة باندفاع كبير وفضول نشيط، وتعمل في الوقت نفسه بغير تهافت وحماسة على استيعاب دلالة الموت وإيحاءاته، باعتباره من أقوى أسرار هذا الوجود، التي تحمل في عمقها معرفة كامنة، مختزلة لسعتها في علامات، وإشارات، وتنبيهات كاشفة عن حقيقة الإنسان، الذي يسعى جاهدا إلى اقتفاء أثرها بهدف استكمال فهمه و رؤيته لذاته، وما تنطوي عليه من خفايا.
ثم إن الموت واقع ينفي الخلود الإنساني في الأرض؛ هذا الخلود الذي طالما راود الذات في يقظتها ومنامها، وإن كانت الحياة بداية للإنسان، فإن الموت نهاية مؤجلة بالنسبة إليه، ثم إنه لا يملك لنفسه سلطانا عليهما، وكل ما في مقدرته هو أن يقطع المسافة الفاصلة بين مبدأ حياته في الدنيا ومنتهاها، على أن يظل شاهدا على الجسر الرابط بين الحياة والموت، ومتأثرا بتصادم الانفعالات النفسية الحادة، وتداخل الإيحاءات المتلاحقة والمثيرة.
وفي هذه الأجواء التي يبلغ فيها التأمل حدا عميقا، تتحول الأزمنة إلى زمن واحد بملامح معقدة، يشتبك فيه المعلوم مع المجهول، وتتماهى نتيجة لذلك آثار الأحداث والذكريات لتفرز في النهاية مشهدا من وحي الزمن المتداخل، يستعصي على الذات الإمساك به في شباك الوصف والتحليل.
ثم إنه الزمن النفسي الذي تسهم في تشكيله انفعالات ذاتية كثيرة، وتحرص الذاكرة على تطويره، والانتقال به من فضاء بسيط إلى آخر مركب ومعقد، بعدما يكون قد اتخذ أبعادا نفسية معينة، وكل هذا الاحتفال سيفضي في النهاية بالزمن النفسي إلى آخر أطواره، حيث سيتحول إلى ذكرى راسخة، وذلك بقدر قوة تشكله وتحوله في باطن الذات، وبناء على نوع وحجم ما سيجمعه من علاقات برواسب الأحداث والتجارب في الذاكرة الفردية، على أن الذكرى تظل محتفظة بمثيراتها في العالم الخارجي.
وعندما تتأمل الذات آية الخلق في نفسها، ويخلص بها هذا الإنجاز الذهني إلى أن الثنائية العددية في الوجود الإنساني، ما هي في الأصل إلا نفس أحادية تفرع منها زوجها، ساعتها فقط تتمثل حقيقة ذاتها، وتكسب وعيا جديدا وعميقا في آن واحد بتلك الأنا الفردية المزعومة، ثم إن الإنسان يفاجأ في إحدى مراحل تاريخه الخاص بازدواجية الحياة، وبفناء العالم الذي يقيم فيه، والأحياء الذين يتواجد بينهم، فإن كانت الحياة ذات وجه معلوم ومألوف أكثر من وجهها الآخر المجهول، وهو الموت، فذلك لأن المرء في الغالب، حين يعيش حياته، ويعمل في كل لحظة من لحظات عمره، يفكر بالأنا الروحية العميقة، ولا يضع الموت في حسبانه، وكأن روحه لا تعرف الموت بطبيعتها .
إن للموت في الذاكرة الفردية والجماعية صورا كثيرة مجردة، قد تتفق أحيانا وقد تختلف أحيانا أخرى، وهي صور يتم بناؤها في ضوء مرجعيات مركبة مما هو موروث عن الأسلاف، وما هو مكتسب عن طريق الرؤية، والسماع، والقراءة، والتجربة المعاشة كذلك، لكن الموت في حد ذاته يظل واقعا مجهولا بالنسبة للإنسان منذ ولادته وإلى غاية وفاته.
ثم إن الآلام والأحزان تتراكم مع مرور الأيام في حياة الإنسان، الذي لا يستطيع دفعها عنه أو نسيانها، بينما تظل هي قابعة في ذاكرته إلى أن يذكي جذوتها المحرقة أحد المثيرات في العالم الخارجي، فتعود الذات الساردة إلى ترديد صدى تلك المعاناة القاسية والمريرة، فتجترها بالدمع والصمت بدلا من أن تسردها بالحديث، ثم يتفقد الإنسان الصبر ليقذف فيه بضعفه وحزنه، وهو محاصر بين الخوف واليأس، ومتطلع إلى الأمل والرجاء.
وعندما كان المرض أوثق صلة بالموت، ولحظة من أبرز لحظاته، فإنه يوقظ في ذات الإنسان قوة التأمل، والترقب، والصحوة الفطرية، والمحاسبة والمراجعة الذاتية، التي تتشكل على أساسها شخصية الفرد من جديد، ويعاد في ضوئها بناء قناعاته ومستوى إدراكه.
ثم إن الذات الإنسانية لا تستطيع أن تتجاهل الموت، باعتباره قضاء محتوما؛ بل حتى النسيان لا يمكنها من التنكر له أو الهروب منه، لأنه ليس بإمكانه أن يحول دون استمرارية نقيضه، وبالتالي لا يستطيع أحدهما أن ينفي الآخر نفيا مطلقا، إذ أن وجودهما في ثنائية يعد أمرا محتوما كذلك، مع أن النسيان المتعمد في مثل هذه الحال، يدخل في تركيبة الجهل، في حين يقترن التذكر بالمعرفة والعلم، من حيث البعد الفلسفي للمسألة عموما.
إن المرض تجربة يتقاسمها الناس في ظروف معينة من حياتهم، ثم إنها باعث قوي لهم على تأمل الذات في لحظات ضعفها وأوقات عجزها، واستحضار الموت والفناء، وعندما تجتمع عناصر هذه التجربة وتتكامل مكوناتها الطبيعية، ساعتها يجد الإنسان نفسه في وضع اختبار وحال ابتلاء، وليس له من خلاص سوى الرجاء في الله عز وجل، والتمسك بعروة الإيمان الوثقى، وللمتلقي أن ينظر في ما يجتازه الإنسان في حال المرض من تقلبات بين الخوف والشجاعة، وبين اليأس والأمل، وله أن يتأمل صورة حياتية ليس غريبة عنه، يتدافع فيها السواد والبياض، والنور والظلمة، وتتردد في عمقها أصداء الحيرة والقلق، وتموجات المعالم والأطياف المتخيلة؛ إنها تجربة تدعو الإنسان إلى معرفة قدره وجوهره حق المعرفة.
إن الليل مثير للتفكير والتخيل، خاصة إذا ضاعفت آثار المرض حدة إيحاءاته، وكل تفكير أو تخيل في هذه الحال يتسم بالقسوة والمعاناة الشديدة، لأن المرض بدوره عامل مثير لذاكرة الفرد، وإن كان يعد من بين العوامل الداخلية، وفي هذا الوضع تصير الذات والذاكرة محاصرتين حصارا مزدوجا: خارجيا من قبل الليل، وداخليا من طرف المرض؛ فالليل يغشى الذات بإيحاءاته من ناحية، ويثير بعضا مما حفظته الذاكرة من ناحية ثانية .
ولا شك أن مواجهة الموت بالنسبة إلى الإنسان، هي لحظة تفجير وانبعاث ما تختزنه ذاكرته، وما يضطرب بأعماقه من مشاعر وأحاسيس؛ إنها تجربة رهيبة وعميقة على الرغم من استغراقها مدة زمنية قصيرة جدا، وكأنها صوت عابر ينبه المرء إلى ما هو فيه من زيغ وانحراف عن سواء السبيل، ويذكره بضعفه وفنائه، ويحثه على مراجعة نفسه ومحاسبتها قبل أن يأتيه اليقين، أو هي دعوة موجهة إلى هذا المخلوق العاجز، الذي لا يقدر الموت حق قدره، ويسارع إلى مبارزة الله عز وجل بالمعاصي والآثام.
ثم إن جميع الأشياء تنتفي عندما يستسلم الإنسان مضطرا للمسافة المتبقية و الفاصلة بين الحياة والموت، ولا يبقى إلا ذلك الحيز الزمني في دنيا الأحياء، الذي تستشعر الذات خلاله قساوة الوحدة، وتخوض تجربتها الأخيرة مع سكرات الموت، وعندها يجد المرء نفسه وجها لوجه مع آثامه وظلمه لنفسه ولغيره، فلا يطمع حيال هذه المواجهة الحتمية إلا في رحمة الله تعالى، وكريم عفوه ومغفرته.
ونحن نجد أن الفضول يدفع الإنسان إلى طلب الإلمام بكثير من الأسرار، التي تسكن ذاته وتحيط به من كل جانب، بدءا بسر الوجود وانتهاء بسر الفناء، وقد يقيم المرء لنفسه بعض المفاهيم والرؤى على أساس عجزه وقصوره، وانطلاقا من جهله بحقائق الأمور، فيرى أن الحياة مسخرة للبناء والخلق وأن الهدم وظيفة من وظائف الموت، مما يجعله لا ينظر إليهما معا في وحدة متكاملة، ولا يعتبرهما قوة واحدة وجدت بقصد الابتلاء وامتحان الإنسان في حياته الدنيا.
وعندما لا تستسيغ الذات النظر إلى الحياة والموت على أن كلا منهما بالنسبة للآخر بمثابة الجسد والروح، فإنها تكون بذلك قد تبنت فهما سطحيا في الموضوع، خاصة الذات المفتقرة إلى المعتقد الصحيح، التي كثيرا ما يؤدي بها هذا القصور في الفهم إلى مناصبة العداء مع الموت، بحكم أنها ترى فيه معول هدم كاسح لنضارة الحياة وجمالها، وتتمثله سيلا جارفا لكل ما يدب في باطنها من حياة.
ثم إن الذات الإنسانية قليلا ما تتنبه إلى كون الموت هو الذي مكنها من أن تضع مدلولا معينا للحياة، وأن ترسم في آن واحد لهذه القوة صورة في ذهنها، كذلك الحياة يسرت للإنسان وضع صورة ومدلول للموت في قلب ذهنه، وهذا يعني أن الكائن العاقل استقى معنى الحياة من الموت، واستوحى معنى الموت من الحياة، مما يدل دلالة مباشرة وواضحة على أن لا معنى ولا مدلول لأحدهما دون استحضار الآخر.





د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

أبو شامة المغربي
03/03/2006, 06:59 AM
:neeww:




أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة في ظل الصحوة الإسلامية


لا يختلف اثنان في كون المواجهة التي نشبت بين الشرق العربي العالم الغربي، تعتبر ظرفا تاريخيا حاسما، سعت فيه قوى الاستعمار إلى طمس هوية الذات والأمة العربية المسلمة، مما دفع بالإنسان العربي المسلم إلى المقاومة والتحدي من أجل الحفاظ على شخصيته وكيانه، وعلى انتمائه ومعتقده، لا سيما وأن القوى الأجنبية ظلت تستهدف الإسلام في المقام الأول، إذ رأته مركز قوة بالنسبة للإنسان العربي والحضارة الإسلامية، وقد بذلت أوربا كل ما في وسعها من أجل إتلاف الفكر الإسلامي، الذي رأت فيه خطرا يهدد مصالحها الاستعمارية.

لم يكن أمام الإنسان العربي المسلم خيار سوى العودة إلى ما كان عليه السلف الصالح من نهج، بقصد إحيائه وبعثه من جديد، والاهتداء بمعالمه إلى الحياة الإسلامية الحقة، خاصة وأن العرب بعد مجيء الإسلام لم يكونوا يفصلون بين العروبة والإسلام، بحكم تلازمهما، ومن ثم رأى دعاة الإصلاح في العصر الحديث أن لسلف الأمة المسلمة سيرة يجب أن تتبع، وأن ما يعرفه العالم العربي من انحطاط و تخلف ما هو إلا نتيجة طبيعية لبعد العرب عن الإسلام.

و لقد كانت الدعوة إلى الإصلاح والتقويم، وكذا الاقتباس من الغرب بعلم ووعي نقدي ضرورة ملحة في مطلع النهضة العربية الإسلامية الحديثة، لكن هذا الصوت الذي ارتفع للمناداة بالإصلاح، والمطالبة بالحد من هيمنة الركود، ثم لدفع الفساد والانحراف عن طريق الجادة، والدعوة إلى الاستقامة، لم يكن الوحيد؛ بل إن صوتا آخر تعالى بدوره داعيا إلى اتباع نهج الغرب، وهي دعوة تمثل الخيار الوحيد، حسبما يرى أصحابها، للخروج من دوامة الجمود والقضاء على الجهل والتخلف عن الركب الحضاري.

وكان منتظرا أن يسود الخلاف بين مختلف التيارات (الإصلاحية)، وهذا ما حدث بالفعل، فاتخذ الصراع على اثر ذلك بعدا مزدوجا: فهو من ناحية تطور و تشعبت أشكاله ومظاهره، ومن ناحية ثانية استمر إلى يومنا هذا، حيث لا يزال الصراع قائما على أشده بين من يدعو إلى الخيار الإسلامي و من يدعوا إلى الخيار الغربي.

أما حركة الإحياء أو البعث، فقد شملت عددا من المجالات الحيوية: الأدب، والدين، والفكر، والسياسة، والاجتماع، وجاءت عبارة عن رد فعل في وجه الغزوالاستعماري بكل أشكاله، ومن ثم شغلت حقبة كاملة من التاريخ العربي الإسلامي الحديث، فأرخت بذلك لمرحلة البحث عن الذات، وإعادة بناء الحياة والشخصية العربية الإسلامية، ومن مظاهر هذه الحركة الإحيائية ما تم إنجازه على مستوى التأليف في منتصف العقد الرابع من القرن العشرين، إذ صدر في أقل من سنة (عام 1935ميلادية تحديدا) ما يزيد عن عشرين مؤلفا حول موضوع الإسلام.

لقد شهد هذا الظرف التاريخي حركتين لتغيير الوضع العربي الإسلامي، وبقدر ما كان بين الحركتين من تكامل، بقدر ما كان بينهما من التناقض الشيء الكثير، أما الحركة الأولى فقد انتصرت للتراث العربي الإسلامي، وسعت بإحيائه إلى الحفاظ على هوية الذات العربية المسلمة، وكيان الحياة والحضارة الإسلامية، وذلك ردا على المحاولات العدائية التي كانت تهدف إلى المس بمقومات وأسس الوجود الإسلامي.

وأما الحركة الثانية فقد غلب عليها طابع التغريب، إذ حاولت أن تنقل مظاهر الحياة الغربية إلى البلاد العربية الإسلامية، وتستوحي الفكر والأدب الغـربي، وقد بذلت جهودا للانسلاخ عن الثقافة العربية الإسلامية، والارتماء في أحضان الثقافة الغربية والأجنـبية عموما، لكن هذه الحركة على أي حال لم تخل من إفادة وإضافة أغنت الثقافة العربية.

إذن فبحلول القرن التاسع عشر الميلادي، بدا العالم العربي الإسلامي نهضته، واتقدت جذوة الإحساس بضرورة تكسير الجمود واللحاق بركب الحضارة، هذا بالإضافة إلى مواجهة تحديات الغرب، والتمسك بالحياة الروحية والفكرية العربية الإسلامية، فكان القرن التاسع عشر الميلادي بداية حقيقية لتاريخ الفكر العربي الإسلامي الحديث، وحقبة زمنية صادفت قيام عدد من الحركات الإصلاحية، نذكر منها:

أولا: الحركة الفكرية التي دعا إليها رفاعة الطهطاوي المتوفى عام 1873 للميلاد، وبث بوادرها في كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز).
ثانيا : الحركة السلفية التي أقام جمال الدين الأفغاني ، المتوفى عام 1897 للميلاد، من خلالها دعوته إلى إحياء مجد العروبة و الإسلام، مع الأخذ باللازم النافع من أساليب الحضارة الغربية الحديثة، وقد اقتفى أثره في هذه الدعوة تلميذه محمد عبده المتوفى عام 1905 للميلاد، الذي سعى بدوره إلى الإصلاح الديني، والسياسي، والاجتماعي، واللغوي، وذلك باعتماد التربية وسيلة لخط سير حركته الإصلاحية، ولنا في سيرته الذاتية جانبا هاما من دعوته.

وكان طبيعيا أن تأتي الصحوة الإسلامية الحديثة ردة فعل قوية، بعد أن لاحت أولى مظاهرها من قلب النهضة العربية، واتضحت معالمها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي عام 1868 للميلاد، وهي الحقبة التاريخية التي كانت بحق منطلقا للبعث الإسلامي الذي تنامى بشكل سريع في القرن العشرين.

ثم إن الاضطراب والقلق اللذين سادا عصر النهضة العربية، واللذين جسدتهما المعارك والنكبات المتوالية في حياة الأمة المسلمة، قد أسهما بقسط وافر في تكوين الوعي الفردي والجماعي العربي، وتعميق الإحساس بأهمية التاريخ للذات، وإحياء كل تقليد تراثي مساعد على اكتساب مناعة حضارية تحفظ الهوية اللغوية والعقدية.

وقد احتضنت السير الذاتية المواكبة لعقود القرن التاسع عشر الميلادي صورة ضافية لعدد من التيارات الفكرية وحركات الإصلاح، التي لم تعد سوى ثمرة عصر شاهد على الصدام العنيف بين جمود الفكر في الشرق وحركته النشيطة في الغرب، ثم إن ما كتب من نصوص موسومة بطابع السيرة الذاتية، خاصة في مستهل طور التجنيس، في كافة أرجاء العالم العربي الإسلامي، كان وثيق الصلة بالفقهاء، والعلماء والأدباء على حد سواء، إلا أنه كان مجسدا لطلب العلم بامتياز.





د. أبو شامة المغربي


kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)




(kalimates@maktoob.com)

أبو شامة المغربي
03/03/2006, 07:32 AM
:neeww:

ميثاق قراءة أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة

(الجزء الأول)


إن معظم كتاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة لا يكتفون بتوظيف العناوين الدالة على جنس خطابهم الأدبي، وحقيقة الباعث لهم على الكتابة؛ بل إنهم يدرجون في مؤلفاتهم فقرة أو فقرات معدودة وجيزة جدا، يعبرون من خلالها عن نيتهم في إنجاز وعرض مشروع تاريخهم الفردي، ويفصحون في ذات الوقت عن العامل أو العوامل، التي حفزتهم على إنجاز هذا المشروع الأدبي.

ثم هي مقاطع نصية أو تصديرات يتوجهون بها ـ عادة ـ إلى القراء في مستهل حديثهم عن أنفسهم، أو قد يلجأون إلى بناء عقد القراءة عن طريق الاستعانة بأفعال خطابية يكمل بعضها بعضا، وهي مواثيق يصطلح نقاد أدب السيرة الذاتية على تسميتها بمواثيق القراءة، أو المواثيق التلفظية، أو عقود التلقي، لكن هل الميثاق التلفظي هو بالفعل رابط الاتصال بين الذات الكاتبة والمتلقي، وهو ما يميز أدب السيرة الذاتية عن باقي الأجناس الأدبية؟
وإذا كان ميثاق القراءة الخاص بالسيرة الذاتية الإسلامية الحديثة فعلا خطابيا متنوع الأشكال، فإنه دال في قلب الخطاب الأدبي على أمرين:

أولهما: هوية النص (سيرة ذاتية).

ثانيهما: باعث الكتابة (مقصد الكاتب).

إن كاتب السيرة الذاتية يدرك جيدا مدى الخلط والمأزق الذي قد يسقط فيه المتلقي، حينما يتعذر عليه ضبط هوية الخطاب الأدبي ضمن منظومة الأجناس الأدبية، وتفاديا لحدوث هذه المسألة، يعمد صاحب السيرة الذاتية إلى إبرام ميثاق أو عقد خاص بهدف أن يثبت للخطاب هويته، ويوفر على القارئ جهد البحث عن جنس الإنتاج الأدبي الذي يتلقاه.

