المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : غربة أجساد ـ قصة ـ



المودني عبدالسلام
21/02/2006, 02:27 PM
غربة أجساد

" وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت "
قرآن كريم

متثاقلة الخطو.. تجر رجليها بوهن .. وتجتر بعضا من أيام عيشها الأخيرة .. عجوز الجسد .. منكسرة النظرات .. خبت روحها التي أحرقت جسدها يوما فأحرق أرواح من عرفت .. تمشي الهوينا كأنما خلف موكب جنائزي حلزوني .. التصقت أصابع يديها باذني قفتيها الثقيلتين .. وقد ضمتا .. خضرا وفواكه .. وقطعة لحم هي منتهية في بطون ظلها الثقيل .. وظلال أحشائها المنتظرين..

رياح المدينة تعبث بأجساد الغرباء عنها . ولا موطن لمن غادر موطنه وهي لا زالت تحتفظ بغربتها .. ورياحها العاتية التي ألفها جسدها .. طفلة صغيرة يمسها الدوار وأطياف أحلامها تتراقص حولها .. تمسك بيد أبيها الذي أصابه مثل الذي أصابها تحاول الاستنجاد به وهو يدثرها من البرد الذي ينفخ فيها بنصائحه المطمئنة ..

- الناس طيبون هنا..لن ينقصك شيء جوارهم .. فافعلي كل ما يطلبوه منك يا ابنتي . ولا تعترضي على شيء .. واعلمي انه لولا الحاجة ما دفعت بك إلى هذا .. فاصبري ..

لازالت تعلق بذاكرتها أنفاسه لما هوى عليها يلثمها في جبهتها الصغيرة .. بعدما أودعها للطيبين ستقيم معهم وسيكون بيتهم بيتها الجديدة الذي ستنام وتستيقظ داخله.. وبين اليقظة والنوم.. يوم طويل عريض ستتقلب فيه كما فعلت دوما في بيتهم وبيوت من أقربائهم كلما استضافها أحدهم بين مسح وكنس .. طبخ وغسل .. تنظيف وتلميع .

والناس طيبون كما قال ابوها .. منحوها زاوية بمطبخهم لتنام سويعات ليلها داخله سيدته تعطف عليها كثيرا وتعنى بها .. وتهمها كما قالت مصلحتها .. وهي تحاول إعادة تربيتها.. لدرجة أنها أحرقتها يوما في مناطق كثيرة من جسدها .. كل ذلك حبا فيها .. وصار المطبخ وعاء أحلام ظلمتها .. وتآلفت مع أطيافها .. وبرودتها .. وصمتها .. ولياليها .. وفي ليلة يتسلل إلى أطياف أحلامها .. ظل ثقيل يعبث بأشيائها لاهثا ..يضغط نهديها.. يدمي بين فخذيها.. يروع برودتها.. يصخب صمتها ..يهتك لياليها .. كل ليلة يأتيها .. وأضحت تنتظر همس خطوه .. متكومة على نفسها .. مرتجفة .. راكنة إلى أطياف أحلامها التي تفر خوفا من أمامه .. ومن رأسها .. ليستقر ظل ثقيل بأحشائها يطردها أيضا من زاوية .. بمطبخ الطيبين إلى المدينة التي تعبث بأجساد زائريها .. والغرباء عنها .

طفلة تتلاعب الشوارع بجسدها .. تقف لها سيارة يطل منها وجه طيب آخر يشبه طيبين كثر ..

- اصعدي يا ابنتي.. البرد والليل وأنت وحيدة.

ونسي الجوع .. مستكينة ركبت إلى جواره .. خانعة أخذها إلى بيته .. لم يدخلها مطبخا .. بل دخله هو ليعد لها وجبة مغرية بعدما تذكر جوعها .. خاضعة استحمت.. مسلوبة أنامها في سرير دافئ وثير وأفلت أطياف أحلامها .. ولم تعد تزرها هنالك أيضا . وإنما ظل ثقيل يدعك نهديها .. ويدمي بين فخديها .. ويتبول داخلها بشبق .

وكبر جسدها .. وكبرت ظلال أحشائها حولها بعدما أدمت بين فخذيها .. وجففت نهديها .. وتبولت على ظهرها و تغوطت .. ونظفت ظهورهم .. وأملأت بطونهم .. وسدت أفواههم وأدخلوها مطابخهم .. هنالك استسلمت لنفسها وصلت على اطياف أحلامها في سرها صلاة الغائب .

