المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : موت سليق بنا .. من ادب المقاومة / منقولة



قاف العراق
10/02/2006, 06:47 PM
بقلم : نزار بشــير

إهداء للضابط العراقي الذي قاوم هو وجنده الأبطال ببسالة في معركة المدرعات قرب الناصرية.

--

ضجيجٌ لا ينتهي يدويّ في رأسي، ضوضاء مدمرة لا تسمعها أذناي تكاد تقتلني، أطرافي الباردة ترفض الإنصياع لأوامري، ألم جسدي المكدود ما عاد يحتمل، دمائي النازفة ترسم خطا بمسار زحفي المتعرج، جفاف حلقي يمنعني حتى من التحدث مع نفسي، والآن صوت العواء المتردد في هذا القفر!

أرحت رأسي على صخرة وصلتها بعد أن جرجرتني بقايا روحي إليها.
السماء الآن لا تبدو بعيدة كما كنت أعتقد!
أشعر انه يمكنني أن ألمس ذاك النجم المضيء، فقط لو تمكنت من إقناع يدي اليمنى بالإستجابة وترك القاذف الصاروخي.
لكن هي رفضت طاعتي من قبل، فلماذا تستجيب الآن؟

العواء يتردد مرة أخرى في جنبات الصحراء، لكن من مسافة أقرب.

عندما تركت بيتي على شط دجلة ما كنت أعلم بأن المطاف سينتهي بي هكذا!
عندما إرتديت بزتي العسكرية ما جال بخاطري أن أنتهى هكذا!
عندما التقى الجمعان ما تصورت أن تكون نهايتي هكذا!

توقعتها رصاصة، تخيلتها شظية، تصورتها قنبلة.
رأيت نفسي محمولا في نعشٍ لف بالعلم يتسلمه أبي لأدفن في المقابر خلف التل المشرف على حقلنا.

لكن بأنياب ذئب في صحراء؟ أين العدالة في نهاية مثل هذه ؟

لقد إكتشفني، هذا واضح.
عيناه تنظران الي بشيء من الفضول، وأنفه لا يكف عن تشمم الهواء.

هل اثارته رائحة دمي النازف ولحمي المتشظي، وأطرافي التي احترقت اجزاءٌ منها عندما إنفجرت عربتي العسكرية؟

عيناه ساحرتان، بهما من القوة والتصميم الكثير.
في الماضي كنت املك مثل هاتين العينين، أما في هذه اللحظة فلا أملك سوى عينين دامعتين.

ليست دموع الخوف أو الفزع، بل دموع الإحساس بالظلم، وهوان النفس.
هي رثائي لنفسي، هي شكوتي لخالقي، هي رجائي الصامت.

توجهت بعيني للسماء راغبا في دعاء أخير.

إلهي، كل ما اطلب هو ميتة استحقها وقبراً يحتويني.
إلهي، رحماك بقلب أمي، رحماك بدموع أبي، وهم يبحثون عن قبر لي يتلون عنده أيات كتابك كلما مزقهم الشوق الي.
إلهي، رحماك بجسد ما إقترف الخطيئة خوفا من عقابك وطمعا في مغفرتك، رحماك أن يلوثه لعاب ذئب ناهش.
إلهي، رحماك بنفس تاقت للشهادة في ميدان الوغى، تزهقها انيابُ وحشٍ في الفلاة.

يقترب مني ببط، يقترب بتصميم، يقترب بثبات.

رائحته الكريهة طغت على رائحة دمائي، أشعر بحاجة لتقيؤ ما في جوفي.
لكن ماذا أتقيأ ومعدتي خواء، ولم أذق طعاما منذ يومين؟

نظرت اليه بطرف عيني الذابلة، تحدثت اليه هامسا "تعال، إقترب، إنهشني ومزق جسدي، فأنت أولى من الغرباء على أية حال".

يبدو أنه قبل الدعوة، فقد بدأ يتشممّ طرف قدمي التي لا أشعر بوجودها، ولولا أنني أراها لجزمت بتركها خلفي في عربتي المحترقة.

رفعت عيني مرة أخرى للسماء، أنظر للأعالي بتضرع، لم أدع هذه المرة، بل إكتفيت بالصمت الأعلى صوتا من الصراخ.

صوت يتردد بين جنبات الصحراء.
ما كنت أعرف بأن طحن العظام في فم الوحش له هذا الصوت المعدني الرتيب!

لم أستطع مقاومة النظر لساقي وهي تطحن، أنزلت عيني الدامعتين تجاه الذئب ناحية قدمي.

ولكن -ياللعجب- لماذا يفر هاربا مني؟
لماذا يقفز فوق التبة المجاورة ليختفي خلفها؟
لماذا لم يلتهمني؟

نظرت لساقي فوجدتها كما هي، مصابة، دامية، ممزقة، ولكن ليس بأنياب الذئب.

الصوت المعدني يعلو، يقترب!
إذن لم يكن صوت طحن عظامي!

أنوار، هناك الكثير منها، تقترب تجاهي بسرعة.

هذه الرايات!
اللعنة!
لقد عادوا!

بمعجزة كونية رفعت ظهري وإعتمدت على قاذفتي لاجلس بمواجهة الرتل القادم.
هيا يا ذراعي أطيعيني، هيا إرفعي هذه القاذفة وضعيها على كتفي، هيا أسرعي فالسماء إستجابت لدعائي.
ما كنت اتصور أن ذراعي ستطيعني، وما كنت اتوقع أني استطيع، وما عرفت أن بمقدوري فعل هذا.
منذ لحظات كنت مستسلما لذئب يأكل جسدي.
لكن الخط الناري الواصل بين أولى المركبات وفوهة مدفعي تعلن في وضوح أنني لم استطع ترك الذئاب تأكل جسد وطني.

دوار يحيط برأسي وضباب يغلف عقلي، لا بد ان الموتَ قريبٌ جدا الآن، لكني - يا للدهشة - لا اشعر بالخوف!

الأغطية البيضاء تغطي جسدي العاري، والوسادة الكبيرة يغوص بها رأسي، وكل تلك الأنابيب تستبيح أطرافي، وذلك الوجه الأحمر المنتفخ يرمقني في كراهية ثم ينظر للطبيب الواقف بجواري.

عاد الدوار ليمد سيطرته على عقلي، لكن قبل أن يفرضها بالكامل أستطعت أن أسمع الأحمر صاحب الوجه البغيض يقول بحقد للطبيب "هذا (الاوفسر) أتعبنا جدا... لماذا لا يموت هؤلاء القوم في هدوء؟".

نظرت اليه بعينين إستعادتا بريقهما، وبصقتها في وجهه: "لأننا نريد موتاً يليق بنا".

خالد القيسي
14/02/2006, 06:45 AM
كل الشكر لقاف العراق على الإختيار وللكاتب نزار بشير على الإبداع


تحياتي لكما