المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التأثير (الزمكاني) على المتلقي



راسم المرواني
16/01/2010, 11:36 PM
ميكانيكية التأثير (الزمكاني) على المتلقي


(إن اللوحة الواحدة تصور بأشكال مختلفة تبعاً لاختلاف الحالات الداخلية في نفوس الناضرين ، فتباين أوضاع الصورة من مرة لأخرى لدى الشخص نفسه ، إنما يعود للظروف التي أحاطت به)


جان جاك روسو

إن أي عمل – أدبي أو فني – هو في الحقيقة ناتج ميكانيكي لتقاطع أو تعامد أو تلاقي مستويين من مستويات القوة ، وهذان المستويان يمكن إدراجهما حسب الأهمية كما يلي :
1- الذات ، أو القوة الكامنة ، أو القوة المنفعلة
2- الموضوع ، أو القوة الخارجية ، أو القوة الفاعلة

فالذوات متشابهة من حيث الكينونة والوجود وعناصر التركيب ومفردات البناء ، ولكن الذات الواحدة تختلف عن الذوات الأخرى من حيث البناء والشكل الهندسي ، كما في بصمة الإبهام ، وكذلك تختلف كل ذات عن الأخرى من حيث التركيب طبقاً للتفاوت في نسب مفردات وعناصر التركيب والبناء ، وهذا التفاوت يفضي – طبيعياً – إلى التفاوت في مقدار القوة الكامنة وقابلية التلقي والتأثر ، آخذين بنظر الاعتبار العامل الزمكاني ( البيئي ) وتأثيره سلباً وإيجاباً على مكونات وقابليات الذات ، فكل ذات لا تتطابق مع الذوات الأخرى ، بل هي وحدة واحدة مستقلة ومتفردة ولا يمكن انطباقها كلياً على غيرها من الذوات .

أما الموضوع ، فهو عصارة فعل ميكانيكي يقع خارج دائرة الذات ، ويؤثر عليها تأثيراً مباشراً أو غير مباشر معتمداً على عاملي الزمان والمكان ، وخاضعاً لقوة الحدث ، فهو إذن حدث ، أو فعل آني ، أو ومضة تعجز مستقبلات الآخرين عن تفكيكه وإعادة تركيبه بالشكل الذي يخلق الصورة الإبداعية ، وقد يكون الموضوع سياقاً من السياقات التي خلفت بتراكماتها صوراً مشوشة في ذاكرة الأديب أو الفنان ، واستطاعت أن تؤثر في اللاوعي تأثيراً بصماتياً بانتظار ومضة من حدث عرضي قد لا يمت للسياق بصلة ولكنه يفعل فعل المؤجج لقابلية الخلق والإبداع ، وتارة يكون الموضوع حدثاً مستقبلياً خارجاً عن كينونة الآنية ، ترسم ملامحه رؤى الأديب أو الفنان بالشكل الذي يقولبه لديه عامل الخوف أو التفاؤل أو التشاؤم أو الانكسار النفسي .

ويمكن أن نتصور المستوى الفاعل والمستوى المنفعل بشكل فيزيائي بسيط ، كأن نصور المستوى الأول (الموضوع) بشكل قوة ميكانيكية خارجية ، ونصور المستوى الثاني – الذات – بشكل قوة امتصاص أو ممانعة ، فعندما يسقط المستوى الفاعل على المستوى المنفعل بقوة تساوي قوة الامتصاص أو الممانعة التي تكمن في المستوى المنفعل فان المحصلة ستكون صفراً ولن تتحرر قوة رد فعل نتيجة ذلك – حسب قانون الفعل ورد الفعل - وهذا في الواقع ما يمثل حالة الاستقرار النفسي لدى المبدع وقابليته على احتواء أزمة القوى الخارجية ، أما إذا أثرت القوة الفاعلة على القوة المنفعلة بشكل أكبر ، فمن المتوقع أن يحدث تذبذباً حركياً يعتمد على مقدار الاختلاف في مستويي القوة ،وبذلك يأتي مستوى الخلق كرد فعل انعكاسي لقوة الممانعة وقوة المؤثر وعاملي الزمان والمكان ، ومقدار الممانعة هنا يحدد السلوك لدى المتأثر كأن يحول طاقة التصادم إلى قصيدة أو رواية أو لوحة فنية أو شكل إبداعي آخر وفقاً للطاقة الكامنة لدى المتلقي ، أما في حالة تلاقي القوة الفاعلة مع القوة المنفعلة ، فثمة طاقة ستتحرر نتيجة ذلك لتحرك معها قدرة الخلق والإبداع حسب قانون محصلة القوى ، أما في حالة التقاطع بين القوتين الخارجية والداخلية فثمة تغيير في مسار الفعل الإبداعي يمكن أن يحصل طبقاً لقانون الاستمرارية الذي ينص على أن كل جسم في الكون يبقى على حالته من الحركة أو السكون ما لم تؤثر فيه قوة خارجية ، وهنا تتحول قوة التقاطع الى طاقة يمكنها تحريك الجانب التجريبي لدى المتلقي أديباً كان أو فناناً .