ومن ثم فإن شرط الإفصاح عن ميثاق تلقي السيرة الذاتية هو الفاصل بين جنس السيرة الذاتية وباقي الأجناس الأدبية، ويعتمد الكاتب لهذه الغاية أشكالا من المواثيق والعقود التي يبرمها مع المتلقي، أبرزها العنوان، والتقديم، والإهداء، وضمير الخطاب، وغيرها من الأفعال الخطابية، أو المكونات النصية التي تؤدي وظيفة التواصل المباشر مع القارئ.

والظاهر أن خطاب السيرة الذاتية ذات الصفة الإسلامية مرآة عاكسة لنوايا، ومقاصد، وأهداف مسبقة، إذ الملاحظ في ذات الخطاب الأدبي أن الكاتب المسلم لا يميل إلى الإخلال بشرط الإفصاح عن عقد القراءة، طلبا للوضوح، ورغبة منه في أن يكون له السبق في التعبير عن ذاته، ومن العبث أن نتصور سيرة ذاتية لكاتب مجهول.

كما أنه من العبث أن يتم تلقيها من طرف قارئ غير معروف، ولا شك أن غياب ميثاق القراءة من خطاب السيرة الذاتية، سيؤدي بالذات القارئة إلى اتخاذه مرآة لها، فتسقط عليه ما شاءت من التجارب والمواقف لا تصل المؤلف في شيء، ومن ثم يظل الميثاق التلفظي هو المكون الخطابي الذي يضفي في المقام الأول على السيرة الذاتية الطابع المميز لها عن باقي الأجناس الأدبية الأخرى.
إن الميثاق الخاص بقراءة السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة أداة خطابية، يحيل الكاتب بواسطتها المتلقي على هوية النص وجنس الخطاب الأدبي من ناحية، وعلى فضائه وعناصره الإبداعية الفنية من ناحية ثانية، وهو عنصر يكشف به تطابقه مع الذات الساردة، والشخصية الرئيسة، وذلك حتى لا ينعث عمله الأدبي بكونه سيرة ذاتية تخييلية، أو سيرة ذاتية روائية، أو سيرة ذاتية ذاتاسم مستعار، أو رواية تخييلية.

أما الميثاق المرجعي، فأداة خطابية ثانية، يحيل صاحب السيرة الذاتية عن طريقها القارئ على خارج النص الأدبي، أي على الإطار الواقعي الخاص به، بحكم انتماء تدوين التاريخ الفردي إلى ما يعرف بالأعمال الأدبية المرجعية، التي تدعو القارئ إلى النظر في مرجعيتها خارج النص المكتوب، إما بشكل صريح أو ضمني، وهي مرجعية متمثلة في واقع يمكن للمتلقي أن يتأكد من وجوده.
فإذا كان ميثاق تلقي السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث يمثل العلاقة التي يقيمها الكاتب بين تاريخه الفردي المكتوب و متلقيه، والركن الأساس ـ بالإضافة إلى باقي الخصائص الداخلية في متن السيرة الذاتية ـ في تعريف هذا الجنس الأدبي ، فإن السؤال يبقى مطروحا حول ما إذا كان ذلك العقد أو الميثاق السير الذاتي (Le pacte autobiographique) كافيا للدلالة على جنس السيرة الذاتية؟ أم أن هذا الميثاق قاصر وغير مؤهل لذلك، وأن على المتلقي أن يبحث عن مدى الانسجام الداخلي في أي سيرة ذاتية؟

أ ـ العــنــوان

نقصد بالعنوان في سياق موضوع بحثنا كل ما يسمى به المؤلف سيرته الذاتية المكتوبة من لفظ أو عبارة، وهو الذي يمثل بامتياز نسبي ـ دون غيره من أشكال الميثاق ـ بوابة حقيقية، تمكن القارئ من العبور إلى خطاب السيرة الذاتية، ولا شك أن تنوع المضامين والمكونات الكبرى لهذا الخطاب هو الذي يتحكم في صياغة عناوين أدب التاريخ الخاص، وغالبا ما يتم اختيار تراكيبها بدقة وأناة.
ثم إنها عناوين ترشح تصريحا، أو تلميحا، أو ضمنا بالحس الزماني من ناحية ـ سواء منه الحقيقي أم الوجودي ـ كما يفشي بعضها حدة المعاناة، وقلق البحث الطويل عن الحقيقة، ويكشف بعض آخر منها عن قوة العلاقة القائمة بين الشعور الذاتي بالمكان والرؤية الفردية إلى الحياة والعالم.

ولا شك أن عنوان أي سيرة ذاتية إسلامية ـ كباقي العناوين ـ هو بنية مستقلة له دلالة خاصة، مثله في هذه الخاصية مثل العمل الأدبي، ثم إنه دال على هذا العمل بطبيعة الحال، بالإضافة إلى كونه يختزل وظائف أخرى غير الدلالة، نذكر منها: التعريف، والإشارة، والبداية، والقصد، والسمة، والأثر، والعلامة، وهو موسوم بالإيجاز والإقتضاب، إذ غالبا ما يكون كلمة أو عبارة ولا يتجاوز الجملة.

ثم إن العنوان ضرورة نصية و عتبة خطابية كثيرا ما تثير فضول القارئ، وتغريه بتلقي العمل الأدبي، خاصة وأنه يحقق لديه جملة من التصورات والأفكار، ويكون سببا في إنتاج آثار جمالية في ذهنه؛ إنه ليس زائدة لغوية؛ بل هو أداة تواصلية تصل ما بين القارئ والكاتب، الذي يؤسس من خلاله سياقا دلاليا، يهيء القارئ عبره لتلقي العمل الأدبي.

ومن المؤكد أن للعنوان طبيعة إحالية ومرجعية، فضلا عن انطوائه على إيحاءات أو رموز معينة، قد تسمه بطابع الخصوصية والانفراد من جهة، وبطابع الاشتراك والجماعية من ناحية ثانية، فهو خاص في علاقته بين من يكتب سيرته الذاتية، وبالماضي الذي يشكل حياته الشخصية المنقضية، وهو مشترك في علاقته بما يعنيه بالنسبة إلى الآخرين (الجماعة الإنسانية)، باعتبار ما يدل عليه من مضامين وأفكار متعارف عليها بين الجميع.
ثم إن العنوان غالبا ما يشتمل على أبعاد تناصية، فهو دال إشاري، ومن جملة ما يصطلح عليه بالعتبات النصية أو النصوص الموازية، إنه يجلي معنى النص الأدبي، إذ يختزل المكتوب ويحيل على خارج الخطاب في ذات الوقت، فهو أداة لتكثيف المعنى، ونواة يلتحم بها نسيج الخطاب، ومن ثم فإن للعنوان وظائف جد هامة في تشكيل أدب السيرة الذاتية على سبيل المثال.
ولا شك أن مجرد إلقاء نظرة أولية على عناوين السير الذاتية الإسلامية الحديثة، التي تجسد مدارات جد دالة، تمكننا من استعراض عدد من الموضوعات، التي تختزل شحنات دلالية كلية ومكثفة، لها من القوة والهيمنة حظ وافر ـ في صميم الخطاب ـ على دلالات جزئية، تتوزع على امتداد الفضاء الداخلي للسير الذاتية ذات السمة الإسلامية.
وبالرغم من عثورنا على تلك الجزئيات الدلالية مغلقة في معظم الأحيان، إلا أنها تتجاوز في الأصل حدودها اللفظية لتتحول إلى بؤرة خطابية عميقة، ومحاور تقاطع دلالي جد حساسة، ومولدة في آن واحد لتواصل وتداخل خطابي، وبالتالي فإن كل العناوين المفردة أو المركبة، هي عبارة عن قواعد وأرضيات لتنامي مجموعة من العلاقات، التي تنشأ في عمق خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة.
إن "الحياة"، و"الشك"، و"الإيمان"، و"السجن"، و"المنفى"، و"الحرية"، و"الذات"، و"الزمن "، و"الذكرى"، و"الإسلام " وغيرها من الموضوعات، تشغل أهم فضاءات أدب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث، مما يضفي على مختلف العناوين المختزلة لها قيمة خطابية، خاصة إذا نظرنا إليها في داخل السياق وخارجه؛ فهي مقاطع نصية بسيطة ومركبة، دالة على جنس الخطاب الأدبي، ومفاتيح لفظية ذات وظيفة تأويلية.
وقد يتخذ من العناوين ما يشتمل على شحنة دلالية عميقة، ترمز إلى تجربة معينة، عاش أطوارها من يكتب بعضا من سيرته الذاتية، ونذكر في هذا السياق ـ على سبيل المثال ـ لفظة (العريس) التي انتقاها صلاح الوديع لتكون عنوانا لعمله الأدبي، والملاحظ على صعيد آخر، هو أن عناوين ومتون السير الذاتية الإسلامية الحديثة، تنتظم في نسيج دلالي واحد ففي الوقت الذي يضع فيه من يكتب سيرته العنوان لغرض الإيجاز والاختزال، يتولى السرد في المتن إلى جانب الوصف والحوار الوظيفة التفصيلية.
ومن خلال العناوين الكبرى نستشعر تلك الإشارة المميزة إلى جدلية الصراع بين الحق والباطل، وبين الضلال والهدى، وبين الخير والشر، وهي من أقدم المواجهات المحفوظة في التاريخ البشري، كما أنها إشارة من جهة ثانية إلى ما تعرفه الذات الكاتبة من تحول نوعي، وانتقال من الاضطراب إلى الاطمئنان والاستقرار، ومن الاختلال إلى التوازن، ثم إنها إشارة إلى تطور الوعي العقدي الفردي، من خلال تجاوز الشك إلى اليقين، والخلاص من الكفر والإلحاد لمعانقة الإيمان والدخول في الإسلام.

ثم بإمكاننا أن نميز كذلك بين ثلاثة محاور بارزة ومستخلصة من جملة عناوين السير الذاتية الإسلامية الحديثة، وكل محور تدل عليه وتوحي به مجموعة من العناوين، وأما المحاور الثلاثة فهي:

أولا: تمثل الذات واستكشافها عبر مختلف أطوار الحياة الفردية.

ثانيا: التأريخ للذات في المنفى وداخل السجن .

ثالثا: العودة إلى الإسلام و الدخول فيه.

وعندما يثبت مؤلف السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة على غلاف كتابه ميثاقا لفظيا معينا، سواء كان عنوانا، مثل: "حياتي"، و"قصة حياتي"، و" قصتي مع الحياة "، و"حياتي في نصف قرن"، و"لمحات من حياتي "، و"أيام من حياتي "، أم عبارة فرعية ملحقة بالعنوان، مثل: "سيرة ذاتية "، فإنه يقصد من خلال هذه الصيغ اللفظية التعبيرية المتنوعة وغيرها إلى عقد ميثاق تواصلي ـ قد يزكيه بميثاق مرجعي ـ مع من سيقرأ سيرته.

إن العنوان الذي تحمله أي سيرة ذاتية إسلامية حديثة، هو بمثابة العتبة الأولى التي ينفذ من خلالها القارئ إلى فضاء الخطاب، ثم إنه باعث في حد ذاته للمتلقي على تبادر جملة من الأسئلة إلى ذهنه، ومفتاح لإنشاء أفق انتظار معين، يوجه الذات القارئة أثناء رحلتها داخل فضاء السيرة الذاتية، وهي الذات التي تجهل كل شيء عنه، وتسعى إلى اكتشافه.
أما إذا ألحق صاحب السيرة الذاتية صيغة نصية من نوع آخر بالعنوان الأصلي لمؤلفه، مثل: "رواية ـ سـيرة ذاتية"، أو "سيرة ذاتية روائية"، فإن المتلقي سيتعامل من العمل الأدبي على أنه خطاب مزدوج، بمعنى أنه سيتلقى إنتاج الكاتب باعتباره "سيرة ذاتية" من جهة، و"رواية" من جهة ثانية، مما يحتم على عملية التلقي أن تكون بدورها مزدوجة أو مركبة، يستند القارئ في إنجازها على مرجعيتين:
الأولى: مرجعية خاصة بجنس السيرة الذاتية.

الثانية: مرجعية خاصة بجنس الرواية.

وما دام من يكتب سيرته يلجأ إلى الربط بين الكتابة عن الذات والكتابة الروائية، فكذلك القارئ سيبني تلقيه على هذا الأساس، إذ سيجد نفسه مضطرا إلى قراءة السيرة الذاتية من زاويتين: الذاتية والموضوعية، لكن هذا لا يعفي صاحب السيرة من الإفصاح عن هوية وجنس ما يكتب، وذلك بقصد إزالة اللبس والغموض، وإعفاء القارئ من الدخول في متاهة يتعذر عليه التعرف فيها على جنس الخطاب، وميثاق القراءة ركن أساس في حال تبني الأسلوب الروائي من قبل الكاتب لصياغة سيرته الذاتية .

إن شرط " الحوارية " الذي يجسد فعل التواصل بين المؤلف والمتلقي، يتطلب ممن يرغب في كتابة سيرته الذاتية أن يفصح عن القصد من خطابه بأي أسلوب شاء، وذلك حتى يتم الإقرار بنمط الحوارية وجنس الخطاب، الذي لا يمكن أن ينسلخ عن شروط إنتاجه، أو بالأحرى عن سياقه، المتمثل في ميثاق ثقافي يجمع بين الكاتب والمتلقي.

و لا شك أن الميثاق الثقافي هو الذي سيسمح للذاتين: الكاتبة و القارئة بالتفاهم والتجاوب، وكذا بالاختلاف وتحقيق الحوار الإبداعي، وهذه أسباب ذاتية و موضوعية تخول لهما معا ذاكرة مشتركة ونامية، هذا إذا علمنا بأن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ينطوي على نداءات محددة، على القارئ تلبيتها والتفاعل معها.

ثم هناك أمر آخر، وهو أن القارئ قد ينخدع بمجرد قراءة عـناوين معـينة ـ مثل: "مذكرات"، أو "ذكريات"، أو "اعترافات" ـ فيحسب أنها مطابقة لمتون الأعمال الأدبية المعروضة عليه، في حين أنها عناوين لم توضع بالدقة الكافية، على مستوى الحمولة الاصطلاحية، وذلك حتى تفضي بالمتلقي إلى ما تعنيه وتدل عليه؛ بل إنها في الغالب لا تكفي للوقوف على الهوية الحقيقية للأعمال الأدبية، وبالتالي فهي ليست بالمعيار المناسب الذي سيمكن القارئ من التمييز بين ما هو "سيرة ذاتية"، وما هو "مذكرات"، أو "اعترافات" شخصية.


د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

أبو شامة المغربي
03/03/2006, 07:52 AM
:neeww:


ميثاق قراءة أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة



(الجزء الثاني)


ب ـ الضمائر الخطابية

ثمة مسألة أخرى لا بد من الوقوف عندها ـ في سياق الحديث عن ميثاق السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ـ وهي مسألة الضمائر الخطابية، التي يوظفها الكاتب عادة أثناء سرده لتاريخه الخاص، وهي عناصر خطابية أثارت كثيرا من الاهتمام، والجدل، والاستفهام بين نقاد أدب السيرة الذاتية، بحكم ارتباطها الوثيق بميثاق القراءة، ولأن أي ضمير خطابي يعتمده صاحب السيرة الذاتية، هو أداة تدخل في تنظيم مسار الخطاب وضبط حركة السرد، وعامل مساعد على بناء ميثاق واضح وصريح، يمكن الذاتين: الكاتبة والمتلقية من تحقيق تواصل سليم و جلي.

ولا شك أن أشكال المواثيق والعقود، ودقة إحالتها على ضمير المتكلم، تعتبر مدارا حاسما بالنسبة لخط سير عملية التلقي، إذ انطلاقا من شكل الميثاق المبني على أحد الضمائر الخطابية الخطابية يتحدد نوع تعامل القارئ مع خطاب السيرة الذاتية.
ثم إن علينا أن لا نخلط بين مسألة الضمائر الخطابية : "أنا" ـ "أنت" (بفتح التاء وكسرها) ـ "هو / هي" ومسألة الهوية في أدب السيرة الذاتية، فقد يكون توظيف ضمير المتكلم المفرد (أنا) في متن أدبي معين موهما بأن ما يتلقاه القارئ هو سيرة ذاتية، في حين أنه بعيد كل البعد عن دائرة هذا الجنس الأدبي.
إن السمة الغالبة على السيرة الذاتية أن تكتب بضمير المتكلم المفرد (أنا)، لكن هناك استثناءات، بحيث قد يتم تأليفها بضمير الغائب المفرد (هو)، أو بضمير المخاطب المفرد (أنت)، وقد ساد الاعتقاد ـ منذ زمن غير بعيد ـ بكون السيرة الذاتية هي المحكي الشخصي أو السرد الفردي، المبني على ضمير المتكلم، وأما غيرها من السـير الذاتية، التي يوظف فيها الكاتب ضمير المخاطب أو الغائب المفردين، فليست من جنس السيرة الذاتية في شيء، وهذا بالضرورة اعتقاد زائف.

لقد أسقط هذا الاعتقاد ـ المفتقر إلى أي أساس علمي ـ البعض في خطأ مزدوج، بحيث اعتمدوا من جهة ضمير المتكلم المفرد (أنا) في التمييز بين جنس السيرة الذاتية وباقي الأجناس الأدبية، وأقاموا من جهة ثانية تباينات ـ على المستوى الوظيفي ـ بين الضمائر الخطابية، خاصة بين ضمير المتكلم وضمير الغائب، في حين أن جميع هذه الضمائر لا يمكن اعتبارها مواثيق/ عقود قراءة مبرمة بين صاحب السيرة الذاتية ومتلقيها، إلا على أساس مبدأ التطابق بين الذات الكاتبة وأحد الضمائر النحوية الخطابية، الذي يفصح عنه المؤلف بوضوح.

فمن الكتاب من يوظف ضمير المتكلم في إنتاجه الأدبي ولا يقصد به شخصه، كما أن منهم من يتخذ ضمير المخاطب/ المخاطبة، أو الغائب/ الغائبة قناعا يختفي خلفه إلى حين، بعد أن يكون قد أوهم المتلقي بأن مدار خطابه الأدبي كان حول شخص آخر، لكن لا أحد بإمكانه أن يجادل في كون السيرة الذاتية جنس أدبي منفتح على ضمائر نحوية خطابية متعددة، مع أن ضمير المتكلم هو الأداة الخطابية المهيمنة و المترددة في أغلب السير الذاتية، وفي معظم السير الذاتية الإسلامية الحديثة بصفة خاصة، والملاحظ أن كتاب هذه الأعمال الأدبية اختاروا توظيف هذا الضمير طلبا للمباشرة والوضوح في توجيه خطابهم إلى القراء.

لقد دأب أكثر كتاب السيرة الذاتية، سواء القدماء منهم أم المحدثون، على توظيف ضمير المتكلم المفرد، حتى صار تقليدا متبعا في كتابة هذا اللون الأدبي، بخلاف طائفة ممن كتبوا سيرهم الذاتية، والذين يتخذون ضمير الغائب أو المخاطب قطبا لخطابهم الذاتي، أو يوظفون ـ تبعا لنهج سردي فني معين ـ الضمائر الثلاثة، وذلك رغبة منهم في تحقيق غاية فنية معينة، لكن هل يمثل ضمير الأنا المتكلم الحضور الفعلي للذات الكاتبة في متن وخطاب السيرة الذاتية؟
ثم هل توظيف ضمير الأنا يعني وقوف صاحب السيرة الذاتية على عتبة الاعتراف؟ أم أن استعمال الضمائر في الكتابة السير الذاتية هو نوع من المراوغة، والإستغماء، والتواضع الذي يتخذ قناعا للكبرياء؟ وأن اعتماد (الأنا) في الخطاب لا يعني دائما التمركز حول الذات والاهتمام بها، بقدر ما لا يدل توظيف ضمير الغائب المستعار (الهو / الهي) على النية في التجرد من النرجسية.

