المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نص كتاب الروائي محمد جبريل "للشمس سبعة ألوان"



د. حسين علي محمد
02/12/2009, 06:44 AM
للشمس سبعة ألوان
قراءة فى تجربة أدبية

بقلم: محمد جبريل

الطبعة الأولى
كتاب الجمهورية ـ يونيو 2009م.


....................................


إلى ماهر شفيق فريد




تعرفين كم هو صعب وثقيل على المرء أن يكون كاتباً
ديستويفسكى فى رسالة إلى قريبته إيفانوفا


.................................................. ...

هذا الكتاب حصيلة شهادات ، كتبتُها فى مناسبات مختلفة حول التجربة الإبداعية فى حياتى . كتبت فى فترات متباعدة ، وإن كان محورها نظرتى إلى العملية الإبداعية من خلال الأعمال التى أتيح لى كتابتها ، أو ما يمكن تسميته " تجربتى الأدبية " [ نشرت شهادتى عن " الأسوار " فى كتاب " قراءة فى أدب محمد جبريل الذى نشر عام 1984 ، فهى أول ما كتبت عن تجربتى الأدبية ] . قد تبدو كل شهادة مستقلة فى ذاتها ، وقد يتكرر الرأى الواحد ـ وربما الواقعة الواحدة ـ فى أكثر من شهادة ، لكن مجموع الشهادات يمكن أن يقدم للقارئ صورة كلية لآراء الكاتب فى العملية الإبداعية ، من خلال محاولة الإجابة على العديد من الأسئلة التى تشغل الكاتب ، وتشغل قارئه فى آن معاً
أردت بهذا الكتاب ، أو بهذه المجموعة من المقالات التى تتناول وجهة نظرى فى قضايا الأدب والفن ، أن أفسر بعض الأمور ، مستعيناً فى توضيح ما أقول ، بما صدر لى من أعمال إبداعية ، فضلاً عن إبداعات الآخرين ، والشهادات التى تتوافق مع وجهات نظرى ، أو تختلف معها ، محصّلة لقراءات إيجابية فى الكثير من كتب النقد الأدبى والدراسات الأدبية ، والسير الذاتية للأدباء . لم تشغلنى فلسفة الكاتب ولا اتجاهه الأيديولوجى أو الفنى . ما شغلنى فحسب هو الرأى الذى أوافق عليه ، أو أختلف معه ، فأناقشه . ربما أميل إلى رأى يصدر عن كاتب ماركسى الأيديولوجية ، وأختلف مع رأى يصدر عن كاتب يؤمن باليقين الدينى ، لا لأنى أومن بالماركسية ، أو لأنى كاتب غير متدين ، وإنما لأن الرأى المحدد يخاطب قناعاتى ، بصرف النظر عن السياق الذى اقتطعته منه . هذه الكلمات أقنعتنى ذاتها ، فلا شأن لى بهوية كاتبها ، ولا ببحر الكلمات الذى كانت تسبح فيه ..
قد يلحظ القارئ إطالة فى بعض الفقرات ، واختصاراً فى فقرات أخرى ، أو مجرد الإشارة إلى ما كان يستحق الإفاضة .. لكن ملاحظتى ـ كقارئ ـ أن طول مساحة القضايا التى تثيرها المقالات ، أو قصرها ، أو غيابها أحياناً ، لأنها تكمل بعضها البعض . فوجهة النظر المستفيضة فى مقال ، أكتفى بالإشارة إليها ، أو أهملها ، فى المقالات الأخرى ..
هذه المقالات ، تشكل ـ فى مجموعها ـ وجهات نظر واضحة ، محددة ، من قضايا العملية الإبداعية فى أبعادها المختلفة . ثمة رأى أن المبدع هو ـ فى الأغلب ـ أسوأ من يستطيع الحديث عن إبداعه . لكن هذه المقالات تتسم بالعمومية لا بالتخصيص ، تتحدث عن العملية الإبداعية فى عمومها ، وتشير إلى نماذج للكثير من المبدعين ، وحسبت نفسى واحداً منهم . وإذا كنت قد أفدت من آراء الآخرين لتأكيد آرائى ، أو للتدليل عليها ، فليس معنى ذلك أنى أتحاشى المؤاخذة ، أو أحاول نفى نسبة تلك الآراء لنفسى على أى نحو ، ولا حتى لاقتناعى بتلك الآراء . إنها آراء ووجهات نظر أومن بها ، أدعمها ـ هل هذا هو التعبير الأدق ؟ ـ بآراء ووجهات نظر أخرى لكتاب عرب أو أجانب ، بصرف النظر ـ كما أشرت ـ عن انتماءاتهم الأيديولوجية ، أو التيارات الفنية التى يدعون إليها ، أو يعبرون عنها . ما وجدت فيه مرآة لآرائى ، نقلته باعتباره كذلك ، وما اختلفت معه ، عرضته للمناقشة والتحليل واختلاف الرأى ..
والحق أنى ترددت فى نشر هذه المقالات ، إدراكاً منى بأنه ينقصها ما يمكن إضافته .. لكن الكمال مطلب يصعب على المرء ـ ويصعب على كاتب هذه السطور بخاصة ـ أن يبلغه . من هنا ، جاوزت التردد إلى نشر المقالات ، فهى ـ فى المحصلة النهائية ـ تعبير عن آراء ووجهات نظر فى العملية الإبداعية . ربما أضيف إليها فى مقالات تالية [ وقد أضفت بالفعل أسماء روايات وشخصيات من أعمال تلت كتابة هذه المقالات ، ونشرها فى الدوريات المختلفة ] ، وقد أجرى بالحذف والتبديل ، لكن يقينى بالملامح المهمة فيها لم يتبدل منذ أصبحت الكتابة ـ بالنسبة لى ـ قضية حياة .
أخيراً ، فلعله يجدر بى أن أشير إلى أن أنى تناولت قضايا تتصل بمادة هذا الكتاب فى كتب أخرى : مصر فى قصص كتابها المعاصرين ، نجيب محفوظ ـ صداقة جيلين ، آباء الستينيات ، مصر المكان ، مصر : من يريدها بسوء ، مصر الأسماء والأمثال والتعبيرات ، قراءة فى شخصيات مصرية ، حكايات عن جزيرة فاروس ، وغيرها .
وأملى أن أكون قد وفقت ،

محمد جبريل ـ مصر الجديدة 16/2/2008م.

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 09:51 PM
فهرست
..........

1 ـ مقدمة
2 ـ الأسوار
3 ـ ملاحظات فى فن الرواية
4 ـ ماذا يريد الكاتب ؟
5 ـ دلالات الكتابة
6 ـ كلام عن الحرية
7 ـ المثقف والمجتمع والسلطة
8 ـ التجريب فى القصة الحديثة .. جذوره التراثية
9 ـ الإضافة فى الفن
10 ـ الفن إضمار .. ولكن ..
11 ـ الواقع .. والخيال
12 ـ الواقعية السحرية
13 ـ الحداثة .. وما بعدها
14 ـ القصة تكتب نفسها
15 ـ الفن : هل هو للتسلية ؟
16 ـ دلالة الحكاية بين شهرزاد وزهرة الصباح
17 ـ التراث .. لماذا نستلهم منه قصصنا ؟
18 ـ القــراءة
19 ـ القارئ .. والكاتب
20 ـ الصحافة .. والأدب

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 09:52 PM
الأســــــــــــــوار
.....................

