المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نطرونا كتير



عبد الله نفاخ
24/03/2010, 09:08 AM
نطرونا كتير



مرعلى هذا الكلام سبع سنين .....








كنت قد نقلت من مدرستي القريبة من بيتنا التي كانت موطن ذكريات العمرإلى ثانوية في حي ركن الدين، فكنت أخرج كل يوم صباحاً إلى ساحة الميسات لأركب حافلة تقلني إلى مدرستي الجديدة.



وكنت أنتظر زمناً حتى تقدم حافلة فيها مكان لي ، وأثناء ذلك يشاركني الانتظار أشخاص منهم من يتكرر مجيئه مرات ، ومنهم من يأتي مرة ولا يعود، ومنهم من يأتي مرات ويغيب أخرى، لكن َشخصين اثنين كانا يشاركانني الوقوف كل يوم لزاماً،وما أذكر يوماً مر دون أن ألقاهما أو ألقى أحدهما.



أولهما امرأة في الأربعينيات من عمرها ، يظهر سمتها أنها ملتزمة دينياً أو داعية،لباسها الدائم رداء بلون الكحل من الذي يسمونه (المانطو)، وعلى رأسها حجاب بلون ردائها، و على وجهها نور غريب يكسبها هيبة ‘ ويكسب ناظرها خشوعاً، فما كنت أجرؤ أن أرفع نظري إليها لما على وجهها من ذينك النور و الهيبة .



وثانيهما فتاة في مدرسة شرعية، علمت ذلك من لباسها ، ويبدو على هيئتها أنها في المرحلة الإعدادية ،على وجهها مسحة من جمال ممزوج ببراءة، وحزن غامض تحمله عيناها ولا تفصحان عن كنهه.



وعلى هذا اجتمعنا ثلاثتنا ، على وقفتنا الصباحية في انتظار المركوب الذي يحمل كلاً منا إلى وجهته، وشيئاً فشيئاً خلق كائن من الألفة وطفق ينمو رويداً رويداُ فيما بيننا ،لكن دون أن تظهره شفاهنا بكلمة أو تحية ، أو حتى بنظرة مباشرة.



وصار أحدنا إن تأخر رفاقه في الانتظار لا يمضي لشأنه قبل أن يطمئن على حضوره ، ولهذا السبب كنت أتأخر أحياناً عن المدرسة، وأتحمل العقاب دون أن أكاشف المسؤول بسر تأخري، و ربما كان الموقف ذاته يتكرر معهما كليهما ، فإنني مهما تأخرت كنت إن جئت الموقف وجدتهما أو وجدت إحداهما ما تزال واقفة في مكان اجتماعنا لا تبرحه.



وهكذا جمعت بيننا المصادفات ، ووصلت الأقدار حبال مودة خفية بين ثلاثة لا جامع بينهم إلا أنهم يجتمعون في وقت واحد عند موقف حافلات ، بل بلغت المودة بي أنني ما عدت أقدر أن أتصور الزاوية إلا وهما عندها ، وإن مررت بها في وقت غير الصباح رأيتها موحشة و كئيبة لأنهما ليستا فيها.



دارت الأيام دورتها ،و فارقت المدرسة الثانوية متخرجاً،وما عاد يربطني بتلك الزاوية طريق ذهاب أو عودة،وغابت عن ذهني هي و من كان فيها لكن دون أن أنساها أو أنساهم تماماً.



فكلما رن في أذني صوت فيروز منشداٌُ أغنية "نطرونا كتير ....عا موقف دارينا ...لا عرفنا أساميهم....لا عرفوا أسامينا" قفزت إلى ذهني مسرعة صورة وجهين غريبين بات يلفهما الضباب لتباعد الأيام، وتكسوهما خروم و أخاديد صنعها تناقص الذاكرة بفعل



السنين،لكن سمتهما ما زال متذكراً محفوظاً ، سمتاً يعيدني إلى أيام مضت وما زال يملؤني الحنين إليها دوماً، وجهين غابا وما أدري ما حل بصاحبتيهما لكنٌُ ذكراهما لم لم تغب،وما أظنها تغيب و إن مرت أيام وتتالت عقود،لأنها من عهد لا يغيب عن بال المرء



مهما بلغ من الكبر عتياً أو صار من الشيخوخة نسياً، ذلك العهد الذي لا يستطيع إنسان ولو بذل ملء جبال ذهباً أن يسترجع مثقال ذرة من صفائه و نقائه و طيبته، فإن يكن من المستحيل رجوعه فليس من ذاك تذكر أيامه وبعض شخوصه، وإن جعل الزمان بيننا وبينهم بعد المشرقين.

