المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الأندلس ... الفردوس العربى المفقود



عبد المنعم جبر عيسي
04/12/2009, 12:45 PM
الأندلس ... الفردوس العربى المفقود




لكــل شــىء إذا مــا تــم نــقصـــان
فــلا يـغــر بـطيـب العـيـش انســان
هــى الأمــور كمـا شــاهدـتهـا دول
مـــن ســرَّه زمــن ســاءته أزمــان
أعـنـدكـم نــبـأ مــن أهــل أندلـس ؟
فقـد سرى بحـديـث الـقـوم ركـبـان
كـم يسـتغيث بنا المستضعفون وهم
أسـرى وقـتـلـى فـمـا يـهـتـز انسان
ماذا الـتـقاطع فـى الإسـلام بينـكمـو
وأنـتـمـو يــا عـبـاد الله اخــــوان ؟
المشهد مؤثر .. يدمى الروح ويشقى النفس ..
تلك اللحظات التى اعتلى فيها الملك ( أبو عبد الله محمد ) ، آخر ملوك العرب والمسلمين فى الأندلس هذه الربوة الشهيرة ، المشرفة على قصور الحمراء ( زفرة العربى الأخيرة ) كما سماها الأسبان فيما بعد .. وألقى نظرته الأخيرة على غرناطة ، وطافت برأسه ذكريات عزيزة على نفسه ، لهذه المدينة الغالية التى كانت عاصمة مملكته ، وشهدت ملك بنى الأحمر وعظمتهم لأكثر من قرنين من الزمان .. ووقف الملك المهزوم لحظات يتملى بمنظر حاضرته الذاهبة ، وقصوره الضائعة قبل أن تحرم عيناه رؤية جمالهما إلى الأبد .. وبكى مُلكا ضائعا وجنة فقدها ، وأبكى من حوله .. وقد احتشدت فى رأسه ذكريات الأمس وعظمة الماضى .. و جاء صوت الأميرة ( عائشة الحرة ) أمه ؛ معبرا عن حزن ولوعة ، وموبخا للملك المكلوم :
ـ ابك كالأطفال ملكا ؛ لم تصنه كالرجال .. !
ومضى الركب بالملك المهزوم فى صمت وحزن ، إلى منفاه بمدينة ( البشرات ) كما نصت اتفاقية تسليم المدينة مع ( فرديناند ) ملك قشتالة .. بعد حصاره المدينة لأشهر ، عانى خلالها المسلمون أهوالا جساما ، ولاقوا من صنوف المحن والبلايا ؛ ما يفوق احتمال البشر .. فقرر الملك ( أبو عبد الله ) تسليم المدينة .. ووُضعت شروط التسليم بعد مفاوضات أحاطها الكتمان ، وفرضتها قوة المنتصر وقبل بها ضعف المهزوم .. ودخل ( فرديناند ) المدينة مزهوا بنصره ، منتشيا بقوته .. وراح يجوب حدائق الحمراء إلى آخر النهار ، ويجيل البصر فى روائعها وآثارها العربية .. ولم ينسى تلك اللحظات التى حُددت للقاء الملك ( أبى عبد الله ) ، والتى سلمه فيها مفاتيح الحمراء قائلا بأسى :
ـ أيها السيد .. إن هذه المفاتيح هى الأثر الأخير لدولة العرب فى أسبانيا ، وقد قضى الله أن يصير إليك ملكها .. فكن عادلا فى انتصارك ، رحيما فى ظفرك .
وكانت بداية سقوط الدولة العربية فى الأندلس مع بداية القرن السابع الهجرى ، وما جاء القرن التاسع إلا وقد ضاقت حدودها إلى شريط ضيق من الأرض حول مدينة غرناطة ، بعد أن كانت شبه الجزيرة الأندلسية كلها فى يد العرب .. وكان انقسامها إلى دويلات واشتعال الفتن الحروب والمنازعات فيما بين أمرائها ، هو العامل الأول الذى أدى إلى سقوطها ؛ بهذا الشكل المروع فى يد الأسبان ، الذين نجحوا فى جمع شتاتهم وتوحيد صفوفهم ، ففى الوقت الذى كان مسلمو الأندلس يختلفون فيما بينهم ، ويمزق التدابر أوصالهم ، ويقطع حبال ودهم .. كان الأسبان يحكمون عقدهم ، وينظمون صفوفهم ليتم لهم بالإتحاد والإجتماع القضاء على قوة المسلمين ، وزادت قوة الأسبان باقتران ( فرديناند ) و ( إيزابيلا ) ، وإتحاد مملكتى ( قشتالة ) و ( الأراغون ) فى دولة واحدة ، قبل سقوط (غرناطة ) ببضعة عشر عاما .. وأصبحت هذه الدولة بوضعها الجديد مبعثا للشر ومصبا للبلاء ، على البقية الباقية من المسلمين فى غرناطة .. فمنها تخرج الغارات وفيها تدبر المؤامرات ، وإليها تعود المعاهدات والمكاتبات للتفريق بين المسلمين .