ـ 1 ـ
على الرغم من اختلافى مع أرنولد بنيت فى رأيه ، بأن أساس الرواية الجديدة هو " خلق الشخصيات ، ولا شئ سوى ذلك " ، فلعلى أتفق تماماً على أن خلق الشخصيات دعامة أساسية فى بناء الرواية ، الذى يستند ـ بالضرورة ـ إلى دعامات أخرى ، أقواها ـ أو هذا هو المفروض ـ " الحدوتة " ، وإن تصور بعض الذين اقتحموا عالم الرواية الجديدة ، نقاداً أو أدباء ـ أن الرواية ليست فى حاجة إليها ، وأن ما يستعين به الفنان من أدوات ، يضع الحدوتة فى مرتبة تالية ، أو أنه يمكن الاستغناء عنها إطلاقاً ..
وفى تقديرى ، أن الحدوتة هى " النطفة " التى يتخلق بها العمل الإبداعى . وأذكر أنى حين عرضت ـ للمرة الأولى فى القاهرة ـ مسرحية بيكيت " لعبة النهاية " أن إعجاب النقاد تركز على خلوها من الحدوتة . وكان ذلك ـ فى تقديرهم ـ هو " الجديد فى الرواية الجديدة " . كانت القاهرة تعانى ـ كعادتها ـ غربة حقيقية عن الواقع الثقافى المتجدد فى الحياة الأوروبية . وكانت القلة تسافر وتشاهد وتقرأ ، والكثرة تنتظر ما يفد ـ متأخراً ـ وتقف منه ـ فى كل الأحوال ـ موقف الإعجاب . ولعلنا نذكر ما فعله الكاتب الساخر أحمد رجب ، حين طلب آراء عدد من كبار مثقفينا فى مسرحية من تأليفه على أنها لدورينمات . وتبارى مثقفونا فى إبراز الجوانب المتفوقة فى المسرحية المزعومة . وكتب الحكيم يا طالع الشجرة ومصير صرصار تأكيداً لريادته المتطورة .. وظواهر أخرى كثيرة ..
أقول : حين عرضت لعبة النهاية ، وتركز إعجاب النقاد على خلوها من الحدوتة ، كان لأستاذنا نجيب محفوظ رأى آخر . ونشرت معه حواراً فى جريدة " المساء " ملخصه أن العمل الفنى بلا حكاية ، بلا حدوتة ، يصعب ـ مهما يتسم بالجدة ـ أن يسمى عملاً فنياً ، لأنه ـ حينئذ ـ يفتقد أهم مقوماته ، واستطاع ـ فى الحوار ـ أن يروى الحدوتة ، الدعامة التى استند إليها بناء المسرحية .
الحكاية ـ كما يقول فورستر ـ هى العمود الفقرى . ويقول هيربرت جولد : إن كاتب القصة يجب أن تكون له بالفعل قصة يحكيها ، فلا يقتصر الأمر على مجرد نثر جميل يكتبه . وقيل إن الرواية " فن درامى يقوم على أساس الحدث " . ولعلى أذكر قول تشيكوف : إن الكاتب لا يكتب قصة قصة قصيرة إلا عندما يريد التعبير عن فكرة . حتى ألان روب جرييه يؤكد أن الروائى الحقيقى هو الذى يعرف كيف يقص الحكاية . وفى مقدمة يا طالع الشجرة ـ ذات الشكل السوريالى ـ كتب الحكيم : " المسرحية لا بد أن تحمل معنى . ولا يكفى فيها المعنى الداخل فى ذات تشكيلها . ربما استطاع الشعر ـ خصوصاً السوريالى والدادى ـ أن يحمل معنى وجوده فى ذات صياغته ، ولكن المسرحية ، وكذلك القصة ، لابد أن تقول شيئاً " ..
الحدوتة إذن هى الدعامة الأولى فى بناء أى عمل فنى ، ثم تأتى بقية الدعامات ، وفى مقدمتها محاولة الإفادة من العناصر والمقومات فى وسائل الفنون الأخرى ، كالفلاش باك والتقطيع فى السينما ، والهارمونى فى الموسيقا ، والتبقيع فى الفن التشكيلى ، والحوار فى المسرحية إلخ . وكما يقول هنرى جيمس فإن الفكرة والشكل هما الإبرة والخيط ، ولم أسمع بعد ـ والكلام لهنرى جيمس ـ عن نقابة للخياطين أوصت باستعمال الخيط دون الإبرة .
ولقد كانت الحدوتة ، الحكاية ، الفكرة ، التيمة ، الحدث ـ سمها ما شئت ـ هى الباعث الحقيقى لأن تتحول الأسوار فى ذهنى ـ قبل كتابتها بأعوام ـ إلى أحداث ومواقف وشخصيات . ثم تتخلق فى أشكال هلامية عدة ، قبل أن تأخذ ـ فى طريقها إلى المطبعة ـ سماتها النهائية ..
فماذا كانت " الحدوتة " التى أملت كتابة الأسوار ؟
ـ 2 ـ
إن السؤال الذى ربما يلح على بعض المتصدين للعمل الوطنى ، دفاعاً عن حق الجماهير فى حياة آمنة ، هو : هل يعى هؤلاء الذين بذلت الحياة لنصرة قضاياهم قيمة ما أفعل ؟.. وهو سؤال يحمل السذاجة والانتهازية فى آن معاً ، ذلك لأنه يعامل مصير الجماعة بمنظور شخصى بحت ، ويناقش الأمور بمنطق المكسب والخسارة .
الإنسان صاحب القضية يختلف عن الإنسان العادى فى أنه يبذل كل شئ ، حتى النفس ، من أجل نصرة ما يرى أنه حق ، ومن أجل دفع ما يرى أنه ظلم . بل لعله يعلم يقيناً أن ثمرة الانتصار لن تصل بحال إلى يده ، بل إن مصيره أقرب إلى الموت . مع ذلك ، فإنه لا يتقاعس عن نصرة الاتجاه الذى يؤمن به . وكما تقول نتاليا بطلة تورجنيف الشهيرة : إن الذى يسعى إلى غاية جليلة يجب أن ينقطع عن التفكير فى نفسه . ربما المنطق العادى يحمّل المسيح مسئولية صلبه ، فقد كان أدرى الناس بصورة المأساة المقبلة ، ويحمّل الحسين مسئولية استشهاده ، فهل يقوى سبعون على محاربة سبعين ألفاً ، ويحمّل جيفارا مسئولية اغتياله فى أحراش بوليفيا ، فهو الذى كان يعلم جيداً بتلمس المخابرات الأمريكية لخطواته . لكن الخطأ فى طرح القضية بهذه الصورة ، ذلك لأن " المناضل " يؤمن بعدالة القضية وقداستها حتى على النصر ذاته ، وبالتالى على الهزيمة له ولأتباعه ، والتى قد تصل إلى التصفية الجسدية . كان الأستاذ فى الأسوار يعلم بالمصير الذى ينتظره فى نهاية النفق ، مثلما كان جيفارا يثق أن المخابرات الأمريكية تترصد له حتى تغتاله ، منذ اختار سبيل تصدير الثورة إلى خارج كوبا " مرحباً بالموت مادامت يد ثورية تمتد لتقبض على أسلحتنا من بعدنا " ، ومثلما كان الليندى ينتظر الاغتيال نهاية لإصراره على البقاء وحيداً ، وأعزل ، فى وجه القوات التى اقتحمت قصره ، ومثلما كان الحسين يعلم باستشهاده وهو يقود فرسانه القلائل من الحجاز إلى العراق . وعلى حد تعبير المستشرق الألمانى حاربين ، فإن " حركة الحسين فى خروجه على يزيد ، إنما كانت عزمة قلب كبير ، عز عليه الإذعان ، وعز عليه النصر العاجل ، فخرج بأهله وذويه ذلك الخروج الذى يبلغ به النصر الآجل بعد موته ، ويحيى به قضية مخذولة ليس لها بغير ذلك حياة " . ويروى عن الإمام على قوله : لا تزيدنى كثرة الناس حولى عزة ، ولا تفرقهم عنى وحشة ، وما أكره الموت على الحق . كان الحسين يمتلك اليقين . وكان أعوانه الاثنان والسبعون يمتلكون اليقين نفسه ، بأن المعركة التى اتجهوا إليها صباح العاشر من محرم ، ستنتهى باستشهادهم ، لكن الدافع لم يكن مجرد الرغبة فى الاستشهاد ، فى الموت . كان الدافع هو التعبير عن رفض القهر والظلم ، حتى لو كان المقابل لذلك هو الموت . سقط كل جند الحسين شهداء ، فظل يواصل القتال بمفرده . حمل على جند الكوفة حتى شق صفوفهم بجرأة مذهلة ، ثم سقط بضربة سيف فى العنق . وأمر عبيد الله بن زياد ، فمثل بجسد الحسين ، وترك جثمانه للجوارح . أما الرأس ، فقد دفن ـ فيما بعد ـ فى كربلاء ، وإن ظلت أعداد كبيرة من المصريين تؤمن بأن رأس الإمام الشهيد مدفون فى جامعه بالقاهرة ..
وأغلب ظنى أن مصطفى كامل كان سيتخلى عن مبادراته الوطنية ، لو أنه عانق اليأس الذى فرضه التصور بأن الشعب المصرى يتقاعس عن التحرك وراءه ، نشداناً لحريته . عاب مصطفى كامل ـ فى لحظات سخط ـ على الأمة أنها " لا تسعى للوصول إلى هذا المرام السامى ، وإلى تحقيق أمنيتها . بل تريد أن تأتيها الحرية وهى نائمة ، فتوقظها من نومها " . وهو يقول فى رسالة إلى صديق : " ها أنا ذا أنتظر من يتبعنى ، وأظن الأيام والليالى تمر ، ولا يتبعنى غير الهواء " . ويقول فى رسالة أخرى : " إنى عالم بأنى لا أستطيع الاعتماد على أحد من أبناء جنسى ، وإنى إذا صودرت يوماً بأية طريقة كانت ، لا أجد من أمتى عضداً أو نصيراً ، وهذا ما يحزننى كثيراً . فإنى مع ارتياحى للمهمة التى عرضت نفسى للقيام بها ، والغرض الشريف الذى أعمل له ، أرى غيرى من الذين أحب التشبه بهم ، كفرانكلين وغيره ، كان يعمل ووراءه أمة تعزز مطالبه ، وتدافع عنه ، بعكس ما أنا فيه " . ويقول فى رسالة : " دعنى بالله عليك من هذه الأمة التى بلانى الله بأن أكون واحداً من أبنائها " إلخ [ لا تنشغل بتذكر مقولاته المعلنة مثل قوله إنه لو لم يولد مصرياً ، لتمنى أن يكون مصرياً ! ] . لكن الزعيم أدرك ـ فيما بعد ـ أن انتفاضات الشعب لا تتحقق يخطب تشتعل حماسة ، فالتحرك الجماعى يستند إلى التوعية أولاً ، فالإعداد والتنظيم ، فضلاً عن دعامة الوقت التى تضع لكل خطوة توقيتها وحسابها . والحقيقة التاريخية تضغط على أن صلب المسيح هو الدعامة التى تماسك عليها إيمان أتباعه بخلود رسالته وتواصلها . كذلك فقد كان استشهاد الحسين بداية طريق طويلة من الثورات المتلاحقة ضد السلطة الظالمة ، أياً تكن . وكان مقتل جيفارا دافعاً للمزيد من الحركات الثورية فى أمريكا اللاتينية . ولا يخلو من دلالة قول سلفادور الليندى ـ قبل دقائق من اغتياله ـ بأيدى قوات الانقلابيين ـ " إنى موقن أن تضحيتى لن تذهب هباء ، وأنها ستكون على الأقل درساً معنوياً لعقاب الغدر والخيانة والجبن " . فماذا أقول عن الخديعة التى استلبت أستاذ الأسوار من وسط أتباعه ، لتودى به إلى المصير المؤلم ؟
كان محمد بن إبراهيم الحسينى العلوى يمشى فى بعض طرق الكوفة ، فنظر إلى عجوز تتبع أحمال الطرب ، تلتقط ما يسقط منها ، وتضعه فى كسائها الرث . فلما سألها عما تصنع بذلك ، قالت : إنى امرأة لا رجل لى يقوم بمؤنتى ، ولى بنات لا يعدن على أنفسهن بشىء ، فأنا أتتبع هذا من الطريق ، وأتقوته أنا وولدى . فبكى محمد بطاء شديداً ، وقال : أنت وأشباهك تخرجونى غداً حتى يسفك تماماً . وفجر محمد بن إبراهيم الحسينى العلوى ثورته العظيمة التى استمرت فترة طويلة ، وتعاقب عليها ـ بعد استشهاده ـ العديد من الثوار ، وامتدت إلى العراق والشام والجزيرة واليمن . ومع أن الصوفى لا يعنيه إن كان مجتمعه يعانى عسف حكامه ، أو أوضاعاً اقتصادية سيئة ، ذلك لأن فلسفة التصوف تكمن فى فناء العاشق فى المعشوق ، العبد الفقير الفانى فى الخالق الأعظم الباقى بعد فناء الأرض ومن عليها ، ثم فى الاعتزال التام لحياة البشر ، والانكفاء على الذات والمجهول من الأسرار ، وتفحص المخلوقات نشداناً لروح الخالق .. مع ذلك ، فإن أبا منصور الحلاج رفض أن يغض بصره عن الظلم الرهيب الذى كان يعانيه مجتمعه فى حكم العباسيين ، فنزل إلى الأسواق ، يبصّر الناس ـ بالرمز ـ بحقيقة أوضاعهم ، ويحثهم على أن يدافعوا عن حقوقهم ، ويثوروا على ظلم الحاكم ، فقبض عليه الحاكم ، وشهد ضده أقرب رفاقه ـ الإمام الشبلى ـ فاتهمه بالزندقة ، وحكم عليه بالصلب على جذع شجرة ، تطل على شاطئ الكرخ ببغداد . وبالمثل ، فلم تكن ثورة الحسين طلباً للسلطة بقدر ما كانت محاولة لاستعادة الحق الذى طال احتجابه على يدى يزيد بن معاوية . وكانت الأهداف التى ناضل من أجلها الحسين ، تمثل المصالح العريضة للجماهير الكادحة . وحين خرج على معاوية ، فقد كان موقناً من تأييد هذه الجماهير له ، ومحاربتها إلى جانبه . لكن الظروف الموضوعية لم تكن مواتية لنجاح الثورة . وكان فى مقدمة تلك الظروف غياب الوعى عن الكثرة الغالبة من جماهير المسلمين ، ومن ثم فقد أخفقت الثورة ، وإن ظلت أفكارها فى عقول القلة التى ظلت تتكاثر بما تبدّى فى تلك الثورات المتلاحقة ، والمتكررة ، فى المجتمع الإسلامى . كان مع الحسين ـ فى كربلاء ـ اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً ، استشهدوا جميعاً ، وواجه الحسين بمفرده جيش عبد الله بن زياد . مع ذلك فإن مقاتلى ابن زياد هموا بالفرار ، خوفاً من أن يصابوا على يدى الحسين ، ولما صاح فيهم شمّر بن ذى الجوشن : " ويحكم ماذا تنظرون بالرجل ؟ اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم " ! حملوا على الحسين من كل جانب ، وضربه زرعة بن شريك التميمى على يده اليسرى ، فقطعها ، وضربه آخر على عاتقه ، فسقط على وجهه ، وقام ، وسقط ، والرماح والسيوف توالى طعنه ، حتى مات بثلاث وثلاثين طعنة وأربع وثلاثين ضربة ، غير الرمية بالنبل والسهام . وأقدم شمر بن ذى الجوشن على جسد الشهيد ، فذبحه ، واحتز رأسه . لقد أصبح الحسين ـ بعد مأساة كربلاء ـ " سيد الشهداء ، ورمز الإيمان والفداء ، وموضع الحب والتقديم والإكبار " . كذلك فلم يكن فى مغادرة جيفارا لموقعه المتفوق فى كوبا ، وانشغاله بالقتال ضد السلطة الديكتاتورية فى بوليفيا ، تطلعاً لمنصب ، لكنه حمل السلاح دفاعاً عن حق شعب بوليفيا فى حياة خالية من الظلم . رفض أن يشاهد الإنسان الضحية فى حلبة المصارعة ، ويتمنى نجاته . إن عليه أن ينزل الحلبة ، ويشارك الضحية مصيرها ، إما إلى الانتصار أو الموت . كان جيفارا ينتمى إلى عائلة موسرة . وكانت مهنته كطبيب تتيح له حياة اجتماعية طيبة ، لكنه ارتدى " الكاكى " ، واختار الثورة ضد الرداءة حيث توجد . كان بوسع جيفارا أن يطمئن إلى منصبه كوزير للصناعة ، بعد أن أفلحت الثورة الكوبية فى انتزاع النصر ، لكنه فضل أن يواصل النضال فى موقع آخر . تخلى عن كل مناصبه وسلطاته فى كوبا ، وترك أطفاله فى رعاية الثورة الكوبية ، وانطلق ليواصل الثورة فى إفريقية ، ثم فى أمريكيا اللاتينية ، حتى لقى مصرعه فى بوليفيا . وكتب إلى كاسترو ـ قبل أن يسافر إلى أحراش بوليفيا : " إنى لم أحزن لأنى لم أترك لزوجتى وأولادى أى شئ مادى . على أنى مسرور لهذا ، ولا أطلب لهم أى شئ " . وواجه جيفارا لحظة المفاضلة بين الكرامة ونقيضها عند أسره فى بوليفيا . حاول أحد الضباط أن يسخر منه ، فركله جيفارا بقدمه ، بحيث ألقاه بعيداً . وحاول ضابط آخر كبير ـ هو الجنرال هوجاريتشى ـ أن يدفعه إلى الكلام ، فبصق جيفارا فى وجهه . ودفع الثمن ـ بالطبع ـ فى اللحظة التالية : " هذا الشىء القليل الذى نستطيع تقديمه : حياتنا وتضحياتنا " . والمؤكد أن جيفارا كان واعياً بالمصير الذى تقوده إليه خطواته ، وبأن الاستشهاد هو المصير الذى ينتظره فى نهاية الطريق . ورغم معرفته اليقينية بذلك ، فإنه أصر على السير فى الطريق إلى النهاية [ أذكرك بما قاله الحسين وهو فى طريقه إلى كربلاء ] لكنه تطلع إلى تحرير الجماعة بتحريكها ، فإذا استشهد مقابلاً لما يؤمن به ، فإنه سيعطى المثل لمعنى الإيمان بالقضية ، وبالمثل الأعلى ، وللمترددين والمتخاذلين ، بما يتيح الصحو لشعوب طال نومها .
(يتبع)

