PDA

View Full Version : عبد المعين الملّوحيّ بين القوميّة والإنسانيّة *



فيصل الملوحي
22/03/2010, 06:18 PM
عبد المعين الملّوحيّ



بين



القوميّة والإنسانيّة *







كتبها : فيصل الملّوحي





نبت في الأصـول صغيرا..
وطوّف في الثقافات شابّا..
ثمّ عاد إلى جذوره كهلاً وشيخا..
هذه خلاصة عبد المعين نابضة بالحياة، زاخرة بالعنفوان والنشاط . وماأحوجنا أن ننهل من ينابيعه الثرّة، وهو في أوج تدفّقه الأدبيّ العلميّ.
لم أكن لأكتب مثل هذا القول منذ سنوات خلت.. كنت أدعى فأحجم وأتهيّب. فما أنا بقادر على الإلمام بهذا الفيض من الثقافة والأدب والعلم، وما أنا بناج من التمزّق بين واجبالأدب وواجب الدراسة الموضوعيّة. قد أجد مايوجب الإشارة إليه ممّا تتماشى معه وجهة نظري. فهل يشدّني الأدب إليه، أم ترغمني الموضوعيّة؟! كنت أؤثر السّلامة..
وما كنت بدعاً في هذا الموقف.. فمثلي هو عبد المعين نفسه.. فقد سألته يوماً رأيه في أستاذ له، فلم يجب، فظننته يعارضني، ولايوافقني. ثمّ قال بعد إلحاح: إنّما هو أستاذي أمسك عن الخوض في نقده..
ومازالت الفكرة تردّد في نفسي، إلى أن وجدت ما أراه اليوم حقّا.. أدّعي لنفسي فهم عبد المعين – لا بالعمق العلميّ المرجوّ عندي، ولكن بما يسعفنا في اتخاذه قدوةً لجيل عصرنا.. والأجيال القادمة..
ثم.. لماذا أذكر الأخطاء ؟! لماذا لا أذكر(من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر !!) ثمّ إذا سطعت الشمس، هل يلفت نظرنا بعض أماكن الظلّ الظليلة على الأرض ؟!
قد يكون عبد المعين الصورة المثلى لنا – نحن الذين تشبّعنا بثقافة نوعيّة ماكان لجيل عبد المعين أن ينعم بها. وأستثني من ذلك عبد المعين وندرة ولدت في عهد قريب لولادة عبد المعين. نحن نؤمن بما قال( ت. س. إليوت): قدم في القديم، وقدم في الجديد 0ولكنّ السؤال: هل رسخت أقدامنا في القديم رسوخاً مكينا، هل تعمّقنا الجديد حتّى عرفنا به العالَم الآخر والإنسانيّة الحاضرة ؟!

· كان ذلك عبد المعين في ثقافته وعلمه وأدبه. بدأ بما يفترض أن يبدأ به: قرأ الكتب الصفراء.. قتلها دراسة ودراية وبحثا، ثمّ درس الفرنسيّة وأجادها فهماً وقدرة على تعريب آدابها . التصق بأصوله اللغويّة التراثيّة صغيرا ن ثمّ تفتّح على الثّقافات المعاصرة شابّاً وكهلا . كان معلّماً فألجأه التّعليم إلى دراسة الأصول التّربويّة حيث كانت ( الحكمة ضالّة المؤمن – والمؤمن هنا من عشق عمله، وآمن بضرورته - ).
·
نحن في هذا العصر يجب أن نفعل أمرين اثنين: أوّلهما: أن نحتفظ بلغتنا، ونجعلها لغة الدّولة الرسميّة. وثانيهما: أن نتعلّم بعض ثقافات الشّعوب بكلّ ما أمكن من حرّيّة (١)حاجتنا إلى التّراث حاجة الجسد إلى الرّوح. ولكن هل تعمّق عبد المعين تراثه ثمّ وقف عنده ؟! كلاّ ! لقد درس التّراث الإنسانيّ: فكر الشّعوب وثقافاتها وآدابها، فتوسّعت آفاقه، ونما إدراكـه، ثمّ عاد إلى التّراث العربيّ بنظـرة علميّة، ودراسـة موضوعيّة، لا يشوبها ( تعصّب ) ولا ضيق أفق.

