المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة قصيرة شوارع تنزف .. أحيانا



عبد المنعم جبر عيسي
19/12/2009, 01:53 PM
شوارع تنزف .. أحيانا !


( 1 )


امرأة .. احتل الشيب أركانها ، تجلس فى تحدٍّ غريب لكل شىء ، أراها .. فتتمثل لى صور بطلات الماضى ، اللاتى صرعن ما اعترض سبيلهن ، واعتلين الأتراح .. بعلو صوتها ضجيج الشارع .. تسب حينا .. وتتوعد أحيانا ..
قضمت ذرات الخوف فى شجاعة نادرة التكوين .. بعينيها بريق يوحى بذلك .
عهدها الناس بهيئتها : جالسة فى مكان بعينه من الشارع العام ، إلى جوارها حقيبة سفر لا تفارقها ، تلوِّح بيدها متوعدة .. ولسانها لا يكف عن كيل السباب .. لعدو لا يراه أحد سواها ..
يأتى صوت أحد المارة :
ـ إنها المجنونة التى كانت تسكن حينا .. !
لا أكاد أصدق .. أصرخ فيه أن يصمت ..
أمرُّ عليها فى يوم آخر .. أجد أثرا ليد الأيام على وجهها ؛ كصفعة من نار تؤجج الضلوع .. تبدو منهارة .. صامتة .. لا تسب ولا تتوعد .. مطأطئة الرأس .. فلم أر شعلة التحدى والعناد فى عينيها ..
أشهق ملتاعا :
ـ هل نالت منك المحنة .. سيدتى ؟!
أغرق فى خضم الجموع المذعورة .. الهاربة من زحام الشارع ووهج الشمس .. أذوب بينهم كقطرة فى محيط ..
لا شىء يبقى الآن .. إلا رائحة الأجساد العفنة .. !




( 2 )


صورة لرجل بأحد أرقى شوارع العاصمة ، ممدد بشكل مقزز ، فى ثياب رثة .. يبدو غارقا فى بوله .. يتوسد الرصيف العارى ، إلى جواره مذياع ضخم الحجم من طراز قديم ، يحمل أثيرا نبغضه وأخبارا للأحزان .. وعلبة سجائر مستوردة .. وزجاجة خمر فارغة من نوع فاخر ..
يتسلل إلى أذنىَّ صوت المذياع العتيق ، معلنا على لسان رئيس الوزراء الإسرائيلى ؛ أن القدس هى العاصمة الأبدية لكيانه ، وأن المفاوضات مع العرب تجرى على قدم وساق .
تتجسَّم المأساة على كل الوجوه .. لعدو كسرنا .. قاتلنا بكل ضراوة ، حتى استلب منا الروح .. والقدرة على الصمود .. والمقاومة حتى آخر رمق .. !
والليل يرخى سدوله ليخفى الكثير من الملامح ، وتتوه معالم الأشياء ، وتصبح الصورة أكثر قتامة ..
أسأل مرافقى :
ـ من هذا ؟
يأتينى صوته ضاحكا :
ـ يبدو أنه أفرط فى الشراب .. !
أزداد تخبطا فى حيرتى ، والدهشة تعتصر كيانى .. وسؤالى يأتى أشد سذاجة :
ـ ولماذا ؟
ضحكات فضولىِّ كان يعبر إلى جوارنا تقتحم هدوء الليل ، مفسحة المجال عن أسنان أكلت عليها الأيام وشربت ، حتى تحطمت .. يلوك أسطورة غابرة لبطل عربى رابط على الثغر ، كان يقاتل على صعيد تتعدد فيه الجبهات ، وتتضاعف المخاطر ..
يأتينا صوته من مكان سحيق :
ـ إنه .. يشرب .. لينسى .. !
أقترب منه أكثر .. يغوص متبددا وسط الظلام .. ليموت سؤال على شفتى .




( 3 )


ـ ألا تعرف أين فوزى ؟
أرفع عينى إلى محدثتى ، أجدها عجوز فى الثمانين من عمرها ، تحمل معاناة لا حدود لها .. وحلما مكسورا .. أسألها بدهشة :
ـ من فوزى ؟
فتدور حول نفسها متفحصة المارة .. فى شارع يعبره الملايين كل يوم .. وهى تقول :
ـ إنه ابنى ..
يأتينى صوت زميل العمل ؛ فى همس :
ـ إنه المجنون .. فوزى .. ألا تعرفه ؟
تتنهد المرأة فى أسى ، وهى تمسح دموعا تسللت من عينيها المرهقتين :
ـ مسكين فوزى .. ابنى .. لم أره منذ ثلاثة أيام ..
ثم تتوه بعينيها الزائغتين بين العابرين .. تواصل :
ـ أتراه يأكل ؟ أتراه ينام ؟
فيجيبها زميلى :
ـ لقد كان هنا بالأمس .. وقال إنك تركته وذهبت إلى ابنتك ..
تزداد دموع الأم تسللا .. ويأتى صوتها أشد لوعة وأكثر حزنا :
ـ أبدا .. أبدا .. لم أتركه ..
تتجه نحوى .. تتضرع متسائلة :
ـ أستاذ .. هل رأيت فوزى عندما جاء بالأمس ؟
أجيبها بأسى :
ـ لا .. بكل أسف .
فتدور حول نفسها ثانية ، قاطعة الطريق على أحد المارة :
ـ هل رأيت فوزى .. ابنى .. ؟
وتعود أدراجها دون أن تسمع جوابه .
تضيع وسط زحام الشارع ، تغيب عن ناظرىّ وخاطرى .. مخلفة صمتا .. وفراغا .. !
ثم تظهر أمامى فجأة وبعينيها اصرار غريب .. تمسك بخناقى .. تهزنى بكل وهنها وضعفها ..
تصرخ بيأس يضاعف خسارتها :
ـ فوزى .. ولدى .. !