ولم يكن تولى الملك ( أبو عبد الله محمد ) لعرش غرناطة ، من السهولة بمكان .. فقد وصل إلى العرش بعد خلافات ومنازعات امتدت لأكثر من جبهة ، ولولا تدخل والدته الأميرة ( عائشة الحرة ) لما تم له ذلك .. حيث كان للسلطان ( أبى الحسن ) والد الملك المغلوب ولدان من فتاة أسبانية جميلة تزوجها فأسلمت وتسمت باسم ( ثريا ) .. وكان له ولدان من الأميرة العربية ( عائشة الحرة ) أحدهما الملك ( أبو عبد الله ) .. وانقسمت ( غرناطة ) أيامها إلى قسمين : فقسم يتعصب للأميرة العربية ( عائشة الحرة ) ، ويرشح ولدها للعرش لأنه عربى النسب لم يلوثه الدم الأسبانى .. وقسم يتعصب للأميرة ( ثريا ) ويتلقى منها التوجيه والتشجيع .. وسرعان ما استجاب السلطان الشيخ لضغوط الأسبانية الفاتنة ، فحرم زوجته الأميرة ( عائشة ) وولديها كل عطف وحنان ، وشدد عليهم الحراسة فى برج ( قمارش ) من أبراج ( الحمراء ) ، وأسرف فى إساءة معاملتهم .. ثم اشتد غضبه على زوجتيه ؛ فتنازل عن العرش لأخيه ( أبى عبد الله الزغل ) .. وبذلك ضاع العرش على ولدى الأميرتين ( عائشة ) و ( ثريا ) فى حياة أبيهما .
وكان هذا التنازل هو ما فجر المنازعات بين ( أبى عبد الله محمد ) وبين عمه ( أبى عبد الله الزغل ) الذى نزل له أخوه عن الملك .. وهكذا اكتوت ( غرناطة ) فى بضع السنوات الأخيرة بنار الخلاف والنزاع .. وانقسم المسلمون فيها إلى فريقين جديدين ؛ أحدهما يناصر ( أبا عبد الله الزغل ) والآخر يناصر ابن أخيه ( أبا عبد الله محمد ) .. وكانت الفرصة مواتية لتدخل دولة ( قشتالة ) فى الصراع ، فكانت تنصر هذا على ذاك ، أو تضرب هذا بالآخر حتى قضت عليهما معا .. وكان أن ساندت الأميرة ( عائشة ) ولدها حتى اعتلى عرش غرناطة ، فما كان من عمه إلا أن استعدى عليه الأسبان ، بل وبلغ به الأمر لأكثر من ذلك فسار إلى ملك الأسبان وعرض عليه طاعته ، فأجابه ( فرديناند ) إلى طلبه ، فآلت بذلك ملكية ما تحت يديه من الأراضى والمدن العربية إلى المسيحيين ، حتى دخلوا مدينة ( وادى آش ) عام 895 هـ ، وبسطوا سلطانهم على كثير من مدن وأراضى المملكة .. ثم التفت ( أبو عبد الله الزغل ) حواليه ؛ فوجد نفسه مجرد تابع حقير للأسبان ، وأيقن أن تلقيبه باسم ( ملك أندرش ) لا يعدو أن يكون مهزلة أتقن صنعها والتخطيط لها الداهية ( فرديناند ) .. فتنازل عن كافة امتيازاته التى منحها له الأسبان ، وعبر البحر إلى بلاد المغرب ، لعله ينعم بشىء من الهدوء ويكفر خلاله عما أساء به إلى وطنه وأمته .
وَحَسِبَ الملك الشاب بذلك أنه راقت له الدنيا بتخلصه نهائيا من عمه ، واطمأن فى غفلته إلى أعدائه من الأسبان ، الذين كانوا يعدون العُدة للإجهاز عليه ، ويتحينون الفرصة المناسة للخلاص من الأثر الباقى للعرب والمسلمين فى الأندلس .. فسرعان ما طلب ( فرديناند ) منه تسليم قصور الحمراء ـ مقر الملك والحكم فى غرناطة ـ على أن يبقى هو فيها تحت حمايتهم وفى طاعتهم .. وكاد الضعف والإنكسار أن يحمل الملك ( أبو عبد الله محمد ) على قبول التسليم ، لولا اصرار أهل الرأى وكبار القواد فيها على القتال والدفاع عنها .. وهو ما حمل الأسبان على الإغارة عليها ، يؤججهم الغيظ من هذا الإباء العربى الكريم .. مما اضطر كثير من المسلمين إلى الفرار من المدن التى كانت عرضة لهجمات الأسبان .. وفى هذه الأثناء كانت ( غرناطة ) فى ثباتها ومنعتها تمثل الصلابة العربية ؛ التى لا تلين أمام مثل هذه الأحداث .. وازدحمت شوارعها بالوافدين عليها للدفاع عنها من العرب والمسلمين .. فأصبحت بذلك مبعثا للثورة والحمية فى قلوب الجميع .. وصمم ( فرديناند ) على اخماد جذوة هذه المدينة الصابرة ، فضرب حولها الحصار لأشهر طويلة ، حتى بلغ الهول بالمسلمين والضيق حدا لم تعد تنفع معه شجاعة ، وأهلها يتضورون جوعا وضعفا .. فقرروا تسليم المدينة .
وخرج الملك المقهور إلى منفاه فى ( البشرات ) ، حيث أمضى بها بعض الوقت .. ثم لم يلبث أن غادر الأندلس كلها إلى بلاد المغرب ، فأنشىء عددا من القصور في مدينة ( فاس ) على الطراز الأندلسى ، لعله يستعيد بذلك شيئا مما علق بالذاكرة ، من وطنه الغالى الذى أجبر على الخروج منه .. وأمضى ما تبقى من عمره يعتذر عما بدر منه .. وما فرط فيه .. ولعله استنفد كل دموعه يوم نهرته والدته ، حين بكى كالأطفال ملكا لم يصنه كالرجال .. فلم تسعفه الدموع بعدها أبدا ؛ على وطن مضاع وفردوس فقدناه .. لتبقى الأندلس فى ضمير كل عربى وكل مسلم ؛ كحلم حققه الأجداد حتى عايشوه واقعا .. ولا يجب أن تفارق مخيلتنا دروسه .

