المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بخار / قصة قصيرة



راسم المرواني
17/01/2010, 12:04 AM
بُخــــــار


- ماذا تبيع ..؟
قالت الطفلة الصغيرة ذلك ، وهي منتصبة على أطراف أصابع قدميها المتشنجتين ، متمنية إن تمد ألف رقبة لتصل بها إلى مكان تخترق فيه حافة العربة التي تربض بشموخ وكبرياء، كي ترى ما يفور بداخل هذا القدر الغاطس في منتصفها، تاركاً وراءهُ حافة لامعة تدل عليه .. وبخاراً أبيضَ تنبعث منه رائحة سلق الحمص المعفر بالبهار متحدياً برد الصباحات الشتوية.
- ماذا تبيع ..؟ ها …؟
العربة عالية .. لم تستطع الطفلة إن تتجاوز حافة العربة بأكثر من عينيها السوداوين الذابلتين وانفها المحمر المتلصص .. لا فائدة .. أرخت ساقيها لتعود إلى طولها المنهك .. والذي حرمها من لذة رؤية ما يتقلب بداخل هذه الحفرة الوقحة التي ما زالت تستفز لعابها.
- أبيع (لَبْلَبيْ* (http://www.merbad.net/vb/newthread.php?do=newthread&f=20#_ftn1)) …
قال البائع ذلك .. وهو يمسح وجه العربة بقطعة قماش التصقت بها بقايا البهار الأصفر المتيبس منذ مساء الأمس .. كانت الطفلة في طريقها الى المدرسة .. ملابسها وحقيبتها وشرائط شعرها، كل ذلك كان ينم عن عدم تناولها وجبة الإفطار.
- بكم تبيع …؟
لم يبدِ البائع أي اهتمام بها … مازال ينضد "الكاسات" ويمسح وجه العربة بنشاط غبي .. استدارت الطفلة .. خطت نحو مدرستها خطوات سريعة .. ولكنها توقفت وعادت أدراجها بخطوات قلقة لتعيد نفس السؤال المتوسل على هذا البائع الذي أخذ يهش عليها بطاردة الذباب ..
- اذهبي .. ألا تسمعين الجرس …؟
صمتت الطفلة للحظة .. البرد يستفز شهوتها لهذا القدر الدافئ .. وصوت الجرس يرن في أذنها محاولاً استدراجها إلى الوراء .. لم تكن تعرف أنها جائعة .. تدلت ظفيرتاها على جانبي وجهها أخذتا تتأرجحان عندما انحنت ووضعت حقيبتها على الأرض ومدت يدها فيها .. أخرجت يدها من الحقيبة قابضة على قلم رصاص لم يبرَ بعد .. وبحركة بطيئة مثقلة بالخوف، مدت يدها إلى البائع ..
- خذا هذا القلم الجديد … واعطني ….
قطّبَ البائع …
- قلت لك اذهبي ..
وهبط بجسمه إلى أسفل العربة ليؤجج النار تحت القدر، حملت الطفلة حقيبتها التي ما زالت مفتوحة .. وركضت باتجاه المدرسة … الجرس يرن … استطاعت إن تعبر بوابة المدرسة العالية .. وتخترق الصفوف لتقف بين زميلاتها اللائي نظرن إليها بامتهان. المديرة تتوسط ساحة المدرسة قريباً من سارية العلم الذي يتسلق السارية مترنحاً بكف موجات الهواء الباردة، صاحت المديرة بصوتٍ عالٍ وبنبرة عسكرية توحي بأن الأعداء على مشارف المدينة ..
- طالبات ..! واحد .. اثنان .. ثلاثة ..
وتعالت الأصوات مرتجفة ، تردد نشيد رفعة العلم … بينما راحت هذه الطفلة تسرح بأفكارها خارج الأسوار .. هناك قريباً من العربة والبخار ورائحة البهار .. وأخذت تمضغ حبات الحمص بشراهة .. وأحست للحظة أن حبات الحمص ما زالت قوية ، وأن طعم الـ (لبلبي) ليس لذيذاً كما كانت تتوقع .. فهمست لنفسها .
- ابن الكلب (أبو اللبلبي) ...لم يُحسنْ سلق حبات الحمّص باتقان
وعندما انتهى النشيد صفقت الطالبات بحرارة ، فانتبهت الطفلة ... لتجد نفسها وهي تقضم قلم الرصاص الذي مازال في يدها ..

راسم المرواني
العراق الجريح
marwanyauthor@yahoo.com







* الــ (لَبْلَبي) /أكلة عراقية من الحمص المسلوق المضاف إليه نكهة البهار




. (http://www.merbad.net/vb/newthread.php?do=newthread&f=20#_ftnref1)

عبد الحميد دشو
17/01/2010, 12:18 PM
الأخ الأديب راسم المرواني :
يسعدني جداً أن أقرأ لك لأول مرة
و قد وجدتُ في قصتك النص الراقي
إلى مستوى عالٍ من البراعة في
الوصف و انتقاء الكلمات
أحييك على هذا العمل و بانتظار المزيد من
الإبداعات الأخرى
تقبل مودتي و تقديري

خليد خريبش
17/01/2010, 02:57 PM
كاتب يا أخي راسم،متمكن من أدوات الكتابة،تحياتي الأخوية.

