المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الخوف الآخر .. قصة قصيرة



عبد الحميد دشو
08/12/2009, 09:09 PM
الخوف الآخر ..


تشرق الشمس كعادتها , ليبدأ معها خوف من نوع آخر .. المدرسة تفتح أبوابها كل صباح .. لتغلق في مساء اليوم ذاته .. الأيام كانت رتيبة طويلة .. لكن ذات يوم تغير شيء ما .. شعرت باهتمام لافت نحوه .. قال لي المدير بنبرة هادئة كما عهدته , و كان غير مكترث :
- لقد تعينت عندنا معلمة جديدة من خارج منطقتنا , اسمها إيلاف .

إلا أن مشاعري شاركت مشاعره بعدم الاكتراث
, أجبته بلا مبالاة :
- أهلاً و سهلاً بها .. جميل أن تتغير الوجوه ..

مضت الأيام و نحن الزملاء و الزميلات نعمل بصمت
, بهدوء ظاهري كأسرة واحدة , نلقي لبعضنا كلمات المجاملة المهذبة هنا و هناك , ثم ينصرف كل إلى صفه بدون ضجيج , إلا أن تلك المعلمة الجديدة كانت شابة من نوع آخر , و بدأ وجودها يغرس في أوصالي ذاك الخوف الغريب .
ذات صباح طرقت باب غرفة الإدارة كعادتي بهدوء
, ثم دخلت قبل أن أنتظر الجواب بالدخول , دخلت , فانبعث من خلفي القليل من النور في الغرفة المظلمة , لم يلبث أن زال بعد إغلاقي الباب ثانية .. كان المدير كعادته قابعاً خلف طاولته الخشبية القديمة .. وحده , يجتر ساعات الروتين الطويلة .. و مع اقترابي نحوه , بدأ يتمتم بكلمات هادئة , في محاولة لكسر ذاك الروتين المميت , يحاول مرهقاُ جعلها معبرة دافئة , مع ابتسامة عريضة , و سلام حار , ليبدد آثار الجو الكئيب , قال و هو يهم بالوقوف : تفضل بالجلوس .. و تناثرت من ثنياته قطع من الكلمات .. تائهة , و أخرى مبهمة , تخللها نفث الدخان المنبعث من سيكارة تكاد لا تنطفئ , و أومأ لأبي حسيب ( المستخدم ) لعمل الشاي كالعادة .
و كلماي حان موعد الدرس , يبدأ المعلمون و المعلمات بجر أقدامهم المتثاقلة في الممر المظلم تجاه الصفوف , و المدير يقف بدوره على باب الإدارة , يرمقهم بنظراته , و كأنه يقول : بسرعة بسرعة .
صف تلك المعلمة كان قرب صفي
, فكنت أسمع طوال الدوام خلجات صوتها الأنثوي القوي .. الممرع بضوع الطفولة , يضج حيوية و شباباً .. و أحياناً يمتزج بعصبية .. فأسمع تهديداتها بقلع عيني هذا و شق فم ذاك .. و أنا و خلال إعطاء الدروس لتلاميذي .. لا أزال أستمع , و كأن صوتها أصبح جزءاً من دروسي .
و عندما ينقطع كلامها , تبدأ تكتكات طبشورتها المعتادة على السبورة , و كأنها بدأت بعزف مقطوعة أخرى , ذات إيقاع مختلف , لكنه متماسك , متناسق , و يخفت صوت تلك التكتكات رويداً رويداً , ليرتفع صوتها مرة أخرى .. و عندما نسمع صوت الجرس , تتداخل الأصوات كلها بشكل فوضوي , تلاميذ يصرخون و يصيحون : فرصة , و المدير يصيح على هذا التلميذ أو ذاك , و المعلمات يحزمن حقائبهن الجلدية الصغيرة استعداداً للخروج من صفوفهن ليجتمعن في أحد الصفوف , و تخرج المعلمة إيلاف بهدوء كعادتها , فينير وجهها المضي كل أركان الممر الطويل , و تتلألأ أضواء باهرة للحظات قبل أن تدخل في أحد الصفوف للاستراحة مع زميلاتها , أجواء الريف التي نشأت بها , و تنسمت عبيرها , جعلتها تحس بكبرياء هادئ , و مع كل ذلك , أبت خصلات شعرها .. أبت على الخروج من تحت الحجاب .. لكن تلك العينين الخضراوين الحالمتين بمساء رومانسي , عذب , رائق , في ذاك الوجه الأبيض المنير طغت على ما سواهما .. و أحياناً تدخل الإدارة لطرح استفسار ما على المدير ببراءة و عفوية , فأحاول في كل مرة أراها تتكلم أو تستفسر لتضفي على عملها طابعاً أكثر تكاملاً , أحاول أن أشكرها , لكن إحساسي بالعجز يجعلني أهز رأسي و أحرك رموش عيني كطريقة وحيدة للتعبير عن ذاك الشكر و الامتنان على همتها العالية , إلا أن هواجسي تحتار من جديد , أتذكر أن الأيام الرتيبة الطويلة حولتني إلى مجرد رقم في هذا المكان , في هذه المدرسة , أؤدي فيها واجبي , أنتظر ساعة دق الجرس بالانصراف .. لأغادر و في قلبي ذاك الخوف الآخر , و الذي يمتزج فيه الأمل أحياناً أخرى , لكنه أمل غامض هو الآخر .. يشعرني بالفرح و السعادة أحياناً , إلا أن أحاسيس الخوف تعاود هجمتها الشرسة , لأعود إلى تلك الزاوية المظلمة و ذاك التقوقع الآمن .
و كان يغمرني في كل مرة
, ذاك الشوق , و تلك الرغبة في النظر إلى وجها , و عينيها طوال مدة حديثها مع المدير , كأنني أراها للمرة الأولى , لكنني أكبح جماح نفسي كي لا ألفت نظرها , و أجعلها تسوء الظن بي , أتأمل يدها البضة و هي تتلمس القلم لتوقع في أول النهار و في آخره , و نور وجهها يفرش بهاءه على الطاولة العتيقة , فأنسى أن هناك أناساً غيري , أو بالأحرى لا أراهم , لأن النور الدافق من ثنايا ذاك الوجه و تلك اليد يطغى على ما سواه , و على صفحات قلبي و في إحساسي الدفين , حيث يعمر الخوف , يلح سؤال بل أسئلة لاهثة تريد جواباً :
- من أي عالم أنت أيتها الآنسة ؟