ثم إننا نلمس عند البعض من كتاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة هذا النزوع إلى تحقيق درجة فنية بسمات متميزة في سيرتهم الذاتية المكتوبة، وتجليات نزوعهم هذا بادية من خلال تعاملهم مع مختلف ضمائر الخطاب، وخاصة تلك المراوحة التي نستطيع رصدها ـ في مواطن وسياقات محددة ـ بين ضمير المتكلم (أنا) وضمير الغائب (هو)، وهي مقامات خطابية تنتقيها الذات المسلمة الكاتبة في غير إسراف، ومراوحة تنهجها لغاية مقصودة.
ولا شك أن طبيعة هذا النزوع لا تقل أهمية، وإثارة، وتحفيزا على التساؤل عن وظيفة السرد بضمير الغائب والغرض منه، إذ المسافة التي يقيمها الكاتب بينه وبين ذاته، هي حتما أحد الأسرار المنتجة لجمالية السرد بوجه عام، وأسلوب عملت على إنضاجه أبعاد ذاتية وأخرى موضوعية، وذلك من خلال الارتقاء بأدب السيرة الذاتية من غلبة النزعة الفردية إلى البعد الجماعي والأفق الكوني.
ثم إن محاولة الارتقاء هذه، هي التي تبعث من يكتب سيرته الذاتية على اتخاذ ذاته موضوعا للتأمل، والوصف، والتحليل، في حين أنها تجسد الخطاب الضمني الذي يدعى القراء عبره إلى تلقي العمل الأدبي على أنه مجرد سرد أو حكي لسيرة ذات فردية، عاشت في ظل ظروف وأحداث معينة، بعد أن خرجت إلى الوجود فارتبطت نشأتها وتدرجها في الحياة بإحدى البيئات الإنسانية.
إن توظيف ضمير الغائب المفرد ينطوي على رغبة دفينة في قراءة الذات، بقصد الاستمتاع والاستفادة من موقع خارجي ومقاوم موضوعي، ومنتهى هذه الرغبة في رأينا، هو أن كاتب السيرة الذاتية يطمح إلى أن يجعل حظه شبيها بحظ القارئ من الإنتاج الأدبي‏‏؛ إنه النزوع الذاتي إلى رؤية موضوعية للذات الفردية.
وعندما يسلك كاتب السيرة الذاتية ـ في ما يسرده على المتلقي ـ توظيف ضمير الغائب المفرد (هو/ هي)، فإنه ينزع إلى التحدث عن نفسه، كأنه ينظر إليها منفصلة، وهذا المسلك الذي ينهجه ينطوي على دعوة موجهة إلى القارئ حتى يصير مشاركا في عملية السرد.
إن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ينطوي بدرجات متفاوتة على أصداء وآثار النزوع إلى توظيف ضمير الغائب، لكن هل صحيح أن لجوء من يكتب سيرته إلى استعمال هذا الضمير، بدلا من سرد تاريخه الخاص بضمير المتكلم المفرد، هو دليل على احتماء الكاتب به خوفا من مواجهة القارئ؟ على الرغم من كون هذا الضمير ليس سوى ستار شفاف لا يخفي ذات الكاتب.

ثم أصحيح أن اختفاء صاحب السيرة الذاتية وراء صيغة الغائب، يعود إلى عدم قدرته بالفعل على المواجهة، وإلى افتقاره للشجاعة والجرأة؟ أم أن هذا الاختفاء أو الاحتماء بضمير الغائب، ليس سوى مظهر من مظاهر هذه الصيغة، وغرضا من أغراضها؟
هذه أسئلة نستطيع أن نصل إلى الإجابة عليها بمجرد القيام بعملية استقراء دقيقة في خطاب السيرة الذاتية الإسلامية ـ قديمها وحديثها ـ، وذلك من خلال رصد هذا الضمير الغائب، الذي يتطابق ويتماهى مع الذات الكاتبة في جملة من الأعمال الأدبية، وبناء على حصيلة تلك العملية الاستقرائية، يمكننا التنبيه إلى أن توظيف صيغة الغائب في السرد السير الذاتي له مقاصد وأهداف مختلفة، وهي غايات شديدة الارتباط بنوايا الكاتب.

فليس كل من يعمد إلى توظيف صيغة الغائب في سرد سيرته الذاتية، يريد الاحتماء، أو الاختفاء والتواري، كما أن استعمال ضمير الغائب في المحكي الذاتي لا يعني دائما نية الهروب من المواجهة ومخاطبة الآخر، أو الرغبة في التحدث إلى القارئ من وراء حجاب؛ بل إن اعتماد هذه الصيغة في الخطاب قد يخدم أغراضا أخرى يعيها صاحب السيرة الذاتية جيدا، مثل التقليل من عنصر الذاتية والتخفيف من كثافته، وفصل الكاتب بينه وبين ذاته، والفصل بين وجوده في الحاضر وذكرياته عما حفل به ماضيه، أو المباعدة بينه مثلا وبين أحداث عصره طلبا لرصدها من بعيد بعين موضوعية، وإعمال النظر فيها بأسلوب الحياد.

وقد يعتمد الكاتب هذه الصيغة ـ التي هي نوع من التجريد والتحويل لضمير المتكلم ـ في ما يكتبه عن نفسه تجنبا للدفق الانفعالي، وتحقيقا لمسافة لغوية وعقلية، تتيح للذات تأمل نفسها بوصفها فاعلا للاسترجاع من ناحية، وموضوعا للتأمل من ناحية ثانية، باعتبار أن توظيف الخطاب الغير المباشر، هو الأداة والوسيلة إلى ذكر الحقيقة الموضوعية، وقد يكون في اعتماد نفس الصيغة حرص من طرف صاحب السيرة على تبرئة ذاته من العجب، والتمجيد، والرياء، ثم إننا نعثر لهذه الأغراض التي ذكرناها على أصداء و تمثلات في أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة.

ولعل أهم غرض حرص عليه كتاب هذا الضرب من الأدب الإسلامي، عند توظيفهم لضمير الغائب في ما يروونه عن ذواتهم، هو البراءة من شائبة العجب الذاتي، وشبهة التمجيد النفسي، وغيرها من الشوائب التي يوحي بها ضمير (الأنا)، والمتمثلة في فتنة الغرور.
ولا شك أن الذات الكاتبة المسلمة تعمل جاهدة ـ وهذا ما وقفنا عليه من قرب ـ على تطهير محكيها الذاتي من نزعة الرياء، والتباهي، والغرور، وعلى الرغم من أنها توظف في أكثر الأحيان ضمير المتكلم في ما تحكيه عن نفسها، فهي تحاول عن طريق الإنزياح من الذاتي إلى الموضوعي إفراغ (الأنا) من نزعة الاستعلاء، وذلك حتى تكون قريبة من القراء، متواصلة معهم في تواضع تام، بعيدا عن تلك النظرة الدونية.
ومن الملاحظ أن الذات المسلمة تعي جيدا ما يحف الحديث عن النفس من شبهات، لذلك فهي تحرص أشد الحرص على أن تكون تحت المجهر ، ناقدة لذاتها بكل صرامة، ومتحدثة عما أنعم به الله تعالى عليها من نعم ، ثم مجتهدة في كشف الحقيقة أمام القارئ مجردة من كل إيهام أو غموض، ومتمسكة كذلك بمبدإ الصدق في جميع ما تفضي به إليه من حديث.

ثم هل صحيح أن ضمير الغائب أكثر روائية من ضمير المتكلم؟ وهل يحقق بالفعل ـ دون غيره تلك الألفة الاجتماعية لأدب الرواية، باعتباره علامة على ما يجمع الكاتب والمجتمع من ميثاق؟
ثمة سمة أخرى يجب ذكرها، وهي أن طائفة ممن كتبوا سيرهم، كانوا يتنقلون في سياقات معينة ـ تبعا لبواعث مختلفة قد يصعب ضبطها ـ من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب، وذلك في فقرات قد تطول وقد تقصر، وكأنهم يعبرون عن رغبتهم في الانفصال عن الذات بين الحين والحين، وهم ينهجون هذا الأسلوب لما يوحي به من رصد خارجي للنفس وتجرد ذاتي.

ثم إن جميع ضمائر الخطاب النحوية المفردة (أنا ـ أنت ـ هو/ هي) يمكن أن تعتمد في بناء خطاب السيرة الذاتية، مع التذكير والتنبيه ـ طبعا ـ إلى أن كل عمل أدبي تمت صياغته، سواء بصيغة الحاضر أم بصيغة الغائب، ليس بالضرورة سيرة ذاتية، فقد يكون ـ كما أسلفنا ـ إنتاجا تخييليا لا علاقة له بواقع الذات الكاتبة، مما يدل على أن الضمير النحوي الموظف في الخطاب السردي ليس معيارا دقيقا لتحديد هوية النص الأدبي.
فالقصد الموضوعي الذي تفشيه مواثيق السير الذاتية الإسلامية الحديثة، سواء كانت عناوين، أم تصديرات لازمة للمؤلف، أم ضمائر نحوية خطابية يمتاز على تجليات الذات الضيقة، وهذه ملاحظة تفيدنا في الوقوف على هوية الرؤية الزمنية، التي ينطوي عليها المتن العام لمواثيق القراءة، وهي في رأينا رؤية مستقبلية، باعتبار أن النزوع إلى تقديم ما هو موضوعي على ما هو ذاتي، واتخاذ الذات جسرا لتبليغ خطاب حامل لأبعاد إنسانية عامة، يعد دليلا على قيام نظرة تشق طريقها نحو المستقبل، أكثر ما تعنى بالعابر في الزمن الحاضر.








د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

أبو شامة المغربي
03/03/2006, 08:29 AM
:neeww:

بواعث تلقي أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة
(الجزء الأول)

يتفق معظم النقاد والباحثين على أن إقبال القراء على قراءة أدب السيرة الذاتية، لا يرجع إلى إعجابهم بهذا النوع من التعبير، وإنما هو نتيجة لنزوعهم نحو البحث عن ذواتهم في سير الآخرين، ورغبتهم في الكشف عن مختلف جوانب الحياة المشابهة لما عاشوه ومروا به من تجارب، ولا شك أن القارئ الحديث والمعاصر يرغب في أن يرى ذاته في حياة غيره من الأدباء، والدعاة، وأهل الفكر، والعلماء، والمؤرخين، والساسة وغيرهم من ذوي الخبرة، والاختصاص، والموسوعية، والتجارب الإنسانية الحية.

ثم إن متلقي هذا اللون الأدبي حريص على المشاركة الوجدانية، يبعثه على ذلك التطلع إلى المثل العليا، والوقوف على ما يزخر به واقع الحياة من صور وتجليات، وكذا النفاذ إلى ما هو ماثل في مختلف السير الذاتية من مظاهر القوة وأسباب الضعف، ثم اتخاذ هذه الأعمال الأدبية مراء تساعده على اكتشاف نفسه، فيتنامى شعوره بها وإدراكه لها، من خلال ما يصادفه ـ في كل سيرة ذاتية يقرأها ـ من تجارب ومواقف كثيرة ومتنوعة، منها ما يبعث على التفكير والتأمل، ومنها ما يثير في النفس انفعالات متفقة وأخرى متناقضة، ومنها ما هو للذكرى وللاعتبار.

ومما لا ريب فيه أن الذات المتلقية في حاجة دائمة إلى نتاج الذات الكاتبة، بقدر ما أن مؤلف الأعمال الأدبية عموما، وصاحب السيرة الذاتية بصفة خاصة هما في حاجة مستمرة كذلك إلى القارئ، علما بأن الذات، سواء كانت كاتبة أم متلقية، تحاول الانفصال عن نفسها إلى حين، وذلك بقصد تعميق تجربتها الفردية في ضوء تجارب الآخرين وخبراتهم، وهذا النزوع الجدلي هو الذي يمكن الكائن الاجتماعي من تحقيق ذاته عبر التواصل الإنساني.

وبناء على ما تقدم من استقراء، نلاحظ أن في أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ما يثير لدى القارئ جملة من ردود الأفعال، وهذا طبيعي إذا ما علمنا أن الذاكرة المشتركة بين الكاتب والقارئ هي الأساس في اشتغال نظام الأفعال ومختلف ردودها ضمن سياق فني معين، لا سيما وأن لجميع الناس تجارب وخبرات مماثلة، هي من بين القواسم المشتركة بينهم، حتى إنه لا نستطيع أن نقر بشيء لا يعني غير فرد واحد دون سائر الناس.
ثم إن المقصود بالذاكرة المشتركة أو الجماعية ، تلك المواضعات الأدبية والقيم المتنوعة من جهة أولى، ومجموع العوالم، والظواهر ومناحي الحياة، التي تمثل قواسم مشتركة بين الذوات من جهة ثانية، وكذا تلك التجارب الواقعية التي تتشابه ملامحها و معطياتها، وتصل بخيط رفيع حياة الكاتب بحياة القارئ.
إن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة خطاب مثير بالنسبة إلى القارئ، الذي يتوفر على مرجعية وشبكة معقدة من التجارب الفردية والجماعية، فضلا عن مخزونه الثقافي، إذ الملاحظ أن ثمة توازيا بين التأثير الذي يحدثه خطاب السيرة الذاتية ذات الصفة الإسلامية الحديثة في ذهن المتلقي، والأثر الذي يستشعره الكاتب أثناء قيامه بعملية السرد أو الحكي الذاتي.

ولا شك أن فعل القراءة المنجز من طرف المتلقي هو المسؤول الأول، والعامل الأساس في تحديد طبيعة التواصل الأدبي بين صاحب السيرة و متلقيها، الذي يجد نفسه متقلبا بين التماهي والقبول، والانفصال والتعارض؛ إنها قراءة ذاتية في المقام الأول، يتفاعل من خلالها المتلقي مع هذا اللون من الإنتاج الأدبي، ذي الطبيعة المتميزة والرؤية الخاصة، وهذا من شأنه أن يغذي فضاء الإنتاجات المقروءة بكثافة حوارية، ويبعث في مسارها حركة نقدية منتجة.

فما يسرده المؤلف من تجارب ذاتية لا يعكس فقط حياته الخاصة؛ بل إنه يجلي في آن واحد حياة القارئ، وهذه الوظيفة التي تبدو للوهلة الأولى ـ في نظر البعض ـ غريبة عن جنس السيرة الذاتية، قد أقرها كثير من المتمرسين في هذا الفن الأدبي، الذي يمثل مرآة إبداعية ينظر فيها المتلقي إلى نفسه، ونافذة يطل منها على ذاته، وغالبا ما يعثر على ما يماثل بعضا من تجاربه الحياتية معروضا أمامه إلى درجة التماهي في كثير من الأحيان.

ومؤكد أن القارئ يتحول إلى شخص معني بما تفشيه العديد من المقامات الخطابية، والمقاطع السردية، والوصفية، و الحوارية من أسرار، ومواضيع، وقضايا، ومن بين ما يثبت لنا هذه الحقيقة ويشهد لها ـ على سبيل المثال ـ تجارب الطفولة والمراهقة، التي تشغل حيزا جد هام في أدب السيرة الذاتية، وتأخذ من ناحية ثانية باهتمام القارئ، بحيث إذا كان الكاتب يحاول أن يبعث ماضيه ليحياه ثانية، فإن القارئ يطمح إلى الغاية ذاتها دون أدنى شك، لا سيما وهو يلتمس لدى صاحب السيرة الذاتية تلك القدرة على الإفصاح عما يحس ويشعر به؛ إنه يطمع في أن ينجح الكاتب ـ باعتباره مؤهلا بامتياز ـ في ما فشل فيه هو.

ثم إن ما نستطيع تسجيله من جملة الملاحظات في المتن العام لأدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ـ وإن كانت هذه الملاحظة/ الظاهرة ليست وقفا عليه بطبيعة الحال ـ تلك الفراغات أو البياضات المتمثلة في نقط الحذف المبثوثة هنا وهناك في سياقات مختلفة، وهي في الغالب تفشي للقارئ بحمولتها المخفية أو الضمنية، وكأن الذات الكاتبة توجه دعوة من خلال تلك الفراغات إلى القارئ حتى يسهم بمخيلة وسرعة بديهته في ملئها وإنطاقها، وسيكون بذلك قد أضاء ما هي فيه من عتمة، وخلصها من قيود الصمت.

ونحن نعتقد بأن القارئ يبحث جاهدا عن التعبير الذي يعكس حقيقة نفسه من خلال أدب السيرة الذاتية، ولا يخفى ما لنهج كتاب السيرة الذاتية في الحياة من تأثير كبير على سلوك المتلقين لأدبهم الذاتي، وهو في الغالب تأثير مفيد، لأن قراءة العديد من السير الذاتية من طرف المتلقين تسمو بهم إلى حيث يتكامل الفكر والإبداع.

إن الخلاصة التي بإمكان المتلقي أن يخرج بها من مجموع التجارب الإنسانية، التي يصادفها عند قراءته لأي سيرة ذاتية إسلامية حديثة، لا تخلو من متعة ذهنية، بقدر ما أنها لا تفتقر إلى مواد معرفية متنوعة ومفيدة تغني حياة القارئ، ويكفي أنها تشتمل على عصارة التفاعل المتبادل من جهة بين الإنسان ومجموع أفكاره، واقتناعاته، ومعتقداته، وبينه وبين الجماعة الإنسانية التي ينتمي إليها ـ بحكم ما هو مشترك بينهما من بيئة، وثقافة، ودين، ولغة، وغيرها من الخصائص الرئيسة المجسدة للهوية الإسلامية من ناحية ثانية.
وعلى هذا الأساس سيظل أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة من أبرز الآداب العالمية تميزا وإثارة، ويكفي أنه يمثل علامة ثقافية مضيئة، وإسهاما معرفيا لا يمكن تجاوزه أو تجاهله، في وقت أخذت فيه السيرة الذاتية بوجه عام شكل الظاهرة الثقافية في العالم بأسره، وإذا كانت السير الذاتية تشهد إقبالا كبيرا من طرف القراء في العالم الغربي المعاصر، فإن هذه الحقيقة بدأت تشمل قراء العالم العربي الإسلامي.
وإذا كان الكتاب يفصحون عن بعض البواعث لهم على تأليف سيرهم الذاتية، فكيف السبيل إلى الكشف عن بواعث قراءة أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة؟ والقراء خلافا للكتاب لا يفصحون عادة عن الأسباب الباعثة لهم على قراءة السير الذاتية.
ثم إذا كان أصحاب السير الذاتية عاجزون عن بلوغ المعرفة الدقيقة باهتمامات القراء المسبقة بأدب السيرة الذاتية، وبحقيقة ما يبعثهم على تلقي هذا الضرب من الأدب، فإنهم على ما يبدو يراهنون على فضول القارئ في المقام الأول، ولا يعملون على إثارة هذه الخاصية أو القوة الكامنة فيه أصلا، وكثيرا ما يتمكنون من استدراج المتلقي، وتوجيه اهتمامه إلى النص السير الذاتي، باعتباره علامة مجهولة بالنسبة إليه، وبؤرة أسئلة وحقائق متعددة، ومتشابكة، ومثيرة أحيانا، وما نعتقده كذلك في سياق هذا المحور، هو أن بواعث قراءة السير الذاتية عموما، والسير الذاتية الإسلامية الحديثة خاصة، تتجسد في نمطين من الفضول الفردي:
الأول : فضول فردي صريح، لا يجد القارئ المتلقي حرجا في الجهر به، والكشف عنه، بناء على إدراك يطمئن إليه، ووعي يتمثل فصوله من خلاله، باعتباره رغبة إنسانية سوية غير منحرفة، تبعثه على معرفة أمور يجهلها، وتوجهه إلى قراءة أدب السيرة الذاتية، لكونه من الآداب التي تستجيب لحاجاته، الثقافية، والنفسية، والروحية، وتتلاءم مع طبيعة فضوله ورغبته في توسيع مداركه المعرفية.

الثاني: فضول فردي غير صريح، لا يتم الإعلان أو الكشف عنه من طرف القارئ، بحيث يحتفظ به لنفسه ويخفي حقيقته؛ إنه ضرب من الفضول الذاتي الذي ينشأ من بواعث يصعب على المتلقي الإفصاح عنها، وهي غالبا متمثلة في نزوعه ـ بناء على رغبة فردية واعية أو عير واعية ـ إلى رفع الحجاب عما يجتهد صاحب السيرة في ستره ومواراته، إما لأنه من العورات، وإما أنه من جنس ما يخدش الحياء، ويمس بالأخلاق و المروءة.

