عبد الحميد دشو
23/12/2009, 04:24 PM
آخر ما سجلته ذاكرتها ..
( لمحت منى للوهلة الأولى بريق الغدر يلمع في عينيه
, لكنها فضلت عدم الاكتراث لذلك ) قصتي الثانية ..
كانت لا تزال في ذهول عميق .. و هي تتلمس جسدها المنهوب .. إلا أنها تحاول و تحاول في كل مرة طرد تلك الصور المرعبة , و إعادة الاطمئنان و الثقة لنفسها و بأعماق نفسها تصرخ :
- مستحيل .. هذا كابوس .. كابوس رهيب !
تأملت صورة والدها المتشبثة على الحائط بعناد و كأنها هناك منذ الأزل , و كانت كلما دخلت غرفتها هذه , ألقت عليها نظرة سريعة لتتذكره , و تتذكر يوم وفاته عندما كانت لا تزال تعايش مرحلة الطفولة التي مرت سريعاً , لكن هذه المرة تأملتها بذهول عميق , و كأنها تطلب و بدون وعي العفو و الصفح منه , و إن كان راقداً الآن في قبره ..
صوت أمها في الخارج يناديها , و ذاك الحقير فعل فعلته .. و الحقيقة قاتلة .. و بصماتها اللعينة لا زالت .. و لا مجال للبس .. و مما زاد في شكوك أمها , مكوثها الطويل وحيدة في غرفتها .. طريدة ذاك الكابوس .. الوهم .. أم الحقيقة .. و الذهول العميق يلتهم عقلها بلا رحمة , و صوت أمها لا يزال يتابع صيحاته :
- منى منى ماذا تفعلين لوحدك كل هذه الساعات ؟
منى لا زالت في ضياع , غارقة وسط أمواج من العذاب .. تحاول أن تطرد تلك الأشباح التي أخذت تطاردها .. منذ ذلك اللقاء الكابوس , و أين تذهب بتلك الثقة التي زرعتها أمها فيها , و أين الثقة التي منحتها لأمها منذ أن دخلت سن المراهقة , فكيف لها أن تخون تلك الثقة وهي الآن راشدة و موظفة , و ألف رجل يتمنى الزواج منها لو رمشت بعينها , و ماذا ستفعل بها الأم الآن , تلك المرأة العنيفة التي ضربتها ذات يوم على خاصرتها فكادت تقتلها , ماذا سيكون مصيرها لو خبر إخوتها الثلاثة بأمرها ؟ إلا أن السؤال الحائر : لم فعل كل هذا ؟
اللحظات الثقيلة تمر ببطء , و هي لا تزال تتساءل :
- هل تنتهي خمس سنوات من الحب برفعة قدم من ذاك الحقير ؟
- هل هذا هوكانت تحاول نسيان الألم .. محو الذاكرة .. محو ذاك الشخص القذر من خارطة حياتها , و استجماع كل قوى الانتقام لديها .. لتوجه له آلاف الطعنات القاتلة , و تسحقه بقدميها , أحست الآن أنها لم تقم بما يجب عندما وجه لها أول طعنة في كبريائها , ماجت في قلبها آهات الحسرة الدفينة , و كلما عادت بها الذاكرة , تتساءل بدون أن تنتظر جواباً لأن أحداً لن يسمعها :
- هل بمجرد أن وهبته حبي و ثقتي حتى يكيل لي كل تلك الطعنات ؟
و في محاولة أخرى يائسة لإعادة الثقة , قالت لنفسها و هي تكابد ذاك الألم الدفين :
- سأراه مرة أخرى و أنتقم , و أصرخ و ألم عليه كل الناس .. سأقول إنه حقير و سافل . ابصقوا عليه !
لكنها عادت فتذكرت أن فضيحتها ستصبح حديث كل الألسنة , و بعضها لا تعرف الرحمة و لا الخوف من الله , سيقولون : ماذا كانت تفعل معه في عتمة الليل حتى يجرؤ عليها , بل سيقولون أيضاً : لولا رضاها ما فعل بها كذا و كذا !! و أين رجولة إخوتها و أين شرفهم ؟ و ماذا ستكون نهايتها ؟
هذا الكلام أبسط شيء ممكن أن يقوله الناس , و خصوصاً من كان همه البحث عن هكذا قصص لتضخيمها , و إساءة سمعة ذاك البيت أو هذه الأسرة ..