حسن_العلوي
20/12/2009, 11:44 AM
بتشكيل سردي جميل قدتنا لمعرفة اثر الهزائم على شعوبنا
البناء المدور,هل هو دلالة الشرنقة التي وضعنا فيها انفسنا؟
الوسط هو فوزي الجندي الكسير و بنهما حطام امراة تبحث عن ابنها و قد فقدت شراستها,اهي الوطن؟
لغة شاعرية و سرد فاتن
مودتي

خليد خريبش
21/12/2009, 09:39 PM
من حيث الشكل هذه النصوص ليست من معهود القصة القصيرة التقليدية وإن كانت تشبهها من حيث التقديم والوفاء لالتقاط شذرات الواقع واللقطات المؤثرة ومزج الحركة والسكون،الأشياء والناس والطبيعة...إنه رصد لشخصيات الأطراف أو إحياء ما نعتبره ميتا،إنها التفاتة للهامش.تحياتي الأخوية إلى الأخ الكريم عبد المنعم جبر عيسى.

عبد الحميد دشو
22/12/2009, 11:54 PM
أشكرك أخي القاص عبد المعنم , أمتعتنا و وشوقتنا
فكان الإبداع رديف قصتك الجميلة .. كلمات معبرة
و حوار شيق .. و رسالة سامية .
تقبل تقديري و اعتزازي أيها الفاضل .

عبد المنعم جبر عيسي
28/12/2009, 02:26 PM
المبدعون :
حسن العلوى
خليد خريبش
عبد الحميد دشو
تنوعت ردودكم .. وتعددت قراءاتكم ..
لكن حضوركم ومروركم كان واحدا :
مبدعا .. ومشجعا ..
سعدت بكم .. شكرا جزيلا .
أخوكم

ممدوح المتولي
30/12/2009, 04:18 PM
كتابة تعبر عن حالة المتاهة التي نحيا بين جنباتها ، شخوص مشغولة بالبحث عن الذات ، مشغولة به بالرغم من ضياعها .
شكرا لك سيدي ، وتحياتي

بنور عائشة
31/12/2009, 02:25 PM
تحياتي ........
قصص قصيرة جميلة .. تنوعت بين الألم والفـــرح المكبوت .. المهزوم .. صور اجتماعية مؤلمة لحياة أشخاص قهّرتهم الظروف ولعبت بهم القضايا التي آمنوا بها لدرجة الجنون .. ولدرجة الضياع ولدرجة عدم تصديقهم، كل حياتهم معاناة تجروعها على مضض ..
تلك هي معاناة أشخاص فقدوا السيطرة على مراوغة الظروف والتلاعب معها .. انهزام داخلي ولد انفجار بعمق الذات .
صدمة من الواقع المرير وصدمة الإنســـــــــــان أكبر وأعمق في قضاياه .

سعدت بقراءتي لهذه القصص القصيرة التي فعلا هزتني حد القراءة المتكررة لشخوص تفاوتت درجة الجنون عندها .. ترى هل يأتي علينا حين من الدهر وتهزمنا قضايانا وإلى الأبد ؟

سؤال قد تجيبنا عنــــه قصص أخرى من ابداعات عبد المنعم جبر عيسى ذات البعد الانساني .

دمت /
عائشة

مصطفى البطران
02/01/2010, 08:29 PM
حقاً إنها تنزف أخي الكريم الحبيب الأستاذ القدير عبد المنعم
ونزيفها نزيف أمة لا نزيف أفراد فالمرأة هي الأم والأمة كانت في الماضي تتوعد الأعداء ولكنها الآن كفت عن كل شيء 000
وذاك الملقى في عاصمة عربية هي عاصمة عربية حتماً
هو نحن الملقون التائهون شربنا خمرة العار حتى ثملنا 000 ولعلنا نصحو في زمن من الأزمان000
أما ذاك المجنون فوزي هم قادتنا فهاهم قد جنوا ولكن الأم وهي الأمة مازالت تلتمس فيهم خيراً على الرغم من عظم المأساة
كتبت فأجدت 000 بانتظار كل جديدك بكل ود أخوك : مصطفى البطران

عبد المنعم جبر عيسي
07/01/2010, 11:45 AM
كتابة تعبر عن حالة المتاهة التي نحيا بين جنباتها ، شخوص مشغولة بالبحث عن الذات ، مشغولة به بالرغم من ضياعها .
شكرا لك سيدي ، وتحياتي



والشكر موصول لكم أيها الكريم ..
وما أقساها من متاهة .. وما أبشعه من تيه .. كتب يوما على عدونا فعشناه معه .. وتغلغل فينا حتى النخاع .. حتى أضحى بحثنا عن الذات ضربا من ضروب المسنحيلات العبثية ، التى ترسخت فى الكثير من صور حياتنا .. وما عرف تاريخنا مثل هذه المستحيلات .. وبات استسلامنا لها مريبا .. عجيبا .. !
وهل يكون البحث عن ذات لها مثل هذا التاريخ سوى عبث ؟
بوركت .. وبورك باليراع المبدع .