وبالإمكان أن نتحدث عن ضرب آخر من البواعث على قراءة أدب السيرة الذاتية، ومنه بطبيعة الحال أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وهو نمط مغاير يتجاوز دائرة الفضول العفوي أو التلقائي إلى دائرة الفضول المنهجي أو العلمي، القائم على طلب المعرفة القصوى بقضايا وظواهر معينة.
ثم إن جميع البواعث المندرجة في حقل هذا النمط من الفضول الذاتي المكتسب صادرة عن هاجس علمي، يكتسبه القارئ بفعل تراكم الخبرات لديه، وتفاعله مع التجارب التي عاشها في حياته العامة والخاصة، ومن بين أهم بواعث قراءة أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ـ بناء على ما وقفنا عليه من قراءات وتلقيات في كتابات طائفة من نقاد هذا الأدب ـ الصادرة عن هذا الجنس من الفضول، نذكر:
أولا: باعث المقارنة والبحث عن الذات، وهو أحد الأسباب التي تدفع بالقارئ إلى عقد مقارنة بينه وبين صاحب السيرة، وهو في هذه الحال يهدف إلى التعرف على ذاته، وإيضاح غموض شخصيته، والنفاذ إلى عمق حياته الفردية، أكثر مما يهدف إلى الإحاطة النسبية بذات المؤلف، ومن الخطأ أن يعتقد المرء بأن شريط ذكرياته لا يؤثر إلا فيه دون غيره؛ بل إن صدق كاتب السيرة الذاتية في الكشف عن نفسه كفيل بمنح الفرصة للآخرين حتى يكتشفوا ذواتهم.

ثانيا: باعث الاكتساب المعرفي، وهو سبب آخر يثير ما لدى القارئ من فضول منهجي أو علمي، فيجعله يتناول أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة رغبة منه في تحصيل معرفة محددة أو جملة من المعارف الإنسانية: تاريخية كانت، أم أدبية، أم نفسية، أم اجتماعية، أم فكرية وغيرها، أو محاولة منه لاكتساب خبرة معينة أو نهج في الحياة، وهذا الباعث متعدد الأوجه، لأن المتلقي غالبا ما يترصد في السيرة الذاتية ما يكتبه صاحبها بصفته شاهدا على نفسه من ناحية، وشاهدا على ما يحيط به من جهة ثانية.


د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

أبو شامة المغربي
03/03/2006, 08:51 AM
:neeww:

بواعث تلقي أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة

(الجزء الثاني)



ثالثا: باعث البحث عن الحقيقة، وهو دافع يلتمس القارئ في ظل تأثيره وفاعليته معرفة حقيقة معينة أو مجموعة من الحقائق، ظل يستفهم بشأنها ـ لمدة قصيرة أو طويلة ـ كثيرا، وربما تحول لديه بعضها إلى هاجس وقلق ملازم له طوال الوقت، وهذا الباعث بدوره له مظاهر متنوعة، إذ قد يسعى القارئ إلى العثور بين ثنايا أي سيرة ذاتية على حقيقة تاريخية، أو اجتماعية، أو عقدية، أو سياسية وغيرها.
ومن المؤكد أن بواعث قراءة السيرة الذاتية الحديثة ذات الصفة الإسلامية، ترتبط أصلا ببواعث كتابتها والغايات المرجوة منها، بالإضافة إلى صلتها الوثيقة بمنازع الجنس الأدبي الذي تنتمي إليه عموما، فشأن بواعث القراءة والتلقي ـ من حيث الكثرة والتنوع ـ كشأن بواعث الكتابة، باعتبار أن هذا اللون من الأدب الإسلامي لا يتم إنتاجه استجابة لباعث واحد، وإنما يتشعب منحى الدافع إلى التأليف، بقدر ما يتشعب مسار الباعث على الكتابة.

فما هي بواعث القراءة القائمة و الكائنة من ناحية، والممكنة والمحتملة من ناحية ثانية، إذا ما حاولنا استخلاصها وتحديدها من خلال طبيعة، ومضامين، وعوالم هذا الضرب من الأدب الإسلامي الحديث؟ وفي ضوء الكيفية التي يتم بها تلقيه من طرف نقاد أدب السيرة الذاتية؟

في مستهل الإجابة على هذا السؤال، تقتضي الضرورة المنهجية أن نشير إلى أن قراء هذا اللون من التعبير الأدبي ذي الصبغة الإسلامية ليسوا طائفة واحدة، تتواصل مع أصحاب السير الذاتية أو في ما بينها بلغة واحدة، كما أنهم لا ينتمون إلى حضارة وثقافة واحدة، ولا يدينون بنفس العقيدة؛ بل إنهم متلقون تختلف ألسنة تخاطبهم وتواصلهم، وتتمايز بيئاتهم وعقائدهم، إذ هم باعتبار عنصري: اللغة والدين أربع طوائف:
أولا: طائفة القراء العرب
ثانيا: طائفة القراء العرب المسلمين
ثالثا: طائفة القراء الأجانب
رابعا: طائفة القراء الأجانب المسلمين
فتبعا لهذا التصنيف، نلاحظ أن بين الطائفتين: الأولى والثانية قاسما مشتركا يتمثل في عنصر اللغة، ومن ثم فإن لهما ذاكرة لغوية مشتركة، كذلك نفس القاسم يجمع بين الطائفتين: الثالثة والرابعة، في حين أن عنصر العقيدة الإسلامية يمثل قاسما وذاكرة مشتركة بين الطائفتين: الثانية والرابعة، ومن جهة ثانية نرى أن نذكر في هذا المقام بأن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة غير صادر عن ذات واحدة، بحكم الخصائص التالية المميزة له، وهي: الانتماء القومي والتواصل اللغوي، والتراث الثقافي؛ إنها خصائص تدل على أن هذا الخطاب موزع بين فئتين من الكتاب:
الأولى: يمثلها الكتاب العرب المسلمون
الثانية: يمثلها الكتاب الأجانب المسلمون
ثم إن لكل قارئ، ولكل طائفة من القراء ـ كما سبق ورأينا ـ زوايا اهتمام مفترضة ومحتملة بأي سيرة ذاتية إسلامية حديثة، وهي كثيرة يصعب حصرها، ومختلفة يعسر ضبطها، لكنها شديدة الارتباط بنوع التساؤلات من ناحية، وبطبيعة الانشغالات الفردية والجماعية من ناحية ثانية، وهي استفهامات واهتمامات يغذيها حظ غير قليل من الفضول والحدس، سواء كانا ذوا طبيعة تلقائية أم منهجية، وبإمكاننا أن نلمح بجلاء مدار احتفال المتلقي بأدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، والذي يتمثل في ثلاثة محاور:
الأول: محور الإسلام (العقيدة)
الثاني: محور الذات المسلمة (الإنسان المسلم)
الثالث: محور التجربة الإسلامية الواقعية (الفعل و الحدث)
إن أهم بواعث القراءة والتلقي، المتصلة بهذه المحاور الثلاثة، هي بواعث كبرى، يكاد خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ينفرد بها، بفعل الخصائص الإسلامية المميزة له، دون سائر الخطابات الأدبية، التي لا يدين أصحابها بالإسلام، وهي ذات الخصائص التي ستجعله يستقطب اهتمام مختلف القراء، سواء العرب منهم أم الأجانب.

فالمسألة تتعلق أصلا بالرغبة في التعرف على حقيقة العلاقة التي تجمع بين الإنسان والعقيدة الإسلامية، وبين الإنسان والتجربة الإسلامية الواقعية من ناحية ثانية، مما يسمح للمتلقي بتمثل ومقارنة تجليات التواصل بين الذات العربية والإسلام مع تجليات التواصل بين الذات الأجنبية والإسلام، ثم مساءلة التجربة الإنسانية ذات الطابع الإسلامي في إطار هذه الشبكة من العلاقات التواصلية.

والراجح في ما يجعل من خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة محط اهتمام من طرف الذات المتلقية، وباعثا متشعب الأبعاد و الغايات على إنجاز قراءات خصبة وعميقة، هي مادته المتنوعة، وكثافة القضايا والمواضيع الغنية المطروحة فيه، ولم يكن هذا الخطاب ليعدم قاعدة واسعة من أصناف القراء وأنماط القراءات، بدليل انفتاحه على مجالات ينشط فيها الإنسان كثيرا.
ويكفي أن نذكر أهم المحاور الخطابية الأكثر حضورا، والتي تبعث المتلقي في الغالب، سواء كان عربيا أم أجنبيا، على تغذية فضوله المعرفي، وعلى اكتشاف ما انفردت به الذوات من تجليات، واستطلاع ما اختزنته الذاكرات من فضاءات زمانية، ومكانية، وحدثية:
الأول: يتجسد في ظاهرة الصحوة الإسلامية الحديثة في العالمين: العربي وغير العربي، بحيث أن جانبا كبيرا من خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يشغله فعل التأريخ للصحوة الإسلامية بمختلف مظاهرها وآثارها، وهو تأريخ في ذات الوقت لمعاناة الذات العربية المسلمة في سبيل التمسك بتعاليم الإسلام والحرص عليها، ثم الدعوة إليها بعد ركود حضاري طويل، وفي عصر نشط فيه الاضطهاد، وصار فيه الفراغ الروحي شبه سائد، واستشرى أمر العداء ضد كل ما هو نابع من الإسلام، أو له صلة بالعقيدة الإسلامية.

الثاني: يتمثل في ظاهرة الدخول في الإسلام، والتي تعتبر بدورها موضوعا مثيرا لفضول القارئ، وإن كانت تمثل مظهرا للصحوة الإسلامية، التي يشهدها العالم اليوم قاطبة، وهي لا تخلو من أهمية في تقدير المتلقي لها وحكمه عليها، باعتبار أن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ينطوي على فعل الشهادة من جهة، والتأريخ لتجربة الاهتداء إلى الإسلام، الغنية بما تجتازه الذات الأجنبية من معاناة من أجل العثور على الدين الحق، وذلك في وسط اجتماعي ينتقص ويزدري كل إنسان يهتدي إلى الإسلام و يدخل فيه.

ثم إن الذات القارئة تحاول إعادة التوازن المفقود لديها من خلال الاحتفاظ بقيم معينة، وتجاوز الأخطاء والعثرات؛ إنها تجربة يدخل المتلقي غمارها لبناء ذاته من جديد في ضوء تجارب وخبرات الذات الكاتبة، ومن ثم فإن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يحقق غاية مزدوجة يتقاسمها الكاتب والقارئ على حد سواء، باعتبار أن فعلي: الكتابة والقراءة يمثلان متنفسين متميزين، ينفرد الإنسان بالاستفادة منهما، ومن خلالهما تستعيد كل من الذاتين: الكاتبة والقارئة الكثير من انسجامهما وتوازنهما الطبيعي، وتتأملان بعمق وجودهما بمختلف أبعاده.

هذه حلقة أدبية نقدية نضيفها إلى سلسلة المقالات التي سردناها في باب أدب السيرة الذاتية، وهي حلقة تثير موضوع تلقي هذا اللون من الأدب، وعسانا مستقبلا بتوفيق من الله تعالى وسداد منه نسهب الحديث في شأن هذا الموضوع المحوري والهام ...


د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

أبو شامة المغربي
10/03/2006, 09:14 PM
:neeww:




أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة وموضوعة الأحلام والرؤى المنامية


إذا كان النوم يستغرق حوالي ثلث حياة الإنسان، فإن الأحلام والرؤى المنامية لها حيز تشغله في هذا الثلث، بحيث أن ذهن الإنسان النائم لا يكون في حالة سكون تام، فقد تثير المنبهات الخارجية أو العضوية الداخلية ألوانا من الصور الذهنية يراها النائم، وقد تنطوي على معان ذات دلالات، وإذا كان من الأحلام المنامية ما له صلة بمجريات النهار، وبما يرد على الذهن من الخواطر والأفكار في حال اليقظة، فإن منها ما له علاقة بما عاشه الإنسان من أحداث وخاصة من تجارب في حياته الماضية، وخاصة ما يكتسي منها سمة الانفعال والصدمة.

إننا لا نستثني من المكونات الكبرى لأدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة (الأحلام والرؤى المنامية)، ذلك لأننا نعتبرها بحق مكونا مثيرا ونشيطا، سواء بشكل صريح أم ضمني، ليس فقط في هذا اللون من الأدب الإسلامي أو في أدب السيرة الذاتية عموما؛ بل حتى في باقي الأجناس الأدبية وفي مختلف ألوان التعبير النثرية والشعرية، ولو أنه نادرا ما يحتفل به الكتاب المبدعون، وقل ما يلتفت إليه نقاد الأدب، حتى أن أي كاتب ـ حسب علمي ـ من المتقدمين أو المحدثين في حدود العالم العربي الإسلامي، وربما حتى في البلاد الغربية، لم يبادر إلى تأليف كتاب يسرد فيه أحلامه ورؤاه المنامية مجردة أو مصوغة بأسلوب أدبي معين.
ثم إن هذا الباب من الكتابة جدير بأن يلجه المبدعون، ويهتم به الباحثون والنقاد، خاصة وأن الأحلام والرؤى المنامية ما هي إلا امتداد لنشاط ذهن الإنسان، فهي مادة بإمكانها ـ إن تم توظيفها الجيد ـ أن تكون فتحا جديدا في الخطاب الأدبي، ومن شأنها أن تكون سببا في ميلاد شكل أدبي حديث ونحن نرى بأن (الأحلام والرؤى المنامية) بعض من واقع الحياة الإنسانية ومكون من مكوناتها، الذي لا زال غريقا في بحر الإهمال والجهل به، مع أنه مكون حياتي يجب اعتباره والاهتمام به.
ويكفي أن للأحلام والرؤى المنامية من التأثير على مسار الحياة اليومية للفرد ما لا يستطيع أن ينكره أحد، ثم إنه يمثل أحد ضروب المعرفة البشرية، الذي بإمكانه أن يساعد كثيرا على فهم الذات الإنسانية، ويسهم في إضاءة جملة من الزوايا المعتمة، واستكشاف كثير من مجاهل وخفايا الإنسان، هذا فضلا عن كون الأحلام والرؤى هي مواد تستقى منها الأفكار، والصور، والمشاهد وغيرها من العناصر.
ولا شك أن كل حلم منامي وكل رؤيا منامية عالم قائم بذاته، لهما تركيب، ومنطق، وسرد خاص، وفيهما يتراءى للنائم كثير من الأشخاص والمخلوقات ما يعرفه منها وما ينكره، وكذا الأزمنة، والأمكنة، والمشاهد، والأحداث، التي قد يكون طرفا مشاركا وفاعلا فيها، أو متابعا لها فقط، ثم إن من الأحلام والرؤى المنامية ما لا يخلو من الرمز، والوصف، والحوار، والخطاب الأحادي.
ثم إن أحلام المنام تختلف عن أحلام اليقظة، إذ يجد الإنسان نفسه في حلم أو رؤيا المنام يصدق ما يراه ويعتبره من الواقع، وإذا كانت أحلام اليقظة تتسم ببعض التماسك المنطقي والواقعي، فإن أحلام ورؤى المنام تتداعى تداعيا حرا، فحوادث الحلم والرؤيا تجري بسرعة غير مهتمة بحدود الزمان والمكان، بحيث أن الحالم أو الرأي يرى في نومه القصير أحداثا يستغرق وقوعها في اليقظة شهورا وسنوات.
وقد ذهب البعض إلى أن الأحلام في المنام حياة ثانية ذات تأثير على الحياة الأولى في عالم اليقظة، ثم إنها تمكننا من التعرف على ذواتنا والعالم من حولنا، ثم إن الأحلام هي وسيلة يتم عن طريقها استعادة الذات لتوازنها النفسي، فضلا عما لها من وظيفة تعبيرية.
ونحن نذكر من بين الكتاب العرب المسلمين في العصر الحديث الذين لم يتجاهلوا هذا المكون الخطابي (الأحلام والرؤى المناميـة) في ما تحجثوا به عن أنفسهم: أحمد أمين، وعائشـة عبد الرحمان، ونجيب الكيلاني، وعبد الكريم غلاب، ومحمد أسد، ومالكولم إكس، وكاترين دولورم، وماري ولدز وغيرهم.
وقد وضع محمد المختار السوسي عنوانا فرعيا في إلغياته اختزله في عبارة (متع الأحلام)، وذكر محمد المختار السوسي من جملة لقاءاته المنامية، ذلك اللقاء الذي جمعه في رؤيا منامية بطه حسين، والمثير هو أن الكاتب استغل خلاصته لبناء مقالة أدبية نقدية تخييلية، اعتمد فيها الحوار الثنائي الذي دار بينه وبين طه حسين في المنام.

وتكفي هذه المبادرة من الكاتب حجة على نبوغه الإبداعي، ولا أظن أن أحدا من أدباء الثلاثينات ـ على سبيل المثال ـ قد وفق إلى فكرة محمد المختار في إبراز شكل تعبيري جديد من الأدب وإخراجه إلى الوجود، والذي تلتقي فيه أحلام المنام بمجريات اليقظة، فتصير مادة واحدة ونسيجا متفردا من التخيل والحقيقة.

ولا شك أن محمد المختار استطاع أن يضفي طابع الرؤيا المنامية على مقاله الطويل من بدايته إلى منتهاه، إذ تمكن من توظيف كل ما تذكره واستحضره من رؤياه المنامية في حال اليقظة، والمثير للإنتباه، هي الكيفية التي استغل بها هذه الرؤيا، بحيث وفق إلى تحويلها إلى قاعدة ومنوال صالحين لبناء وصياغة مقال حواري متميز، تفضي بعض أفكاره إلى بعض.
إن الذي يضفي سمة مميزة على جميع المكونات الخطابية للسيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث ـ بوجه خاص ـ هو ارتباط الذات المسلمة المنتجة لها بأحداث وأطوار تاريخية متميزة، شهد العالم العربي الإسلامي بعضا منها، وعرفت البلاد الغربية والأجنبية عموما بعضها الآخر، مما أكسب خطاب السيرة الذاتية ذات الطابع الإسلامي الحديث قيمة مضافة، وذلك بفضل الكتابات التي تفسح فيها السمات و المعالم الذاتية / الشخصية البحتة المجال للمعالم الموضوعية المرتبطة بالعصر.
ولا شك أن هذا الإنجاز الثمين الذي حققه كتاب هذا اللون من الأدب الإسلامي الحديث، سيضع بين أيدي الأجيال اللاحقة مرجعا قويا في غزارة مادته الأدبية، والتاريخية، والفكرية، والنفسية، والاجتماعية، والسياسية وغيرها من المواد التي لا سبيل إلى الاستغناء عنها من قبل أي جيل منشغل بماضيه، وحاضره، ومستقبله، ومهتم باكتساب ثقافة شاملة ذات جذور ثابتة، في ظل الطموح إلى تجاوز أخطاء وعثرات الأجيال السابقة.

إن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يعكس ـ في ضوء مكوناته الكبرى ـ مدى تحول الذات المسلمة إلى موضوع إبداعي، وفي آن واحد يكشف عن العديد من نقط التماس في الحياة، التي يلتقي عندها الحس الذاتي بالحس الموضوعي، والوعي الفردي بالوعي الجماعي، فينشأ من هذا اللقاء ما يصح أن نصفه بسحر الخطاب السير الذاتي المتميز عن باقي الخطابات الأدبية.