بدا لها و هي تجول النظر في الغرفة أن صورة أبيها أخذت تؤنبها بقسوة , و صوت أمها المتقطع المندفع من خلف باب الغرفة يجلد ظهرها بسياطه اللاهبة , و هي ساكنة لا ترد , أرادت الإيحاء بأنها نائمة , و أمها تنادي : افتحي الباب يا منى .. افتحي و إلا كسرته على رأسك , أكيد استسلمت له يا ملعونة .. سنذبحك .. منى لا تجيب .. تتكور في فراشها الناعم , و تدس رأسها تحت الوسادة , تخال الفراش حضناً دافئاً حنوناً , عله يطرد عنها البرد الذي سرى في أطرافها .. و يشعرها ببعض الحنان و الأمان الذي افتقدته , ثم تمسك بطرف اللحاف بقوة و تجذبه نحوها لتغطي ما تبقى من رأسها , و تمسح به ذاك الينبوع الصغير المتدفق من عينيها بحرارة و صمت , و بعد دقائق أو ساعات لم تعلم كم بقيت على هذا الحال , فقدت الشعور بما حولها , و تلاشى صوت أمها القاسي , و غطت بنوم عميق .. و بعد لحظات برز ذاك الكابوس أمام عينيها .. تراكبت الصور من جديد , و عاد إلى مسمعها صدى كلمات ذاك الملعون , و فحيح لهاثه الحار وهو يقبلها ثم ينهال عليها , عادت المشاهد كلها متسلسلة .. و بشكل دراماتيكي , لتبعثر بعد جهد مضن كل أوراقها التي حاولت لملمتها .
كانت تحبه , و تعطيه معظم مرتبها الشهري منذ أن نفخ فيها شيطانه الأرعن , ليضع هذه الاموال مع أمواله لتجهيز الفيلا , بيت الزوجية الذي سيجمعهما في المستقبل .. الموعد كان بعد الغروب ليريها فيلتها الواقعة على تخوم المدينة من ناحية الشرق , أخذها من أمام البيت بسيارته , كان اللقاء ودياً في البداية , و كانت كل كلماته جدية , و فجأة بعد أن رآها لوحدها تدخل باب تلك الفيلا , قام بإغلاق الباب , نظرت إليه متعجبة لتسأله :
- ما داعي إغلاقه ؟ اتركه مفتوحاً !
ابتسم بخبث , حاول أن يبدو مهذباً و هو يرد :
- هها .. نغلقه أفضل , أخشى أن يدخل أحد و يرانا ..
لمحت منى للوهلة الأولى بريق الغدر يلمع في عينيه , لكنها فضلت عدم الاكتراث لذلك , فأنا – كانت تقول في نفسها - بنت كبيرة و واعية , و ثقتي بنفسي وطيدة , و لن تهتز أمامه .. و عليها من وجهة نظره التي لم يعلنها أن تبدو متزنة و غير خائفة .. هكذا كانت تساورها نفسها , و واصلت منى التجول في غرف الفيلا , تكاد تنبهر من جمال ألوان السيراميك و البلاط و الأضواء الساطعة , و خفقات قلب فتحي تتسارع و تضطرب بشدة , الفريسة أمامه , و الجوع الفاتك لها بل الأصح لجسدها الممشوق لا يرحم , نهدان ينبضان بالتحدي , و أحمر الشفاه يزيد المكان لهيباً , فلم الانتظار أكثر من ذلك , و هذي هي أمامك , ليس هناك سوى خطوة و تتلقفها لتصبح بين ذراعيك , و تمرغ فمك على تلك الشفاه الندية , يخطر له خاطر غريب , يخلصه من هذه الهلوسة و التردد , يفصل التيار الكهربائي من عند اللوحة , و تردد الجدران الصماء صرخاتها اليائسة , تحاول التمسك بخيوط أنوثتها , لكن يداها تضعف لترتخي , ثم الصمت يطبق فجأة , تخلله همهات لا معنى لها , سوى أن الذئب يواصل تمزيقها بأنيابه , ثم يوجه لها الطعنات , و الفريسة بدت مستسلمة , و مضت لحظات كانت أنفاسه فيها تلهب كاهل جسدها المثقل بوقع رأسه , ثم رأت نفسها تقف أمام الباب العريض , هنا سألته و قد كشرت كهرة شرسة مستعدة للنزال , لكن بعد فوات الأوان :
- أنت حقير .. لم فعلت هذا يا جبان ؟
أطلق ضحكة بدت أوقح من أي وقت مضى و رد :
- سأكون جباناً عندما أتركك لتقولي لي يوماً ما أنني اختليت بك و جبنت عنك و لست برجل !
- بل أنت ستين جبان , أنت من تدعي الرجولة , اذهب إن كنت رجلاً غداً إلى أهلي و حدد يوم زواجنا , أفضل من الغدر بي ..