- هل لك أصدقاء و صديقات ؟
- ماذا تحبين أكثر شيء ؟


- هل تحبين الموسيقا و الغناء و العتابا ؟


- هل تحبين البحر و الصيف و الركض في جنبات كروم العنب ؟


- هل تتمنين أن تشنق تعاسة الإنسان في مساحات الأبد السحيق ؟ ..


إلا أن هذه الأسئلة الحائرة سرعان ماتتلاشى على وقع كعب حذائها الثقيل و هي تغادر غرفة الإدارة , ليعود كل شيء إلى طبيعته , الظلمة في كل مكان , فلا تميز بين شخص و آخر , فتصبح الكلمات بيننا خرقاء , خالية من أية حياة , لأن تعابير الوجوه لم تعد ترى .
و في إحدى المرات , و كانت كل هذه الخواطر تتزاحم بلا منطق في مخيلتي , تتباعد ثم تقترب بلا تسلسل منطقي , و أنا أمني النفس بنظرة منها , علها تأخذني إلى مجهولها المترامي الأطراف , المتنوع جغرافياً كالقارة السمراء .. أخيراً نلت ما أردت , رأيتها تنظر إلي و كأنها تريد أن تسألني عن شيء , تسألني أنا هذه المرة و ليس المدير , استعددت للجواب , و بسرعة خيالية , أخذت مخيلتي جاهدة تلتقط الكلمات و تجمعها من هنا و هناك .. ليرد لساني الجواب المناسب , لكن يداً قوية تناولتني بعنف , و بلحظة انقضت على كاهل جسدي المنهك , شعرت أنها ستسحقني , و قد حصرتني بين أصبعين ضخمين , تصدر من أظافرهما لمعات كلمعات السكين الحاد , و تنهال بي على إحدى الصفحات بقسوة , فتسمع لها صريراً حاداً , و كأنها تعاقب بجسدي كل أحاسيس العالم , صرخت لأول ولهة , ثم تلاشى صراخي , و بعد هنيهات شعرت و أنا أودع آخر خيوط الضياء في عتمة تلك الحقيبة , أن الظلمة أحياناً أفضل من النور , إذا كانت في قلب المساحة الواسعة لاستيعاب كل شيء .. الحب و الأمل و الخوف .