د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

أبو شامة المغربي
12/04/2006, 11:55 AM
:neeww:

أدب السيرة الذاتية الحديثة في ظل الإسلام

(الجزء الأول)

إن للإنسان بعدا عقديا في هذا الوجود، لن يجد سبيلا إلى تجاهله أو الإعراض عنه مهما حاول، لأنه حقيقة ماثلة، وواقع قائم في أعماقه، والإسلام هو من يمثل هذا البعد المسلم به في عمق الحياة الروحية للإنسان، إذ ينسجم بقوة جاذبيته مع الفطرة التي يولد عليها كل فرد، ومن ثم فإن الإخلال بأركانه وتعاليمه يزج بالذات في متاهة من المعاناة والشقاء.
وقد اتجه كثير من كتاب السيرة الذاتية العربية والغربية، في العصر الحديث إلى التعبير عن همومهم الذاتية، وذلك من خلال تصور إسلامي، يرى في الله عز وجل الملجأ والملاذ، وقد ساعدت عدة عوامل هؤلاء الكتاب على الاهتداء إلى كتابة تاريخهم الفردي ونشر تجاربهم الخاصة، وذلك في ظروف فرضت عليهم العودة إلى ذواتهم للبحث عن حقيقتها، والتأمل من خلالها في عزلة عن العالم الخارجي.
إن من بين العوامل الفاعلة في الأدب عموما، والباعثة للذات الإنسانية على كتابة التاريخ الفردي الخاص، نذكر في المقدمة طبيعة العصر الذي أظل الإنسان في التاريخ الحديث، وما نتج عن هذه الطبيعة من ظروف كان لها بالغ الأثر فيهم، ثم الإرث الذي خلص إليهم عبر الأجيال السابقة لهم، والمتمثل في مجموع الرؤى، والمفاهيم، والتصورات، والقيم، التي تحكم العلاقة ونوع التفاعل مع الذات من جهة، والغير من جهة ثانية، والعالم الخارجي من جهة ثالثة.
ولا يسع الباحث، وهو منكب على دراسة أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، إلا أن ينظر في العلاقة القائمة بين محور الذات وقطب العقيدة الإسلامية، وهذا النظر يستدعي استقراء فضاء إنساني عقدي في ضوء تناول الذات المسلمة بالدرس والتحليل من خلال الإسلام، ثم بحث أدب السيرة الذاتية الإسلامية عن طريق الأنا الفاعلة فيه.
لقد دل لفظ "العقيدة" أو لفظ "الدين" على امتداد تاريخ الفكر الإنساني على كثير من المعاني والمفاهيم، قام بعضها بوحي من الله عز وجل إلى أنبيائه ورسله عليهم السلام، ونشأ البعض الآخر عن مزاعم و ادعاءات وأهواء، وعن ألوان وضروب من الرجم بالغيب، بينما نفت طائفة حقيقته وأنكرت وجوده، ثم اكتفت بالقول: إنه أسطورة من صنع خيال الإنسان، وأن لا شيء ثابت سوى العقل، وعرف آخرون الدين بمقولة "العالم الغيبي" وكل ما هو فوق الطبيعة .
منذ القدم ظل الإنسان بين العقل والدين في جدال، واضطراب، وحيرة من أمره، أينتصر للعقل؟ أم ينتصر للدين؟ أم ينتصر لهما معا ؟ أم لا يعير لأي منهما أدنى اهتمام، ويطلق العنان في المقابل للشك والعبثية ؟! خاصة وأن من العقول البشرية ما يعـشق "المادة" و"العلم" فقط، على الرغم من إحساسها بذلك المـيل الخـفي إلى الاعتقاد الروحي.
إن الإنسان قليلا ما يقر بأن العقل لا يناقض العقيدة السليمة في شيء، ولا الدين الصحيح يتعارض مع العقل أو ينتقص من قيمته، ويلغي وظيفته في الحياة الإنسانية، في حين كان على الكائن الاجتماعي العاقل أن يعي جيدا كون المعتقد السوي هو أقوى من الفكر البشري، بحكم أن الدين الحق هو الأصل والغاية، أما الفكر ففرع ووسيلة لبلوغ تلك الغاية.
ثم إن الذات الإنسانية إذا ما حاولت أن تتجاوز شعورها وحسها العقدي، أو تنسلخ بالأحرى عن الإسلام، فإنها حتما واقعة في الخلل، بمعنى أن الفكر البشري لا بد له في النهاية من الامتثال لدين الله تعالى، والانسجام معه قلبا ومظهرا، لأن قوة العقل البشري من قوة هذا الدين، أما قوة الإسلام فقائمة بأمر الله عز وجل وبقدرته ومشيئته، وهي غير متحولة أو متبدلة، بخلاف ما تنطوي عليه الذات من فكر محدود الطاقة ومتحول غير قار، وهو في حاجة دائمة إلى مركز صلب يشده إليه، ويقيم توازنه، ويسدد اعوجاجه.
إن الذات المعتقدة في الإسلام لا تخوض صراعا ضد الطبيعة، أو ضد الزمان والمكان، وهي أيضا لا تقود حربا ضروسا ضد السنن الكونية، وإنما هي تجاهد للحفاظ على فطرتها وعقيدتها الإسلامية من كل أنماط و أشكال الانحراف السائدة في الحياة الإنسانية، بحكم وعيها وإدراكها للتكامل القائم بين الفطرة، التي طبع الله عز وجل الناس عليها، والشريعة المتمثلة في ذلك النهج القويم والكامل، المسخر لتنظيم الحياة الإنسانية الدنيوية، ومما لا شك فيه أن سعادة الإنسان وثيقة الصلة باقتران وتكامل كل من الفطرة والشرع، اللذين خرجا من مشكاة واحدة.
ثم إن الذات المسلمة، سواء كانت عربية أم أجنبية، تسعى جاهدة على أساس رؤية إسلامية واضحة إلى إقامة نظام صلب ومتماسك لعلاقة سليمة بينها وبين عالمها الدنيوي ببعديه: الذاتي والموضوعي من جهة، وبينها وبين عالم الغيب من جهة ثانية؛ فهي ذات إنسانية تميل أكثر بفطرتها المتجذرة إلى التوافق، والاستقرار، والإصلاح، وقد كان الإسلام ولا يزال يعمل على ترسيخ هذه الأساسيات و غيرها من القيم الراقية.
ولا شك أن الإنسان المسلم ينزع إلى الانسجام بدل الدخول في مواجهة مدمرة وعنيفة مع كل جزئية في هذا الكون؛ إنه كوني بطبعه، وهذه الخاصية تجنبه صدامات كثيرة هو في غير حاجة إليها، كما أنها تمكنه من تمثل ذاته أكثر فأكثر في وجود كتب عليه أن يشهده، وأن يبتلى فيه إلى أجل مسمى.
لكن الإنسان المسلم يخوض صراعا من طبيعة أخرى و موقع آخر، وهو مؤازرة بمناعة دينية قوية ضد كل ألوان الشر والانحراف، وضد كل ضروب العبث والفساد، ثم إنها مناعة يشهرها في وجه كل محاولة أو فعل معاكس يستهدف فطرته السوية أو سلوكه الإسلامي القويم، لأنه يحرص أشد الحرص على أداء الرسالة أو الأمانة، التي تولى حملها في حياته الدنيوية، على الوجه الأفضل والأمثل.
إذن لا طاعة ترجى من الإنسان المسلم في سبيل الغوايات، والنزوات، والأهواء؛ إنه صاحب مسؤولية كبرى محددة، لا يحيد عنها طوال حياته، ومن أجل تحملها يتحول لديه الصراع من المفهوم المتداول وضعيا بين الأحياء من الناس إلى مفهوم المجاهدة النفسية أو الجهاد الأكبر.

أ ـ الذات العربية والإسلام
لقد عاشت الذات العربية في العصر الحديث تحولات كثيرة، ومعاناة رهيبة ذات صور وأشكال متباينة في الغالب من حيث منطلق كل ذات وموقعها، ويكفي أن الإنسان في العالم العربي الإسلامي شهد وعاش هزات عنيفة اجتماعية وسياسية، وعقدية، واقتصادية، ارتسمت ملامحها بقوة منذ أزيد من قرن تقريبا، وخلفت آثارا سيئة جلية، سواء في زمن حدوثها أم في الأزمنة التي عقبتها.
ومن الواضح أن الإنسان العربي المسلم ، الشاهد على هذا العصر، مدرك تمام الإدراك لما يعانيه من أزمات نفسية قوية لم يعرف لها التاريخ العربي الإسلامي الحديث وحتى المعاصر مثيلا، إذ يجد نفسه في مواجهة كبرى شرسة ضد قوى الشر والفساد، وفي صراع دائم مع حضارة مادية ملحدة، تسعى إلى محاصرته بمختلف ضروب الفتن، واقتلاع جذوره العربية الإسلامية، والعبث بمكونات شخصيته وقيمه السامية.
ومن المؤكد أن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة شاهد على حقيقة ما أصاب الذات العربية المسلمة من مآس وآلام، كانت بحق منعطفا تاريخيا متسلسل الحلقات، وعلى واجهتين: الداخلية والخارجية، ثم إن جانبا من معاناة الإنسان العربي المسلم يعود إلى تاريخ بدء الحركة الاستعمارية الأجنبية، التي تمتد جذورها التمهيدية إلى الحروب الصليبية، تلك الهجمة الشرسة التي كان العالم الغربي قد شنها على المسلمين والبلاد الإسلامية منذ سنة 1095 للميلاد، ودامت قرنين من الزمان تقريبا.
لقد حاول الغرب منذ زمن بعيد، بكل ما أوتي من قوة، أن تكون له الهيمنة على معظم الديار العربية الإسلامية، كما اجتهد ما وسعه الاجتهاد في طمس معالم الفكر الإسلامي والشخصية الإسلامية، سواء من خلال تشجيعه للغزو المغولي سنة 1206 للميلاد، أم بواسطة حركة الاستشراق، المتمثلة في إرسال البعثات الأوربية إلى العالم العربي الإسلامي في القرن التاسع عشر الميلادي، أم باعتماد التدخل الاستعماري المباشر في البلاد العربية الإسلامية، وذلك منذ الحملة التي شنها نابليون بونابارت ( NAPOLEON BONAPARTE ) على مصر سنة 1798 للميلاد.
ثم إن الشعوب العربية المسلمة ابتليت بصراع طويل ضد قوى الغرب الاستعمارية والعنصرية، التي زعمت بشأن الإسلام أنه عقيدة غير صالحة للقرن العشرين، استنادا إلى شبهة مفتراة، غدت مع مرور الزمن اعتقادا وهميا راسخا لدى معظم الغربيين، واقتناعات واهية شائعة للأسف في الغرب، تجسدت في الاعتقاد بكون الإسلام دين السيف، والوحشية والتخلف، وهي صور ارتسمت في أذهان الأوربيين في العصور الوسطى التي واكبت الحملات الصليبية، وعمل الساسة الغربيون بقدر ما عملت الكنائس الغربية على تغذيتها بعناية.
ولما تقاسم الاستعمار الغربي الإمبراطورية العثمانية، وانفصلت الدول المنضوية تحت لوائها، كان سقوط الخلافة نتيجة حتمية، وتم على إثر هذا السقوط استعمار عدد من البلدان العربية الإسلامية ابتداء من أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، وهو التاريخ الذي صادف انطلاقة الهيمنة الاستعمارية الغربية، فنشبت المواجهة وانتهت أخيرا بالاستقلال.
ولكن مخلفات الاستعمار الأجنبي أحدثت شروخا عميقة في وحدة العرب المسلمين، نشأ بسببها صراع داخلي بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي، مما أفرز تناقضات بينة واختلافات كثيرة على الساحة العربية الإسلامية، وفي غمرة هذه التحولات انبعثت الصحوة الإسلامية في بداية القرن العشرين، فنمت ونضجت في العقود الأخيرة من نفس القرن، وهي في نظر معظم المؤرخين، والباحثين، والمفكرين أهم حركة تغييرية وتجديدية في العصر الحديث.
لقد واكبت الصحوة الإسلامية في بوادرها الحديثة عصر النهضة في العالم العربي الإسلامي، وكان على رأس الأسباب الباعثة لها : الهيمنة الاستعمارية، وتوسع الحركة التبشيرية، والإساءة إلى الإسلام وإلى شخص الرسول عليه الصلاة والسلام من خلال حركة الاستشراق العالمية، وكتابات عدد من المستشرقين، ثم فراغ الحياة الثقافية من المعرفة الإسلامية، بالإضافة إلى ضعف الوازع الديني الذي دب في أوصال المجتمعات العربية.
ولا شك أن الصحوة الإسلامية أعطت نفسا جديدا للذات العربية، بحيث كان لها بالغ التأثير الإيجابي في تكوين شخصية الإنسان المسلم على جميع المستويات الحيوية والمصيرية، فلاحت أولى نتائجها في مستهل سنة 1927 للميلاد، والتي تجسدت في نشأة جمعيات إسلامية كثيرة.
ثم إن هزيمة العرب في حربهم ضد إسرائيل سنة 1967 للميلاد كانت صدمة شديدة، ارتجت لها أعماق الإنسان العربي المسلم، الذي بدأ يطرح جملة من القضايا، ويستفهم حول مواطن الخلل في مجتمعه، وفي شأن عدة أمور مصيرية، فارتفعت أصوات النقد الذاتي والموضوعي، وتعالت نداءات من جميع أركان العالم الإسلامي تطالب بضرورة الإصلاح الشامل، مؤكدة على العودة إلى الإسلام.
لقد كان العقد السابع من القرن العشرين ظرفا تاريخيا حاسما في حياة الشعوب العربية المسلمة، التي صارت ترى في الإسلام خلاصها من الفتن، والشقاء، والهزائم، وتطالب به بديلا عن ركام من النظريات، والشعارات، والتجارب السابقة المنحرفة، ومن ثم صارت مواد الإسلام الروحية، والعلمية، والفكرية تستقطب كل من يبحث عن ذاته، وهويته، وجذوره.
وتعد التجربة الروحية الفردية من أهم روافد السيرة الذاتية الإسلامية، والكاتب يكون عادة أقرب إلى التعبير الجيد حين تلتصق تجربة العودة إلى الله عز وجل وإلى الإسلام بنفسه أو تنبع منها، فيمتلك ساعتها قدرة تعبيرية أقوى من قدرة الكاتب الذي يتعامل مع تجاربه الفردية خارج ذاته، خاصة وأن الدين قريب من روح الإنسان ونفسه، وأكثر ما تتضح هذه الحقيقة في الأزمات التي تنزل بالإنسان، وفي الظروف العسيرة التي يمر بها، إذ ساعتها لا ملجأ إلا إلى الله عز وجل، والعودة إلى النهل من معين الإسلام.
ففي أوقات الشدة تضطرب النفس، و يأخذ الجزع بمجامعها، فلا تجد شيئا بين يديها تدفع به ما هي فيه من ضيق، وقلق، ورهبة، غير الإقبال على الله عز وجل، ثم التسليم بقضائه وقدره، والإنسان في مثل هذه المواقف يكون في حاجة ماسة إلى الإيمان الراسخ، الذي يغذي العقل والقلب معا،ثم إن الكثير من التجارب الواقعية تفضي بالذات الإنسانية إلى إدراك القيمة الثمينة التي تنطوي عليها نعمة الإيمان بالله تعالى، الذي يسع عباده برحمته بعد قنوطهم.
ثم إن الإنسان ساعة الشدة والجزع يجد نفسه أمام خيارين اثنين: إما أن يطمئن بالإيمان ويرضى بالابتلاء، أو يسلم القياد لليأس ويذعن للقنوط والقلق، ففي الخيار الأول عزاء ورجاء، بينما في الخيار الثاني تمزق وشقاء كبير.
إن الإنسان عندما يستشعر حقيقة ومبلغ ضعفه، ويضطر في وقت معين إلى الاختلاء مع نفسه، متأملا ومحاسبا إياها، فإنه في الغالب يقر بدونية شخصه وعجزه تحت حكم الله تعالى، لأنه ذو طاقة محدودة، وذرة في كون فسيح يشمل موجودات أشد منه خلقا، إنها لحظة الوعي بالذات والعالم، ووقفة في مجرى الزمن يتحدث أثناءها المرء إلى نفسه تارة، ويحاورها تارة أخرى، وينادي خالقه نداء خفيا؛ بل هي لحظة التوبة والعودة إلى الله عز وجل، التي قد لا تكتب للإنسان الضال إلا مرة واحدة في حياته، والتي قد يحول الموت بينه وبينها في أية لحظة، إنها اللحظة التي تعادل عمر الإنسان كله.
ثم إن شبه القطيعة القائمة بين الذاتية العربية وحقيقة الإسلام لا تزال تحول دون تحقيق التوازن الطبيعي للحياة الإسلامية في العالم العربي، لأن عمق الانفصال الذاتي العقدي، سواء عن قصد أم عن جهل، أفرز وهما سرعان ما تحول إلى قناعة زائفة بجدلية الاغتراب المتبادل بين الإنسان العربي والإسلام، الذي صار كما جاء لأول مرة غريبا بين الناس، بعدما اطمأنت إليه النفوس واحتمت به من أي زيغ أو انحراف محتمل، أما اليوم فإن استبداله يتم في العالم العربي بمتاهة القيم والنظريات الوضعية، ودوامة التجريب، بدعوى التغيير، والتجديد، والحداثة.
إنها تجربة الانسلاخ عن الإسلام، التي تخوضها الذات العربية تحت تأثير الجهل و تأليه أهوائها، فترى الدين مضيعة لدنياها وحياتها، وقرينا ملازما للجمود، والموت، والأحزان المتراكبة، وعندما ينغمس الإنسان في طلب وإيثار الجانب المادي من الحياة، ويعكف على إثارة نزواته و نفسه الأمارة بالسوء، فإنه يتوهم العثور على السعادة بعيدا عن الدين، لكنه عاجلا ما يرى ذاته محاصرة بالضياع و الفراغ الروحي.
ثم إن الإنسان العربي الضال عن عقيدته الإسلامية عندما ينظر في نهج حياته ملتمسا له معنى أو وزنا وقيمة يطمئن إليها، فإنه لا يصادف سوى الحيرة، والشك والاضطراب، ولا يعثر في مجمل سلوكه على أي دليل يشهد له بسواء السبيل، في حين يصطدم بالخيبة، والعبث، والفوضى، وخلال هذه اللحظة فقط تسقط غشاوة الجهل والانبهار بالحياة المادية، فتعود الذات إلى وعيها بنفسها وبعقيدتها.
إذن فمن قلب التجربة الفردية، تستخلص الذات العربية درجة انحرافها وزيغها عن تعاليم عقيدتها، وتكتشف مدى ابتعادها عن جوهر الدين الإسلامي، ومبلغ ضياعها في غمرة الفهم السطحي للإسلام، مما جعلها تسقط في محاكاة السلوك الشاذ عن الفطرة السليمة، وتعاني من غياب التوافق بين معتقدها ونهجها في الحياة.
إنه انفصام الشخصية العربية، وانحراف الذات المسلمة، التي استبدلت عن جهل الذي هو خير بالذي هو أدنى، فعاشت تكابد آلاما وشقاء مفترسا، نتج عن سوء الاحتكاك بالحياة الغربية الأجنبية، والإحساس بالنقص والدونية، الذي أخل بتوازن الإنسان العربي المسلم، وأذكى فيه اندفاعا وتهافتا أعمى على مظاهر الحياة الغربية المناقضة من حيث الغاية والوسيلة للروح الإسلامية.
إن مبدأ الثنائية الذي يعبر عنه الإنسان بجسده المادي من جهة، وبالحياة الروحية التي تدب فيه من جهة ثانية، لهو دليل يهتدي به من خلال العقل إلى أن الوجود بأكمله متألق من عنصري المادة والروح، وقائم على اعتدالهما وانسجامهما، إذ ليس لأحدهما سلطان على الآخر، وليس لكليهما سلطان على الأفراد، فقط وحده الإنسان هو الذي يملك السلطان في حدود التوفيق بينهما، والحفاظ على توازنهما.