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 09:53 PM
لم يكن فى دعوة الأستاذ [ الأسوار ] شبهة غرض شخصى . تحمّل الاشتغال والتعذيب ، وأسلم نفسه إلى الموت دفاعاً عن هؤلاء الذين أحبهم أكثر من نفسه . أما الحسين ، فقد خذله الشيعة الذين استغاثوا به ، وتركوه للمصير المؤلم تحت سنابك خيل الأمويين ، وانطلقت الرصاصة التى قتلت جيفارا من مسدس ضابط بوليفى صغير ، بذل المناضل الأرجنتينى حياته دفاعاً عن حقه فى الحياة . وكان نزلاء المعتقل ـ حلمى عزت بالذات ، ذلك الذى حماه الأستاذ من أذى الآخرين ـ هم الذين دبروا القرعة الظالمة ، ليدفعوا بالأستاذ إلى الشهادة دفاعاً عن الجميع . أسر بكر رضوان [ الأسوار ] إلى نفسه ـ غداة إحدى مرات الإفراج عنه ـ " هؤلاء الناس ـ أبناء الأنفوشى ـ هم محبوبه الذى ضيّع العمر إشفاقاً عليه . فهل كان الحب من طرف واحد ؟ هل تعنى المحبوب اللحظة ، مقطوعة الصلة بما مضى ، وما سيأتى ؟ وهل تعذب القلب لقلوب تجد الراحة فى العذاب ؟.. هذه الكلمات ـ وبكر رضوان يرى أهله وناسه منصرفين عن واقعهم الأليم ، كأنما لم يدفع أعواماً من حياته فى سبيلهم ـ تذكرنا بكلمات الحسين بن على فى حشد الجيش الأموى ، يوم العاشر من المحرم : " تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً . حين استصرختمونا والهين ، فأصرخناكم مرجفين . سللتم علينا سيفاً فى إيمانكم ، وحششتم علينا ناراً أوقدناها على عدونا وعدوكم ، فأصبحتم ألباً على أوليائكم ، وبدا عليهم لأعدائكم ، بغير عدل أفنوه فيكم ، ولا أمل اصبح لكم فيهم ، إلا الحرام من الدنيا أنالوكم ، وخسيس عيش نعمتم فيه " . وكان ما أسره بكر رضوان ، أو ما أعلنه الحسين ، هو الهاجس الذى لابد أنهم خاطبوا به أنفسهم ، أو أعلنوه للجماعة ، هؤلاء الذين بذلوا النفس دفاعاً عما هو حق وصدق وعدالة [ فى زماننا الردئ ، فإن شخصية بكر رضوان تذكرنى بقادة اليسار المصرى الذين أمضوا أجمل سنى حياتهم فى معتقلات عبد الناصر . هتفوا بحياته ، وبشعارات المرحلة ، وهم يلقون أبشع ممارسات التعذيب ، حتى الموت . ظلوا يهتفون لعبد الناصر والثورة والاشتراكية ، وسط الضربات المتلاحقة التى لم تهدأ إلا بعد أن هدأت أنفاسهم ، وماتوا . جاوزوا آلامهم الشخصية ، وجعلوا الوطن قضية ، لا يعدلون بها قضية أخرى . كان عبد الناصر على صواب فيما يدعو إليه ، ويطبقه بالفعل ، فتناسوا العذاب الذى لاقوه بأيدى أعوانه ، وأعلنوا ولاءهم للبسطاء ، وللثورة ، وللغد الذى يعلو فوق العذابات الشخصية !. لو أنهم نظروا إلى المصالح العامة من منظور مصالحهم الشخصية ، مثلما فعل الرأسماليون والإقطاعيون الذين أضيروا بقوانين الثورة ، فلعلهم كانوا الآن هم الأعلى صوتاً ضد عبد الناصر ومعطيات عهده ] . لكن البذل لم يهدر ، والصيحة المخلصة لم تواجه التلاشى فى وادى الصمت . كان الشعور بالإثم هو الدافع لأن يقتل يهوذا نفسه بعد أن أسلم المسيح إلى قاتليه . وهو الدافع أيضاً لأن يزداد أتباع المسيح تمسكاً بتعاليمه . وكان الشعور ذاته هو الذى جعل جيفارا قدوة ومثلاً بين حركات التحرر فى دول العالم الثالث ، وارتسمت حول المناضل الشهيد هالة القداسة والأسطورة . وكان أيضاً هو الشعور الذى ارتقى بالحسينية إلى مرتبة العقيدة . ففى مقدمة النتائج الإيجابية لفاجعة كربلاء ، ولعلها أخطر نتائجها ، أنها دخلت الضمير الإسلامى آنذاك ، وهزته هزاً عنيفاً . حركت فى النفوس ما كان خامداً ، وما ران عليها من استكانة إلى الواقع الذى فرضه الأمويون . تمازج الإعجاب بالوقفة الأسطورية لسبعين مقاتلاً ضد سبعين ألفاً ، بالحرص على الشهادة رغم يسر النجاة ، بإلقاء السؤال الأهم : ماذا بعد ؟ ، بحساب الذات عن التقاعس والتواكل ، بإعادة النظر إلى ما سبق ، وما يجرى حالاً ، والتفكير فى ضرورة التغيير . ولعله يمكن القول إن فاجعة كربلاء ـ رغم بشاعتها ـ كانت ثورة كاملة . أحدثت التأثير الذى تحدثه الثورات فى تحريك النفوس ، وإلحاجها على التغيير ، حتى يتحقق المجتمع الأفضل . تعددت ثورات التوابين ، همها تفريغ ما استشعره الحسينيون من الندم والحقد ، فى حركات ثورة متتالية ضد الحكم الأموى . ثم فيما تلا ذلك من السلطة المستبدة ، أيا تكن صورتها ومظاهرها . وربما كان ذلك هو الشعور نفسه الذى تحرك فى نفوس الزملاء القريبين ، بل كل نزلاء المعتقل ، بعد أن بذل الأستاذ نفسه فى سماحة ، دفاعاً عن حقهم فى الحرية ، وفى الحياة . لم تدفعه الخيانة الواضحة إلى رفض القرعة ، لكنه أسلم النفس إلى جلاديه فى قناعة المؤمن بأن شهادة الفرد قد تكون فداء للجماعة ، وخلاصاً لها . وكما يقول برتراند راسل فإننا حين نعرف النهاية نغدو أقوياء ..
أخيراً ، فإنى أتفق مع جون مورلى فى أن " الأفراد الذين يرون الضوء ـ وهم بطبيعة الحال الأفراد المثقفون ـ إذا أحجموا عن احتمال ما عليهم من تبعة ، فإنهم يضاعفون العلل الأخلاقية فى المجتمع . وهم لا يحرمون المجتمع من مزايا التغيير فحسب ، بل من يرون شعوره بالحاجة إلى التغيير ضعفاً ، وإيقاظ الإحساس الأخلاقى فى المجتمع من العوامل الهامة فى تقدمه [ المثقف الذى أعنيه ، هو الذى يملك استعداداً للتضحية بصالحه الشخصى من أجل صالح الجماعة ، لا يكتفى بترديد الشعارات عن الديمقراطية وإنكار الذات ، وإنما يحرص على تطبيق تلك الشعارات بالفعل ] . ولعل السبب المباشر فى انحطاط كثير من المجتمعات ، يرجع إلى ما يطرأ على الضمائر من الفساد وضعف الإحساس الأخلاقى . ولم يصب الضعف والتخلف الإغريق لنقص علمهم بالمذاهب الأخلاقية ، وإنما أصابهم من جراء تناقص عدد الذين يقدرون واجباتهم الأخلاقية ، وما عليهم من تبعات هامة . ويعلل انتصار المسلمين على المسيحيين فى الشرق وفى أسبانيا ، بأنه راجع إلى احترامهم للواجب ، وما كان يثيره فى نفوسهم من حماسة ".
ـ 3 ـ
فى بداية الستينيات ، كنت أنشد البحث عن موضع فى حياتنا الثقافية من خلال العمل بالصحافة . عملت ـ حيناً ـ فى " الجمهورية " مع سعد الدين وهبة فى صفحة عنوانها " صباح الخير " . ولأن الصفحة كانت تعنى بالمادة الترفيهية والاجتماعية : زواج وطلاق وأعياد ميلاد وحفلات تكريم وغيرها ، ولأنى كنت أعانى قلة المصادر ـ الأدق : انعدامها ـ فضلاً عن شحوب استعدادى .. فقد بدا لى الفشل حقيقة فى الأسبوع الأول ، وإن كابرت ، وتعمدت تجاهله ، حتى الشهر الثالث . والحق أن سعد الدين وهبة كان كريماً فى تعامله معى . لم يكن فيما أسهمت به شئ يتصل بلون الصفحة ، إنما هى خواطر فى الأدب والفن . حاولت أن أقفز على مبنى الجمهورية بالمظلة دون الصعود على الدرجات المتآكلة . مع ذلك ، فإن الرجل لم يرفض شيئاً مما قدمته له . وكان يقرؤه بعناية ، ثم يسلمه ـ فى رقة ـ إلى سلة المهملات . فلما انتهى الشهر الثالث دون أن تجد خواطرى سبيلها إلى النشر ، صارحت أحمد عباس صالح ـ وأدين له بفضل مساندة خطواتى الأولى ـ بيأسى ، فأشار على بمعاودة محاولة لقاء الدكتور على الراعى ، المشرف على الصفحة الثقافية فى " المساء " آنذاك . كان الراعى غائباً ، والتقيت بكمال الجويلى ، فعرض على أن أشارك فى الباب الذى كان يحرره ، وعنوانه " كل الناس " . وبرغم أن الباب كان أقرب فى اتجاهه إلى صفحة سعد الدين وهبة ، ولعله كان أقل احتمالاً لنشر خواطرى من صفحة صباح الخير ، فإن صداقة الجويلى الطيبة ، وتسامحه ، وأبوته ، صنعت جسراً إلى العمل الصحفى ، وإلى الحياة الثقافية بالتالى ..
ويوماً ، طلب الجويلى أن أجرى حواراً مع شاب ارتكب ثلاثاً وعشرين حادثة سرقة سيارة ، قبل أن يكتشف أمره فى الحادثة الرابعة والعشرين . وروى لى الشاب عن ظروفه الاجتماعية ، وعن أجواء المعتقل الذى قضى فيه أعواماً ـ جعله تعدد السوابق من المجرمين الخطرين ـ حتى تم الإفراج عنه فى ظروف بالغة القسوة والغرابة : ألح نزلاء المعتقل فى طلب الإفراج . أرسلوا برقيات إلى المسئولين . أضربوا عن الطعام . تظاهروا . تشاجروا ـ إلى حد الاقتتال ـ مع حراس المعتقل . ثم لجأوا إلى وسيلة بشعة لتأكيد مطلبهم فى الإفراج . أجروا قرعة فى أسماء النزلاء ، واختير عشرة أسماء تعرض أصحابها للموت حرقاً ـ علانية ـ فى ساحة المعتقل . وكانت تلك الوسيلة القاسية هى الباعث لاهتمام المسئولين ، ودراسة حالاتهم ، والإفراج عن غالبيتهم . ونشرت الحوار ، ثم نسيته تماماً . حتى عادت ـ بتفكيرى فى كتابة الأسوار ـ صورة الشاب ، والحياة فى المعتقل ، والقرعة التى أحرقت عشرة أشخاص .. كانت تلك الصورة هى الإطار السردى للأسوار ، وإن داخلها ـ بالطبع ـ تصرف أملته طبيعة الرواية ، وتباين الظروف ، والتكنيك ، والدلالة . ذاب النزلاء العشرة فى شخصية الأستاذ . تعرض للمصير المؤلم بمفرده ، وعاش فى معتقل الرواية سياسيون ومجرمون عاديون . وتمت القرعة ـ عكس الحادثة الواقعية ـ بالخيانة . باختصار ، فقد كانت فكرة القرعة هى ما أفادته الأسوار من الحادثة القديمة .
(يتبع)