تقاعد الطيب من عمله .. ولم يتغير أبدا .. ظل كما كان .. طيبا.. ساربا بالنهار .. وظلا ثقيلا رابضا لها بالليل تعبث أياديه بأشيائه .. التي التصقت بها خطأ .

تقاعد الطيب من عمله .. وتنتظر يوم يقعدها أيضا .. لتغنم يوما أو بعض يوم أو شبه ليلة .. لتعبث يدها بإرادتها بأشيائها الصغيرة .. لتمحو ذاكرة معذبة وتصنع ذاكرة جديدة لها وحدها تكون صاحبة الأمر والنهي فيها .. لتبحث في ظلال أحشائها عن أب .. يعيد لها أشباح أحلامها يعلمها كيف تمشي في المدينة .. كيف تتحدث ؟ ولا يدخلها مطبخا أخر في بيت اخر في مدينة أخرى في زمن اخر في حياة اخر .

دنية هي من يوم تقاعدها .. قريبة هي من يوم تعطل أجهزتها .. أحست خللا بأطرافها .. وهي ترقب الصغيرة أمامها تمسك يد أبيها و قد أحاق بهما الدوار استرخت أصابعها من على اذني قفتيها .. تساقطت القفتان وتناثرت الخضر والفواكه وقطعة اللحم التي كانت ستنتهي في بطون ظلها الثقيل وظلال أحشائها مدت يدها والتقطت دمية كانت ثاوية في قلب قفتها .. وهرعت الى الصغيرة .. فمدتها لها .. وحاولت تناولها .. وابتسامة أمل كبير تزين وجهها .. لأطياف أحلامها الراقصين من حولها .. بينما شدها الوالد بقوة وهو يشير إلى بيت طيب .. في طابق طيب .. في عمارة طيبة .. في حي طيب .. في مدينة طيبة .. في ...




عبدالسلام المودني

سما اللامي
21/02/2006, 04:20 PM
استاذي العزيز عبدالسلام المودني

تحيه لك على هذا النص المفجع !! لقد ادميت بحروفك القلب و الضمير ،، و الذاكرة،، ذكرتني بقصيدة للشاعرة نازك الملائكة ، تقول فيها:
( الشارع مهجور تعول فيه الريح ،، تتوجع اعمدة و تنوح مصابيح
و تظل الطفلة راعشة حتى الفجر،، حتى يخبو الاعصار ولا احد يدري
في منعطف الشارع في ركن مقرور،، حرست ظلمته شرفة بيت مهجور
ظمآى للنوم و لكن لا نوما،، ماذا تنسى ، البرد، الجوع ام الحمى؟؟!
ضمت كفيها في جزع في اعياء،، و توسدت الارض الرطبة دون غطاء
و الناس قناع مصطنع اللون كذوب،، خلف وداعته اختبأ الحقد المشبوب
و المجتمع البشري صريع رؤى و كؤوس،، و الرحمة تبقى لفظا تقرأ في القاموس)

يا سيدي اعذرني على الاطالة، لكنك هيجت المشاعر ..

لك خالص الود
بانتظار مزيدك

محمود الحسن
21/02/2006, 09:21 PM
أخي عبد السلام سلام ُالله ِعليك
جميلة ٌهي طريقُتك َفي مفاجئة ِالقارئ ِو خاصة ً في النهاية
قصة ٌواقعية ٌو معبرة
كنتُ قد وجَّهت ُاليك َبعض َالأسئلةِ في موضوع ِ"أربع لقطات "أتمنى ألا تبخل علي َّ برأيكَ
احترامي و تقديري لك
محمود

المودني عبدالسلام
22/02/2006, 01:40 PM
الفاضلة سما اللامي
شكرالك على المرور الطيب الكريم و المشاركة الفعالة
و لتجوابك..
لك مودتي و أهلا بك
عبدالسلام المودني

المودني عبدالسلام
22/02/2006, 01:44 PM
الفاضل محمود الحن
الفاجعة ترقد جوارنا ..
تلبس أقنعة حينا و تتدثر بمظاهر أخرى أحيانا كثيرة
بخصوص أسئلتك أظنني قد تجاوبت معك و أجبت عنها في مشاركتي في موضوعك "أربع لقطات"
في الختام لك شكري و مودتي
عبدالسلام المودني