- أنا لن أتزوجك , أنت حقيرة و منحطة , و أنا لن أعرفك بعد اليوم , و إذا حاولتِ الاتصال بي مرة أخرى سأفضحك أمام الناس !
- سيمزقونك إخوتي ..
- هها .. لو كانوا رجالاً لما تجرأت عليك ِ , لردعوك و ربوك بشكل أفضل !
- اخرس يا حيوان .. إخوتي أرجل منك , و حذائي أطهر من فمك يا كلب !
- و لعلمك , هذه الفيلا ليست لنا , أنا كنت أخدعك , هي لصديقي كنت أشرف عليها !
- و المبالغ التي أعطيتك إياها ؟
- اقرئي الفاتحة عليها , و إن كنت امرأة حاولي الاتصال بي مرة ثانية , أو اذكري هذا الموضوع لأحد .
قالها و هو يهم بدخول سيارته , ثم ينطلق بها بسرعة حتى تلاشت من أمامها , و هي في ذهول , تمنت في تلك اللحظة أن تكون رجلاً لتسحق كل الرجال .. كلماته المجنونة أفقدت صوابها , تسمرت في مكانها للحظات كأنها سنين طويلة , و آلاف الوجوه الضاحكة المسهزئة تتراقص من حولها , و أمام عينيها , و تتلاحق الصور .. صورة وجه أمها الصارم , و صور أبيها الراحل .. و إخوتها الثلاثة , و مصير الحب .. المهزلة التي جرت قبل قليل .. و ألسنة الناس و نظراتهم التي لا ترحم بغمزها و لمزها , و شرفها .. و السنوات التي قضت زهوة شبابها بتحسس نبض كلماته من أول لقاء به لهذه اللحظة التي لا توصف .
انتابها دوار غريب , أحست بالأرض تمور من تحت قدميها .. لا لم يكن إحساساً إنها فعلاً تمور , و تتشقق , تحاول الهروب , تتكبل قدماها , تتسمر في مكانها , ثم ترى نفسها تتدلى و تنحدر و تغوص إلى الأعماق , إلا أن تلاشت عن الأنظار .. و تلاشى أمامها كل العالم , كان ذلك آخر ما سجلته ذاكرتها .
من المجموعة القصصية ( و أزهر الحب ) لصاحب هذه المشاركة .
منبج 23 / 12 / 2009
( لمحت منى للوهلة الأولى بريق الغدر يلمع في عينيه
, لكنها فضلت عدم الاكتراث لذلك ) قصتي الثانية ..
كانت لا تزال في ذهول عميق .. و هي تتلمس جسدها المنهوب .. إلا أنها تحاول و تحاول في كل مرة طرد تلك الصور المرعبة , و إعادة الاطمئنان و الثقة لنفسها و بأعماق نفسها تصرخ :
- مستحيل .. هذا كابوس .. كابوس رهيب !
تأملت صورة والدها المتشبثة على الحائط بعناد و كأنها هناك منذ الأزل , و كانت كلما دخلت غرفتها هذه , ألقت عليها نظرة سريعة لتتذكره , و تتذكر يوم وفاته عندما كانت لا تزال تعايش مرحلة الطفولة التي مرت سريعاً , لكن هذه المرة تأملتها بذهول عميق , و كأنها تطلب و بدون وعي العفو و الصفح منه , و إن كان راقداً الآن في قبره ..