من المجموعة القصصية
( و أزهر الحب ) لصاحب هذه المشاركة
منبـج في 5 / 12 / 2009 م

خليد خريبش
08/12/2009, 09:20 PM
هــــــــــــــــذا نص قصصي بما في الكلمة من معنى،مرحبا بك في منتدى أسواق المربد أخي عبد الحميد.

عبد الحميد دشو
10/12/2009, 12:25 PM
حياك و بياك أخي العزيز خليد و شكراً لك و لذوقك الرفيع .

محمد يوب
10/12/2009, 03:17 PM
قصة ممتعة فيها جميع عناصر العمل القصصي أتمنى لك التوفيق
محمد يوب

عبد الحميد دشو
11/12/2009, 10:42 AM
شكراً لمرورك الطيب أخي محمد و بارك الله بقلمك و قلبك .

خليد خريبش
13/12/2009, 01:22 PM
أخي الكريم عبد الحميد دشو،والله العظيم حسبتك من المغرب لأن مثل هذا الإسم موجود عندنا في المغرب،مسيرة موفقة.تحياتي.

عبد الحميد دشو
13/12/2009, 01:45 PM
لا عليك أخي الكريم فنحن أشقاء سواء كنا في المغرب أو في أي جزء من الوطن العربي الكبير .. تحياتي لك .

طارق شفيق حقي
14/12/2009, 09:44 PM
سلام الله عليك
أهلا بك أخي الكريم أستاذ عبد الحميد دشو في المربد


تشرق الشمس كعادتها , ليبدأ معها خوف من نوع آخر .. المدرسة تفتح أبوابها كل صباح .. لتغلق في مساء اليوم ذاته .. الأيام كانت رتيبة طويلة

هناك مفردات تستدعي وقوفاً أطول منها مساحات القصة الزمنية والمكانية


(تشرق الشمس كعادتها )
هل عادتها رتيبة ؟
ليبدأ معها خوف من نوع آخر
ما هو النوع المألوف أولاً بالنسبة للقارىء
استخدام كلمة خوف من نوع آخر تستدعي الوقوف

المدرسة تفتح أبوابها كل صباح
عبارة تدل على الرتابة ، لكن لو فتحت أبوابها في المساء هل ستكون جديدة في حضورها

أراد القاص طبعاً سدر جمل يوحي عبرها برتابة قادمة
هذا استهلال موحي
لكن هل نجح القاص في هذا الاستهلال ؟

خليد خريبش
15/12/2009, 12:50 PM
أخي الكريم طارق،يبدو أن القاص في الاستهلال حاول اعتماد الوصف وهذا شيء معهود في القصة الكلاسيكية يعني تأثيت الفضاء(طبيعة،أشياء،ناس...)ثم يسترسل...،الجملة الثانية -ليبدأ معها خوف آخر-يصور فيها الكاتب شعور شخصيات القصة،ربما أنها سابقة لأوانها،تحياتي للجميع.

رغـــد اليمينى
15/12/2009, 06:53 PM
http://img37.imageshack.us/img37/813/t865.gif (http://img37.imageshack.us/my.php?image=t865.gif)


الزميل الفاضل / عبد الحميد دشو


تحية طيبة .....
بدايةً أُحييك على هذا النص الجميل والسرد المُمتع وكذلك على سلسلة السياق والآحداث ،أعجبتنى فكرتها فلقد جمعت بين المتناقضات والمفارقات فى القصة ؟ مابين الخير والشر الحب والآمل والخوف من المجهول تجعلنا نحلق فى فضاء لا ينتهى من التشويق و صوت الراوى الذى ظهركصورة ناطقة الوصف ،
وتساؤلات حائرة تتركها لنا مع الخاتمه التى أرَ إنكَ لم تفرض على القارئ رؤية بذاتها وتركتَ جملة الختام وما بها من حروف لتلامس جميع من يقرأها .
إلا إنها لم تكن بالقوة المطلوبة بل جاءت فجائية وكأنك نسيت أن تكتب يتبع فبالتأكيد تحتاج بعد إلى تتمه..


