المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ليالي كانون البعيدة



عبد الله نفاخ
05/04/2010, 03:12 PM
الجمال خلقة ربانية ، صنعها مصرف القلوب و أبدعها، وصيرها طريقاً إليه ومرقى ترقى به الأرواح لتعرف خالقها و بارئها ، فيكون لها صلة به بلغة الحس التي يدرك بها ما لا يدرك بلغة العقل والرياضة ،ويفقه ما لا يفقه بلغة الفكر والسفسطة.



ولهذا كان للجمال اقتران بالحس يغلب اقترانه بالعلم ، وكان لعهد النشأة الأولى في قلب كل منا مكان لا ينازعه فيه غيره ، ذلك العهد الذي كانت فيه النفس على فطرتها ، حديثة عهد بالدنيا وما فيها ،وما تزال بها بقية من الأيام التي قضتها محلقة في رحاب السموات، الأيام التي لم يكن قد نالها فيها شيء من تراب الأرض و أدرانها ،أو خالطها شيء من رسوم الكتابة والتعليم ونقوشهما.



ومن تلك الأيام أيام بعيدة ، كان والدي يأبى فيها إلا أن يجلسني وإياه في شرفة منزلنا ليالَيَ الشتاء ، مفترشين أرض الشرفة ولا شيء علينا يقينا البرد غير لباسنا، و مستقبلين السماء في لحظات تجرد مطلق نحو العلياء ، كأنما نبحث فيها عن سر الصلة الأزلية بين النفس والروح وبين السماء المجلِلة هذا الكون و المادة ظلها عليه.



كانت تلك ليالي شتائية ينال المرء فيها من القر ما يعيا به ، ولكن ما كان بين أرواحنا في ساعات صفائها المطلق تلك وبين السماء الرائقة ونجومها التي تتلألأ في بهجة و شاعرية لانهائيتين ، و القمرالذي كان يطل علينا بحنو و رأفة فأخاله مبتسماً لي بمحبة حقيقية ، وهامساً لي في بعض الأحايين، ما ينسينا كل ما عداه و يشغلنا عن سواه .



وليلة بعد ليلة كان شيء في داخلي يكبر ، شيء يرفعني نحو الأعلى السماوي مفارقاً فيَ أناي الأرضي ، وأثناءإذ تدور بيني وبين والدي أحاديث ما عدت



أذكر منها شيئاً مفصلاً سوى أنها كانت تدور في فلك السماء و نجومها وكواكبها ، وما كان يعتلج في نفسينا من حالات شعورية لم أحس مثلها من بعد على طول الأمد .



ومرت الليالي و سماء دمشق تملؤنا صفاء و شاعرية ليس لهما حدود ، إلى أن لمحت ليلة خلال لحظات فارقني بها أبي كوكباً يلتمع و يشع ثم يحترق ويختفي ،



سعيت نحوه لأخبره بما رأيت فأنكر علي كلامي ، لكنني رأيت في عينيه شيئاً غامضاً لم أدرك كنهه حينها.



بعد بضعة أيام حلق ملك الموت فوق بيتنا ،وفرغ المنزل ممن كان يملؤه علماً و نوراً و إيمانا فيشع شرقاً وغرباً إلى حيث يُنطق بالعربية و يؤذن للصلاة ،وخلا من رجله جسداً و إن ظلت روحه تطيف به و ترفرف حوله.



وبت كل ليلة من حينها أفزع إلى الشرفة ذاتها ، وأقف على المكان الذي كنا نركن إليه ،وأرنو إلى القمر الذي كان يطالعني دوماً باسم الثغر ، فألمح فيه وجهاً ناعماً متألق القسمات ، وجه الرجل الذي فقدته بعدما كان يملأ علي دنياي كلها ، أراه باسماً لي إن كنت محسناً ومشفقاً علي إن مر بي ما يضير، متبرماً إن صنعت ما يسوء ، وحزيناً إن مر بي من الشر شيء، و أراه دوماً يلقي علي هالة من نور تضيء لي دربي و أسمع صوته هاتفاً بي :ولدي ....كلما ضاقت عليك الدنيا بما فيها ، وتطابقت عليك أمواج الظُلم من الهم والغم والحزن ،ارفع بصرك إلى السماء كما عودتك في ما مضى من أيامنا ، واطلب العون من خالقها ، تجده معك معيناً لك ، وتجد قلبك يدلك على الخير و يهديك نحو الرشاد ، وإن خلت أنك من الهم تحت سبع أراضيه .