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 09:54 PM
ـ 4 ـ
قد يبدو رأى لابروبير " كل شئ قد قيل ، وقد أتينا بعد فوات الأوان " .. قد يبدو هذا الرأى بليغاً ، لكنه ـ فى تقديرى ـ يكتفى برؤية نصف الكوب الفارغ . الإحساس باللاجدوى يصعب ـ إن لم يكن من المستحيل ـ أن يثمر شيئاً إيجابياً . لكن لابروبير أضاف ، وأضاف أيضاً أبناء جيله من المبدعين ، وأضافت كذلك أجيال أخرى تالية ، وستتحقق إضافات أخرى كثيرة فى أجيال تالية ، مما يضع مقولة لابروبير فى إطار العبارة البليغة دون أن يجاوزها إلى ما هو أبعد من ذلك . لذلك فإنى من غلاة الرافضين للتعميمات فى إطلاق الأحكام ، وبالذات فيما يتصل بنهاية نوع أدبى . فقرار الحياة أو الموت لا يملكهما ناقد ، لأن ذلك القرار ، الذى ربما أصدره الناقد وهو يتأمل السماء فى ليلة قمرية ، لن يحول دون إقدام مبدع موهوب على الكتابة ـ فى الوقت نفسه الذى أصدر فيه الناقد قراره ـ فى عمل ينتسب للنوع الأدبى الذى قرر الناقد موته . لقد أعلن ت . س . إليوت ـ قبل عشرات الأعوام ـ أن الرواية ماتت ، فأعلنت الرواية عن تواصل حياتها فى أعمال محفوظ وكامى وهمنجواى ومنيف وكازنتزاكس وجويس وماركيث وغيرهم . وكما يقول هارولد نيكولسون ، فقد " بدلت الرواية تقنيتها مراراً ، لكنها كانت تصل إلى القارئ فى كل الأحوال " . كذلك فقد أعلن إدموند ولسن ـ فى الثلاثينيات ـ أن الشعر ـ بصورته التى نعرفها ـ فى طريقه إلى الزوال ، وأن الشعراء سيتجهون ـ بالضرورة ـ إلى أشكال أخرى غير الشعر .. لكن الشعراء أهملوا ذلك الإعلان الغريب ، وقدموا معطيات متميزة . ولعلى أذكر أكثر من صيحة لناقد ، ترددت فى حياتنا الأدبية ، تنعى وفاة هذا اللون الأدبى أو ذاك . ثمة من نعى الشعر ، وآخر نعى الرواية ، وثالث نعى القصة القصيرة . أهمل المبدعون ذلك كله ، وتلقفت المطابع ـ والأدراج ! ـ أعمالاً تحفل بالتميز والجدة والإضافة ، وتؤكد انتظام أنفاس الرواية . ظلت الرواية فى موضعها المتفوق بين الفنون الأخرى ، والفضل ـ فى الدرجة الأولى ـ لتلك المحاولات المتفردة ، والمتميزة ، من فنانين متفردين ، ومتميزين ، مما قد يرين عليه من استاتيكية . الثبات والتغير هما الرئتان اللتان يتنفس بهما كل شئ حياته ، ويجد تواصله واستمراره . فإذا أبقى على الثبات دون التغير ، حكم على نفسه بالجمود ، فالموت . وإذا حرص على التغير دون مراعاة للثبات ، تشوهت ملامحه ، وفقد التواصل . من هنا ، فإن القول بنظرية للرواية هو القول بضرورة أن يكون لها خطوطها العريضة ، وسماتها العامة ، فضلاً عن نجاح كل عمل روائى يريد له صاحبه التميز ، فى أن يحقق تميزه بالإفادة من خيال الفن ووعيه وحريته فى مغادرة الأطر والتقاليد ـ فنية أو اجتماعية ـ مهما تكن ثابتة . وكانت الرواية العربية ـ على سبيل المثال ـ قبل أن يبذر نجيب محفوظ محاولاته ـ أقرب إلى ما كانت تعانيه الرواية الأوروبية فى القرن التاسع عشر ، من شوائب الوعظ والترفيه ، حتى حققت تفوقاً على يدى هنرى جيمس وجوزيف كونراد اللذين خلصا فن الرواية من معظم ما كان يعانيه من شوائب ، وأضاف إليه أبعاداً جديدة باستخدام جميع الإمكانيات التى تجعل من الرواية فناً حقيقياً .
ليس المقصود بتحديد الجنس الأدبى أن نقيم الحواجز ، ونفصل تماماً بين الأجناس الأدبية . إن بين سائر الفنون نوعاً من التكامل فى التعبير عن الذات الإنسانية . كانت وحدة الفنون قائمة فى العصور اليونانية الأولى . ثم بدأت تلك الوحدة تذوى ، وتتلاشى بالتدريج ، نتيجة للنمو المتزايد الذى فرضه التباين الاقتصادى والاجتماعى فى المجتمعات بعد العصور الأولى . وهو ما أدى إلى ظهور التخصص فى الأنشطة الاقتصادية والإنتاجية والاجتماعية . فلما صار تقسيم العمل أمراً جوهرياً بالنسبة لإنتاج السلع ، كان لذلك تأثيره المباشر فى تحويل الأدب إلى وظيفة وعمل متخصص ، تقوم به جماعة خاصة ، منفصلة عن بقية الجماعات الأخرى ( فتحى أبو العينين : نصوص مختارة فى علم اجتماع الأدب ص 116 ) . الصورة المتغيرة الآن فى الروافد التى تأتى من النبع الواحد ، وتتجه إلى المصب الواحد ، روافد متشابكة تشمل الشعر والرواية والموسيقا والتشكيل والمسرح والسينما والتاريخ والموروث الشعبى وعلم الاجتماع وعلم النفس . وكما يقول الشاعر الإنجليزى صمويل بيكر ، فإن فنون الموسيقا والتصوير والكتابة هى شئ واحد . إن محصلة كل فن تأتى بتفاعله مع فنون أخرى ، تفاعل بين الوسائط والأدوات والأساليب الذاتية ، وإن كان من المهم أن نشير إلى أن عناصر علم النفس والتاريخ والاجتماع إلى غير ذلك ، والتى يحتويها العمل فى أحيان كثيرة ، لا تهمنا فى حد ذاتها ، لكن ما يهمنا ـ والكلام لألكسندر سكافتيموف ـ هو الدفعة التى تحققها داخل وحدة الكل . وحدة الفنون تعنى كسر التخوم بين السرد الروائى وفنون الشعر والمسرح والسينما والموسيقا والفن التشكيلى وغيرها ، بالإضافة إلى علوم مثل علم التاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس إلخ . إسقاط الحواجز المفتعلة بين الفنون المختلفة ـ والعلوم المختلفة أيضاً ـ خطوة مهمة لتطوير فنوننا بعامة ، سواء أكانت فنوناً سمعية أو بصرية . وكما يقول شاعر افريقيا العظيم ليوبولد سنجور فلا يمكن " تصور الموسيقا بدون حركة أو بدون رقص . وهذا ما نستطيع تسميته بالموسيقا التشكيلية . كما أن الرقص لا يمكن أن يعيش بدون رسم أو نحت . والحقيقة أن الرقص ـ على الأقل فى فترة الحماس الدينى فى العصور الغابرة ـ كان يعتبر دراما غيبية أو تمثيلية عن المعجزات ، ومهمة الراقص هى تجسيد الأسلاف أو الأرواح الطوطمية ، وبعثها حية من خلال الزى الذى يرتديه ، والأقنعة والشعر والموسيقا والرقص . وإلى حين ، لم يعد الرسم مقدساً ، فقد احتفظ بالكثير من أصوله " ..
لاحظ كلمات : الموسيقا ، التشكيل ، الرسم ، النحت ، الدراما ، الشعر . وبوسعنا أن نضيف إليها الرواية والسينما ليكتمل معنى وحدة الفنون . نحن نتحدث عن اللون فى الموسيقا ، والإيقاع فى الرسم ، والنغمة فى الشعر إلخ ، ذلك لأنه ليست هناك ـ كما يقول ميخائيل كيسيلوف ـ حدود فاصلة بين الفنون . فالموسيقا توحد الشعر والرسم ولها معمارها . ويمكن للرسم أيضاً أن يكون له النوع نفسه من المعمار كالموسيقا ، ويعبر عن الأصوات بواسطة الألوان . لابد أن تكون الكلمات فى الشعر موسيقا ، ويجب أن يولد ارتباط الكلمات والأفكار صوراً جديدة . ويذهب جبران إلى أن " الموسيقا كالشعر والتصوير ، تمثل حالات الإنسان المختلفة ، وترسم أشباح أطوار القلب ، وتوضح أخيلة النفس ، وتصوغ ما يجول فى الخاطر " ( المؤلفات الكاملة لجبران ـ 40 )
تعددت الأحكام فى تاريخ الفن . قيل إن عصر الشعر انتهى ، وعصر المسرح انتهى ، وعصر الرواية انتهى ، وعصر القصة القصيرة انتهى .. لكن كل الأجناس بقيت ، وتداخلت . ولعل أهم عوامل المفارقة بين الأجناس الأدبية المختلفة ، ان كل جنس لابد أن يقيم عالمه الخاص به . قد يفيد من جنس أو آخر ، لكنه يقدم فى النهاية جنسه الخاص ، صورته المتميزة .
يقول رولان بارت : إن الحكاية كامنة فى الأسطورة والخرافة والقصة والرواية والملحمة والتاريخ والمأساة والملهاة والمشهد الصامت واللوحة المرسومة والزجاج الملون والأحداث المختلفة والحوار بين الأفراد . وهى موجودة تحت أشكال تكاد أن تكون غير متناهية فى كل الأزمنة والأمكنة ، فى كل المجتمعات " ( ت أحمد درويش ) .
الحكاية ، الحدوتة هى الدعامة الأولى فى بناء أى عمل روائى ، ثم تأتى بقية الدعامات ، وهى بالنسبة للتقنية عندى الإفادة من العناصر والمقومات فى وسائل الفنون الأخرى ، كالفلاش باك فى السينما ، والتقطيع فى السينما أيضاً ، والتبقيع فى الفن التشكيلى ، والهارمونى فى الموسيقا ، ودرامية الحوار فى المسرحية إلخ .. أومن بقول بريخت : " يجدر بالكاتب ـ لكى يسيطر على القوة الدينامية للواقع ـ أن يفيد من كل الوسائل الشكلية المتاحة ، بصرف النظر عن جدتها أو قدمها " . وأتصور أن ذلك يتبدى ـبدرجة وبأخرى ـ فى كل رواياتى بدءاً بالأسوار وانتهاء برباعية بحرى ، مروراً بالصهبة و قاضى البهار ينزل البحر ومن أوراق أبى الطيب المتنبى والنظر إلى أسفل وقلعة الجبل وغيرها ..
نحن نجد فى الرواية رداً على كل ما طرح من أسئلة وهى تقدم ردها بصورة أعمق وأشد وضوحاً من الفنون الأخرى كالشعر والموسيقا والرسم وغيرها . إنها ـ كما يصفها بعض النقاد الأوروبيين ـ فن المشكلات ، بوسعها ـ وحدها ـ أن تعالج كل الأبعاد للمشكلة الواحدة .
الرواية تجسيد للحياة على نحو أعمق ، بينما وسائل التعبير الأخرى قد تعنى ببعد واحد . فثمة اللون فى الرسم ، والحركات التى تستهدف توترات صاخبة الموسيقا ، والمزاوجة بين اللغة وفهم الحياة الإنسانية
ناتالى ساروت تجد فى الرواية الجديدة ضرورة ، لأن الأرض الخصبة ـ والتعبير لساروت ـ إذا طال استغلالها ، تتحول إلى أرض عقيم . ومن الواضح أن التجديد المستمر شئ لابد منه لحياة الرواية ، بل لحياة أى فن "
(Les Nouvelles Litteraires 9, 6 ,1966 )
وفى تقديرى أن إفادة الرواية من الفنون الأخرى كالموسيقا والتشكيل والشعر وغيرها ، يعنى إفادتها ـ بلغة ساروت ـ من مخصّبات تضيف إلى الأرض المنهكة تجدد حياة . [ هنرى جيمس ينادى بوحدة الفنون من زاوية أخرى : إن بعض الفنون ـ مثل التصوير والموسيقا والعمارة ـ إذا استعان بها الروائى فى روايته ، فإنها ستساعد فى التخلص من اقتحام ذاتية المؤلف لروايته ] . الرواية الحديثة تفيد من الموسيقا : التركيب الموسيقى للسيمفونية ـ مثلاً ـ أو التركيب الموسيقى للسوناتا ، كما تفيد من فهم الفنان التشكيلى للشكل ، ومن فن المونتاج فى السينما . ويلح د . س بلاند فى أن نتعامل مع الكلمات فى الرواية ، كما نتعامل معها فى الشعر والدراما . أما همنجواى فإنه يشير إلى أن ما يتعلمه الكاتب من الملحنين ، ومن دراسة الهارمونى والكونتربونيت يبدو واضحاً فى أعماله ، كما لا يتطلب تفسيراً
على الروائى أن يثرى إبداعه بإسهامات الفنون الأخرى ، بما تملكه الفنون الأخرى من خصائص جمالية وتقنية ، فيتحقق للنص الأدبى أبعاد جديدة ـ أشارت إليها ناتالى ساروت ـ وتتحقق كذلك أبعاد جديدة للفنون الأخرى ..
وعلى سبيل المثال ، فإن الروائى ينبغى أن يكون ذا حس عال بالشعر ، بالقصيدة الشعرية ، فثمة حس للكلمة ، وحس للصورة ، وهما حسّان شاعريان . اللفظة مهمة فى الرواية ، والصورة أيضاً بالقدر نفسه لأهميتها فى القصيدة الشعرية . " الرواية الحديثة تحتوى إطاراَ شعرياً ، بل انها بدون الشعر لا يمكن أن تحيا ، ولا أن تبشّر بآفاق أخرى للمعرفة غير المنظورة " . إن المزاوجة بين التوتر الشعرى والفن السردى إضافة مطلوبة فى فن الرواية . ولعلنا نذكر اعتراف ميشيل بوتور بأنه لم يكتب قصيدة واحدة منذ كتب روايته الأولى ، فقد أحس أن الرواية ـ فى أكمل أشكالها ـ قادرة على تلقّى ميراث الشعر القديم . وكما يقول جبرا ابراهيم جبرا فإننا " لن ندرك حقيقة الطاقة الفاعلة فى الفن الروائى النثرى مالم نرجع بأصوله إلى محركاته الشعرية الأولى " .
أما اقتراب الرواية من الشعر ، واقتراب الشعر منها فى زماننا الحالى ، فلعلنا نجد تدليلاً له فى قول والتر بيتر : " يطمح الجميع لبلوغ الحالة الشعرية " . إن كل الفنون تطمح إلى الحالة الموسيقية ، وهى تفعل ذلك بواسطة الشحنة الشعرية الكامنة فيها ، والتى تحمل فى تضاعيفها الكثير من سر الموسيقا . فإذا عزلت الشعر عن تلك الفنون سقطت حالاً ، وأضحت شيئاً غير الإبداع . مهمة الروائى المبدع هى أن يحول الحياة بزخمها وتوتراتها إلى ما يشبه القصيدة ، كمن يستخلص الذهب من المعادن الأخرى ، فيتحقق للكتابة الإبداعية تألقها وتفوقها قياساً إلى بقية الكتابات . أذكر قول جبرا إبراهيم جبرا : " فالشعر سمة الأصالة فى كل فن بمعنى الكلمة . وإذا كانت الفنون كلها تطمح إلى الحالة الموسيقية ـ كما قال ولتر باتر ـ فهى إنما تفعل ذلك عن طريق الشحنة الشعرية الكامنة فيها ، والتى تحمل فى تضاعيفها الكثير من سر الموسيقا . اعزل الشعر عنها ، تسقطها جميعاً ، وتصبح شاهداً غيرالإبداع . ولعل واجب الروائى المبدع فى النهاية ، هو أن يكون قد حوّل الحياة ، بزخمها وبؤسها وروعتها ، إلى ما يشبه القصيدة ، فيكون بذلك قد استخلص الذهب من المعادن الأخرى ، وبهذا يحقق الروائى المبدع امتيازه على غير المبدع ، رغم أن الإثنين قد يعرفان الأفراح والمآسى نفسها ، ويتحدثان عن الأفراح والمآسى نفسها ، التى هى إطار الحياة اليومى لكل إنسان " .
(يتبع)