وفي كل الحالات ، فالطاقة الناتجة تعتمد على مقدار تأثير الفعل الخارجي ( الموضوع ) وزمن وقوع الحدث ، ومكانه في دائرة التأثير ، فليس كل حدث مدعاة للخلق والإبداع ما لم تكن هناك قابلية ذاتية على ترجمة الحدث إلى ( مخلوق إبداعي ) يؤسس له بناءً على مقدار القوة المنفعلة وقابلية الإبداع ( الموهبة ) ، وليس من المنطقي – في عالم الإمكان – أن يأتي الخلق من طاقة كامنة دون وجود القوة الخارجية ، وهذا في الواقع نوع من أنواع التلازم بين الفاعل والمنفعل ، وعلى أساسه أدرجت معطيات وجزئيات الوجود .

وعليه ، يمكن أن نقول بأن قوى الإبداع موجودة – أصلاً – لدى جميع البشر ، ولكن بتفاوت واضح ، وبصور وأشكال متغايرة ، ولذا يأتي الفعل الإبداعي متأثراً بهذا التفاوت من جهة ، ويأتي متفاوتاً من الناحية الإبداعية بتأثير عاملي الزمان والمكان من جهة أخرى .

إن عملية الإبداع خاضعة لقوانين الفيزياء والمعادلات الكيميائية داخل جسم الإنسان ، وهي – أيضاً – عملية بنائية تأتي غالباً بشكل متذبذب وبعيد عن التشكيل الهندسي المتكامل ، ثم يقوم ( المتأثر ) بترجمتها إلى مواضيع بنائية جديدة ، مستخدما أدوات اللغة أو اللون بعد أن تقوم المتحسسات لديه بـ ( فلترة ) وصقل وإعادة بناء وتركيب الفكرة كي تصل مستوى الرقي والجمال ، ومن ذلك يمكننا أن نشير بإصبع الاتهام إلى مصداقية ( الارتجال ) في العمل الإبداعي ، منوهين إلى إمكانية الخلق الآني السريع والمتدافع نتيجة التصادم بين مستويي القوة الخارجية والداخلية ، ولكن هذا الخلق عادة ما يكون مشوهاً أو مشوشاً أو مفتقراً إلى الموضوعية وجلاء الصورة ، وفي أحسن حالاته يكون منـزاحاً بكليته إلى الاختصار والقطع الذي ينقص من تكامل الصورة ، ولا يمكن أن يكون متكاملاً ما لم تدخل عليه أصابع الصنعة بأدوات الحك والشطب والتشذيب والاستبدال .

ولأن أي عمل إبداعي هو نتاج التقاء قوتين ، فهو أحد تحولات القوة إلى طاقة ، ولأن الطاقة لا تفنى ، فهي تبقى كامنة بانتظار مؤثر آخر يمنحها فرصة الانفلات ، وإزاء ذلك فليس بإمكان المبدع أن يكتم طاقته الإبداعية أمام هذا الكم الهائل من المؤثرات الخارجية ، وليس بإمكانه السيطرة على نقطة الانفجار أو لحظة الانفلات ، وعليه فالفنان أو الأديب – المبدع حصراً – يحتاج دائماً إلى خرم في جدار الصمت ، يرسل من خلاله أشكاله الإبداعية إلى العالم الخارجي كنوع من أنواع التنفيس عن تراكمات الطاقة لديه ، مستعيناً على ذلك بآذان أو أنظار المشاركين له في هذا العالم ، وكنتاج عرضي يمكن أن نقول أن أي من المبدعين لا يمكن أن يرضخ للتغييب والمصادرة ما لم يكن مؤهلاً نفسياً لذلك ربما بسبب عدم تراكم الطاقة الإبداعية لديه .

بقي أن نلتفت إلى أن العمل الإبداعي بما هو طاقة مخلوقة أيضاً ، فهذه الطاقة تؤثر في المتلقي العام تأثيراً مباشراً معتمدة على قابلية التلقي لديه وثقافته الناتجة عن الزمكانية بنفس الأسلوب الذي أثرت فيه بالأديب أو الفنان عندما كانت حدثاً غير مترجم ، ولهذا ، ففي الزمان الواحد ، وفي المكان الواحد ، تتأثر المجموعة الواحدة بنفس العمل الأدبي أو الفني بمستويات متفاوتة ، وقد تتغير هذه المستويات – صعوداً ونزولاً – عند تغير الحالة النفسية والانطباع الناتجين عن التغير في الزمان والمكان ، وبذلك يمكن أن تتغير الاسقاطات لدى المتلقي عبر التأثير في مستقبلاته المتحصنة بمركز الذاكرة ، وقد يتحول هذا التأثر – عندما يصل أقصى درجاته - إلى سلوك جديد لدى المتلقي .

راسم المرواني
العراق / عاصمة العالم المحتلة
marwanyauthor@yahoo.com (marwanyauthor@yahoo.com)