د. أبو شامة المغربي
kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

أبو شامة المغربي
12/04/2006, 12:05 PM
أدب السيرة الذاتية الحديثة في ظل الإسلام

(الجزء الثاني)

ثم إن من عادة الإنسان أن يؤجل كثيرا من الأعمال والمبادرات التي تجول بخلده، على الرغم من الأهمية البالغة التي تنطوي عليها في كثير من الأحيان، حتى بحث المرء عن ذاته والوقوف على حقيقتها، وكذا محاولة العثور عن إجابة الكثير من الأسئلة المصيرية يتم تأجيلها مع مرور أيام الحياة الدنيوية القصيرة؛ بل حتى التوبة إلى الله عز وجل مؤجلة، وكأن الذات الإنسانية تستشعر عجزها عن مقاومة هذا التأجيل في حاضر وجودها، ولا تترقب تجاوزه إلا في المستقبل، فهل هذا دليل على إن نزوع الإنسان إلى التأجيل هو جزء من حياته اليومية؟
إن العناء كل العناء في أن يفقد المرء كل معنى لحياته، ويستسلم للقلق والشك، والأوهام والهواجس التي تعبث بنفسه وعقله، وتحجب عنه الغاية من وجوده بين الأحياء؛ فالإنسان غالبا ما ينتصر للجانب المادي من الحياة، ويتخذ المادة هدفا ومطلبا له دون الجانب الروحي، فيخيل إليه أن الدين عامل معاكس يقيد نشاطه، ويحد من حركته، ويحول بينه وبين السعادة المنشودة.
ولا شك أن شقاء الإنسان ومعاناته تتضاعفان كلما أمعن في الاستعلاء بالعقل على صوت الفطرة، اعتقادا منه بأن الكائن العاقل مؤهل دون باقي المخلوقات للإحاطة بعالم الغيب، لكن لما تعذر عليه نيل وتحصيل المعرفة الغيبية، فإنه نفى وجودها، ولم يقر ويعترف إلا بما هو محسوس مادي، ثم استبعد الشك في قصور وعجز عقله، وزج بنفسه في غمرة الإلحاد، ونحى بها وجهة شاذة لا تطيق المضي فيها.
إن الجدل والعناد من طبائع البشر، إذ الإنسان يسرف كثيرا في الثقة بنفسه والاعتداد بعقله، ويسرف أكثر في إطلاق الأحكام والانتصار لها بغير علم، في حين يجهل الوظيفة الحقيقية والطبيعية للعقل، ولا يعي جيدا الحدود الأصلية التي تنشط فيها هذه الملكة وهذه الطاقة الحيوية التي أودعها الله عز وجل فيه، حتى إذا سقط في أسر أناه المتضخمة، وخدعته جاذبية ذاته، لم يتبين الغاية من حياته الفكرية، والهدف من ممارسة التفكير، والنظر، والتأمل.
وأول ما يغيب عن المرء سهوا أو تجاهلا منه، هو أن أصل ماهيته مشترك بين المادة والروح، فيفضي به هذا الجهل المركب إلى تأليف قناعات واهية حول الحياة، والكون، والإنسان، وباقي الكائنات الحية، ثم الاحتفال بالمحسوس من الموضوعات دون المجرد منها، مع الإغراق في جدال عقيم في شأن وجود الله تعالى، ومدى قدرة الإنسان العقلية وقوته الذهنية، ثم إن صوت الفطرة السليمة لم يضعف في أي زمن من الأزمان أمام نداء العقل، لأن الفطرة والعقل صوت واحد، ونداء موحد نابع من مشكاة واحدة، يهتدي به الإنسان في حياته الدنيا من أجل بلوغ الحياة الأخرى بسلام.
أما الإحساس بالاختلاف أو التناقض بينهما فهو من قبيل الوهم البشري، لأن كلا من العقل والفطرة هما مجرد وسيلة مسخرة ليخلص الإنسان إلى حقيقة ونهاية واحدة، وهي الإيمان بوجود الله وتوحيده، ثم الاعتقاد في الإسلام الذي ارتضاه الخالق تعالى لعباده جميعا.
إنه الاعتراف بالإيمان والاعتقاد في الله عز وجل، القائم على ثلاثة مستويات، هي: الوراثة، والشعور، والتفكير؛ إنه إيمان راسخ عن طريق التقليد والمحاكاة، والقلب، والعقل، وهذه ثلاثة مصادر تستقي منها الذات الإنسانية استواء إيمانها، ثم إن الإيمان المقصود في هذا السياق، يبدو للوهلة الأولى مركبا من مصادر متكاملة، أدناها الوراثة أو التقليد، وأعلاها التفكير أو العقل، بينما هو في واقع الأمر ليس كذلك، لأننا أمام ثلاثة ضروب من الإيمان، كل منها قائم بذاته ومستقل بطبيعته، لكنها مصادر إيمان لا ينفي بعضها بعضا، وإن كان الإيمان بالوراثة هو غير الإيمان بالقلب أو العقل.
إن الإيمان بالله عز وجل، الذي يستند إلى الفطرة والعقل معا، هو الذروة في الاعتقاد والعبادة، لأن الخالق تعالى لا يعبد بالجهل، وكذلك الإسلام لا يتخذ دينا بكيفية اعتباطية، أو حسب أهواء المخلوق؛ بل إن الاعتقاد في الله عز وجل وفي الإسلام يقوم على العلم و يرسخ به.
ب ـ الذات الغربية و الإسلام
إن اللقاء الذي يجمع بين الذات الإنسانية والعقيدة في فضاء أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يزداد إثارة وقوة عندما يتم بين الأنا الغربية وغير العربية عموما والإسلام، لأنه لقاء بين كائن مضطرب حائر وعقيدة ثابتة ومعتدلة، تقوم على توازن تام وانسجام متكامل، ثم إنه لقاء بين إنسان ضائع لا يستقر على حال ونظام تغمره الحياة.
ولا شك أن الذات الغربية هي أفضل من يقر للإنسان العربي المسلم بتفرد حياته، ويعترف بامتياز عقيدته، وذلك بناء على تجليات ملموسة بسند علمي، والأمثلة متعددة في هذا الباب، نكتفي منها بذكر ما خلص إليه جاك بيرك ( JAQUES BERQUE )، و هو أحد أعلام الاستشراق الغربيين، الذي رأى في علاقة الغرب بالشرق، أو عما أسماه الخطيئة الأولى، سببا رئيسا في الصراع الكبير الذي نشأ داخل المجتمع العربي، وفي قلب الذهنية العربية أيضا.
لقد ذهب جاك بيرك ( JAQUES BERQUE ) إلى الاعتقاد في كون الدافع الذي كان من وراء اعتناق عدد من الغربيين الإسلام، قد تمثل في ضيقهم الشديد بالحضارة الغربية المستعبدة من طرف المادة والآلة، وشعورهم بأن الحقيقة الأزلية كامنة في البلاد الشرقية، حيث السلوك العربي الإسلامي يتمثل في التكامل والانسجام مع الطبيعة، بعيدا عن عوامل وأسباب القلق، والشك، والتمزق، التي تمثل جوهر الصراع الدائم في عمق الذات الغربية.
ولا شك أن قوة الجذب التي تعد من العناصر الأساسية التي تميز الإسلام كان لها عظيم الأثر على طائفة من الشعوب الغربية، التي رأت في هذا الدين تتمة للنصرانية، ومن ثم لم تجد نفسها غريبة داخل الوسط الإسلامي، فكانت تجربة الدخول في الإسلام فريدة من نوعها، ونتيجة للحظة اكتشاف ويقظة في وسط اجتماعي ينكر وجود الله عز وجل، ويتخذ المادة إلها معبودا، والتقدم المادي دينا، وداخل محيط فاسد مختل تلسع الإنسان فيه عزلة رهيبة.
إن الشك العقدي الذي قاد إلى الثورة على الدين في العالم الغربي، بقدر ما كان نتيجة للصورة المشوهة التي أعطتها الكنيسة الأوربية للعقيدة المسيحية من ناحية، وتضييقها الخناق على العلماء والحركة العلمية، وإلزامها الناس كرها بالخرافات والأكاذيب باسم الخالق من جهة ثانية، بقدر ما كان سببا مباشرا وباعثا لدى فئة عريضة من الغربيين بوجه عام على إثارة مسألة البحث عن بديل ديني خارج البلاد الغربية، ثم إعادة النظر في العديد من المفاهيم والقيم، وعلى رأسها مصدر الوجود البشري والكوني، ومفهوم الحياة، وممارسة النقد الذاتي والاجتماعي، من خلال تقييم التجارب الحياتية الفردية والجماعية في العالم الغربي على كافة المستويات.
إن حضور الذات الغربية المسلمة بمختلف تجاربها الواقعية يضفي على السيرة الذاتية الإسلامية واقعا فريدا من نوعه، يعكس تجليات الوجود الإنساني المتأثر بالإسلام، وهذا ما حدا بعدد من الكتاب الأجانب إلى سرد تاريخهم الخاص، بقصد الإدلاء أولا بشهادة في حق الإسلام، الذي له من الفضل عليهم بإذن الله عز وجل ومشيئته ما لا يستطيعون له حصرا، وثانيا بهدف أن تكون شهادتهم تلك أحد أسباب الدعوة إلى الإسلام، وتعبيرا على وعيهم بحقيقة ذواتهم المعتقدة، ثم منبرا أدبيا يتحدثون منه إلى غيرهم بنعمة الله تعالى عليهم.
ثم إن اهتمامات وتوجهات الذات الأجنبية شكلت لديها معاناة من طبيعة خاصة، فقدت في غمرة حيرتها وقلقها معنى الحياة الهادئة المستقرة والآمنة، خاصة أن الدين عند النصارى يكتسي صبغة شخصية، وأن مجال تدخله ينحصر فقط في الأخلاق والمعتقدات، ولا يتجاوزها إلى العلم والسياسة، ومن ثم تعددت العوامل المعاكسة التي حولت وجود الذات الغربية إلى جحيم لا يطاق، وزجت بالإنسان الأوروبي في متاهات وضياع شبه مطلق.
ويذكر روجيه جارودي ( ROGER GARAUDY ) عددا من أدباء الغرب، الذين أدركوا القرن التاسع عشر، وكانت لهم آراء متفقة في كثير من الأحيان، ومتضاربة في حالات نادرة حول الشرق العربي والإسلام، فقد ألف وركب كل من فيكتور هيجو (VICTOR HUGO )، وفلوبير

( FLOBERE ) بخيالهما شرقا تافها لا قيمة له، وكذلك فعل شاتوبريان فرنسوا روني دي
(CHATEAUBRIAND FRANCOIS - RENE DE )، وكان بدوره حاملا لإرث ضخم من الأحكام الجاهزة و الملفقة على الشرق، تراكمت في عدة قرون، بحيث لم تكن نظرته إلى الشرق إلا من زاوية رومانسية انطباعية، متهما المسلمين بجهل الحرية، وعبادة القوة، أما لامارتين ( LAMARTIN ، وجرار دي نرفال ( GERARE DE NIRVALE ) فلم يجدا في الشرق سوى الفراغ والجهل.
ثم إن رولان موسينييه ( ROLAND MOUSSINIER ) يرى بأن صورة الإنسان العربي المسلم في ذهن الإنسان الغربي تتمثل في ذلك التركي أو ذلك الشرقي الذي يقف معه على طرفي نقيض، مثل ما يناقض الشرق العربي الإسلامي البلاد الأوروبية، ومن بين أمثلة الرأي الآخر المعاكس في العالم الغربي، اعتراف هيردر ( HIERDERE ) بأن العرب كانوا أساتذة أوربا.
وكتب غوته يوهان وولفكانك فون ( GOETHE JOHANN WOLFGANG VON ) في أواخر القرن الثامن عشر سنة 1774 للميلاد شعرا يمدح به الرسول عليه الصلاة والسلام، و دعا إلى الهجرة نحو الشرق ليستمد منه أهل الغرب دما جديدا، وكان غوته ( GOETHE ) يرى في الإسلام عقيدة تقيم بناء المجتمع على العمل لا على التواكل.
إن دراسة الإسلام في كثير من مؤلفات الكتاب الغربيين، وكذلك نظرتهم إلى الشرق العربي، لم تتم بكيفية موضوعية، وفي أجواء بريئة من التعصب العقدي والفكري؛ بل إن معظم الأعمال سخرت لطمس حقيقة الإسلام وحضارة الشرق العربي معا، ولم يكن هذا الواقع العدائي أمرا مثيرا أو موقفا غير منتظر، ذلك لأن الإنسان الغربي كان كثير الشرود في أوهامه، وأحقاده، وتصوراته حول الإسلام، والمسلمين، والبلاد العربية، التي كانت بالنسبة إليهم مسرحا للأساطير المختلفة، وأرضا مغمورة تغري باكتشاف مجاهلها وخوض المغامرات فيها.
ولا ريب في كون هذا الحكم المسبق، وهذه الصورة المظلمة المأخوذة عن الإسلام والمسلمين، والتي يكتسي تكسيرها ونقضها من قبل الذات الغربية المهتدية إلى الإسلام أهمية بالغة في وسطها الاجتماعي، تعكس أحد الأسباب المتعددة، التي تكرس على مستوى آخر اغتراب وعزلة الإنسان الغربي المسلم في العالم الغربي.
إن المواجهة بين العالمين: الغربي والعربي الإسلامي كانت حضارية شاملة، ومن ثم تحول الإسلام إلى عقدة مترسخة في الذاكرة الغربية الجماعية، هذا بالإضافة إلى أن الحركة الاستشراقية غذت النظرة العدائية لدى الإنسان الغربي تجاه الإسلام، من خلال نشاطها المكثف الذي لم يكن في أساسه بحثا علميا خالصا، وإنما كان عبارة عن حملة تبشير حاقدة على الإسلام، تهدف إلى خدمة الكنيسة والقوى الاستعمارية؛ لقد كان العالم الإسلامي وما يزال في الثقافة والعقلية الغربية بنية سياسية إيديولوجية عدائية.
ثم إن الأصوات التي ارتفعت داعية أهل الغرب إلى إنصاف الشرق واحترامه، ودراسة الإسلام بعد الإطلاع والتعرف عليه بعيدا عن الأحقاد والأحكام المسبقة، وذلك بالتخلي عن جميع أخطاء القرون الوسطى، سواء منها الفكرية أم العقدية، التي أوهمت الإنسان الغربي بدونية شعوب الشرق، وصورت له الإسلام عدوا للمسيحية، وبؤرة للفساد والجهل، وسفك الدماء؛ جميع تلك الأصوات تعالت أيضا منتقدة العالم الغربي من خلال قيمه، ومفاهيمه، ومظاهره الزائفة، حتى إن جميع الشهادات الواردة في هذا الشأن تتفق وتتكامل في الكشف عن قمة الشقاء والانحراف في حياة المجتمعات الغربية.
لقد أدرك كل من دخل في الإسلام، من الغربيين خاصة، أن العلاقات الإنسانية في المجتمع الغربي قائمة على الزيف، والخداع، والخبث، واستثارة الغرائز، وتهييج الشهوات الحيوانية، ذلك أن رعاة الحضارة الغربية يعلمون تمام العلم أن هذا النمط الحضاري يتغذى على الخلاف والتمييز العنصري، وعلى الأكاذيب والحجج الواهية، كما يجتهدون ما وسعهم الاجتهاد في سبيل طمس فطرة الإنسان، والقضاء على مشاعره، وقتل رغبته في معرفة الحقيقة.





د. أبو شامة المغربي
kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

أبو شامة المغربي
12/04/2006, 12:08 PM
http://www.merbad.org/vb/images/smilies/neeww.gif
أدب السيرة الذاتية الحديثة في ظل الإسلام
(الجزء الثالث)


إن السمات التي تطبع أدب السيرة الذاتية الإسلامية الأجنبية ـ قديمه وحديثه ـ كون الذوات المهتدية والمنتجة له لا تكتفي بسرد أطوار تحولها من الكفر إلى الإيمان، والقول بأن الإسلام هو الدين الحق؛ بل إنها تزيل القناع عن وجه الحضارة الغربية المادية بقصد كشف زيفها؛ إنها تتخذ من حدث دخولها في الإسلام مناسبة للإسهام في تعرية ما تعيشه الأوساط المجتمعية الغربية من تمزق روحي، وما يتلاطم في عالمها من أباطيل ومعتقدات غريبة، ينفر منها عقل الإنسان السوي وتنكرها روحه.
ثم إن جميع الأصوات الغربية التي تعالت منتقدة حضارة الغرب على غلوها المادي، ومآخذة على الأوساط الاجتماعية الغربية إسرافها في التحامل على الشرق العربي الإسلامي وعلى شعوبه المسلمة، بقدر ما كانت شاهدة على قوة الإسلام وبراءته مما ينعت به من قبيح الصفات، وما يحاك حوله من شبهات وافتراءات، بقدر ما لم تتردد في توجيه انتقادات شديدة ودقيقة جدا إلى الإنسان العربي المسلم، بحكم الصورة الباهتة التي يظهر بها إلى جانب قوة ووضوح الإسلام.
فمالكولم إكس ( MALCOLM X ) مثلا يستغرب من درجة التقصير التي بلغها العرب المسلمون، والإهمال الذي اقترفوه في حق الدعوة إلى الإسلام، ويؤاخذ عليهم إنكارهم للأهمية التي يتسم بها الحوار مع غير المسلمين في سبيل الدعوة الإسلامية، وضعفهم البين في كيفية التواصل مع الشعوب غير المسلمة باعتماد وسائل تبليغية مناسبة، إذ يعتقد الكاتب أن توظيف مشهد الحج لوحده خارج العالم العربي الإسلامي من شأنه أن يضاعف ثلاث مرات عدد المهتدين إلى الإسلام، باعتبار ما تنطوي عليه صورة هذا المشهد من رسالة روحية عميقة الدلالات، يستطيع كل إنسان أن يقرأ مضامينها دون عناء أو مشقة.


فالذات العربية المسلمة في العصر الحديث، في نظر الغربيين وغيرهم ممن اعتنقوا الإسلام، هي ذات ضعيفة بالمقارنة مع أسلافها، إذ تفتقر إلى الثقة بالنفس، وترغب عن طلب العلم، وتنأى عن تجديد إيمانها بالله عز وجل وبالعقيدة الإسلامية في حين تتخذ التقليد الأعمى منهجا لها في الحياة، وتتهافت على ثقافة الغرب الدائرة حول وثنية المادة.
ثم إن من الشهادات الانتقادية الموجهة إلى الإنسان العربي المسلم، والتي نصادفها في خطاب السيرة الذاتية الغربية الإسلامية الحديثة، ما اكتشفته إميلي براملت
( EMILIEBRAMLET ) القادمة من أمريكا حيث تسود القيم المادية إلى البلاد العربية حيث تكسر أفق انتظارها، إذ وجدت العرب المسلمين يتهافتون على المنصب والمال، ويسرفون في الاهتمام بالمظاهر بدل الانشغال بالجوهر، فهم يجمعون بين الصلاة لله عز وجل وظلم بعضهم بعضا، ومما استرعى انتباهها أنها وجدت القرآن الكريم بينهم مهجورا، بحيث لا يقرؤونه إلا ليطربوا بأصواتهم أو ليتخذوه زينة في المناسبات فقط.
أما محمد أسد ( LEOPOLD WEISS ) فينتقد العرب المسلمين مستفهما إياهم ومستغربا في ذات الوقت من فقدهم الثقة في أنفسهم ؟‍‍!! و هي التي مكنت أسلافهم في الماضي من نشر الدين الإسلامي في أقل من مائة سنة، ومن استسلامهم في ضعف شديد لعادات الغرب وأفكاره، وسقوطهم في وثنية المادة التي تردى فيها العالم الغربي، حتى صاروا أمة محتقرة، ثم تنكرهم للإسلام الذي أنار العالم، في زمن كان فيه الغرب غارقا في الجهل والهمجية ؟‍‍‍!!
ويتوجه عبد الكريم جوصو بالنصح للمسلمين، وهو نصح نقرأ فيه كثيرا من النقد الموضوعي الذي يشمل ظاهر المسلمين وباطنهم في آن واحد، بحيث أن الكاتب يحث المسلمين من خلال الشعب التونسي، بعد أن وقف على حقيقة الإسلام ودخل فيه، على التمسك بتعاليم دينهم الحنيف، والحفاظ على أصالتهم والإرث المجيد الذي خلفه أجدادهم، مذكرا إياهم بما للتقليد الأعمى، واتباع آثار الغربيين من عواقب وخيمة، وأن المهابة والإحترام لا تكتسب باعتماد هذا النهج في الحياة.
إن الإنسان العربي المسلم الحديث في مرآة كل من دخل الإسلام من أهل الغرب، هو ذات مقصرة في حق نفسها أولا، وفي حق الرسالة أو الأمانة التي كلفت بتبليغها ثانيا، وفي حق من لا يعرف عن الإسلام شيئا، أو من يجهل الإسلام الحقيقي ثالثا، ومدار هذا التقصير في القيام بالواجب هو إغفال وتجاهل الدعوة إلى الله وإلى الإسلام، وعدم بذل الجهود في سبيل تعريف غير المسلمين بآخر الرسالات وتقريبهم من حقيقتها.
وأما إيبيانك مودوا دي ساراواك ( IBIANKMODWA DE SARAWAK ) فتتوجه بالنقد من جهة إلى المسلمين، وخاصة العلماء بالدين الإسلامي منهم، الذين لم يعملوا على نشر الإسلام في سائر بقاع العالم، ولم يكلفوا أنفسهم عناء التعريف بتعاليمه، والاجتهاد في تبليغه بكيفية مناسبة، كما تتوجه بنقدها من جهة ثانية إلى أكثر أبناء بيئتها الغربية، الذين لم يبادروا إلى البحث عن الدين الحق، ولم يحدثوا أنفسهم بالسعي إلى معرفة الإسلام.
وإذا كانت الذات المهتدية إلى الإسلام تحرص على كشف ما تواريه الكنائس في البلاد الغربية من خداع وأكاذيب، وما يخفيه رجالها من ممارسات وطقوس، فإنها كذلك تنقد العرب المسلمين، وتسدي إليهم النصح، وتحثهم على التمسك بتعاليم الإسلام، والغيرة عليه، واتخاذ تلك التعاليم سلاحا في وجه من يكيدون لهم في الخفاء والعلن.
ولقد تنكر رعاة الحضارة الغربية لكل ما يصل الحياة الروحية بسبب، إلا المادة فإنهم اتخذوها مدارا لإنشغالاتهم، ومبلغ علمهم في حياتهم الدنيوية، إذ لما تعذرت عليهم معاينة الروح أنكروا وجودها، ثم جردوا العلم والمعرفة من كل هدف أخلاقي، فأسقطوا حضارة الغرب في دوامة الفوضى و متاهة الغموض.
أما روجي جارودي ( ROGER GARAUDY ) فيرى أن ما يسمى بالعلم الغربي ما هو إلا نتاج عقل مشوه، لا يطرح من الأسئلة إلا ما يتـصل بالكيفية، في حين لا يحاول أن يسأل لماذا؟ وهذا يعني أن ثمة فصلا وقطيعة في (العلم) الغربي بين الاستفهامين: (لماذا؟) و(كيف؟)، أو بالأحرى هناك تغييب مقصود للسؤال الرئيس: "لماذا؟"، وبهذه القناعات الفردية خرجت الذات الغربية من تجربتها الروحية بكل أبعادها في وسط اجتماعي يسوده الاختلال والفراغ الروحي، إذ بعد أن استعرضت متلقية ومنتقدة جميع ما عاينته بكل قواها وحواسها الإدراكية، وبكامل وعيها السليم، تأتى لها أن تتجاوز واقعا منحرفا ومناقضا لطبيعة الإنسان وطموحه إلى السمو، وبذلك تمكنت من العثور على ماهيتها في الإسلام.