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 09:55 PM
لقد بدأ بلزاك حياته الأدبية شاعراً ، ثم انتقل إلى كتابة الرواية . الأمر نفسه بالنسبة لهمنجواى وفوكنر وعشرات غيرهم . وظل فيكتور هوجو ـ إلى نهاية حياته ـ يزاوج بين الشعر والرواية .. وكان وليم بليك شاعراً ورساماً . وكان اليوت شاعراً وناقداً . ويذهب بول فاليرى إلى أن كل كتابة أدبية هى كتابة شعرية ..
أذكر أنى حاولت الشعر فى البداية ، وتأثرت بشعراء أبوللو . فلما أدركت أن القصيدة يصعب أن تكون لغتى التعبيرية ، تبدّت لغة الشعر فى أعمالى الروائية والقصصية ، وهو الأمر الذى يعد ملاحظة أساسية فى التناول النقدى لأعمالى . تهمنى اللغة فيما أكتب . الكلمة المناسبة فى موضعها ، الكلمة الفلوبيرية ـ على حد تعبير بورخيس ـ التى تحسن التعبير عن الفوضى الدنيوية الغامضة ، أو عن الرؤيا اللحظية الكاشفة . لا تهمنى الألفاظ الضخمة أو المهجورة أو القديمة ، ولكن تشغلنى موسيقا الحرف والكلمة والجملة ، أحذف وأضيف وأعدّل بما يحقق الاتساق والهمس الشعرى والإيحاء ذى الدلالة . . وثمة بعض النقاد يطالب القارئ أن يتمرس على تذوق الشعر حتى يمكنه قراءة الرواية الأقرب إلى صورة ذات تركيب شعرى ..
أوافق أدونيس ـ واختلافاتى معه كثيرة ـ فى أنه يمكن للقصيدة أن تفيد من الرواية كثيراً ، والرواية تفيد من الشعر كثيراً ، وبهذا المعنى تتداخل الأنواع ، لكن تظل الرواية رواية ، والقصيدة قصيدة " ( الأربعاء الأسبوعى 21/10/1987 ) . ذلك لأن الموضوع الذى يصلح فى الرواية ، قد لا يصلح ـ أو أنه لا يصلح ـ فى القصة القصيرة ، والعكس صحيح . وإلاّ فلا معنى لاختيار الفنان هذا الجنس الأدبى أو ذاك .
يقول هوجو لايختنتربت : " الحضارة فى أى عصر من العصور تعتمد على الحياة الاجتماعية والتاريخ السياسى والأحوال الجغرافية ، إلى جانب اعتمادها على لغة البلد ، ومن ثم فهناك صلة ضرورية بين الموسيقا وبين هذه الموضوعات كافة ، وفضلاً عن ذلك فإن الموسيقا تستند إلى أساس علمى يتضمن الطبيعة والرياضة . كما أن بينها وبين كل من الأدب وسائر الفنون روابط وثيقة إلى حد ما . ولقد تأثرت الموسيقا بالشعر وفن العمارة والنحت والتصوير والرقص والتمثيل والفنون الآلية ، إلى جانب تأثيرها فى هذه الفنون بدورها " ( ت . أحمد حمدى محمود ) . وكما يقول نيتشة فإن العمارة موسيقا تجمدت .
ثمة علاقة منطقية بين الشعر والموسيقا ترتكز إلى العوامل التى تجمع بين هذين الفنين . والقول بموسيقا الشعر يعنى أهمية الموسيقا بالنسبة للشعر . إن الشعر لا يصبح شعراً بدون موسيقا . ويرى جاتشيف أن الموسيقا هى أقرب الفنون إلى الأدب ، وإن تباينا فى طريقة التعبير عن الإيقاع العام للوجود ، وللعالم الداخلى للإنسان ( ت نوفل نيوف ) . أما السينما ، فإن لنا أن نتصور فيلما خالياً من الموسيقا . الموسيقا ـ كما نعرف ـ بعد مهم فى الفيلم السينمائى ، وهى كذلك بعد مهم فى المسرحية ، وكلاهما يضم القصة والديكور والأزياء والشعر ، وبالذات المسرحية الشعرية ..
ويرى البعض فى القصة اقتراباً من الشعر الغنائى . يؤكده ـ كما يقول أوكونور ـ الوعى الحاد بالتفرد الإنسانى . أما الموسيقا والرواية ، فإنهما ـ كما يقول ميشيل بوتور : " فنان يوضح أحدهما الآخر . ولابد لنا فى نقد الواحد منهما من الاستعانة بألفاظ تختص الثانى ، وما كان حتى الآن بدائياً ، عليه ـ بكل بساطة ـ أن يصبح قياسياً . وهكذا يجدر بالموسيقيين أن يكبّوا على مطالعة الروايات . كما يجدر بالروائيين أن يكونوا مطلعين على بعض المفاهيم الموسيقية " (ت فريد أنطونيوس ) . ويذهب الفيلسوف الألمانى ليسنج إلى أن الرواية والموسيقا تشتركان فى الطبيعة الزمنية التى تميزهما على بقية الفنون ذات الامتداد الفضائى . الرواية هى فن الزمن ، والموسيقا كذلك ( عبد الملك مرتاض : فى نظرية الرواية ص 199 )
لا يخلو من دلالة قول بابلو بيكاسو : " إذا أردت تعلم التكوين فى الرسم ، فإن عليك بدراسة مسرح مايرهولد ، لا يستوقفنى الفنان الذى تدرس مسرحياته ، بقدر ما يبدو مطلوباً تفاعل الفن التشكيلى والمسرح . يغيظنى ذلك الذى يحاول التجريب فى القصة القصيرة ـ مثلاً ـ ويرفضه فى الفن التشكيلى . يكتب أعمالاً يؤطرها النقد فى السوريالية ، بينما يعجز عن قراءة إبداعات تشكيلية مماثلة . الفن التشكيلى يلتحم بالفنون الأخرى ، من خلال التكوين والإطار والأبعاد والأضواء والظلال . واتساقاً مع قول سرفانتس : الرسام والأديب هما سواء ، فإن أرنولد بينيت يذهب إلى أن " التشابه بين فن الرسام وفن الروائى تشابه تام ، فمصدر الوحى فيهما واحد ، وعملية الإبداع فى كل منهما هى نفس العملية ـ مع اختلاف الوسائل ـ ونجاحهما أيضاً واحد ، وبوسعهما أن يتعلما كل من الآخر ، وبوسعهما أن يشرحا ويساندا كل الآخر ، فقضيتهما واحدة ، ومجد الواحد هو مجد الآخر " ( نظرية الرواية ـ 72 ) . أذكرك برواية " ممر ميلانو لميشيل بوتور التى تشبه فى تكوينها لوحات بول كيلى المسماة " تكوين " ، فهى تعرض للحياة فى احدى عمارات باريس أثناء فترة محددة ومحدودة من الزمن . ثمة علاقات متشابكة بين كل شقة والأخرى فى العمارة بقطع صغيرة ، تتحرك على لوحة شطرنج .
لقد نشأت الرواية من الدراما ، ومن ثم فهى تشتمل على بعض المكونات المسرحية . وتؤكد آراء نقدية عمق الصلة بين القصة القصيرة والمسرحية . لقد تنبأت الرواية ـ والقول لكونديرا ـ بفن السينما ، وتمثلته مسبقاً ( الطفل المنبوذ ـ ص 125 ) . السينما هى رواية بالصور ، حتى أن السؤال يثار : ما أساس الفيلم السينمائى : هل هو صور لرواية ، أم رواية لصور ؟. إذا كان رأى جان كوكتو أن " الفيلم هو كتابة بالصور " فإن السينما هى الأداة الشعبية ـ أو الجمعية فى تعبير آخر ـ لتقديم الفنون فى وحدتها . فقد أفادت السينما من المدارس الفنية التشكيلية المختلفة مثل التأثيرية والتعبيرية والتجريدية والسوريالية . كما أفادت الرواية من تقنية المدركات الحسية والبصرية : المونتاج ، التبئير ، الزاوية القريبة ، التناوب ، الاسترجاع . وتبادلت الرواية والسينما بعامة التأثر والتأثير . لقد أوجد كاتب السيناريو والروائى ـ فى زمن متقارب ـ طريقة الفلاش باك ـ ارتدادات زمنية إلى الماضى فى ذهن الشخصية ـ وكان ذلك نتيجة مباشرة للتأثير المتبادل بين المبدعين . كما أفاد الروائيون وكتاب القصة من القص واللصق والمزج والتقطيع ، وغيرها من فنيات المونتاج . من المبدعين الذين طبقوا ـ فى السرد الروائى ـ تقنيات السرد المرئى ، وإفادته من السرد السينمائى : نجيب محفوظ وفوكنر وهمنجواى ودوس باسوس وشتاينبك وفوينتس وماركيث وغيرهم . تبين إفادة نجيب محفوظ من تقنيات السيناريو ، منذ لاحظ صلاح أبو سيف حسه الدرامى المتفوق ، فلم يجد عناء فى تدريس السيناريو لمحفوظ ، بحيث أقبل ـ فى ما يشبه التفرغ ، على مدى خمس سنوات ـ حتى من الكتابة الروائية التى نذر لها موهبته الإبداعية ، وزواج جارثيا ماركيث بين الكتابة الروائية والسيناريو السينمائى . الأمر نفسه بالنسبة لكتاب آخرين . وقد أفدت ـ شخصياً ـ من دراسة السيناريو على أيدى أساتذته الكبار : صلاح أبو سيف وعلى الزرقانى وصلاح عز الدين وغيرهم . تبينت إمكانية ـ بل حتمية ـ تلاقح السرد القصصى وتقنية السيناريو من تقطيع واسترجاع إلخ .
ثمة آراء أن السينما فى منتصف الطريق بين الرسم والموسيقا ، والسينما ـ فى بعض الاجتهادات ـ ثمرة زواج شرعى بين الرسم والمسرح ، وقد أخذت عنهما أهم خصائصهما . أما العلاقة بين السينما والتشكيل فإننا نشير إلى قول مارسيل مارتن : " إنه فى وسعنا أن نزعم أن التاريخ الجمالى للسينما هو خلاصة مركزة من التاريخ الجمالى للرسم " . وعموماً ، فقد " ترك كل فرع من فروع الفنون التقليدية بصماته على الفيلم . كما أسهم فى تحديد قواعد تكوينه . فإلى جانب الرسم التقليدى ، هناك الرسم السينمائى على الشاشة . وإلى جانب الأدب المكتوب هناك الأدب المرئى والمسموع . وإلى جانب العرض المسرحى ، هناك العرض على الشاشة . وأخيراً ، إلى جانب الموسيقا التقليدية هناك موسيقا تحكم تركيب العمل السينمائى " ( عالم الفكر ـ المجلد السابع ـ العدد الثانى ) .
وبالطبع ، فإن العمل الإبداعى يضع قوانينه ، فلا تأتى بالضرورة من خارجه ، لا تقحم عليه ، أو تنبو عن سياقه . وعلى حد تعبير إليوت فإن القانون الأدبى الذى جذب اهتمام أرسطو لم يكن قانوناً وضعه هو ، بل قانوناً اكتشفه . لكن القصة والقصيدة والرواية والمسرحية إلخ .. من خلال التراث الهائل لكل منها ، يظل لها مواصفاتها الخاصة ، شكلها الفنى الخاص . ولعلى أصارحك أمام قول البعض وهو يدفع إليك بأوراقه : هذا نص ! . أنى أعتبر هذه الأوراق مجرد محاولة ، نثرية أو شعرية ، حتى أتبين مدى اقترابها ، أو ابتعادها ، عن هذا الجنس الأدبى أو ذاك . لا أغفل إمكانية توقعى للعمل المتميز ، العبقرى ، الذى قد يفاجئنى بجنس إبداعى لم يكن موجوداً من قبل ، لكن هذا العمل لابد أن يحمل قوانين أخرى ، خاصة ، ومغايرة ..
إن تقييم العمل الفنى ، التمييز بين الفن واللافن ، الجيد والردئ ، لا يصدر عن مجرد الذوق الشخصى ، لكنه لابد أن يخضع لمواضعات ، لمواصفات ، توجد فى العمل الفنى ، أو تغيب عنه . بمعنى أنه لابد للمبدع أن يكون على اتصال بتراث العالم ـ وليس تراث لغته فقط ـ من الإبداع ، وأن يكون على صلة بتراث العالم النقدى ، بالإضافة إلى اتصاله بالثقافة العالمية فى إطلاقها ..
طبيعى أن العمل الفنى يحتاج إلى تلقائية مساوية للتلقائية التى يريد الفنان أن تكون عليها صورة عمله ، بحيث يحدث تأثيراً وجدانياً ، هو المطلوب ـ ابتداء ـ ليسهل على القارئ متابعة العمل ، والتفاعل معه ، والتأثر به ، وإحداث الهزة ـ أو التغير ـ فى وجهة نظره للحياة من حوله . بداية لحظة الكتابة عندى فى الإمساك بتلابيب اللحظة . أبدأ الجملة الأولى ، السطر الأول ، الفقرة الأولى ، فأجاوز العالم الذى تصورته ، ودخلت عالماً آخر ، هو عالم العمل الإبداعى : أحداث وشخصيات وملامح وتفصيلات وجزئيات ومنمنمات تتخلق من داخل العمل . تفرض نفسها عليه . لا شأن لها بتصوراتى المسبقة . فى تقديرى أنه إذا أراد الفنان لروايته أن تكون فناً حقيقياً ، فإن عليه أن يوجه تأثيرها إلى مزاج القارئ ، بإضفاء صورة الحياة الحقيقية على الأحداث . تلك هى الوسيلة التى تحرص الفنون الأخرى ـ مثل الموسيقا والتصوير ـ أن توجه لها تأثيرها . أما الإسراف فى " الصنعة " ، وإقحام بعض المستحدثات التكنيكية لغير سبب ، والإلحاح على صورة العمل الفنى بزوائد الظلال والتفاصيل ، فإن ذلك كله يصنع للرواية قبراً جميلاً ، تنعم فيه بالموت من قبل أن ترى الحياة . أستعير من هنرى جيمس تأكيده بأن الرواية شئ واحد متماسك ، كطبيعة الكائنات الحية ، وبقدر تماسك أجزائها ، واتصال كل جزء ـ عضوياً ـ بالأجزاء الأخرى ، تحصل الرواية على ما يريده لها الفنان من حياة . وبديهى أن الفنان لا يكتب محاولاته لتزجية الفراغ ، أو لحفظها فى الأدراج ، ذلك لأن العمل الفنى هو وسيلة الفنان للتخاطب مع مجتمعه ، وهذا المجتمع ـ بالطبع ـ لا يتشكل من ثقافة واحدة ، أو درجات متساوية من الوعى ، أو ذوق فنى عام موحد . المجتمع ـ أى مجتمع ـ يتكون من أفراد ، لكل منهم حصيلته المعرفية ، ووعيه وانتماؤه الفكرى والطبقى ، بحيث يصبح من السذاجة تصور أن فناناً ما يصل إليهم جميعاً فى محاولاته . لذلك فإن الحرص الأهم للفنان هو أن يكون مخلصاً فى التعامل مع فنه ، ومع نفسه ، لتجد محاولاته جمهورها الذى قد تضيق قاعدته أو تتسع ، لكن هذا الجمهور هو بعض شرائح المجتمع الذى يخاطبه الفنان فى محاولاته . وبتوالى الأعمال ، وتعددها ، فى المقولة والتكنيك ، فإن اتساع قاعدة المتلقين سيصبح أمراً شبه مؤكد ، فضلاً عن قيام الاحتمال بانضمام شرائح أخرى من المجتمع . باختصار ، فإن الرواية الجديدة ليست مودة تختفى بقدوم مودات أخرى . إنها نظرية واضحة ، متكاملة الأبعاد ، قد تطور نفسها ، وقد تستغنى عن بعض المقومات ، وتضيف مقومات أخرى . لكن المقومات الأساسية تظل فى صلة الرواية العضوية بالفنون الأخرى ، والإفادة المتبادلة بينها وبين تلك الفنون [ الرواية الجديدة هى التسمية التى تطلق ـ الآن ـ على التوجهات الطليعية فى المشهد القصصى الأمريكى اللاتينى ] . وإذا كان من البديهى أن تكون للعمل الفنى مقولته ، أو دلالته ـ راجع البداية ـ فإن هذه المقولة / الدلالة يجب أن تبين عن نفسها فى ثنايا العمل الفنى ، وليس من خلال الافتعال والمباشرة . الإيحاء ـ لا التقريرية ـ هو قوام العمل الفنى . وإذا أفصح الغرض عن نفسه ، فقد العمل الفنى صفته ، واستحال منشوراً دعائياً . وكما يقول نور ثروب فتراى فإنه لا يوجد فى الإبداع خطاب مباشر ، ذلك لأن الأمر ليس ماذا نقول ، بل كيف نقول . مع ذلك ، فإن الزيف ما يلبث أن يتكشف ـ ربما للقارئ العادى ـ إن كان الهدف من التجديد مداراة نقص أو قصور فى بعض أدوات الفنان . وعلى سبيل المثال ، فإن بعض الأدباء قد يلجأ إلى اللغة البرقية السريعة ، لا لضرورة يتطلبها العمل الفنى ، أو الرغبة فى التجديد ، وإنما لقصور فى ملكات الفنان الأسلوبية واللغوية . وقد يستغنى الأديب بالحوار عن السرد للسبب نفسه ، وإن غلف محاولاته بدعوى التجديد . أذكر فيلماً أمريكياً شاهدته منذ سنوات بعيدة ، عن فنانين يعيشان فى شقة واحدة ، أحدهما موهوب ، والثانى يحاول استكمال موهبته ودعا الثانى أحد أصحاب المعارض لشراء بعض لوحاته ، فلم يجد الرجل فيها ما يستحق الشراء . وقبل أن ينصرف ، لمح لوحة تجريدية مستندة إلى الجدار فى أقصى الحجرة . وعرض شراءها حالاً . كانت اللوحة للفنان الأول . وكان الفنان ذو الموهبة الناقصة يميل إلى التقليدية فى لوحاته ، فادعى اللوحة لنفسه ، ثم راح يدلق كميات من الألوان الزيتية على مساحات من القماش ، قدمها لصاحب المعرض على أنها لوحات تجريدية ، فرفضها الرجل بالطبع ، وأتيح للفنان " الحقيقى " ـ ختاماً ـ أن يحصل على فرصته . أما ذلك الذى كان يحاول تبين هويته ، فقد ظل يحاول . إن الموهبة المتكاملة التى تسيطر على أدواتها جيداً ، هى الأرضية التى ينشأ العمل الفنى ـ بدونها ـ فى فراغ .. فهل يمكن لبناء أن يقوم على فراغ ؟