صوت أمها في الخارج يناديها , و ذاك الحقير فعل فعلته .. و الحقيقة قاتلة .. و بصماتها اللعينة لا زالت .. و لا مجال للبس .. و مما زاد في شكوك أمها , مكوثها الطويل وحيدة في غرفتها .. طريدة ذاك الكابوس .. الوهم .. أم الحقيقة .. و الذهول العميق يلتهم عقلها بلا رحمة , و صوت أمها لا يزال يتابع صيحاته :
- منى منى ماذا تفعلين لوحدك كل هذه الساعات ؟
منى لا زالت في ضياع , غارقة وسط أمواج من العذاب .. تحاول أن تطرد تلك الأشباح التي أخذت تطاردها .. منذ ذلك اللقاء الكابوس , و أين تذهب بتلك الثقة التي زرعتها أمها فيها , و أين الثقة التي منحتها لأمها منذ أن دخلت سن المراهقة , فكيف لها أن تخون تلك الثقة وهي الآن راشدة و موظفة , و ألف رجل يتمنى الزواج منها لو رمشت بعينها , و ماذا ستفعل بها الأم الآن , تلك المرأة العنيفة التي ضربتها ذات يوم على خاصرتها فكادت تقتلها , ماذا سيكون مصيرها لو خبر إخوتها الثلاثة بأمرها ؟ إلا أن السؤال الحائر : لم فعل كل هذا ؟
اللحظات الثقيلة تمر ببطء , و هي لا تزال تتساءل :
- هل تنتهي خمس سنوات من الحب برفعة قدم من ذاك الحقير ؟
- هل هذا هوكانت تحاول نسيان الألم .. محو الذاكرة .. محو ذاك الشخص القذر من خارطة حياتها , و استجماع كل قوى الانتقام لديها .. لتوجه له آلاف الطعنات القاتلة , و تسحقه بقدميها , أحست الآن أنها لم تقم بما يجب عندما وجه لها أول طعنة في كبريائها , ماجت في قلبها آهات الحسرة الدفينة , و كلما عادت بها الذاكرة , تتساءل بدون أن تنتظر جواباً لأن أحداً لن يسمعها :
- هل بمجرد أن وهبته حبي و ثقتي حتى يكيل لي كل تلك الطعنات ؟
و في محاولة أخرى يائسة لإعادة الثقة , قالت لنفسها و هي تكابد ذاك الألم الدفين :
- سأراه مرة أخرى و أنتقم , و أصرخ و ألم عليه كل الناس .. سأقول إنه حقير و سافل . ابصقوا عليه !
لكنها عادت فتذكرت أن فضيحتها ستصبح حديث كل الألسنة , و بعضها لا تعرف الرحمة و لا الخوف من الله , سيقولون : ماذا كانت تفعل معه في عتمة الليل حتى يجرؤ عليها , بل سيقولون أيضاً : لولا رضاها ما فعل بها كذا و كذا !! و أين رجولة إخوتها و أين شرفهم ؟ و ماذا ستكون نهايتها ؟
هذا الكلام أبسط شيء ممكن أن يقوله الناس , و خصوصاً من كان همه البحث عن هكذا قصص لتضخيمها , و إساءة سمعة ذاك البيت أو هذه الأسرة ..
بدا لها و هي تجول النظر في الغرفة أن صورة أبيها أخذت تؤنبها بقسوة , و صوت أمها المتقطع المندفع من خلف باب الغرفة يجلد ظهرها بسياطه اللاهبة , و هي ساكنة لا ترد , أرادت الإيحاء بأنها نائمة , و أمها تنادي : افتحي الباب يا منى .. افتحي و إلا كسرته على رأسك , أكيد استسلمت له يا ملعونة .. سنذبحك .. منى لا تجيب .. تتكور في فراشها الناعم , و تدس رأسها تحت الوسادة , تخال الفراش حضناً دافئاً حنوناً , عله يطرد عنها البرد الذي سرى في أطرافها .. و يشعرها ببعض الحنان و الأمان الذي افتقدته , ثم تمسك بطرف اللحاف بقوة و تجذبه نحوها لتغطي ما تبقى من رأسها , و تمسح به ذاك الينبوع الصغير المتدفق من عينيها بحرارة و صمت , و بعد دقائق أو ساعات لم تعلم كم بقيت على هذا الحال , فقدت الشعور بما حولها , و تلاشى صوت أمها القاسي , و غطت بنوم عميق .. و بعد لحظات برز ذاك الكابوس أمام عينيها .. تراكبت الصور من جديد , و عاد إلى مسمعها صدى كلمات ذاك الملعون , و فحيح لهاثه الحار وهو يقبلها ثم ينهال عليها , عادت المشاهد كلها متسلسلة .. و بشكل دراماتيكي , لتبعثر بعد جهد مضن كل أوراقها التي حاولت لملمتها .
كانت تحبه , و تعطيه معظم مرتبها الشهري منذ أن نفخ فيها شيطانه الأرعن , ليضع هذه الاموال مع أمواله لتجهيز الفيلا , بيت الزوجية الذي سيجمعهما في المستقبل .. الموعد كان بعد الغروب ليريها فيلتها الواقعة على تخوم المدينة من ناحية الشرق , أخذها من أمام البيت بسيارته , كان اللقاء ودياً في البداية , و كانت كل كلماته جدية , و فجأة بعد أن رآها لوحدها تدخل باب تلك الفيلا , قام بإغلاق الباب , نظرت إليه متعجبة لتسأله :
- ما داعي إغلاقه ؟ اتركه مفتوحاً !
ابتسم بخبث , حاول أن يبدو مهذباً و هو يرد :
- هها .. نغلقه أفضل , أخشى أن يدخل أحد و يرانا ..