د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com

أبو شامة المغربي
12/04/2006, 12:09 PM
http://www.merbad.org/vb/images/smilies/neeww.gif
أدب السيرة الذاتية الحديثة في ظل الإسلام
(الجزء الرابع)

ثم إن الذات الغربية الباحثة عن الدين الحق تستجمع قواها المدركة في أجواء خانقة، لتنظر في محيطها الاجتماعي نظرة متفحصة، وذلك بقصد الكشف عن أسباب فساده ودماره، لكنها تفاجأ وهي على درب اللقاء بالإسلام بعالم يعبث به أهله بقدر ما يعبثون بأنفسهم؛ إنهم تبع للأهواء والشهوات التي تقذف بهم في متاهة الشقاء ودوامة المآسي.
وتقف الذات الغربية المهتدي إلى الإسلام، بعد رحلة بحث طويلة عن حقيقة المعتقد الروحي، ليدلي بشهادة حية من قلب المجتمع الغربي، ثم إنه يتخذ من نفسه عبرة للآخرين، ويبسط أمامهم كل المظاهر التي تقيد بها في سابق حياته المظلمة، من أهواء، ونزوات، وانحرافات، وضلال بعيد، حتى إن جميع الذي يسرده تصريحا يعد في آن واحد تلميحا للعديد من الممارسات والسلوكيات المتنافية والمتعارضة مع الفطرة البشرية السوية.
ثم إن بؤرة الاهتمام الأولى لدى الإنسان الغربي محصورة في البحث عن مركز ثابت في عالم لا يزداد إلا اختلالا واضطرابا، وللعثور على هذا المركز الثابت لا بد من الاستعانة بالتأمل والتدبر في فضاءات موحية خارج الذات، لكن بشرط أن تتم هذه التجربة الروحية بتجاوب مع عناصر الكون، وليس من خلال الدخول في صراع معها، ولابد كذلك من أن ينسحب الأثر الفعلي للتجربة على عمق الكيان الإنساني، لأن بناء الذات من الداخل وتطهيرها هو المقصود والغاية المتوخاة في النهاية.
إن الذات الغربية المهتدية إلى الإسلام تهدف من وراء مبادراتها الاعترافية وشهاداتها إلى إسقاط القناع عن وجه السعادة الوهمية التي يدعيها أهل الغرب الضالين، ثم إنها ترغب في أن تجعل من نفسها مرآة ينظر فيها كل من حول حياته إلى أنفاس تتصعد في شقاء ومأساة إنسانية كبيرة.
ولا شك أن الذات الغربية تصطدم في وسطها الاجتماعي بالتقاليد العقدية المبتدعة والغريبة جدا، والمتضاربة إلى أقصى حد، والسلوكيات الشاذة، ومن ثم تغدو مسألة الاختيار والمفاضلة، وحتى المقارنة في ما بين التوجهات الدينية المزيفة بالنسبة إلى هذه الذات سياجا من الحيرة، والقلق، والشك، يحيط بها من كل ناحية، وجميع هذه العوامل المؤثرة تدفعها إلى السقوط في صراع وهمي بين حياتها العقلية وحياتها الروحية، فتزداد حدة معاناتها.

ففي قلب وضع متأزم، وعلى عتبة اليأس والإحباط، تبحث الذات الغربية عن ملجأ تأوي إليه، وعن قوة تعصمها من الضياع والضلال، فلا يسعها في نهاية المطاف إلا أن تستغيث بالله عز وجل خالقها وهاديها إلى الحق، وعندما تصطدم الذات الغربية بواقعها المأساوي، في وسط اجتماعي يسوده الفراغ الروحي، فإنها تعمل على بناء قناعات جديدة، وتقوم بهدم كل فكرة مسبقة، أو حكم موروث، قد يتسبب بشكل مباشر في إبعادها عن الحق ومعرفة الوجهة السليمة؛ إنها تهدف بمجموع ردودها الفعلية إلى بناء معنى جديد ودلالة مغايرة لوجودها، ولعلاقاتها مع الذوات الأخرى من جهة، ومع موضوعات وعناصر العالم من حولها.
لقد كانت حياة ماري ويلدز ( MARIE WELDS ) قبل اهتدائها إلى الإسلام عبارة عن رحلة في ظلمات متراكبة من الشقاء، واليأس، والغربة، والضياع؛ إنها كانت تنظر بغضب إلى جميع ما يحيط بها، فبدت لها حياتها وحياة الناس من حولها عبثا، ولم يكن أمامها من خيار للنجاة من تأزمها سوى أن تبحث عن الأسباب الحقيقة لما تعانيه من صراعات وتناقضات، وأن تحاول العثور على الأجوبة الجوهرية في الحياة.
ولا شك أن هذه التجربة تعتبر قاسما مشتركا بين الغربيين، الذين يفضي بهم البحث عن المعتقد الحق إلى الدخول في الإسلام، إذ أن أول سؤال يتعين على الذات الغربية أن تحسم في الإجابة عليه هو: أين الدين الصحيح، الذي لا زيف فيه ولا تحريف، وسط هذا الكم من العقائد الموضوعة والمحرفة؟
صحيح أن الذات الغربية لما تضع هذا السؤال على رأس الاستفهامات، بعد الاعتقاد طبعا في وجود الله عز وجل، تجد نفسها حائرة في مفترق طرق عقدي، ويذكرنا هذا الوضع أو هذا الموقف بالتجربة التي عاشها إبراهيم عليه السلام قديما، وذلك عندما شرع في البحث عن الخالق تعالى، فوجد نفسه مضطربا حائرا بين الشمس، والقمر، وأحد الكواكب، وكذلك يجد الإنسان الغربي، الذي يبحث عن الدين الذي ارتضاه الله تعالى لعباده، نفسه في حيرة من أمره بين البوذية، والمجوسية، واليهودية والمسيحية المحرفتين.
وإذا كان أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام قد اهتدى في النهاية إلى عبادة الله الملك الحق، فإن الإنسان الغربي يهتدي إلى الإسلام بعد بحث قد يطول وقد يقصر، بعدما كان يستشعر بداخله تلك الحاجة إلى منارة يهتدي بها في عتمة الشك والحيرة إلى دين يطمئن إليه، ويستطيع أن ينهج تعاليمه المتكاملة في الحياة، وهو واقف على عتبة الهداية.
إن الذات الغربية تكتشف بداية تحولها السريع على مستوى الشخصية بمجرد ما توحد الله عز وجل وتخلص له العبادة، وعلى درب الحقيقة تأخذ حياة الفرد العائد إلى الله تعالى مسارا مغايرا، وتتبدد كل الأوهام التي كانت تحجب عنه الرؤية السليمة، بحيث تنهار جميع للقيم المزيفة، والإقتناعات الواهية التي كانت تقيده، ومن ثم تخلو الذات بنفسها بعيدا عن سجن الحياة المادية العبثية، المرتدية لألف قناع وقناع، والمثقلة بكثير من ألوان الإغراء، لتتحقق أخيرا من أن الوحدة في باطن ذاتها وفي عمق الكائنات هي الجوهر والأصل، بينما الذي كانت تعانيه من تأزم وتمزق ما هو إلا دخيل عليها وعارض لها.
إن الحاجة الملحة إلى تحقيق كيان إنساني متوازن تتخذ شكل حلم فردي، وذلك على امتداد المسافة الفاصلة بين بداية التحول الذاتي، الروحي والعقدي، ونهايته، وهذا الشكل الذي تتبناه الذات الغربية، وهي في طريقها إلى الدخول في الإسلام، يقوم على مبدأ الوحدة والتكامل بين أبعاد الجسد المادية وأبعاده الروحية.
ثم إن الذات الغربية المعتقدة في إمكانية الخروج بهذا الحلم المبدئي إلى حيز الواقع، تطمح بكل قواها ومجامع كيانها إلى الحياة في عمق وحدة ذاتية وموضوعية، متمازجة ومنسجمة، ينتفي بها الصراع المفتعل بين المادة والروح، وبين الذات والعالم، وما من شك في أن الإسلام هو ذلك الحلم الراسخ بقوة الفطرة في الذات الإنسانية، وتلك الحياة التي لم تتمكن الأنا من ضبط ملامح صورتها واستكمال بنائها دفعة واحدة، باعتبار أنها استغرقت زمنا ليس بالقصير في اكتشافها بكيفية متسلسلة، من خلال جدلية السؤال والإجابة بين الكائن الاجتماعي والعالم من حوله، وأيضا عن طريق الانطباعات التلقائية والملاحظات الدقيقة.
إن المثير في هذا النمط من الاكتشاف، هو أنه ليس تعرفا على واقع مجهول أو حياة غريبة للمرة الأولى؛ بل إنه وقوف على حقيقة مألوفة وقوة منظمة، تضرب بجذورها في تاريخ البشرية، ويحس الإنسان بتردد صداها في أعماقه، ذلك أن الإنسان الغربي لم يألف دينا يوازن بين المادة والروح، ويخاطب العقل والروح في آن واحد؛ بل اعتاد على أحد أمرين: إما نبذ المادة والاتجاه إلى الروحانيات، أو تبني كل ما هو مادي وتجاهل ما له ارتباط وثيق بالروح.
فمن زاوية هذا الاكتشاف تخرج الذات الغربية بنظرة جديدة إلى نفسها، ثم تضع مسألة اعتقادها في الإسلام داخل إطار محدد، بعد أن تتم صياغتها على شكل رؤية، لا تخلو من اجتهاد ذهني نابع من إرادة ومبادرة فردية.
إنها قراءة فاحصة لمختلف تجارب الحياة الخاصة والعامة، ونتيجة دراسة مسؤولة وغير مقيدة بأي خلفية مسبقة أو حكم جاهز، وبالتالي فهي إنجاز واستكمال لحلقات اكتشافية حول الإسلام؛ إننا أمام نموذج إنساني لا يرضى إلا أن يكون صريحا مع نفسه، ولا يغير عقيدته الدينية لسبب تافه، ذلك أن الذات الغربية المهتدية إلى الإسلام مدركة لما تعيشه من تحول روحي، وواعية بما يعنيه الدخول في دين الله عز و جل.
ثم إن روجي ( ROGER ) يؤكد على كونه ليس نتاج طفرة عقائدية، وإنما هو حصيلة حوار عميق وشامل مع مختلف العقائد، من مسيحية ويهودية، وماركسية وغيرها، وقد كان هذا الحوار طور اختبار شاق اجتازه الكاتب الغربي، ومنه خلص إلى الدخول في الإسلام، وهذا الحدث بالنسبة إليه نتيجة كبرى، وثمرة لمسيرته الحياتية، وليس محطة في طريق.
فبهذه الدقة في التحليل والوضوح في الرؤية، يبسط الإنسان الغربي مفهوم دخوله في الإسلام، وما يعنيه هذا الحدث البارز من بعد ودلالة، وما ينطوي عليه من تصور جلي، انطلاقا من اجتهادات فردية معينة، إذ الإنسان الذي يكون حديث عهد بالإسلام هو مؤهل أكثر من غيره لتحديد السبب المباشر في اهتدائه، وكذلك للتعريف بالخطوات الفعلية التي كانت من وراء متابعته لأطوار ميلاد ذاتية جديدة في داخله.
إننا أمام ذات تقرأ تحولها الفكري والعقدي من منظور علمي، فهي تصل النتيجة بالسبب، وتقسم مسيرتها الحياتية إلى تحولات متلاحقة من جهة، ونتيجة كبرى متجسدة في الدخول في الإسلام، الحدث الذي يمثل منعطفا مصيريا، وثمرة حوار كوني عميق وشامل، تتحد من خلاله الذات بالموضوع، ويطبعه التفرد والتميز.
ثم إننا إزاء تجربتين كبيرتين تعدان من أهم التجارب التي خاضها الإنسان حديثا، وتميز بها تاريخ القرن العشرين، إذ نستطيع أن نجمل كلتا التجربتين في قوة التمسك بالإسلام والثبات عليه، ثم في رحلة البحث المضنية والمثيرة، التي تخوض الذات الغربية غمارها، في سبيل العثور على الدين الحق والدخول فيه، وعيا منها برسالتها المتفردة والمتمثلة في الحفاظ على الأمانة التي حملها الإنسان، والقيام بأمر الخلافة العادلة والخاضعة لأمر الله عز وجل.




د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com

أبو شامة المغربي
12/04/2006, 12:10 PM
http://www.merbad.org/vb/images/smilies/neeww.gif



أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة وموضوعة الأحلام والرؤى المنامية





إذا كان النوم يستغرق حوالي ثلث حياة الإنسان، فإن الأحلام والرؤى المنامية لها حيز تشغله في هذا الثلث، بحيث أن ذهن الإنسان النائم لا يكون في حالة سكون تام، فقد تثير المنبهات الخارجية أو العضوية الداخلية ألوانا من الصور الذهنية يراها النائم، وقد تنطوي على معان ذات دلالات، وإذا كان من الأحلام المنامية ما له صلة بمجريات النهار، وبما يرد على الذهن من الخواطر والأفكار في حال اليقظة، فإن منها ما له علاقة بما عاشه الإنسان من أحداث وخاصة من تجارب في حياته الماضية، وخاصة ما يكتسي منها سمة الانفعال والصدمة.
إننا لا نستثني من المكونات الكبرى لأدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة (الأحلام والرؤى المنامية)، ذلك لأننا نعتبرها بحق مكونا مثيرا ونشيطا، سواء بشكل صريح أم ضمني، ليس فقط في هذا اللون من الأدب الإسلامي أو في أدب السيرة الذاتية عموما؛ بل حتى في باقي الأجناس الأدبية وفي مختلف ألوان التعبير النثرية والشعرية، ولو أنه نادرا ما يحتفل به الكتاب المبدعون، وقل ما يلتفت إليه نقاد الأدب، حتى أن أي كاتب ـ حسب علمي ـ من المتقدمين أو المحدثين في حدود العالم العربي الإسلامي، وربما حتى في البلاد الغربية، لم يبادر إلى تأليف كتاب يسرد فيه أحلامه ورؤاه المنامية مجردة أو مصوغة بأسلوب أدبي معين.
ثم إن هذا الباب من الكتابة جدير بأن يلجه المبدعون، ويهتم به الباحثون والنقاد، خاصة وأن الأحلام والرؤى المنامية ما هي إلا امتداد لنشاط ذهن الإنسان، فهي مادة بإمكانها ـ إن تم توظيفها الجيد ـ أن تكون فتحا جديدا في الخطاب الأدبي، ومن شأنها أن تكون سببا في ميلاد شكل أدبي حديث ونحن نرى بأن (الأحلام والرؤى المنامية) بعض من واقع الحياة الإنسانية ومكون من مكوناتها، الذي لا زال غريقا في بحر الإهمال والجهل به، مع أنه مكون حياتي يجب اعتباره والاهتمام به.
ويكفي أن للأحلام والرؤى المنامية من التأثير على مسار الحياة اليومية للفرد ما لا يستطيع أن ينكره أحد، ثم إنه يمثل أحد ضروب المعرفة البشرية، الذي بإمكانه أن يساعد كثيرا على فهم الذات الإنسانية، ويسهم في إضاءة جملة من الزوايا المعتمة، واستكشاف كثير من مجاهل وخفايا الإنسان، هذا فضلا عن كون الأحلام والرؤى هي مواد تستقى منها الأفكار، والصور، والمشاهد وغيرها من العناصر.
ولا شك أن كل حلم منامي وكل رؤيا منامية عالم قائم بذاته، لهما تركيب، ومنطق، وسرد خاص، وفيهما يتراءى للنائم كثير من الأشخاص والمخلوقات ما يعرفه منها وما ينكره، وكذا الأزمنة، والأمكنة، والمشاهد، والأحداث، التي قد يكون طرفا مشاركا وفاعلا فيها، أو متابعا لها فقط، ثم إن من الأحلام والرؤى المنامية ما لا يخلو من الرمز، والوصف، والحوار، والخطاب الأحادي.
ثم إن أحلام المنام تختلف عن أحلام اليقظة، إذ يجد الإنسان نفسه في حلم أو رؤيا المنام يصدق ما يراه ويعتبره من الواقع، وإذا كانت أحلام اليقظة تتسم ببعض التماسك المنطقي والواقعي، فإن أحلام ورؤى المنام تتداعى تداعيا حرا، فحوادث الحلم والرؤيا تجري بسرعة غير مهتمة بحدود الزمان والمكان، بحيث أن الحالم أو الرأي يرى في نومه القصير أحداثا يستغرق وقوعها في اليقظة شهورا وسنوات.
وقد ذهب البعض إلى أن الأحلام في المنام حياة ثانية ذات تأثير على الحياة الأولى في عالم اليقظة، ثم إنها تمكننا من التعرف على ذواتنا والعالم من حولنا، ثم إن الأحلام هي وسيلة يتم عن طريقها استعادة الذات لتوازنها النفسي، فضلا عما لها من وظيفة تعبيرية.
ونحن نذكر من بين الكتاب العرب المسلمين في العصر الحديث الذين لم يتجاهلوا هذا المكون الخطابي (الأحلام والرؤى المناميـة) في ما تحجثوا به عن أنفسهم: أحمد أمين، وعائشـة عبد الرحمان، ونجيب الكيلاني، وعبد الكريم غلاب، ومحمد أسد، ومالكولم إكس، وكاترين دولورم، وماري ولدز وغيرهم.
وقد وضع محمد المختار السوسي عنوانا فرعيا في إلغياته اختزله في عبارة (متع الأحلام)، وذكر محمد المختار السوسي من جملة لقاءاته المنامية، ذلك اللقاء الذي جمعه في رؤيا منامية بطه حسين، والمثير هو أن الكاتب استغل خلاصته لبناء مقالة أدبية نقدية تخييلية، اعتمد فيها الحوار الثنائي الذي دار بينه وبين طه حسين في المنام.
وتكفي هذه المبادرة من الكاتب حجة على نبوغه الإبداعي، ولا أظن أن أحدا من أدباء الثلاثينات ـ على سبيل المثال ـ قد وفق إلى فكرة محمد المختار في إبراز شكل تعبيري جديد من الأدب وإخراجه إلى الوجود، والذي تلتقي فيه أحلام المنام بمجريات اليقظة، فتصير مادة واحدة ونسيجا متفردا من التخيل والحقيقة.
ولا شك أن محمد المختار استطاع أن يضفي طابع الرؤيا المنامية على مقاله الطويل من بدايته إلى منتهاه، إذ تمكن من توظيف كل ما تذكره واستحضره من رؤياه المنامية في حال اليقظة، والمثير للإنتباه، هي الكيفية التي استغل بها هذه الرؤيا، بحيث وفق إلى تحويلها إلى قاعدة ومنوال صالحين لبناء وصياغة مقال حواري متميز، تفضي بعض أفكاره إلى بعض.
إن الذي يضفي سمة مميزة على جميع المكونات الخطابية للسيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث ـ بوجه خاص ـ هو ارتباط الذات المسلمة المنتجة لها بأحداث وأطوار تاريخية متميزة، شهد العالم العربي الإسلامي بعضا منها، وعرفت البلاد الغربية والأجنبية عموما بعضها الآخر، مما أكسب خطاب السيرة الذاتية ذات الطابع الإسلامي الحديث قيمة مضافة، وذلك بفضل الكتابات التي تفسح فيها السمات و المعالم الذاتية / الشخصية البحتة المجال للمعالم الموضوعية المرتبطة بالعصر.
ولا شك أن هذا الإنجاز الثمين الذي حققه كتاب هذا اللون من الأدب الإسلامي الحديث، سيضع
بين أيدي الأجيال اللاحقة مرجعا قويا في غزارة مادته الأدبية، والتاريخية، والفكرية، والنفسية، والاجتماعية، والسياسية وغيرها من المواد التي لا سبيل إلى الاستغناء عنها من قبل أي جيل منشغل بماضيه، وحاضره، ومستقبله، ومهتم باكتساب ثقافة شاملة ذات جذور ثابتة، في ظل الطموح
إلى تجاوز أخطاء وعثرات الأجيال السابقة.
إن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يعكس ـ في ضوء مكوناته الكبرى ـ مدى تحول الذات المسلمة إلى موضوع إبداعي، وفي آن واحد يكشف عن العديد من نقط التماس في الحياة، التي يلتقي عندها الحس الذاتي بالحس الموضوعي، والوعي الفردي بالوعي الجماعي، فينشأ من هذا اللقاء ما يصح أن نصفه بسحر الخطاب السير الذاتي المتميز عن باقي الخطابات الأدبية.