ـ 5 ـ
يقول بولان " يعرف كل امرئ أن فى عصرنا نوعين من الأدب : الأدب الغث الذى هو حقاً غير جدير بالقراءة ، وهو المقروء غالباً ، ثم الأدب الجيد الذى لا يقرأ " ..
وكانت المعادلة الصعبة التى طرحت نفسها فى البداية ، هى أن أكتب ما أطمئن إليه ، وأن يطمئن القارئ إلى قيمة ما أكتب . وبالتحديد ، فقد كنت أحب أن أضع القصة فى الإطار الذى أتصوره ـ فى عصرنا ـ مناسباً لها ، وليس فى الإطار السلفية الثابتة . ولم يكن التجديد لمجرد التجديد هو هدفى فى الحقيقة ، بقدر ما كان يصدر عن نظرة يقينية أن دائرة الفنون الخلاقة مكتملة ، وأن الأسلوب الذى يعالج به الفنان لوحة ، ربما يفيد منه كاتب القصة القصيرة . والوسائل التكنيكية التى يلجأ إليها كاتب السيناريو السينمائى قد تحقق التأثير ذاته فى رؤية أدبية ، والهارمونى الذى يحرص عليه المؤلف الموسيقى هو ما يحقق للقصيدة الشعرية وحدتها العضوية . ولفرجينيا وولف مقولة شهيرة " فى ديسمبر 1910 ، أو حوالى هذا التاريخ ، تغيرت الطبيعة الإنسانية " . وكانت فرجينيا وولف تقصد بتغير الطبيعة الإنسانية ، تغير المعرفة بالطبيعة الإنسانية . أما التاريخ الذى كان بداية لذلك التغير ، فهو تاريخ إقامة معرض للرسامين بعد الانطباعيين فى لندن ، عرضت فيه أعمال لسيزان وفان جوخ وماتيس وبيكاسو ، كانت تمثل ثورة على المدرسة الانطباعية فى الفن التشكيلى ، والتى تقف فى موازاة المدرسة الطبيعية فى الرواية [ حددت فرجينيا وولف تاريخ الثورة على المدرسة الانطباعية فى الفن التشكيلى ، والطبيعية فى الرواية ، بأنه ديسمبر 1910 . مع ذلك ، فإن محاولات نجيب محفوظ ـ فى الأربعينيات من القرن العشرين ـ جاءت أشبه بثورة فى دنيا الرواية العربية ! ] . بلغ يقينى بصلة الفنون بعضها ببعض ، وضرورة تأثر كل فن بالفنون الأخرى ، أنى رفضت " قد " فى رأى سارتر بأن الفنون فى عصر واحد قد تتبادل التأثير فيما بينها . ذلك لأنى كنت أومن ـ ومازلت ـ بضرورة ـ إن لم يكن بحتمية ذلك التأثر والتأثير الذى تتبادله فنون العصر الواحد . وطبيعى أن الرفض ينسحب على قول ميشيل بوتور بأن الرواية جديدة انتهت " ومهمتها كانت إزالة الحواجز بين الفنون " . إنه رأى متناقض وغير منسجم ، لأن إزالة الحواجز بين الفنون ليست عملاً طارئاً ، ولا وقتياً ، ولا تعبيراً عن مودة موسمية . إن الأدب ـ على نحو ما ـ محور لبقية الفنون . نقطة جذب واتصال . إيقاع المفردات والتعبيرات يتسلل إلى الأذن ، فيحمل طبيعة الموسيقا ، ويطالع العين ، فيحمل طبيعة الفن التشكيلى . وقد استطاعت الرواية ـ عندما لجأت إلى فنيات الإبداعات الأخرى ، مثل السينما والمسرح والموسيقا وغيرها ـ أن تغادر عنق الزجاجة ، تجاوز الاستاتيكية إلى ديناميكية متجددة ، تستوعب الإبداعات الأخرى ، وتسيطر ـ وربما تفوقت ـ عليها . وبالطبع ، فإن فنية العمل هى التى تفرض اللغة ، وأسلوب التناول ، وإن كنت أحاول أن أفيد من لغة الشعر . ثمة روائى يقبل على روايته بروح " السيناريست " ، كأن يضع فى تصوره حركة مجسدة ، تسترسل ، أو تتصاعد ، أو تمضى إلى الأمام وإلى الوراء ، تماماً كالمونتاج السينمائى [ أذكرك بقصيدة إليوت الأرض الخراب التى تأثرت بالمونتاج السينمائى فى بداياته ] والسيناريو الأقرب إلى الاكتمال هو السيناريو الذى يقترب من الرواية الجيدة . لكن تميز الرواية فى مساحتها العريضة التى يصعب على أى فيلم ـ مهما يستغرق من وقت ـ أن يغطيها . والقصيدة المكتملة هى التى يتشكل بناؤها فى قالب قصصى .
والواقع أنى لم أتعمد طريقة الفلاش باك فى الأسوار . لكن الجلسة التى تشابه عشاء المسيح الأخير مع حوارييه ، كان لابد لها أن تعود إلى نقطة البداية . ولم تكن ـ فى الحقيقة ـ نقطة واحدة ، وإنما كانت عشرات النقاط ، البدايات ، التى يتشكل من مجموعها واتصالها واستمراريتها سدى الأسوار كرواية ..
الرواية هى أشد الأجناس الأدبية قدرة على احتواء بقية الأجناس من قصة وشعر وحوار درامى ، وهى الأشد قدرة على استيعاب الفنون الأخرى من مسرح وسينما وموسيقا وفن تشكيلى إلخ . بل إنها الأشد قدرة على احتواء الموروث الشعبى والأسطورة والاجتهاد الفلسفى والمشكلة الاجتماعية والواقعة التاريخية والتحليل النفسى ، بحيث تتشكل من ذلك كله ـ أو بعضه ـ ضفيرة العمل الروائى . أخيراً ، فإن الرواية هى الأشد قدرة على احتواء الإنسانيات فى إطلاقها ، واستيعابها لصالح بنائها المضمونى والشكلى ، بما يجعل من الرواية فناً يعنى بالتواصل والمعرفة معاً . إن تعبير الرواية الجديدة يستفز التأمل ، ذلك لأنه سوف تولد دائماً رواية جديدة . إلى جانب أن الرواية الجديدة لا تعنى اتجاهاً محدداً لكل الأدباء . فاتجاه ميشيل بوتور ـ مثلاً ـ يختلف عن اتجاه ناتالى ساروت وألان روب جرييه ، واتجاه جرييه يختلف عن اتجاه ساروت وبوتور إلخ . ولعلى أوافق جرييه على قوله بأن تعبير الرواية الجديدة ليس دلالة على مدرسة " بل ولا جماعة معينة من كتاب يعملون بطريقة واحدة ، وإنما هى تسمية مناسبة تشمل كل من يبحثون عن أشكال جديدة للرواية ، قادرة على التعبير عن علاقات جديدة ، أو على خلق هذه العلاقات بين الإنسان والعالم . كل أولئك الذين عقدوا العزم على اختراع الإنسان . هؤلاء يعلمون أن التكرار المنظم للأشكال الفنية التى تنتمى إلى الماضى ، ليس أمراً غير معقول ، وغير مفيد ، فحسب ، بل إنه قد يصبح ضاراً إذ يغلق عيوننا عن موقفنا الحقيقى فى عالم الحاضر ، فيمنعنا آخر الأمر من بناء عالم الغد ، وإنسان الغد .
كانت الرواية جديدة دائماً ، وينبغى أن تظل كذلك . حقق جدة الرواية ـ كل فى زمانه ـ جوجول وبلزاك وتورجنيف وفلوبير وزولا وديكنز وديستويفسكى وبروست وفرجينيا وولف وكافكا وجويس وهمنجواى ومحفوظ وعشرات غيرهم ..
ـ 6 ـ
فى العاشر من ديسمبر 1973 قرأت إعلاناً للهيئة المصرية العامة للكتاب ، عن صدور أول مطبوعات " روايات مختارة " روايتى الأسوار ..
غمرنى شعور عميق بالارتياح .
..........................................
1975 ـ نشر فى كتاب " محمد جبريل وعالمه القصصى " ـ 1984

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 09:56 PM
الإضافة فى الفن
....................

إذا كنت قد ألزمت نفسى ـ ذات صباح خريفى فى مطالع الستينيات ـ أن أقرأ كل ما تصادفه يداى من أعمال إبداعية ـ روايات وقصص قصيرة على وجه الخصوص ـ فإن النتيجة التى أعانيها الآن هى أن الجديد فى الإبداع الروائى والقصصى ـ هذا ما يشغلنى ـ وفى فنيات الإبداع تحديداً ، مطلب فى غاية الصعوبة ، ويحتاج إلى موهبة من حقها أن تنتسب إلى العبقريات . العادة فى الندوات الأدبية أن يجامل آخر المتحدثين من سبقوه ، فيشير ـ بتواضع غير حقيقى ـ إلى أنه لم يعد لديه ما يضيفه ، وإن قرر ـ بينه وبين نفسه ـ أن يقذف بعصا موسى لتبتلع أفاعيل السحرة . ولأنى لا أمتلك ما يهبنى الثقة فى تقديم " الإضافة " ، فإنى أكتفى بالغيرة الفنية ـ هل هذا هو التعبير الأنسب ؟ ـ وأنا أقرأ تلك الإضافات الجميلة فى فنية القصة القصيرة والرواية ..
الإضافة لا تعنى الإلغاء ، وإلا لألغينا أعمالاً روائية وقصصية مهمة فى تاريخ أدبنا المعاصر ، فى ضوء أعمال نجيب محفوظ على سبيل المثال . الإضافة التى أقصدها ، هى التى يحاول التجريب تقديمها . لا إضافة بدون تجريب ، أو أن التجريب المتفوق يقدم إضافة . لا يوجد مبدع حقيقى لم يحاول أن يقدم إبداعاً غير مسبوق فى مقولته وفنيته . قرأت لمحمد النويهى فى أواخر الخمسينيات أن الأديب لا يمكن أن يكون عظيماً إلا إذا ابتكر شكلاً فنياً جديداً ، وشق طريقاً غير معروف ولا مألوف . وأضاف النويهى أنه مستعد لأن يسامح أدباءنا على كل ما يرتكبون فى سعيهم نحو تحقيق هذه الصورة الملحة من خطأ وشطط ، فهم يأملون أن ينتهوا من تلك التجارب إلى استكشاف سواء السبيل . وكانت قراءتى للنويهى مساوية من حيث التفاتى إلى ضرورة أن يضيف المبدع جديداً ، لما قرأته لمحمد مندور عن ضرورة أن تكون للمبدع فلسفة حياة ..
***
الإبداع هو إضافة شىء جديد إلى الوجود . لكن لابروبيير يذهب إلى القول : " كل شئ قد قيل . وقد أتينا بعد فوات الأوان ، منذ ما يزيد على سبعة آلاف سنة ، حين وجد أناس ومفكرون . أما العادات ، فقد انتزع خيرها وأجملها ، ولم يبق لنا إلا أن نلتقط سقط المتاع على إثر ما جمعه الأقدمون " . ويقول الكاتب الأيرلندى أوفلارتى : " إن أشد ما يؤلم الكاتب هو معرفته أن كل ما يقدمه قد قيل من قبل " . أصعب الأمور ـ أو أقساها ـ أن تبدع عملاً بتصور أنه غير مسبوق ، ثم يبين توارد الخواطر ـ هذا هو التعبير الذى تفضله النصيحة المشفقة ـ عن الأعمال التى تلقى على عملك ـ غير المسبوق ـ ظل التأثر . وقد بدأ اهتمام جابرييل جارثيا ماركيث بفن القصة ، حين قرأ قصة " المسخ " لكافكا . قرأ فى أولها هذه الجملة " عندما صحا جريجور سامسا ذات صباح ، بعد أحلام مقلقة ، وجد نفسه قد تحول إلى خنفساء " . وأغلق جارثيا الكتاب فزعاً ، وهو يهمس لنفسه : هل يمكن أن يحدث هذا ؟ . وكتب ـ فى اليوم التالى ـ أول قصة له . وللكاتب الأمريكى اللاتينى ألفريدو كاردينا بنيا قصة بعنوان " آثار النمل على الرمل " ، يعتذر لقرائه ـ بداية ـ عن إخفاقه فى العثور على قصة جديدة لم يسبق أن قرأ مثلها ، وعلى حد تعبيره فإن ألف ليلة وليلة مخزن لأكبر عدد من القصص الإنسانية . لقد أصبح هذا الكتاب نبعاً ثرياً متعدد الروافد للعديد من القصص والحكايات التى تروى فى كل أنحاء العالم ، وجعل الكثير من الكتابات التالية لصدوره مجرد تقليد ، أو نقل غير مبدع . وتنقّل الراوى / الكاتب بين العديد من موضوعات الأحلام والحب ، وحكايات الجنيات والعفاريت ، وقصص الفزع والأشباح والأرواح الشريرة . ثم توصل ـ أخيراً ـ إلى قصة وجد فيها تفرداً عن كل ما سبق تأليفه من قصص : " كان ذات مرة " . وقرأ القصة على متلقين كثر فى أنحاء العالم ، ثم أسلم عينيه لإغماضة الموت ، وهو يبتسم فى هناءة !
***
ثمة مقولة : " هناك من يظن أنه ابتكر قصة ، لكن هناك من اخترعها قبله " . وعلى حد تعبير إرسون Euerson فإن الأعمال ـ حتى الأصيلة ـ ليست أصيلة ، بمعنى أن الأصالة لاحقة لأعمال سابقة . ويقول نورثروب فراى : " إن الشعر لا يمكن صنعه إلاّ من قصائد أخرى ، والروايات لا يمكن صنعها إلاّ من روايات أخرى ، والأدب يشكل نفسه ، ولا يشكّل شيئاً خارجاً عنه ، وكل شئ جديد فى الأدب هو إعادة تصنيع لشىء قديم " . ويضيف إرنستو ساماتو : " ليس ثمة تقدم فى الفن ، بل تغيّر ومحطات وصول جديدة فقط " . فهل كل الكتاب الذين ماتوا ، والذين يعيشون ، ومن سيولدون فى الدنيا ـ والتعبير لإنريكى أندرسن إمبرت ـ مجرد أناس يقومون بالتكرار والتقليد وإعادة السبك والانتحال ، ووجود صلات ضعيفة ، أو قوية، بين النصوص ؟
الكثير من الإبداعات الروائية والقصصية لا يضيف شيئاً إلى القصة والرواية . إنه مقيد بسيطرة العادى . إن التقاط سقط الحصاد لن يضيف إلى الفن ، ولا إلى الفنان ، والتعبير عن الخصوصية هم كل الأدباء ـ أو هذا ما أقدره ـ بصرف النظر عن انتماءاتهم السنية ، أو الفنية . ليس بأمل أن يجدوا قارئاً لم يقرأ الأعمال السابقة عليهم ـ والقول لأندريه جيد ـ وإنما بأمل أن يجد القارئ تميزاً وإضافة عما كتبه أدباء الأجيال السابقة ..
مشكلة المبدعين ـ فى زمننا الحالى ـ هى ما عبر عنه موباسان ـ منذ عشرات الأعوام ـ فى قوله : " من يكتب اليوم لابد أن يكون مجنوناً أو جسوراً أو وقحاً أو غبياً . فبعد كل هؤلاء الأساتذة العباقرة ، ماذا تبقى لنا أن نفعل ؟ ماذا نقول بعد كل ما قيل ؟.. من منا يمكنه أن يفخر أنه كتب صفحة أو جملة ، لا يوجد مثلها فى كتاب ما " ..
وحين كنا نحتفى بطريقة تيار الشعور ـ كما جاءت على استحياء فى ثلاثية نجيب محفوظ [ أواسط الخمسينيات ] ، أو بصورة واضحة فى الطريق واللص والكلاب [ أوائل الستينيات ] فقد كان رأى " أولسوب " أن أحداً من الكتاب الإنجليز المعاصرين لن يجرؤ على استخدام تكنيك الشعور حتى لا يتهم باتباع أسلوب عتيق عفى عليه الدهر .
المقولة الشهيرة تؤكد أن الأفكار ملقاة على الأرصفة . لكن فلوبير ينصح كتاب الأجيال التالية بألا يكتبوا شيئاً دون أن يشعروا بما لم يشعر به ، أو عبر عنه ، كتاب آخرون . الجديد اكتشاف وإضافة وارتياد مناطق لم يسبق ارتيادها [ أذكرك بمقولة الفنان التشكيلى الفرنسى سيزان : " إننى أريد أن أرسم ، وكأن رساماً واحداً لم يقم بهذه المهمة من قبلى " ] . ولعلى أعتبر كل عمل أبدأ فى كتابته تجربة أولى . قد يشابه ـ فى فنيته ـ أعمالاً لى سابقة ، وقد يختلف مع ما سبق أن كتبته ..
الحبكة تعنى الخطة التى نكتب فى ضوئها العمل الفنى . أوافق على أن الحكى هو أساس الرواية ، لكن الحكى المتتابع ، المتسلسل ، لم يعد شرطاً صارماً للعملية السردية ، فضلاً عن الحبكة التى تصنع فنية العمل الإبداعى . وكما يقول ا . م . فورستر فإن القصة هى حكى لأحداث مرتبة حسب تتابعها الزمنى ، بينما الحبكة تنظم الأحداث تبعاً لإدراك ما بينها من أسباب وعلل . ثمة المحاولات التجريبية التى تحاول كسر قواعد الرواية الواقعية ، والتحرر من تقاليدها شبه الثابتة ، وتفيد من لغة الشعر ، ومن الإيقاعات الجمالية ، وتترك النص الروائى مفتوحاً ..
إن عوليس تستغرق ثمانى عشرة ساعة من الحياة اليومية ، وإن احتلت مئات الصفحات . ورواية جابرييل جارثيا ماركيث خريف البطريرك تتكون من ستة فصول ، بلا أرقام أو عناوين تبدأ بها . إنما مساحة بيضاء صغيرة تفصل بين كل فصل والفصل الذى يليه. وتتواصل السطور دون أن يعوضها فواصل إلا القليل من النقط . وكانت تلك ـ فيما أقدر ـ بداية تقنية أسلوبية فى الأدب العالمى كله . وفى رواية المسيح ضد أريزونا لكوميلو خوسيه ثيلا يعتمد الفنان تقنية الرواية الدائرية ، إلى جانب تشابك التقنيات الروائية الحديثة بصورة لافتة ، فأحداثها تستغرق 238 صفحة ، يبدأ فيها الراوى الحكى ، ثم يتوقف فى منتصفها عن السرد ، ويحل مكانه شخص آخر يكمل الحكاية . ونكتشف أن الراويين هما شخص واحد ، غيّر اسمه ولقبه وبعض حياته . الرواية سرد متصل ، لا يتوقف . تختفى الفصول وعلامات الترقيم ـ عدا الفاصلة ـ وتختفى النقاط إلا نقطة النهاية . إن البطل بالمعنى المتواتر يغيب عن هذه الرواية . ليس ثمة بطل محدد بين الشخصيات التى تزيد عن 450 شخصاً .
والأمثلة كثيرة .
***
ظل الإبداع السردى العربى يتمثل التجربة الغربية وفق مفهوم الحبكة ، وفى ضوء متغيرات الواقع العربى . ثم لم تعد الرواية ـ ولا القصة القصيرة ـ تشترط ملاحظة ا . م . فورستر أن تكون عبارة عن قص حوادث حسب ترتيبها الزمنى ، الغداء بعد الإفطار ، والأحد بعد السبت ، والموت بعد الحياة ، والتحلل بعد الموت ، إلخ . القصة الحديثة ـ هذا هو التعبير الذى يحضرنى ـ تهمل السرد المتتالى للأحداث ، الأحداث المتصلة ، وإن اتصلت الفجوات والفقرات ، وتلاصقت ـ لتصنع اكتمالاً فنياً من خلال حبكة واعية . ثمة تداخل فى الأزمنة والأمكنة ، وفى الأنواع الأدبية ، وفى الأنواع الفنية بعامة . إن كل ما يخدم القص تفيد منه الرواية . ليس ثمة ما لا تقبله الرواية . إنها تجاوز حدود الزمان والمكان ، وتتماهى مع الأجناس الأدبية ـ والفنية ـ الأخرى . ثمة الكولاج ، والمونولوج الداخلى ، وإدخال عناصر من السيرة الذاتية ، واستخدام الأقواس ، وعلامات الترقيم ، واستخدام أبناط مختلفة ، وأنماط مختلفة من الخطوط ، إلخ .
وبالنسبة لى ، فإن الفن ـ كما يقول نور ثروب فراى ـ يبدأ حالما تنقلب " أنا لا أحب هذا " إلى " ليست هذه الطريقة التى أتخيله بها " . ودون تطلع إلى محاولة تجاوز الأستاذية التى أدين بها للعشرات ممن كتبوا بالعربية وبلغات أخرى ، فليس ثمة المبدع الذى أتوق إلى تحطيمه ، تخلصاً من مأزق تأثيره فى فهمى للإبداع ، وفى إبداعه نفسه ، وذلك لسبب بسيط هو أنى قد أفلحت ـ من زمن بعيد ـ فى التخلص من كل التأثيرات . أنا أكتب ما يعبر عن رؤيتى ، وذاتيتى الخالصة ، فى الفنية واللغة والسرد والحوار إلخ . لذلك ، فقد أديت صلاة الجنازة على مجموعتى القصصية تلك اللحظة عقب صدورها مباشرة . تبينت ـ فى معظم قصصها ـ أجنة غير مكتملة ، أو أنها نواة لتجارب لاحقة ، لقصص قصيرة تالية . فهى ـ بلغة الفن التشكيلى ـ أقرب إلى الاسكتشات التى تعد إرهاصاً ، أو مقدمة ، للأعمال المتكاملة ..
روايتى إمام آخر الزمان تقوم على التكرار ، لكن تعدد الحالات التى يقدمها هذا التكرار تجعله ـ فى تصورى ـ مطلوباً . فإمام الفصل الثانى يختلف ـ فى أفكاره وما يدعو إليه وممارساته ـ عن الأئمة فى الفصول التالية . وحين يقتل الناس من بدا كأنه الإمام الحقيقى ، فلأن القارئ كان تابع توالى الأئمة بكل ما عبّروا عنه من تناقضات .
ولرواية بوح الأسرار ـ المتعددة الأصوات ـ أنصارها من النقاد المعاصرين مثل رولان بارت وباختين وغيرهما . ثمة العديد من النقاد ـ كما يقول رامان سلدن ـ يرون أن الرواية المتعددة الأصوات أقرب إلى التعبير عن حقيقة الأدب من النصوص الأحادية المعنى ( المونولوج ) . فى قصة الآنسة كورا لخوليو كوتا ثار تتعدد الأصوات داخل القصة ، لكن التعدد يتداخل ، ولا تفصله تقنية ما ، فهو يختلف ـ مثلاً ـ عن ميرامار محفوظ ، و رباعية داريل " ، ورجل فتحى غانم الذى فقد ظله ، وحتى عن بوح الأسرار . ليس ثمة توقف عند نهاية فقرة لأحد الأصوات ، ليقدم الفنان بالتالى صوتاً آخر يروى الحدث من وجهة نظر مغايرة ، وإنما الأحداث تختلط وتتشابك وتستمر إلى نقطة النهاية ، من خلال تعدد متداخل للأصوات ، لا تفصله نقط ولا فصلات ، ولا أدوات وصل من أى نوع . ولعل السؤال الذى يلقيه القارئ على نفسه : من يقول الصدق بين الشخصيات المتكلمة ، ومن يقول الكذب ؟
ظنى أن الإجابة يملكها القارئ وحده . هو الذى سيتأمل الروايات المتباينة ، وتحرى أقربها إلى الصدق وأبعدها عنه ..
وإذا كان تعدد الأصوات يعنى رواية الحدث على لسان إحدى شخصيات الرواية ، ثم يروى الحدث نفسه من زاوية أخرى ، على لسان شخصية أخرى ، ثم يرويه شخص ثالث من زاوية مغايرة ، وهكذا ، حتى تكتمل الصورة فى النهاية .. إذا كان ذلك كذلك ، فإن الأحداث فى رباعية بحرى تتوالى كما يرويها الراوى العليم ، وهو الكاتب نفسه ، فيما عدا المونولوج الداخلى ، والتداعى ، والاسترجاع ، والفلاش باك ، والتقطيع السينمائى ، وتداخل الأزمنة ، وعناصر اللون والضوء والموسيقا ، وغيرها من التقنيات التى ربما يفرضها العمل .. لكن اللوحات المنفصلة ، المتصلة ، التى تتشكل منها رباعية بحرى لا تجاوز الرواية الواحدة ، رواية الراوى العليم لا رواية الأصوات المتعددة .
والراوى ـ فى الحكى الذى كتبت به روايتى النظر إلى أسفل ـ لا يتجه إلى القارئ وحده ، لكنه قد يتجه إلى متلق آخر فى داخل العمل ، متلق مشارك ، أو غير مشارك ، فى الحدث القصصى ، لا يراه القارئ وإن تخيله . يتجه إليه الراوى بما يقول ، فهو قارئ مفترض ، متلق اخترعه الكاتب وتصوره القارئ . المتلقى الحقيقى للعمل ، وان اختلف عنه المتلقى داخل العمل فى أنه جزء من العمل بالمشاركة ، أو أنه يتحدد فى إطار السلبية ، لا يسهم فى تجسيد الحدث القصصى ولا نموه . ملامحه ضائعة أو باهتة لأنه غير موجود بالفعل داخل العمل . ولعلى أشير إلى روايتى النظر إلى أسفل فلا أحد على مستوى النقد المتخصص ، أو القراءة العادية تعرف إلى ذلك المتلقى : هل هو صديق لشاكر المغربى ؟ هل هو وكيل النيابة ؟ هل هو محقق الشرطة ؟ هل هو شاكر المغربى نفسه ؟.. صعب القول بتعريف محدد ، لأن المتلقى الذى تتجه إليه الرواية ـ فى داخلها ـ غير مشارك ، فهو غير موجود فعلاً ، وتغيب من ثم ملامحه الجسمية والنفسية .
(يتبع)