عبد المنعم جبر عيسي
07/01/2010, 11:47 AM
تحياتي ........
قصص قصيرة جميلة .. تنوعت بين الألم والفـــرح المكبوت .. المهزوم .. صور اجتماعية مؤلمة لحياة أشخاص قهّرتهم الظروف ولعبت بهم القضايا التي آمنوا بها لدرجة الجنون .. ولدرجة الضياع ولدرجة عدم تصديقهم، كل حياتهم معاناة تجروعها على مضض ..
تلك هي معاناة أشخاص فقدوا السيطرة على مراوغة الظروف والتلاعب معها .. انهزام داخلي ولد انفجار بعمق الذات .
صدمة من الواقع المرير وصدمة الإنســـــــــــان أكبر وأعمق في قضاياه .

سعدت بقراءتي لهذه القصص القصيرة التي فعلا هزتني حد القراءة المتكررة لشخوص تفاوتت درجة الجنون عندها .. ترى هل يأتي علينا حين من الدهر وتهزمنا قضايانا وإلى الأبد ؟

سؤال قد تجيبنا عنــــه قصص أخرى من ابداعات عبد المنعم جبر عيسى ذات البعد الانساني .

دمت /
عائشة


المبدعة / بنور ...
ما زلت أسعد بالحضور المتدفق الفياض .. والأدب الواعد بالخير والأمل ..
أو كما يحلو لى أن أسميه : ( أدب البراءة .. أم .. براءة الأدب ) .. ولكونى لا أحب أن يذهب بى الحلم بعيدا.. أدرك جيدا أن البون شاسع والفرق كبير .. بين اسمين متباينين لمسمي واحد .. بين : حلم عذب يداعب الخيال وواقع مؤلم نعانيه .. ولتكن كلمتنا للغد .. للأمل .. الذى نحلم به مشرقا ، وليكن أملنا أن نعيش الحلم بكل ذراتنا وبكل تفاصيله لنحققه يوما .. لا لنهرب من الواقع ..
نرفض بكل قوة أن تكون الحيرة مشروعة .. بين الضياع وبين الجنون ..
أو ان شئتِ قلت : بين الأمس وبين الغد ..
أمس مضيع .. وغد مغيب .. !
ولا يجب أن يطول التخبط لأكثر من هذا ..
كفانا بحثا .. بل كفانا ضياعا .. !
كفانا احساسا بالهزيمة .. فالصمود حتى آخر رمق قدرنا .
بوركتِ أيتها الأخت الكريمة .. ودمتِ بألف خير .

عبد المنعم جبر عيسي
07/01/2010, 11:49 AM
حقاً إنها تنزف أخي الكريم الحبيب الأستاذ القدير عبد المنعم
ونزيفها نزيف أمة لا نزيف أفراد فالمرأة هي الأم والأمة كانت في الماضي تتوعد الأعداء ولكنها الآن كفت عن كل شيء 000
وذاك الملقى في عاصمة عربية هي عاصمة عربية حتماً
هو نحن الملقون التائهون شربنا خمرة العار حتى ثملنا 000 ولعلنا نصحو في زمن من الأزمان000
أما ذاك المجنون فوزي هم قادتنا فهاهم قد جنوا ولكن الأم وهي الأمة مازالت تلتمس فيهم خيراً على الرغم من عظم المأساة
كتبت فأجدت 000 بانتظار كل جديدك بكل ود أخوك : مصطفى البطران


لا فض فوك شاعرنا المبدع ..
ولا حرمنى ربى اطلالتكم البهية .. وكلمتكم الشذية السنية ..
ومع كل شارع ينزف تاريخ يهان .. وأمة تمتهن .. ومع كل دمعة ألم وقهر يبقى العجز سبة تعلو الجبين .. فمتى يعلم الحكام أنهم أشد الناس بلاء وأثقلهم حملا ؟ وأنهم موقوفون بين يدى رب العزة فمسؤلون عما ضيعوا .. ؟ والتاريخ لا يحابى ولا يرحم !
ولن أقف طويلا عند شخصية المجنون / البطل ـ مع اختلاف يسيير ـ فكلنا يرى الجنون / البطولة من منظور مختلف .. وزاوية لا يراها سواه ..
ولعلها وقفة احتجاج .. أو رغبة فى الرفض للكثير من سلبيات الحياة ..
سعدت بمروركم الكريم .. وقراءتكم الفذة .. التى عبرت عن عقل واع ..
شكرا جزيلا أيها الفاضل .
أخوكم .