محمد يوب
05/04/2010, 07:09 PM
و الله كلما قرأت لك شيئا إلا و ازددت تعلقا بك وبمشاعرك الفياضة التي تفيض حبا لأبيك وأمك أدخلتني معك في هذا الجو الروحاني المملوء برهبة الموقف الحزين و المؤلم نحن في هذا العمر نتذكر آباءنا سنلقاهم يستقبلوننا على أبواب الجنة إن الفراق صعب أخي ولكن سنة الحياة هكذا اللهم ارحم والدينا جميعا آمين

عبد الله نفاخ
06/04/2010, 11:02 AM
وأنت والله يا أستاذي تزيدني خجلاً يوماً بعد يوم

فيصل الملوحي
07/04/2010, 05:07 AM
ولدي ...كلما ضاقت عليك الدنيا بما فيها، وتطابقت عليك أمواج الظُلم من الهم والغم والحزن، ارفع بصرك إلى السماء كماعودتك فيما مضى من أيامنا، واطلب العون من خالقها ، تجده معك معيناً لك، وتجد قلبك يدلك على الخير و يهديك نحو الرشاد ، وإن خلت أنك من الهم تحت سبع أراضين.

ماذا تريدني أن أقول؟!

إنما تنقل إلينا حديث والدك، حديثاً يتردد بين جوانحنا جميعا، قدّمتَه بما أملاه عليك من أسلوب عربي خالص، وأنوار أمامك تنير لك درب الإبداع والتجديد.


فامض في النهج المقوّم، وأرنا فينا والدك، وأثبت لنا أنه لو كان الله مدّ في عمره، فسيهدينا بدائع لا تقدر بثمن !!

على بركة الله.

عبد الله نفاخ
07/04/2010, 04:09 PM
سلمك الله يا سيدي

عبد الله نفاخ
04/08/2010, 10:03 AM
نعم يا سيدي ...... الأمر كذلك بإذن الله و عونه و توجيهكم الكريم ..............
سلمكم الله و حياكم

سيدة الدفء
04/08/2010, 07:34 PM
قد أجد شيئاً من التشابه في ما يدور بينك وبين نفسك من مناجاةٍ سامية، كنّا نفترش الأرض ووالدنا لنحكي بطولات الماضي الذي يخلو من الكهرباء، وخيبات الحاضر التي تملؤها الأضواء
أدام الله والدي وأطال في عمره وأعاده سالما ان شاءالله
وعظّم الله أجر قلبك أخي، وجدت في كلماتك عبقاً من شموخ آباءنا وأجدادنا

دمت بـ وُدّ

طارق شفيق حقي
04/08/2010, 10:45 PM
أنت كاتب لك شأن

ذلك لأنك تكتب من القلب ، لك عالمك الصافي النقي الجميل

رغم أنك لا زلت تنطلق من ذاتية مفرطة بعض الشىء

تجاوز هذه المعارك الداخلية ، وامزج قلبك بمشاعر غيرك وبذات الآخرين
تصبح أقرب لهم وتعبر عما في قلوبهم حيث يعجز قلمهم عما يقدر عليه قلمك

قليل من التكثيف للفكرة أمضى وأجمل

تقبل تحياتي

د.ألق الماضي
05/08/2010, 04:29 PM
رحم الله والدك الشيخ العلامة،،،
مثله لم يمت يا أخي،،،
ما قرأته هنا كلمات دافقة تنبع من القلب لتصب في قلوب من أصابه الثكل والفقد مثلك،،،
أوافق أخي طارق فيما قال،،،
حينها سنحتفي بأديب يذكرنا بأدباء الزمن الجميل الذين امتلكوا ناصية اللغة،،،
رحم الله والدك ووالدي وموتى المسلمين،،،