ايناس
26/03/2010, 07:27 PM
سرد مشوق بكلمات منتقاة تنم عن روح تملؤها المشاعر النبيلة
لمستها إنسانية حافلة بقداسة الذكريات و عبق الماضي..
جميلة هي الروح التي تصر على العهد مهما تطاول العمر..
تحياتي

عبد الله نفاخ
19/04/2010, 03:24 PM
هي الذكرى كذلك ... تسكن أعماق الروح وإن خلناها انطوت في بحر النسيان ...
ألف تحية لك آنستي

عبد الله نفاخ
01/06/2010, 04:56 AM
مرعلى هذا الكلام سبع سنين .....








كنت قد نقلت من مدرستي القريبة من بيتنا التي كانت موطن ذكريات العمرإلى ثانوية في حي ركن الدين، فكنت أخرج كل يوم صباحاً إلى ساحة الميسات لأركب حافلة تقلني إلى مدرستي الجديدة.



وكنت أنتظر زمناً حتى تقدم حافلة فيها مكان لي ، وأثناء ذلك يشاركني الانتظار أشخاص منهم من يتكرر مجيئه مرات ، ومنهم من يأتي مرة ولا يعود، ومنهم من يأتي مرات ويغيب أخرى، لكن َشخصين اثنين كانا يشاركانني الوقوف كل يوم لزاماً،وما أذكر يوماً مر دون أن ألقاهما أو ألقى أحدهما.



أولهما امرأة في الأربعينيات من عمرها ، يظهر سمتها أنها ملتزمة دينياً أو داعية،لباسها الدائم رداء بلون الكحل من الذي يسمونه (المانطو)، وعلى رأسها حجاب بلون ردائها، و على وجهها نور غريب يكسبها هيبة ‘ ويكسب ناظرها خشوعاً، فما كنت أجرؤ أن أرفع نظري إليها لما على وجهها من ذينك النور و الهيبة .



وثانيهما فتاة في مدرسة شرعية، علمت ذلك من لباسها ، ويبدو على هيئتها أنها في المرحلة الإعدادية ،على وجهها مسحة من جمال ممزوج ببراءة، وحزن غامض تحمله عيناها ولا تفصحان عن كنهه.



وعلى هذا اجتمعنا ثلاثتنا ، على وقفتنا الصباحية في انتظار المركوب الذي يحمل كلاً منا إلى وجهته، وشيئاً فشيئاً خلق كائن من الألفة وطفق ينمو رويداً رويداُ فيما بيننا ،لكن دون أن تظهره شفاهنا بكلمة أو تحية ، أو حتى بنظرة مباشرة.



وصار أحدنا إن تأخر رفاقه في الانتظار لا يمضي لشأنه قبل أن يطمئن على حضوره ، ولهذا السبب كنت أتأخر أحياناً عن المدرسة، وأتحمل العقاب دون أن أكاشف المسؤول بسر تأخري، و ربما كان الموقف ذاته يتكرر معهما كليهما ، فإنني مهما تأخرت كنت إن جئت الموقف وجدتهما أو وجدت إحداهما ما تزال واقفة في مكان اجتماعنا لا تبرحه.



وهكذا جمعت بيننا المصادفات ، ووصلت الأقدار حبال مودة خفية بين ثلاثة لا جامع بينهم إلا أنهم يجتمعون في وقت واحد عند موقف حافلات ، بل بلغت المودة بي أنني ما عدت أقدر أن أتصور الزاوية إلا وهما عندها ، وإن مررت بها في وقت غير الصباح رأيتها موحشة و كئيبة لأنهما ليستا فيها.



دارت الأيام دورتها ،و فارقت المدرسة الثانوية متخرجاً،وما عاد يربطني بتلك الزاوية طريق ذهاب أو عودة،وغابت عن ذهني هي و من كان فيها لكن دون أن أنساها أو أنساهم تماماً.



فكلما رن في أذني صوت فيروز منشداٌُ أغنية "نطرونا كتير ....عا موقف دارينا ...لا عرفنا أساميهم....لا عرفوا أسامينا" قفزت إلى ذهني مسرعة صورة وجهين غريبين بات يلفهما الضباب لتباعد الأيام، وتكسوهما خروم و أخاديد صنعها تناقص الذاكرة بفعل



السنين،لكن سمتهما ما زال متذكراً محفوظاً ، سمتاً يعيدني إلى أيام مضت وما زال يملؤني الحنين إليها دوماً، وجهين غابا وما أدري ما حل بصاحبتيهما لكنٌُ ذكراهما لم لم تغب،وما أظنها تغيب و إن مرت أيام وتتالت عقود،لأنها من عهد لا يغيب عن بال المرء



مهما بلغ من الكبر عتياً أو صار من الشيخوخة نسياً، ذلك العهد الذي لا يستطيع إنسان ولو بذل ملء جبال ذهباً أن يسترجع مثقال ذرة من صفائه و نقائه و طيبته، فإن يكن من المستحيل رجوعه فليس من ذاك تذكر أيامه وبعض شخوصه، وإن جعل الزمان بيننا وبينهم بعد المشرقين.