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 09:58 PM
العادة أن يبدأ الراوى فى سرد الحكاية ، بعد أن يصل إلى النهاية السعيدة ، أو فى الأقل : النهاية التى ينجو فيها بحياته . لا مشكلات تمنعه من أن يسترخى ، ويبدأ الحكى . من يبدأ فى رواية ما حدث ، فهو لابد أن يكون قد وصل إلى نهاية ذلك الحدث . أنا لا أستطيع أن أصارع الأمواج ـ على سبيل المثال ـ وأروى ـ فى الوقت نفسه ـ ظروف ذلك الصراع ، ولا كيف يحدث ما يحدث . لكن شاكر المغربى بدأ يروى بعد أن قتل نادية حمدى ، وواجه مصيراً قاسياً . وهو قد واجه النهاية دون أن يتخلى عن تقديسه لذلك الفعل السحرى ـ كما يصف جورجى جاتشيف " الفتشية " ـ والخضوع له .
وفى مقالة متميزة وممتازة عن الهرمنيوطقا ومعضلة تفسير النص ، طرح نصر حامد أبو زيد عدة أسئلة هى : ما العلاقة بين المؤلف والنص ؟ وهل يعد النص الأدبى مساوياً حقيقياً لقصد المؤلف العقلى ؟ وإذا كان ذلك صحيحاً ، فهل من الممكن أن يتمكن الناقد أو المفسر من النفاذ إلى العالم العقلى للمؤلف من خلال تحليل النص المبدع ؟ وإذا أنكرنا التطابق بين قصد المؤلف والنص ، فهل هما أمران متمايزان منفصلان تماماً ؟ أو أن ثمة علاقة ؟ وما هى طبيعة هذه العلاقة ؟ وكيف نقيسها ؟ إلخ .. ( فصول ـ إبريل 1981 )
روايتى الصهبة ـ فى رؤيتى النقدية ـ أقرب إلى رواية تكوين الشخصية التى يواجه المرء فيها ظروفاً غير مواتية ، سواء على المستوى الأسرى أو الاجتماعى ، ويقع ضحية انقسام بين الحلم والواقع ، لكنه ما يلبث أن يتخلى عن ذلك برفض مجتمعه من ناحية ، ومحاولة تحقيق طموحاته الشخصية من ناحية ثانية . أنت فى الصهبة لا تدرى أين يبدأ الواقع ، وأين ينتهى الخيال ؟ أين الحقيقة ، وأين الحلم ؟. حتى منصور سطوحى نفسه ، لم يدر : ما الذى جرى فى الحلم ، وما الذى جرى فى الواقع . اختلطت الرؤى ، وتشابكت ، وامتزج الحلم والواقع . ولعلى أستطيع أن أصف الشاطئ الآخر فى إطار مصطلح " الرومانسية الحديثة " ، فهى جديدة وليست تقليدية ، وتستند الى فترة مهمة من تاريخنا الحديث . وإذا كانت ألف ليلة وليلة تنتمى إلى القصة الإطارية ، أى القصة الواحدة التى تتفرع منها قصة ثانية ، وتتفرع من القصة الثانية قصة ثالثة ، وهكذا . فإن حواديت شهرزاد ـ فى روايتى زهرة الصباح ـ كانت تحاول إلغاء الموت ، أو تأجيله . تواصل الحواديت وتشابكها ، يعنى استمرارية الأمل فى الحياة . وكان الهدف من حفظ زهرة الصباح لعشرات الملاحم والحكايات والحواديت والسير والقضايا والنوادر ، إلى آخر ما أعاده عليها أبوها عبد النبى المتبولى . كان الهدف تحقيق ما هو أشبه بسباق التتابع الذى تلتقط فيه التالية العصا من التى سبقتها . كان ذهاب شهرزاد إلى الموت ـ لو أن ذلك قد حدث ـ هو نهاية المسافة التى قطعتها فى السباق ، لتحاول زهرة الصباح أن تعدو مسافة أخرى ، تهب أفقها المحدود ما حفظته من حواديت وحكايات ..
لقد تداخلت الحدود بين كتابة السيرة الذاتية وكتابة الرواية . اتسع المجال السردى للرغبة فى البوح ، ورغبة القص ، ومزج الواقعى بالخيالى ، والحقيقى بالمجازى ، والتعبير عن الذات بعامة من خلال تقنيات مستحدثة . والحق أنى لم أحاول الإفادة من الحرية التى ربما تتيحها لى السيرة الذاتية / الرواية ، لما كتبت روايتى مد الموج . لقد حرصت على أن أسجل ما حدث ، ما رأيته بالفعل ، ما استمعت إليه بالفعل ، ما عشته بالفعل . لم أضف ، ولم أحذف ، ولا حتى لضرورة فنية أو أخلاقية . وحين أراد سارتر أن يقول الحقيقة ـ على حد تعبيره ـ فإنه تعمد أن يقولها فى عمل تخييلى . وهو ما أثق أنى لم أفعله . لقد قلت الحقيقة دون حذف أو إضافة ، دون نقصان أو زيادة . الحقيقة كما استقرت فى الذاكرة . مد الموج ـ فى تقديرى ـ رواية بوح بأكثر من أن تكون رواية سيرة ذاتية . أنا ـ الكاتب / الراوى ـ أحيا فى الحاضر ، وأسترجع ومضات من مساحات الماضى . وفى روايتى اعترافات سيد القرية أتأمل القول إن شخصية الفنان هى محصلة الشخصيات التى يحفل بها إنتاجه . إن زاو مخو فى اعترافات سيد القرية من اختراع خيالى ، لا أتصور أنه يوجد فى داخلى شئ منه . وفى روايتى زمان الوصل تناوب صوت الراوى فى المضارع مع صوت الكاتب فى الماضى . هما صوتان : صوت الراوى ، والصوت العليم بكل شئ . الراوى يحكى ما يعرفه ، لا يجاوز ما حدث له شخصياً ، ومن خلال وجهة نظر قد تكون صحيحة ، وقد تكون كاذبة . أما صوت الكاتب فهو يحاول أن يقدم كل وجهات النظر . وأفدت ـ من حيث الشكل ـ من عمودية الخطوط وميلها ، فالخطوط العمودية تنقل رواية الراوى عن المضارع ، والخطوط المائلة تنقل رواية الكاتب عن الماضى .
ألف ليلة وليلة تنتمى إلى القصة الإطارية ، أى القصة الواحدة التى تتفرع منها قصة ثانية ، وتتفرع من القصة الثانية قصة ثالثة ، وهكذا . وفى روايتى زهرة الصباح كانت حواديت شهرزاد تحاول إلغاء الموت ، أو تأجيله . تواصل الحواديت وتشابكها ، يعنى استمرارية الأمل فى الحياة . وكان الهدف من حفظ زهرة الصباح لعشرات الملاحم والحكايات والحواديت والسير والقضايا والنوادر ، إلى آخر ما أعاده عليها أبوها عبد النبى المتبولى . كان الهدف تحقيق ما هو أشبه بسباق التتابع الذى تلتقط فيه التالية العصا من التى سبقتها . كان ذهاب شهرزاد إلى الموت ـ لو أن ذلك قد حدث ـ هو نهاية المسافة التى قطعتها فى السباق ، لتحاول زهرة الصباح أن تعدو مسافة أخرى ، تهب أفقها المحدود ما حفظته من حواديت وحكايات ..
إن قيمة القصة فى الحبكة ، فى فنية القص بأكثر من تيمة القص . الحبكة تعنى الخطة التى نكتب فى ضوئها العمل الفنى . أوافق على أن الحكى هو أساس الرواية ، لكن الحكى المتتابع ، المتسلسل ، لم يعد شرطاً صارماً للعملية السردية ، فضلاً عن الحبكة التى تصنع فنية العمل الإبداعى . لم تعد الرواية ـ ولا القصة القصيرة ـ تشترط ملاحظة ا . م . فورستر أن تكون عبارة عن قص حوادث حسب ترتيبها الزمنى ، الغداء بعد الإفطار ، والأحد بعد السبت ، والموت بعد الحياة ، والتحلل بعد الموت ، إلخ . ثمة تداخل فى الأزمنة والأمكنة ، وفى الأنواع الأدبية ، وفى الأنواع الفنية بعامة . إن كل ما يخدم القص تفيد منه الرواية . ليس ثمة ما لا تقبله الرواية . إنها تجاوز حدود الزمان والمكان ، وتتماهى مع الأجناس الأدبية الأخرى .
***
أصارحك أنه لو أن أعمالى التى تلى البدايات جاءت مشابهة ، أو استمراراً على نحو ما ، لأعمال الأجيال السابقة ، فقد كان ينبغى أن أتوقف ، لأنى لن أضيف ، ولا أقدم المغاير ، أو الصوت الخاص ، بصورة مؤكدة . أتفق مع جابر عصفور فى رأيه بأن الرواية الحقيقية هى التى تضع أداة النفى " لا " فى مواجهة الروايات السابقة عليها ، بادئة من نقطة مغايرة ، باحثة عن ما تنفرد به فى إضافتها الكيفية لا الكمية ( زمن الرواية ـ 65 )
إن الأصالة هى أن يخوض الفنان مغامرة الخروج عن السائد والمألوف ، واستكشاف الآخر وما بداخل النفس ، وامتلاك ما لديه . إنه يوظف السيرة الذاتية والسيرة الغيرية والتاريخ والشعر والدراما والخطابة والأسطورة والخرافة والملحمة والسيرة والطرفة والمثل والرسالة والحكاية والرحلة والحلم وغيرها .
الأصالة هى القدرة على الانسجام مع عناصر الجدة وتحمّل تبعاتها . أتذكر قول خوليو كورناثر " إن الطبيعة الحقيقية للأشياء لا تكمن فى قوانينها، وإنما فى الشذوذ عنها " . وفى تقدير ألان روب جرييه " أن امتداح كاتب شاب اليوم ، لأنه يكتب مثل ستندال ، ينطوى على غش مزدوج . فمن ناحية إن هذه العبارة لا تنطوى على شئ يثير الإعجاب ، ومن ناحية أخرى ، إنها مستحيلة تماماً . فللكتابة مثل ستندال يجب ـ أولاً ـ أن يعيش المرء فى سنة 1830 . فالكاتب الذى ينجح فى إخراج صورة مقلدة بارعة ، إلى حد أن تكون صفحاته صالحة لأن يوقعها ستندال فى ذلك الزمن .. مثل هذا الكاتب لن تكون له اليوم نفس القيمة التى كانت تكون له ، لو أنه كتب هذه الصفحات نفسها فى عصر شارل العاشر ، أو قبل ستندال بمائة وثمانين سنة تقريبا " . لقد اطمأن الكثير من الروائيين ـ والدارسين أيضاً ـ ذات يوم ـ أن زمن الرواية قد انتهى ، لكن المبدعين المتميزين : ماركيث ويوسا ومحفوظ وكونديرا وغيرهم ، أعادوها إلى موضعها وتميزها ، أو على حد تعبير أنطونيو مونيوث مولينا ـ بدايتها الأسطورية ( ت . طلعت شاهين ) . ولعلى أذكرك بقول أندريه جيد إن ما كان فى استطاعة غيرك أن تفعله ، فلا تفعله . وما كان فى استطاعة غيرك أن يقوله ، فلا تقله . وما كان فى استطاعة غيرك أن يكتبه ، فلا تكتبه ، وإنما تعلق فى ذاتك بذلك العنصر الفريد الذى لا يتوفر لدى أحد غيرك ، واخلق من نفسك ـ بصبر وأناة ، وبتعجل ولهفة ـ ذلك الموجود الوحيد الذى هيهات لأحد غيرك أن يقوم بديلاً فيه "
المرتقى صعب كما ترى .
.........................
1994 ـ بإضافات .