ولو قرأت في كتابه ( مواقف إنسانيّة في الشّعر العربيّ ) مثلاً لرأيته ينظر إلى هذه المواقف نظرة عصريّ لم يكتف بما تلقّاه عن العرب وأتقنه، بل ضمّ إليه نظرته الإنسانيّة الشاملة. { انظر في هذا بحثه: المعريّ شاعر معاصر في كتابه: من كنوز العرب ص ٦٨}.. ولكنّ النظرة العلميّة الموضوعيّة لم تخفّّف من حماسته لتراثه، بل زادتها إيماناً بعد أن تمكّن من دلائل جديدة عثر عليها خلال تطوافه في الثّقافات..

لقد تأكّد لنا أنّ الحفاظ على الشّخصيّة القوميّة ضرورة لبقاء الإنسانيّة وتعاونها. رأى قوّة الأمم، وتفرّد كلّ واحدة بصفات قوميّة خاصّة لبنة في بناء البشريّة لا تهد يما ولا تمزيقا. آمن أنّ القضاء على القوميّات باسم العالميّة قضاء على الإنسانيّة، وإخضاع للشّعوب لأطماع عصبة تتحكّم في مصائر الدّنيا ( ٢) { الحضارة الحديثة ليست من إبداع شعب واحد، إنّما هي بناء ضخم اشتركت فيه كلّ شعوب الأرض، فليس لشعب أن يفخر على شعب آخر بأنّه هو الذي بنى الحضارة..} ( ٣ ) { وهذا شاعـر – الراعي النّميريّ – وجـد إنسانيّته في شعبه، والشّعب - كلّ الشّعب – جزء من الإنسانيّة } ( ٤ )



* * *

كنت أخشى أن يقع عبد المعين في محاذير التمكّن في الثّقافات أخرى – وبخاصّة الغربيّة – لكنّ عبد المعين كان أقدر على النّجاة من هذه المحاذير.

- أعجب بالآداب الأخرى، ولم يزد على هذا، بل بقيت العربيّة هواه الأوّل.

فهم الثّقافات الأخرى، وأعانته في دراساته العربيّة، ولكنّها لم تجعـل فكـره تابعاً، ولم يردّد ما ردده بعض المفكّرين ( العرب )، وما نقلوه من فكر المستشرقين الحاقدين ( ٥ ) – غير أنّه لا ينسى أن يشير إلى المستشرقين الذين أنصفوا بعض الإنصاف ( ٦ )..

لم يقع في الخلط بين الشّخصيّات، إنّما وقع له مواقف مشابهة – لا أكثر-، ولكنّه لم يخلع قبّعة( برنا رد شو) ليضعها على رأس أبي العلاء المعريّ المعمّم..

{ يصف شيللر الكاتب الألمانيّ زعيم اللصوص في مسرحيّة اللصوص، وستجدون أنّ هذا الوصف ينطبق إلى حدّ بعيد على شاعرتا الصعلوك عروة بن الورد } ( ٧ ). ولكنّ عروة عربيّ، وزعيم اللصوص غربيّ.. وما ذاك إلاّ لقاء في موقف إنسانيّ – لا أكثر -..



* * *

و لم ينس أنّ خلود العربيّة ميزة ليست لغيرها من اللغات، والنّسيج الثّقافيّ الممتدّ عبر ما يزيد على خمسة عشر قرناً استأثر به التّراث العربيّ.. فمازلنا نفهم عنترة، ومَنْ قبل عنترة. ليست هذه عرقيّة(شوفونيّة)، وإنّما معرفة بالذّات وإنصاف ينبع من واقع لا ينكر، وعلم بواقع اللغات الحديثة وما تحمله من ثقافات، فكان هذا الميزان العادل الذي رجح لصالح العربيّة.. إنّه القائل: { لماذا نفرض على اللغة العربيّة خصائص اللغات الأجنبيّة ؟! }. . ( ٨ ) بعد ما علمنا عنها هذه الميزة ؟