ولو إننى أرى إنكَ لو إكتفيت بهذه النهاية لكانت أفضل


و بعد هنيهات شعرت و أنا أودع آخر خيوط الضياء في عتمة تلك الحقيبة ,





همسه ودّ :


دائماً غياب لحظة التنوير يعد من أحد هنات القصة إلا أنى لا أجد فى ذلك غضاضه كونها كانت من النوع السردِى الذى يمضى فى شكل مضطرد ، كثرة حرف العطف ( و ) فى السرد يحدث بعض الترهل للنص لذلك أرجو الحد منه لتكوين تفاعل منتظم فى ذهن المُتلقى

أسم الشخصيه الواردة فى النص يمكن أن تكون بين علامتى تنصيص أو بين قوسين لفصلها عن ماقبلها أو بعدها "إيلاف " _ (إيلاف)






فى النهاية يكفينى إستمتاعى الشديد وتوحدى مع القصة.




مزيد من الإبداع مع أطيب الآمنيات..




http://img37.imageshack.us/img37/813/t865.gif (http://img37.imageshack.us/my.php?image=t865.gif)

نرجس
16/12/2009, 01:56 PM
نص رااآآآآآآآآآآآئع
فعلا
ملئ بالمشاعر
رااااآق
لي
تقبل تحياتي سيدي

عبد الحميد دشو
19/12/2009, 05:04 PM
الكاتبة و القاصة الفاضلة رغد اليميني , أُسعدت جداً بمرورك الطيب الكريم
و ساقتني كلماتك إلى مزيد من التشجيع .. بورك قلمك و حفظك الله لنا و أدامك
في ساحة الإبداع مع خالص المودة و فائق الاحترام .

عبد الحميد دشو
19/12/2009, 05:06 PM
شكراً لمرورك الزميلة نرجس و لك مني خالص المودة .

عبد الحميد دشو
19/12/2009, 05:08 PM
اشكرك اخي الأستاذ طارق على مرورك القيم و ملاحظاتك الجديرة
و دمت لنا في المنتدى و لك مني خالص الود و الاحترام .

محمدذيب علي بكار
21/12/2009, 06:43 PM
الخوف الآخر ..




تشرق الشمس كعادتها , ليبدأ معها خوف من نوع آخر .. المدرسة تفتح أبوابها كل صباح .. لتغلق في مساء اليوم ذاته .. الأيام كانت رتيبة طويلة .. لكن ذات يوم تغير شيء ما .. شعرت باهتمام لافت نحوه .. قال لي المدير بنبرة هادئة كما عهدته , و كان غير مكترث :
- لقد تعينت عندنا معلمة جديدة من خارج منطقتنا , اسمها إيلاف .



إلا أن مشاعري شاركت مشاعره بعدم الاكتراث
, أجبته بلا مبالاة :



- أهلاً و سهلاً بها .. جميل أن تتغير الوجوه ..



مضت الأيام و نحن الزملاء و الزميلات نعمل بصمت
, بهدوء ظاهري كأسرة واحدة , نلقي لبعضنا كلمات المجاملة المهذبة هنا و هناك , ثم ينصرف كل إلى صفه بدون ضجيج , إلا أن تلك المعلمة الجديدة كانت شابة من نوع آخر , و بدأ وجودها يغرس في أوصالي ذاك الخوف الغريب .