د. أبو شامة المغربي


kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

أبو شامة المغربي
12/04/2006, 12:12 PM
http://www.merbad.org/vb/images/smilies/neeww.gif
إحياء أدب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث


لقد ساد في البداية الحذر الشديد لدى الذات العربية المسلمة من مقاصد الكتابة حول النفس، نتيجة لهيمنة الاعتقاد في كون التحدث عن "الأنا" أو الذات الفردية يوقع في اقتراف إحدى الكبائر المتمثلة في الرياء أو الشرك الأصغر، وكان إطلاق هذا الاعتقاد سببا أولا رئيسا في إحجام الكثيرين عن كتابة سيرهم الذاتية .
أما السبب الثاني، وهو عامل موضوعي عقدي صرف، فتمثل في ظهور الإسلام الذي أسهم بوضوح في تأجيل كتابة السير الذاتية حقبة من الزمن داخل البلاد العربية الإسلامية، لان التحول من الجاهلية إلى الإسلام كان حدثا كبيرا، إذ استقطب اهتمامات الإنسان العربي المسلم، وصار موضوعا لجميع اجتهاداته وتوجهاته في الحياة الاجتماعية والثقافية، فقد غدا القرآن وسيرة الرسول عليه السلام المدار والمعين الجديد الذي يغذي وينظم الحياة الإنسانية.
إن الكتابة عن الذات، ودور هذا اللون من الأدب في إغناء الثقافة العربية الإسلامية لم تتضح بشأنهما الرؤية سريعا، لكن مع حلول طور التأسيس لهذا النمط من التعبير، بدأت الذات المسلمة تتجاوز حذرها الشديد والمبالغ فيه كثيرا، وتراجع موقفها من فعل التحدث عن النفس، سواء شفاهة أم كتابة.
وبالفعل خاضت الذات المسلمة تجربة التاريخ الخاص ابتداء من القرن الثالث الهجري، لكن مختلف الأعمال والمحاولات الأولى غلب عليها الطابع التاريخي، وكان منتظرا أن يسود هذا المنحى في فضاء تلك المحاولات، التي تؤرخ لطفولة أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية، باعتبار أنها تمثل أهم مظاهر طور التأسيس، الشاهدة على بزوغ وعي جديد مهد الطريق أمام هذا الكائن الأدبي.
ثم توالت القرون، وتراكمت بموازاة معها العديد من الإنتاجات والمحاولات المتنوعة، التي يرجع لها الفضل في إرساء عدد من قواعد وتقاليد الكتابة عن الذات؛ لكن فترة الركود التي سادت قرابة أربعة قرون - ابتداء من القرن العاشر الهجري وإلى غاية القرن الثاني عشر أو الثالث عشر الهجري - عرقلت نمو هذا الأدب ومسيرته الطبيعية، وكادت تنهي وجوده لو لم يشهد العالم العربي الإسلامي في القرن التاسع عشر الميلادي نهضته ويقظته، التي تجسدت بوجه خاص في بعث التراث الأدبي، بما فيه جملة من الأعمال التي ألفها القدماء حول أنفسهم.
وكان على أدب السيرة الذاتية في البلاد العربية الإسلامية أن يمر بطورين من التكوين قبل أن يدخل عصر تجنيسه في القرن العشرين الميلادي، حيث عرف تطورا ملحوظا، دلت عليه الملامح والخصائص المميزة له بين باقي فنون القول والكتابة.
إن الركود الذي ساد البلاد العربية الإسلامية مدة طويلة، كان بمثابة هوة فاصلة بين أوج العطاء الإسلامي وانحطاط الأمة العربية، وكان طبيعيا أن يتعرض العالم العربي لفتور شديد نتيجة الفتن و الثورات من جهة، والجمود والجهل الذي ساد طوال القرون الوسطى من جهة ثانية.
ولا شك أن المظاهر المتراكبة لهذا الانحطاط أثرت بشكل كبير على مسيرة الأدب العربي الإسلامي، وقد بلغ هذا التأثير السلبي المعاكس أوجه وحدته بتضافر عدد من الأسباب والعوامل الداخلية والخارجية، ويأتي في مقدمتها التدخل الأجنبي في العالم العربي الإسلامي، الذي كان إعلانا عن بدء الاصطدام الحقيقي والمباشر بين الذات العربية المسلمة والذات الأجنبية، وهو احتكاك بين حضارتين، وثقافتين، وتراثين حضاريين.




د. أبو شامة المغربي
kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)

أبو شامة المغربي
12/04/2006, 12:14 PM
http://www.merbad.org/vb/images/smilies/neeww.gif


وظائف أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة



إن لكتابة السيرة الذاتية الإسلامية اليوم وأكثر من أي ظرف زمني مضى دورا كبيرا، وفعالية لا تقل أهمية عن باقي الكتابات التي تنتمي إلى الأدب الإسلامي الحديث، خاصة مع اكتساح الآداب، والمفاهيم، والقيم الغربية للبلاد العربية الإسلامية، التي انبهر كثير من مثقفيها بما لا يصل واقع الحضارة الإسلامية العريقة بسبب، ولا يمت لأخلاق وعقيدة المسلمين بشيء.
ومما لا ريب فيه أن أدب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث، سيظل أحد أبرز الإنتاجات المتميزة، وأداة خطابية مؤهلة لتكريس ثقافة تواصلية فاعلة ومثمرة، تمكن الكاتب المسلم من تحقيق غاية مزدوجة، إذ سيتأتى من ناحية للآخرين الوقوف على حقيقة الذات المسلمة وعقيدتها، وعلى مكوناتها الشخصية وطبيعة أسلوبها الحضاري، ومن ناحية ثانية ستتمكن الذات العربية المسلمة من القيام بدورها الطبيعي، سواء في إطار محلي أم في فضاء كوني عالمي.
ونحن نرى أن الأدب الإسلامي، ومنه أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، ستكون له المكانة المتميزة داخل وخارج العالم العربي الإسلامي الحديث، لأنه وسيلة الذات المسلمة للتعريف بنفسها، فضلا عن كونه أداة ثقافية تواصلية، ستحقق الذات المسلمة من خلالها غاية مزدوجة، إذ سيتأتى من جهة لغير المسلمين الوقوف على حقيقة هذه الذات التي تدين بالإسلام، وعلى مكونات شخصيتها وسمات عقيدتها، وطبيعة أسلوبها الحضاري، وعلى نوع وسائلها وهوية أهدافها.
ومن جهة ثانية ستتمكن الذات المسلمة من خلال نفس الأداة ـ من القيام بدورها الطبيعي في العصر الحديث، سواء في إطارها المحلي أم في إطار كوني وعالمي، ما دامت تستهدف برسالتها الإنسان حيث وجد، ولعل أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة مؤهل ليوفق ويجمع ما بين قطبي: المحلية والعالمية، وحتى إذا كانت اللغة العربية طبيعية وأساسية في دائرة هذا الأدب، فإن هذا لا يعني في شيء توقيف الأدب الإسلامي عليها دون غيرها في اللغات الأخرى، وذلك بحكم ما يسم المجتمعات الإنسانية من تباين واختلاف لغاتها التواصلية.
ثم من المؤكد أن عالمية أدب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث كامنة في محيلته، وهي تبدأ مما يطبعه أصالة ويمتلكه من خصوصية؛ فهل سيكون أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة هو ذلك الفرع الأدبي الذي سيحقق للأدب الإسلامي عالميته؟
ثم إن كتابة هذا اللون من الأدب الإسلامي، تمثل مجالا فسيحا للدعوة إلى الإسلام، ولتطهير الذات المسلمة: الكاتبة و القارئة على حد سواء، هذا فضلا عن كون السيرة الذاتية ذات السمة الإسلامية، هي معين لا ينضب من التجارب، والمواقف، والأحداث وغيرها، قد تنهل منه مختلف الإنتاجات الأدبية عناصر أدبية فنية، تبعث على الإبداع الذي يجمع بين المتعة والفائدة، وباستطاعة كل أشكال المعاناة، والأفكار، والرؤى، والمشاهد المسترجعة، والفضاءات المكانية والزمانية أن تنمي في الذات الكاتبة والذات القارئة حسا وحدسا فنيا، وتزكي فيهما ذوقا جماليا رفيعا.
إن الذات المسلمة تتوجه برسالتها الحضارية الإسلامية إلى الإنسان حيث وجد، ولعل هذه الخاصية ستفتح أمام كتابة السيرة الذاتية الإسلامية وتلقيها في العصر الحديث آفاقا رحبة، وأبوابا كثيرة بإمكان الكاتب المسلم والكاتبة المسلمة أن يلجاها، وذلك من أجل الوصول بصوت الدعوة الإسلامية إلى كل من ضل السبيل في هذا العصر، إذ بإمكان الأديب المسلم أن يخلص بأدبه الذاتي إلى من يعانون التمزق والضياع في هذه الحياة الدنيا، وفي قيامه بهذه المبادرة بعض من تأدية رسالته، وهي أمانة جلية القدر في كل زمان ومكان.
وبحكم أن السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة إنتاج أدبي ينتمي إلى الأدب الإسلامي المسؤول، فإنها تعكس على صفحات متنها قضايا الإنسان المسلم، وتعبر عن هويته ووظيفته، والعلاقة التي تجمعه بخالقه جل وعلا وعقيدته الإسلامية، ومن ثم فإنها تكشف بوضوح واقعا خطابيا هادفا، له مبادئ وأصول ثابتة لا ينسلخ عنها ولا يتجاوزها، وله مسار دقيق لا يحيد عنه، مجسد في خصائص الإنتاج الأدبي الإسلامي، فهل استطاع كاتب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة أن يحث القارئ على التفكير والتفاعل، وأن يجعل من نشاطه الذهني امتدادا طبيعيا لفكره وتصوراته، باعتبار أن ما يعرض عليه من خطاب يشكل قوة فاعلة ومغيرة إلى الأفضل؟
ولا شك أن أدب السيرة الذاتية له مكانة محفوظة، وقيمة بالغة الأهمية في قلب الآداب العالمية الحديثة، وذلك باعتبار ما يسمح للقراء أن يطلعوا عليه من نماذج بشرية، وقيم إنسانية ذات التأثير البليغ في نهج حياتهم وتكوين شخصيتهم، وكذلك أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة لا يقل أهمية ولا يعدم التميز؛ فهو قوة نابضة في حياة الذات المسلمة، كما أنه فعل ذو أهمية، وأداء مميز لنشاطها الإنساني، تبعث من خلاله لتحيا مرتين: الأولى عن طريق الكتابة، والثانية عبر القراءة، وهو كائن يستقي حياته المتفردة من سيرتها، باعتبار أن الذات المسلمة تقتفي أثر الكلمة الطيبة، ذات الأصل الثابت، لتسكب فيها تجاربها الفردية.
ثم إن المرتقب مستقبلا أن يسهم أدب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث في تنمية الصحوة الإسلامية ونشرها في سائر بقاع العالم، وذلك باعتبار الصلة الوثيقة الجامعة بين الأدب الإسلامي عموما والصحوة الإسلامية التي تشمل مختلف مجالات الحياة الإنسانية، ولا شك في أن الأدب الإسلامي وسيلة مساعدة لكل من يدعو إلى الله عز وجل ويعرف بالإسلام، وأداة تمكن كل من يحرص على تبليغ الرسالة التي من أجلها أوجده الخالق سبحانه في هذه الأرض.
فبالكلمة الهادفة والمشبعة بروح العقيدة الإسلامية، تستطيع الذات المسلمة أن تعبر عن نظرتها إلى الكون، والحياة، والإنسان، وعما تعنيه المسؤولية في الإسلام، ثم إن الكاتب المسلم الصادق، هو من يعكس ما يؤمن به من قيم في ما ينتجه من أدب.
ونحن نعتقد بأن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يشكل مصدرا شرعيا للمعرفة الإنسانية، باعتبار أنه ينقل جملة من المعلومات وزخما من الخبرات والتجارب، ففيه وصف لعالم الذات المسلمة الباطن من جهة وللعالم الخارجي ثانية، وأما الصورة الأدبية المودعة في هذا الضرب من الأدب الإسلامي، فهي وسيط ينقل المعرفة بين الكاتب والقارئ من خلال عرض أهم ما تنضوي عليه الخبرة والحياة.
ومؤكد أن وظائف السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة كثيرة ومتنوعة، ولها حسب ما نرى ونعتقد صلة وثيقة ببواعث الكتابة والتلقي، وجميعها يعكس الفضاء العام لخطاب هذا المتن الأدبي الإسلامي الحديث، وأقرب وظيفة تتبادر إلى الذهن هي وظيفة المشاركة الوجدانية التي يتيحها الكاتب للقارئ، والتي تعد من أهم وظائف السيرة الذاتية عموما، بحيث يعد النزوع إلى إشراك الآخرين في كل ما تتقلب فيه ذات الكاتب من أحوال وما تعانيه من أمور، فعل فطر عليه الإنسان في الحياة، وهو قوة سخرت له ليدفع عنه العزلة النفسية، وليتخذها أداة فاعلة، يتجاوز بها حدود ذاته الضيقة إلى الانفتاح على ذوات أخرى تشاركه انفعالاته وانشغالاته، ومجمل معاناته، وعلى هذا الأساس تمثل المشاركة الوجدانية فعلا وإنجازا رئيسا، وركنا ثابتا يسهم في تكوين شخصية الفرد وتطويرها.
ثم إننا نرى أن كاتب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة حين يبسط أمام القارئ مختلف تجاربه في الحياة، و يحيط ظاهر شخصيته وباطنها بالوصف والإيضاح، فإنما يقصد بهذه المبادرة إلى اكتشاف ذاته من جديد بقصد إعادة بناء شخصيته وتكوينها، ويهدف إلى تجميع وترتيب عناصر حياته الشخصية المتفرقة البحث عن هويته، وإضاءة المعتم من الحقائق في مسيرته الحياتية، ثم تقريب الذات المتلقية لسيرته الذاتية من حقيقة طبيعتها الإنسانية، ومدها بجميع ما قد يساعد على فهم جوهرها، والتعرف على كيانها أكثر، ثم إنه يطمح إلى حث القارئ على الارتداد إلى نفسه ليقارن، ويتأمل ذاته، ويشارك في تحليل كثير من الظواهر والطبائع، وينظر نظرة فاحصة في تجاربه الفردية.
إن الكاتب المسلم يحرص أشد الحرص على أن تؤدي سيرته الذاتية ـ المكتوبة والمنشورة في أوساط القراء ـ جملة من الوظائف، تمتد جسرا روحيا بينه وبين المتلقين، الذين سيتطلعون حتما إلى ما ترشح به من متعة وتشويق، وتنطوي عليه من فائدة، وإن كانت المتعة التي يسعى إلى تحقيقها المؤلف في تاريخه الخاص هادفة إلى إضافة معرفية نوعية، ومتسمة بخدمة عناصر الفائدة التي من المفروض أن يجني القارئ ثمارها في النهاية.

من الواضح أن جميع وظائف أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، تتجاوز طابع المتعة غير الهادفة، والاهتمام الذهني الضيق، إلى تخليص الذات الإنسانية من قيودها السلبية، وتطهيرها من الزيغ، والرذائل، ومختلف الشوائب، وبذلك يتجاوز هذا اللون من الأدب الإسلامي الحديث كل ما هو مرحلي عابر، وكل خطاب سطحي إلى كل ما يوحي بتطلع إنساني عميق، ورؤية مستقبلية تشمل حياة الفرد ومصير الجماعة، وهذه غايات تتطلب من صاحب السيرة الذاتية مواجهة مزدوجة: مع النفس من جهة، ومع الآخر من جهة ثانية، مبنية على المكاشفة والمصارحة.
ثم إن كل وظيفة رئيسة قد تكون سببا حاسما، من خلال مسارات، أو سمات شخصية معينة، أو اقتناعات دقيقة في كثير أو قليل مما يعرفه القارئ من تحولات، خاصة وأن ثمة خصائص ينفرد بها خطاب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث، فضلا عن كونه يسهم في الكشف عن الحقائق، والغوص في أعماق النفس البشرية ، بقصد استكشافها وحاولة الوقوف على أسرارها، والنفاذ منها إلى عمق الحياة والكون.
ولا شك أن مختلف الوظائف التي تنتظم في ثنايا خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، تتكامل إلى درجة يوحي بعضها ببعض، بحيث أن المعني بالسيرة عندما يدعو القارئ إلى الإطلاع على خبراته وتجاربه الخاصة، وإلى المشاركة الوجدانية، فإنه يمهد بذلك السبيل لتحقيق وظيفة تطهيرية مزدوجة، باعتبار أن الذات الكاتبة تعمل على تطهير نفسها من خلال الكتابة، في حين أن الذات القارئة تسعى إلى هذه الغاية عن طريق القراءة، ومن ثم فإن كلا من كاتب السيرة الذاتية ومتلقيها، يعملان على تحويل تجاربهما في الحياة ـ بمساوئها ومحاسنهاـ إلى طاقة تطهيرية، تحررهما من المخاوف والعقد النفسية، وتمكنهما من إضافة معرفة جديدة تعينهما على استعادة الثقة بالنفس ومواصلة المسيرة الحياتية.




د. أبو شامة المغربي
kalimates@maktoob.com (kalimates@maktoob.com)