بل وينعى على كلّ من يتهجّم على التّراث العربيّ، ويعزو ذلك إلى الجهل بتاريخ الأمم الأخرى، وحاضرها. بل ربما التّعامي عمّا فيها من نقائص:{إنّ حياة بغداد بجواريها وغلمانها، لم تكن أكثر ترفاً وسرفاً من حياة باريس في هذا العهد.}( ٩) – دعك من المبالغة في وصف بغداد بهذا الوصف –.انظر إليه في هواه لوطنه، بل لوطنه الصّغير– مدينة حمص العديّة –{كان في الشّام، وفي حمص التّي الأحب أن يكون قبري في غيرها، شاعر هو ديك الجنّ } ( ١٠ ).عاش منافحاً عن العربيّة وتراثها.. انظر هذا في قوله: { يا تراثنا العربيّ الخالد، ما أكثر الذين يشحذون سكاكينهم الصدئة ليذبحوك !!} ( ١١ )

هل استطعت بهذا الوجيز من القول أن أعرّف بعبد المعين ؟! لست أدري. ولكن إذا أردنا أن يكون الأمر أوضح فلننظر في آثار هذه الثّقافة النّوعيّة المتميّزة، فلنطّلع على ما نشر باسمه – وما أكثر ما كتبه، ولم يُنشر _:

آ – تحقيق كتب التّراث: نشر له مجمع اللغة العربيّة – المجمع العلميّ آنفا – ووزارتا الثّقافة والدّفاع ودار طلاس حوالي أربعة عشر كتاباً في الشّعر والشّؤون العسكريّة والفروسيّة والتّصحيف والحيوان والمعاني.
ب –المصنّفات: زادت على المئة. كان منها الشّعر ودراساته، والقصّة والّنقد والأدب الذّاتيّ والاجتماعيّ، واختيار موضوعات متخصّصة في التّراث.
ج –الجمع والإشراف: أبرز مواهب بعض الشّعراء المعاصرين سواء بجمع أشعارهم أو بالإشراف على جمعها في دواوين.
د - التعريب: الذي يسلّط الضوء على سعة اطّلاعه الثّقافيّ الإنسانيّ، فقد تنقّل – عبر اللغة الفرنسية – بين الآداب الروسيّة والصينيّة والفيتنامية والكوريّة والدّاغستنانيّة والباكستانيّة والبلغاريّة والإيطاليّة والفرنسيّة ربما بلغت أربعة وثلاثين كتاباً – لست أدري –

ملحوظة ( ١ ) : لا أدري أأقدّم اعتذاري عن هذه الإحصائيّة غير الدّقيقة إلى القرّاء ، أم إلى عبد المعين ، فمساراته الثّقافيّة عديدة ، وكتبه تتوالى ..

ملحوظة ( ۲ ) : هل يُدهشك بعدها أن أقول : عبد المعين موسوعة عربيّة إنسانيّة تراثيّة حديثة ، تكاد أن تكون شاملة ؟!

الكويت / ١٢ /١٢ / ١٩٩٦م
· (عبد المعين بين السّماء والأرض) عنوان محاضرة ألقاها أستاذنا تلميذ عبد المعين – غازي طليمات- سابقاًً على مسرح المركز الثّقافيّ العربيّ في حمص العديّة.






١ – دفاع عن اللغة العربيّة والتّراث العربيّ ص ١٢٢ .
٢ – دفاع عن اللغة العربيّة والتّراث العربيّ ص ٨٠ .
٣ – مواقف إنسانيّة في الشعر العربي ص ٢٥ .
٤ – مواقف إنسانيّة في الشعر العربي ص ٣١ والغلاف الأخير .
٥ – انظر في ذلك ( من كنوز العرب: رعشة الشّعر ) ص ١٥ – ۱٨.
٦ – المرجع نفسه ص ١٥٩ – ١٦٠ .
٧ – مواقف إنسانيّة في الشعر العربي ص ٢٤ .
٨ – دفاع عن اللغة العربيّة والتّراث العربيّ ص ٠١٢٢.
٩ – دفاع عن اللغة العربيّة والتّراث العربيّ ص ١٥٦.
١٠– دفاع عن اللغة العربيّة والتّراث العربيّ ص ١۱٦.
١١ – مواقف إنسانيّة في الشعر العربي ص ٧ .

عبد الله نفاخ
22/03/2010, 06:30 PM
جزاك الله كل خير يا أستاذنا الكبير

فيصل الملوحي
05/04/2010, 03:43 AM
ولك خير الجزاء


أبا راتب