ذات صباح طرقت باب غرفة الإدارة كعادتي بهدوء
, ثم دخلت قبل أن أنتظر الجواب بالدخول , دخلت , فانبعث من خلفي القليل من النور في الغرفة المظلمة , لم يلبث أن زال بعد إغلاقي الباب ثانية .. كان المدير كعادته قابعاً خلف طاولته الخشبية القديمة .. وحده , يجتر ساعات الروتين الطويلة .. و مع اقترابي نحوه , بدأ يتمتم بكلمات هادئة , في محاولة لكسر ذاك الروتين المميت , يحاول مرهقاُ جعلها معبرة دافئة , مع ابتسامة عريضة , و سلام حار , ليبدد آثار الجو الكئيب , قال و هو يهم بالوقوف : تفضل بالجلوس .. و تناثرت من ثنياته قطع من الكلمات .. تائهة , و أخرى مبهمة , تخللها نفث الدخان المنبعث من سيكارة تكاد لا تنطفئ , و أومأ لأبي حسيب ( المستخدم ) لعمل الشاي كالعادة .
و كلماي حان موعد الدرس , يبدأ المعلمون و المعلمات بجر أقدامهم المتثاقلة في الممر المظلم تجاه الصفوف , و المدير يقف بدوره على باب الإدارة , يرمقهم بنظراته , و كأنه يقول : بسرعة بسرعة .
صف تلك المعلمة كان قرب صفي
, فكنت أسمع طوال الدوام خلجات صوتها الأنثوي القوي .. الممرع بضوع الطفولة , يضج حيوية و شباباً .. و أحياناً يمتزج بعصبية .. فأسمع تهديداتها بقلع عيني هذا و شق فم ذاك .. و أنا و خلال إعطاء الدروس لتلاميذي .. لا أزال أستمع , و كأن صوتها أصبح جزءاً من دروسي .
و عندما ينقطع كلامها , تبدأ تكتكات طبشورتها المعتادة على السبورة , و كأنها بدأت بعزف مقطوعة أخرى , ذات إيقاع مختلف , لكنه متماسك , متناسق , و يخفت صوت تلك التكتكات رويداً رويداً , ليرتفع صوتها مرة أخرى .. و عندما نسمع صوت الجرس , تتداخل الأصوات كلها بشكل فوضوي , تلاميذ يصرخون و يصيحون : فرصة , و المدير يصيح على هذا التلميذ أو ذاك , و المعلمات يحزمن حقائبهن الجلدية الصغيرة استعداداً للخروج من صفوفهن ليجتمعن في أحد الصفوف , و تخرج المعلمة إيلاف بهدوء كعادتها , فينير وجهها المضي كل أركان الممر الطويل , و تتلألأ أضواء باهرة للحظات قبل أن تدخل في أحد الصفوف للاستراحة مع زميلاتها , أجواء الريف التي نشأت بها , و تنسمت عبيرها , جعلتها تحس بكبرياء هادئ , و مع كل ذلك , أبت خصلات شعرها .. أبت على الخروج من تحت الحجاب .. لكن تلك العينين الخضراوين الحالمتين بمساء رومانسي , عذب , رائق , في ذاك الوجه الأبيض المنير طغت على ما سواهما .. و أحياناً تدخل الإدارة لطرح استفسار ما على المدير ببراءة و عفوية , فأحاول في كل مرة أراها تتكلم أو تستفسر لتضفي على عملها طابعاً أكثر تكاملاً , أحاول أن أشكرها , لكن إحساسي بالعجز يجعلني أهز رأسي و أحرك رموش عيني كطريقة وحيدة للتعبير عن ذاك الشكر و الامتنان على همتها العالية , إلا أن هواجسي تحتار من جديد , أتذكر أن الأيام الرتيبة الطويلة حولتني إلى مجرد رقم في هذا المكان , في هذه المدرسة , أؤدي فيها واجبي , أنتظر ساعة دق الجرس بالانصراف .. لأغادر و في قلبي ذاك الخوف الآخر , و الذي يمتزج فيه الأمل أحياناً أخرى , لكنه أمل غامض هو الآخر .. يشعرني بالفرح و السعادة أحياناً , إلا أن أحاسيس الخوف تعاود هجمتها الشرسة , لأعود إلى تلك الزاوية المظلمة و ذاك التقوقع الآمن .
و كان يغمرني في كل مرة
, ذاك الشوق , و تلك الرغبة في النظر إلى وجها , و عينيها طوال مدة حديثها مع المدير , كأنني أراها للمرة الأولى , لكنني أكبح جماح نفسي كي لا ألفت نظرها , و أجعلها تسوء الظن بي , أتأمل يدها البضة و هي تتلمس القلم لتوقع في أول النهار و في آخره , و نور وجهها يفرش بهاءه على الطاولة العتيقة , فأنسى أن هناك أناساً غيري , أو بالأحرى لا أراهم , لأن النور الدافق من ثنايا ذاك الوجه و تلك اليد يطغى على ما سواه , و على صفحات قلبي و في إحساسي الدفين , حيث يعمر الخوف , يلح سؤال بل أسئلة لاهثة تريد جواباً :
- من أي عالم أنت أيتها الآنسة ؟



- هل لك أصدقاء و صديقات ؟
- ماذا تحبين أكثر شيء ؟




- هل تحبين الموسيقا و الغناء و العتابا ؟


- هل تحبين البحر و الصيف و الركض في جنبات كروم العنب ؟


- هل تتمنين أن تشنق تعاسة الإنسان في مساحات الأبد السحيق ؟ ..