لمحت منى للوهلة الأولى بريق الغدر يلمع في عينيه , لكنها فضلت عدم الاكتراث لذلك , فأنا – كانت تقول في نفسها - بنت كبيرة و واعية , و ثقتي بنفسي وطيدة , و لن تهتز أمامه .. و عليها من وجهة نظره التي لم يعلنها أن تبدو متزنة و غير خائفة .. هكذا كانت تساورها نفسها , و واصلت منى التجول في غرف الفيلا , تكاد تنبهر من جمال ألوان السيراميك و البلاط و الأضواء الساطعة , و خفقات قلب فتحي تتسارع و تضطرب بشدة , الفريسة أمامه , و الجوع الفاتك لها بل الأصح لجسدها الممشوق لا يرحم , نهدان ينبضان بالتحدي , و أحمر الشفاه يزيد المكان لهيباً , فلم الانتظار أكثر من ذلك , و هذي هي أمامك , ليس هناك سوى خطوة و تتلقفها لتصبح بين ذراعيك , و تمرغ فمك على تلك الشفاه الندية , يخطر له خاطر غريب , يخلصه من هذه الهلوسة و التردد , يفصل التيار الكهربائي من عند اللوحة , و تردد الجدران الصماء صرخاتها اليائسة , تحاول التمسك بخيوط أنوثتها , لكن يداها تضعف لترتخي , ثم الصمت يطبق فجأة , تخلله همهات لا معنى لها , سوى أن الذئب يواصل تمزيقها بأنيابه , ثم يوجه لها الطعنات , و الفريسة بدت مستسلمة , و مضت لحظات كانت أنفاسه فيها تلهب كاهل جسدها المثقل بوقع رأسه , ثم رأت نفسها تقف أمام الباب العريض , هنا سألته و قد كشرت كهرة شرسة مستعدة للنزال , لكن بعد فوات الأوان :
- أنت حقير .. لم فعلت هذا يا جبان ؟
أطلق ضحكة بدت أوقح من أي وقت مضى و رد :
- سأكون جباناً عندما أتركك لتقولي لي يوماً ما أنني اختليت بك و جبنت عنك و لست برجل !
- بل أنت ستين جبان , أنت من تدعي الرجولة , اذهب إن كنت رجلاً غداً إلى أهلي و حدد يوم زواجنا , أفضل من الغدر بي ..
- أنا لن أتزوجك , أنت حقيرة و منحطة , و أنا لن أعرفك بعد اليوم , و إذا حاولتِ الاتصال بي مرة أخرى سأفضحك أمام الناس !
- سيمزقونك إخوتي ..
- هها .. لو كانوا رجالاً لما تجرأت عليك ِ , لردعوك و ربوك بشكل أفضل !
- اخرس يا حيوان .. إخوتي أرجل منك , و حذائي أطهر من فمك يا كلب !
- و لعلمك , هذه الفيلا ليست لنا , أنا كنت أخدعك , هي لصديقي كنت أشرف عليها !
- و المبالغ التي أعطيتك إياها ؟
- اقرئي الفاتحة عليها , و إن كنت امرأة حاولي الاتصال بي مرة ثانية , أو اذكري هذا الموضوع لأحد .
قالها و هو يهم بدخول سيارته , ثم ينطلق بها بسرعة حتى تلاشت من أمامها , و هي في ذهول , تمنت في تلك اللحظة أن تكون رجلاً لتسحق كل الرجال .. كلماته المجنونة أفقدت صوابها , تسمرت في مكانها للحظات كأنها سنين طويلة , و آلاف الوجوه الضاحكة المسهزئة تتراقص من حولها , و أمام عينيها , و تتلاحق الصور .. صورة وجه أمها الصارم , و صور أبيها الراحل .. و إخوتها الثلاثة , و مصير الحب .. المهزلة التي جرت قبل قليل .. و ألسنة الناس و نظراتهم التي لا ترحم بغمزها و لمزها , و شرفها .. و السنوات التي قضت زهوة شبابها بتحسس نبض كلماته من أول لقاء به لهذه اللحظة التي لا توصف .
انتابها دوار غريب , أحست بالأرض تمور من تحت قدميها .. لا لم يكن إحساساً إنها فعلاً تمور , و تتشقق , تحاول الهروب , تتكبل قدماها , تتسمر في مكانها , ثم ترى نفسها تتدلى و تنحدر و تغوص إلى الأعماق , إلا أن تلاشت عن الأنظار .. و تلاشى أمامها كل العالم , كان ذلك آخر ما سجلته ذاكرتها .
من المجموعة القصصية ( و أزهر الحب ) لصاحب هذه المشاركة .
منبج 23 / 12 / 2009