عبد الله نفاخ
06/08/2010, 05:33 PM
قد أجد شيئاً من التشابه في ما يدور بينك وبين نفسك من مناجاةٍ سامية، كنّا نفترش الأرض ووالدنا لنحكي بطولات الماضي الذي يخلو من الكهرباء، وخيبات الحاضر التي تملؤها الأضواء
أدام الله والدي وأطال في عمره وأعاده سالما ان شاءالله
وعظّم الله أجر قلبك أخي، وجدت في كلماتك عبقاً من شموخ آباءنا وأجدادنا

دمت بـ وُدّ

أيتها الزميلة العزيزة ....
ذلك التشابه من أروع ما يمكن ... لأنه تشابه الأرواح في لحظات صفائها و تجردها المطلق ....
سلمك الله و حفظ والدك القدير ..
ألف شكر لك

محسن العافي
06/08/2010, 06:37 PM
لا أجد ما أقول بعد كل ماقال الأساتذة الأبرار امام هذه الجمالية المفرطة التي تشدهم وتشدني إلى نصوصك أول ما أبدأ بقراءتها ،نحمد الله أن ترك والدك رجلا بحسن الخصال والخلق وصدق قلم ...فكانت صفات مجتمعة أعطتك اذانا صاغية وقراءة متأنية لكل مواضيعك من كل الزوار والاعضاء ،نرجو ا الله أن ينعم في جنات النعيم

قلم نادر سيدي وصدقه محير صدقني ،لقد قلت الله أكبر بعدما انتهيت من قراءة هذا النص الجميل ،وقولها هو أحسن قول عند رؤية الجمال

مصطفى البطران
06/08/2010, 09:07 PM
جميل أن ينطلق الإنسان من ذاته ولكن لا بد ان ينطلق
وارى لا مانع عندي أن ننطلق في البداية من ذواتنا وخاصة
إن كانت هذه الذات تفيض بالروحانيات والنبل والأصالة
ولكن هذا لا يعني ان نبقى متقوقعين على أنفسنا
ولكن الأديب عبد الله ينطلق انطلاقة طيبة وأرى انه سيتجاوز
هذه الذاتية حتما ولكن لا بد للزمن أن يأخذ حقه
دمت متألقاً أخي عبد الله لا عدمنا بوحك الصافي ولا نوحك الحزين
ولا شجوك المحلق إلى السماء بكل أمل وتفاؤل
دمت أخا بكل ود وسرور ... مصطفى

عبد الله نفاخ
08/08/2010, 10:23 AM
أنت كاتب لك شأن

ذلك لأنك تكتب من القلب ، لك عالمك الصافي النقي الجميل

رغم أنك لا زلت تنطلق من ذاتية مفرطة بعض الشىء

تجاوز هذه المعارك الداخلية ، وامزج قلبك بمشاعر غيرك وبذات الآخرين
تصبح أقرب لهم وتعبر عما في قلوبهم حيث يعجز قلمهم عما يقدر عليه قلمك

قليل من التكثيف للفكرة أمضى وأجمل

تقبل تحياتي


بارك الله بك و سلمك أخي طارق ...
كلماتك أسعدتني و شجعتني ..
لكن ... بشأن الذاتية المفرطة ... أحسب أن لكل مقام مقالاً ...و مادام المقام للذكريات و العواطف نحو الوالد و ذكريات أيامه الأخيرة ، فما أظن هناك مجالاً للعموميات ....
النص كان بوحاً شفافاً غرضه واضح ، لكن الذاتية تدخل مرحلة التأثير السلبي حين نتناول موضوعاً عاماً بلغتها المفرطة
بانتظار رأيكم الكريم
بارك الله بكم و سلمكم

بنت الشهباء
09/08/2010, 09:00 PM
ما أجلها من نصائح حكيمة وهو يقول لابنه البار :

اطلب العون من الله ربك كلما ضاقت عليك الدنيا بأحزانها وآلامها وهمومها فهو حسبك وكافيك .....

وهل لمثل هذه النصائح الحكيمة أن لا نأخذها يا أخي الكريم والابن البار عبد الله ونعمل بها !!!؟؟؟...

رحم الله والدك وأسكنه فسيح جنانه