إلا أن هذه الأسئلة الحائرة سرعان ماتتلاشى على وقع كعب حذائها الثقيل و هي تغادر غرفة الإدارة , ليعود كل شيء إلى طبيعته , الظلمة في كل مكان , فلا تميز بين شخص و آخر , فتصبح الكلمات بيننا خرقاء , خالية من أية حياة , لأن تعابير الوجوه لم تعد ترى .
و في إحدى المرات , و كانت كل هذه الخواطر تتزاحم بلا منطق في مخيلتي , تتباعد ثم تقترب بلا تسلسل منطقي , و أنا أمني النفس بنظرة منها , علها تأخذني إلى مجهولها المترامي الأطراف , المتنوع جغرافياً كالقارة السمراء .. أخيراً نلت ما أردت , رأيتها تنظر إلي و كأنها تريد أن تسألني عن شيء , تسألني أنا هذه المرة و ليس المدير , استعددت للجواب , و بسرعة خيالية , أخذت مخيلتي جاهدة تلتقط الكلمات و تجمعها من هنا و هناك .. ليرد لساني الجواب المناسب , لكن يداً قوية تناولتني بعنف , و بلحظة انقضت على كاهل جسدي المنهك , شعرت أنها ستسحقني , و قد حصرتني بين أصبعين ضخمين , تصدر من أظافرهما لمعات كلمعات السكين الحاد , و تنهال بي على إحدى الصفحات بقسوة , فتسمع لها صريراً حاداً , و كأنها تعاقب بجسدي كل أحاسيس العالم , صرخت لأول ولهة , ثم تلاشى صراخي , و بعد هنيهات شعرت و أنا أودع آخر خيوط الضياء في عتمة تلك الحقيبة , أن الظلمة أحياناً أفضل من النور , إذا كانت في قلب المساحة الواسعة لاستيعاب كل شيء .. الحب و الأمل و الخوف .

من المجموعة القصصية
( و أزهر الحب ) لصاحب هذه المشاركة


منبـج في 5 / 12 / 2009 م


الأخ الكريم
عبد الحميد
قصة تحمل كل مقومات القصة
وهي مبنية بناء سليم
تملك لغة وتمتلك اسلوبك الخاص
في أيصال الفكرة
أتمنى لك مزيد من الأبداع
وبنتظار جديدك
دمت بكل ود
محمد

عبد الحميد دشو
22/12/2009, 07:48 PM
أشكرك أخي محمد ذيب على مرورك العطر
و بارك الله بك و أتمنى لك كل خير
مع خالص ودي .

مصطفى البطران
22/12/2009, 08:16 PM
رومانسية حالمة العاطفة الجياشة تكاد تسيطر على كل أحداث القصة
امتلاك لناصية اللغة في السرد وهذا ما جعل التشويق ممتعاً لكن المبالغة في ركوب العاطفة قد أفقد القصة شيئاً من دراميتها وأخشى أن تكون هروباً من الواقع إلى آفاق الخيال إنها آفاق الرومانسية بكل
خيالاتها حتى نهايتها 000 لم نعلم سر كل هذا التعلق بـ (إيلاف ) سوى أنها مختلفة يبدو أن الجمال هو سر تعلق البطل بها 000 أحسنت في توظيف المكان والزمان وأجدت في تصوير الشخصيات
إلى المزيد من الإبداع يسرني ان اقرأ لك 0

عبد الحميد دشو
22/12/2009, 08:22 PM
أشكرك أيها العزيز الماجد الأديب على هذه
الكلمات التي نقشت في صفحتي قلادة ماسية .. دمت
بخير و تقبل مني كل الاحترام و التقدير أستاذي
الشاعر مصطفـــى البطران .

بنور عائشة
27/12/2009, 03:42 PM
تحياتي ...