دهــى الجــزيـرة أمـر لا عزاء لــه
هـــوى لــه أحــد وانـهــد ثـهــــلان
فاسأل ( بلنسية ) ما شأن ( مرسية )
وأين ( شاطبة ) أم أين ( جـيـان ) ؟
وأيـن ( قرطبة ) دار العـلـوم فــكـم
من عالـم قـد سـمـا فـيـهـا لــه شــان
وأين ( حمص ) وما تحويه من نزه
ونـهـرهـا الـعذب فــيـاض ومــلآن
قـواعــد كــن أركـان الـبـلاد فــمـا
عـســى الـبـقاء إذا لم تبق أركان ؟

عماد ابو رياض
06/12/2009, 09:48 AM
توالت الأنتكاسات بعد هذه المصيبة الأولى ويالها من مصيبة
تقطع القلب حزنا وتدمع العين دما
ما جرى بأرض الأندلس من ويلات وكم أندلس صارت بعدها
ولازالت الكلمة مبعثرة الحروف
نخروا جسد الأمة وزرعوا الفتن فأثمر ..
حسبنا الله ونعم الوكيل
جزاك الله خيرا أخي الكريم على هذه التذكرة وهذا العرض الرائع .

عبد المنعم جبر عيسي
06/12/2009, 01:56 PM
توالت الأنتكاسات بعد هذه المصيبة الأولى ويالها من مصيبة

تقطع القلب حزنا وتدمع العين دما
ما جرى بأرض الأندلس من ويلات وكم أندلس صارت بعدها
ولازالت الكلمة مبعثرة الحروف
نخروا جسد الأمة وزرعوا الفتن فأثمر ..
حسبنا الله ونعم الوكيل

جزاك الله خيرا أخي الكريم على هذه التذكرة وهذا العرض الرائع .



رأيكم فى محله تماما أخى عماد ..
بارك الله فيكم .. وزادكم من فضله ..
سعدت بمروكم الكريم ..
شكرا جزيلا ..