أيوب الحمد
17/01/2010, 04:49 PM
يالها من قصة معبرة وموحية !
قصة على درجة عالية من الإتقان والتمكن
ولكن عبارة (ابن الكلب ) أعتقد أنها لآ تصدر من طفلة بريئة لم تدخل إلى ألفاظهاألفاظ الكبار المليئة بعبارات السب والشتم

أيمن الناصر
18/01/2010, 10:30 AM
الصديق القاص راسم المرواني
أشكرك على هذه القصة المحكمة الصياغة والبناء إلى جانب فكرتها العميقة المغزى والدلالات النفسية والفكرية التي عانت منها هذه الطفلة المحبطة بخيبة صباحية جعلتها تمضغ قلمها الرصاص والذي لا يختلف كثيراً عما نمضغه في صباحاتنا كل يوم من خيبات تصدمنا مع كل بخار مغلف بسلوفان الوعود والأوهام نتلقاها ممن يمتلكون سدة الأمر والنهي.
أشد على يديك قاصاً مربدياً يغني هذا الموقع بإبداعاته القادمة إن شاء الله.
مودتي لك وللأستاذ طارق ربان هذا المركب الذي استطاع ترويضه لأنامل المبدعين وأصحاب الكلمة الشريفة والحرة
تحياتي لكل أصدقاء المنتدى وعام سعيد للجميع
أيمن ناصر

راسم المرواني
18/01/2010, 06:21 PM
الأساتذة الأفاضل

شكراً لمروركم الذي أضفى على منجزي جمالاً

العيسوى الصغير
24/01/2010, 12:36 PM
يعجبنى العمق الذى جذبنى لنهايه النص دون ان ادرى

مصطفى البطران
07/02/2010, 09:29 PM
موحية معبرة رامزة تحكي بطلتها مفارقة كبيرة بين واقع يقض مضجعنا وواقع نتظاهر بالاهتمام به
وهو في الواقع بعيد عنا ترغمنا الظروف في كثير من الأحيان أن نبتعد عن أشياء جوهرية في حياتنا
واقع مرير يرسمه الأخ القاص راسم المرواني بإتقان ليحكي لنا جانباً مهماً من حياة أطفالنا وهم يعانون من
الوصول إلى أبسط أشكال حياتهم ... تعجبني التفصيلات الدقيقة في القصة وكأنها فصل أو قل جزء من فصل رواية ماتعة
بكل ود أخوك : البطران

مشاعـر
08/02/2010, 04:24 AM
ومثل هذه البراءة والحاجة تسكن أجساد أطفال
أشبه بالمشردين إن لم يكونوا كذلك :(
وهذه الحاجات تزداد ألماً إن اختلطت بأجواء باردة قارسة وكأنها تسخر من الحال

لقلمك جزيل الشكر أخ راسم ..,

أبوأويس
10/02/2010, 02:22 PM
اشكرك على هذه القصة ... فكرة مغزى صياغة وبناء محكم

بنور عائشة
18/02/2010, 02:58 PM
تحية طيبة ........

عادات ما زالت تستفز الكاتب لترسيخها في المخيال القصصي،وبالتالي الحفاظ على هذه الأنماط الجميلة في العيش التي تضفي التميز الشعبوي للمدينة، وكذا أساليب مختلفة في الحصول على لقمة العيش والتي كانت ضحيتها طفلة تجمع شتات أطفال جياع أوبالأحرى تختزل صورتها واقع أسر معدمة لا تملك لقمة لها وحتى لأبنائها وقت ذهابهم للمدرسة وهم ببطون فارغة تتلوى جوعا.........
قد نتفق على أن تكون الطفلة من شدة تضورها جوعا لفظت بهذه الكلمة النابية والتي أسقطت الكاتب في التعاطف الكبير مع بطلته كاستفزاز قوي لشن جم غضبه على أبعاد القصة الاجتماعية وما تؤول إليه، ليجعل من القارئ أو لشد انتباه القارئ أنه لم يكتب لمجرد الكتابة أو التسلي بالقراءة أو قد نسقط الفرضية التي تقول استفزاز قوي لمشاعر القارئ لإدراك أبعاد هذا الموقف الإنساني.
إحساس قوي وأسلوب فني جميل ولعبة الحدث قوية لدرجة تفاعلها مع الترتيب الزمني للأحداث .

ـ سعدت كثيرا بقراءتي لهذه القصة الجميلة والتي أسقطتني في فرضية الاستفزاز .. لأكتب عنها ..
رائع
و بالتوفيق .
دمت / عائشة