الخوف الآخر قصة إجتماعية ذات أحداث نفسية متعددة ومتشابكة .. تترابط من المخيلة في تكامل وتناسق جــــذاب.
الخوف الآخـــــــــر يزيد من النص القصصي لغة التواصل النفسي العميق بين الأنا والآخر ،برؤية يمكن أن نقول عنها سلطة تحكمـــية أو يمكن أن نقول عنها توافقية لدرجة أن القارئ لها يمكن له أن تشده بطريقة حميمية للمكان الذي نشأ وسطه أقصد المدرسة بكل همومها وأفراحها ، بالإضافة إلى تلك الغمزات والهمسات التي صورت بدقة متناهية للتعاطي مع الشخصية أو مع مجريات الأحداث المسترسلة .

نص قصصي مميز أدخلنا بصدق كبير في مرحلة معينة يمر بها كل دارس لتعيده إلى مراحل جميلة تنعكس صورها إلى حد الشيخوخة .


جميل ما قرأت وبالتوفيق وأهلا بك معنا أخي الكريم

دمت /
عائشة

عبد الحميد دشو
27/12/2009, 11:28 PM
أشكر كلماتك الطيبة و نقدك العلمي الموضوعي أخت " بنور عائشة "
أسعدني مرورك .. و بارك الله بك
مع تحيتي و تقديري .

عبد الحميد دشو
12/01/2010, 08:23 PM
تحياتي ...

الخوف الآخر قصة إجتماعية ذات أحداث نفسية متعددة ومتشابكة .. تترابط من المخيلة في تكامل وتناسق جــــذاب.
الخوف الآخـــــــــر يزيد من النص القصصي لغة التواصل النفسي العميق بين الأنا والآخر ،برؤية يمكن أن نقول عنها سلطة تحكمـــية أو يمكن أن نقول عنها توافقية لدرجة أن القارئ لها يمكن له أن تشده بطريقة حميمية للمكان الذي نشأ وسطه أقصد المدرسة بكل همومها وأفراحها ، بالإضافة إلى تلك الغمزات والهمسات التي صورت بدقة متناهية للتعاطي مع الشخصية أو مع مجريات الأحداث المسترسلة .

نص قصصي مميز أدخلنا بصدق كبير في مرحلة معينة يمر بها كل دارس لتعيده إلى مراحل جميلة تنعكس صورها إلى حد الشيخوخة .


جميل ما قرأت وبالتوفيق وأهلا بك معنا أخي الكريم

دمت /
عائشة
شكراً لك على المرور و الكلمات العطرة أخت بنور عائشة

أيمن الناصر
18/01/2010, 11:00 AM
قصة جميلة تشد منذ البداية (رغم طول الاستهلال بعض الشيء) ولا أدري لماذا توقعتُ قفلةً غير التي أربكتني في الآخر ولم أدري هل كان بطلنا في حلم وصحا منه؟ أم أن أمراً ما قد حصل له!
الحقيقة.. النهاية كانت غامضة بعض الشيء بخلاف الوضوح الشديد في متن القصة وبدايتها؟
كنت أبحث عن الدلالات والقصدية من الإسهاب الشديد في وصف هذه الفتاة الفاتنة التي تكاد أن تكون ملاكاً. ولمن اليد العملاقة التي استطاعت باصبعين فقط أن تسحقه! فهل تحول إلى قلمٍ حالمٍ بكل ما مر مع صاحبه من تهيؤات؟
أخي القاص عبد الحميد دشو
أحييك على خيالك الخصب ورؤياك السريالية التي استطعت فيها أن تنقلنا إلى ما فوق الواقع.
أحييك صديقاً رافداً لمنتدى المربد..
وننتظر إبداعات جديدة بإذن الله من قلمك المعطاء

عبد الحميد دشو
18/01/2010, 05:58 PM
الأخ الأديب أيمن الناصر
أحييتك على كلماتك النابعة من حس أدبي مرهف
و قراءة متعمقة فيما بين السطور
تقديري لا محدود لك و لذائقتك الجميلة
نحتاج أحياناً في كتاباتنا إلى الرؤى السريالية
و التكعيبية بالتمازج مع الواقعية القوية
بارك الله بك و دمت بود لا ينقطع