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 09:59 PM
التجريب فى القصة الحديثة .. جذوره التراثية
.....................................

المؤلف المصرى ـ فى اجتهاد أستاذنا سيد كريم ـ هو المؤلف الحقيقى لأشهر الروائع القصصية الخالدة التى لا تزال نسخها تباع بالملايين منسوبة إلى غيره ، مثل سندريلا وعلى بابا ومجنون ليلى وشمشون ودليلة والشاطر حسن والسندباد البحرى والكونت دى مونت كريستو ، وغيرها .. ويعترف نوثروب فراى بأن حكاية الأخوين هى مصدر قصة يوسف ـ سماها خرافة ـ عندما حاولت زوجة الأخ الأكبر أن تراود أخاه الأصغر عن نفسه ، فلما رفض إغواءها ، اتهمته عند أخيه بأنه حاول اغتصابها . ويلاحق الأخ أخاه ، وتتنامى الحبكة فى توالى الأحداث المتسمة بالعجائبية . ويضيف ا . ل . رانيلا إن للعرب الفضل فى إبداع الحكايات بوصفها أدباً ، وبهذا ثبّتوا شكل القص الخيالى المصور للحياة .
لقد واجه الشرق اتهاماً بضعف الخيال ، بحيث غاب فن القصة فى التراث العربى . القصة ـ فى تقدير المستشرقين ، وفى تقدير معظم الباحثين العرب أيضاً ـ فن أوروبى مستورد ، يمد جذوره فى الثقافة الأوروبية ، فهو تقليد ومحاكاة للقصة فى الغرب ، وليس له أى جذور فى التراث العربى الذى يعد تراثاً شعرياً فى الدرجة الأولى ، فهو مستحدث فى الإبداع العربى . بل إن محمود تيمور يقرر ـ فى بساطة ـ أنه لم يعد بيننا خلاف ـ كذا ـ على أن الأدب العربى ـ فى عصوره الخالية ـ لم يسهم فى القصة إلاّ بالنزر اليسير الذى لا يسمن ولا يغنى ، فالقصة الفنية إذن دخيلة عليه ، ناشئة فيه ، لا أنساب لها فى الشرق ، ولا استمداد لها من أدب العرب " ( دراسات فى القصة والمسرح ـ 64 ) .
والحق أنه من المكابرة الساذجة تصور القص العربى الحديث بعيداً عن تقنيات الغرب ، لكن من الخطأ البالغ إهمال تقنيات الحكى العربى فى سعينا لتأكيد الهوية القومية لإبداعنا المعاصر . ومن الصعب ـ فى الوقت نفسه ـ أن ندعى غياب الصلة بين الأشكال القصصية التراثية ، والقصة العربية ـ والقصة بعامة ـ فى أحدث معطياتها . ولعلى أذكر بقول جارثيا ماركيث : " من الطبيعى أن يمعنوا ـ يقصد الغرب الأوروبى ـ فى قياسنا بالمعايير ذاتها التى يقيسون بها أنفسهم ، ولكن عندما نصور وفق نماذج لا تمت إلينا بصلة ، فإن ذلك لن يخدم إلا غاية واحدة ، هى أن نغدو مجهولين أكثر ، وأقل جرأة ، وأشد عزلة " ..
وإذا كان التراث العربى ـ فى تقدير المستشرقين ـ يفتقر إلى الخيال ، والنظرة الفلسفية المتكاملة ، والحاسة النقدية ، وغياب الحس والقصصى والدرامى ، إلخ ، فلعله من المهم أن نشير إلى قول رينان بأن أوروبا امتلأت بقصص لا حصر لها قدم بها الصليبيون من الشرق العربى ، إثر عودتهم إلى بلادهم . ويقول ميشيل : " إذا كانت أوروبا مدينة بديانتها المسيحية لتعاليم المسيح ، فإنها مدينة بأدبها القصصى للعرب " . بل إن البارون " كار دى فو " يؤكد أنه ليس هناك أدب سبق الأدب العربى فى ابتداع فن القصة ( محمد مفيد الشوباشى : الأدب ومذاهبه ـ 30 )
إن ضعف الخيال والإسراف فى الخيال اتهامان أملتهما الرغبة فى تحقير الملكات الإبداعية لكتاب الشرق ، وأن الشرق سيظل دوماً فى موقف التابع بالنسبة للمتبوع ، وهو الغرب الأوروبى.
الغريب أن الذين أفادوا من الخيال العربى ، ممثلاً فى ألف ليلة ليلة وحى بن يقظان ورسالة الغفران والحكايات والسير والطرف والأخبار العربية ، ينتمون إلى ثقافات أوروبية ، أو متأثرة بالثقافات الأوروبية . والثابت ـ تاريخياً ـ أن الرومانس ـ الحكايات الشعبية الأوروبية ـ تأثرت فى نشأتها بألف ليلة وليلة ..
ثمة رأى أن الرواية والقصة القصيرة والمسرحية لم يعرفها العرب إلاّ بعد اتصالهم بالأدب الأوروبى . وقد نقل العديد من الدارسين العرب عن المستشرقين ـ وكم تظلمنا النقلية ! ـ ما ذهبوا إليه من أن ما عرفه التراث العربى من الإبداع القصصى والروائى والمسرحى ، لا يعدو مجموعة من الأخبار والطرائف التى تخلو من الحرفية الفنية كما فى الإبداع الغربى . عمق من المشكلة أن المسرحية والقصة والرواية قد اقتصر تناولها على النقد الأوروبى والدراسات الأوروبية . وهو ما يزال قائماً ـ للأسف ـ حتى الآن . ومع أن نجيب محفوظ هو أحد الكتاب العالميين ـ باعتراف نوبل ! ـ فإن كل المراجع النقدية الحديثة ـ قبل نوبل وبعدها ، وحتى الآن ـ تخلو من عمل له ، بل ولا تشير إلى أعماله على أى نحو . إنهم يناقشون إبداعاتهم باعتبارها هى الإبداع الذى ينبغى تناوله . إنها ـ مع التقاط شذرات من هنا وهناك ـ هى الإبداع العالمى إطلاقاً ..
***
فى القرآن الكريم يقص الله ـ سبحانه ـ على رسوله الكريم أحسن القصص . وكان العرب يبدءون حكاياتهم أو طرفهم أو نوادرهم بعبارة : قال الراوى ، يحكى أن ، زعموا أن ، كان ما كان ، إلخ .. وقد أسهمت ألف ليلة وليلة ورسالة الغفران وحى بن يقظان وغيرها ، فى تطور فن القصة ـ والرواية طبعاً ـ فى الغرب . أديب أمريكا اللاتينية ألفريدو كاردنيا بنيا يجد فى ألف ليلة وليلة مخزناً لأكبر عدد من القصص الإسبانية . إنها النبع الثرى المتعدد الروافد للكثير من القصص الواردة فيه ـ على حد تعبير الكاتب ـ فم تترك أى موضوع إلاّ وتطرقت إليه ، بحيث تحولت الكتابات التالية إلى مجرد تقليد ، أو نقل غير مبدع . وتبدو إفادة الثقافة المكتوبة بالأسبانية من الثقافة العربية المعاصرة ـ إبان حكم المسلمين لشبه الجزيرة الأيبرية ـ ظاهرة محيّرة ، مقابلاً لإخفاق الثقافة العربية المعاصرة فى الإفادة من ذلك التراث ، مع أنه يتصل بنحن ، وليس بالآخر . إنها ثقافة تعتمد على الدين الإسلامى والتاريخ العربى واللغة العربية . يغيظنى ـ على سبيل المثال ـ زهو بعض المبدعين بأنهم قد تأثروا بواقعية ماركيث السحرية ، بينما أعلن الكاتب الكولومبى أنه قد تأثر بغرائبية ألف ليلة وليلة !..
يقول محمد فهمى عبد اللطيف : " كان من الطبيعى أن يتميز القاص المصرى فى هذا المجتمع الخصيب ، وأن يكون محصوله فى ذلك وافراً ، ونتاجه وافياً .. فكان أبرز وأوفى من أجدى فى هذه الناحية . وما ألف ليلة وليلة ، وقصة الهلالية ، وقصة الظاهر بيبرس ، وقصة سيف بن ذى يزن ، وغيرها من القصص ، إلاّ من فيض براعة القصاص المصريين ، وقدرتهم على التحليل والإفاضة ، سواء ما ابتدعوه منها ابتداعاً ، أو ما مدّوا فيه بالتزيد والإغراق والاختراع والاختلاق . وإذا كان هؤلاء القصاص قد تناولوا ألف ليلة وليلة نصاً عن الفارسية ، مدّوا فى فروعه ، وأساساً ارتفعوا ببنائه ، فإنهم كذلك فى قصة الهلالية تناولوها عن الأصل التاريخى ، وأخذوها مما جرى فى رحلة أولئك الأغراب إلى مصر ، ثم إلى بلاد إفريقية ، وما وقع لهم من الحروب والأحداث ، وانتقلوا بذلك الأصل التاريخى إلى ميدان الخيال الفسيح " ( أبو زيد الهلالى ص 59 ) .
ما نستطيع الاطمئنان إليه أن القصة العربية لها جذورها الممتدة فى تربة التراث . وهى تختلف ـ بالتأكيد ـ عن تربة الترجمة التى أعطت لإبداعنا ثماراً يصعب التقليل من قيمتها . وإذا كان محمود طاهر لاشين قد أعلن أنه " لا ميراث لقصاصينا فى الأدب العربى " ( المجلة الجديدة ـ يونيو 1931 ) فإن مجرد التنقيب فى التراث العربى الأدبى القديم ، سعياً لاكتشاف شكل فنى يمكن نسبته إلى القصة والرواية ، اتساقاً مع شكل القصة والرواية الغربية .. ذلك التنقيب لم يكن يخلو من نظرة أحادية متعسفة ، فالقصة ـ فى تقدير هؤلاء ، وفى سعيهم لاكتشاف ملامحها فى الأدب العربى القديم ، هى القصة فى الغرب من حيث البنية والحبكة والتكثيف وغيرها . وحين أهملت إبداعات الغرب القصصية والروائية تلك الخصائص ، فإن محاولاتنا الإبداعية ـ والنقدية ـ قد أهملتها كذلك !
***
لقد غابت القصة الموباسانية ـ أو ذوت فى أقل تقدير ـ منذ فترة بعيدة ـ فى الأدب العالمى . وغاب ذلك النوع من القصص فى إبداعنا العربى ـ منذ الخمسينيات ـ على يد اليوسفين إدريس والشارونى وإدوار الخراط ، ثم فى أعمال أدباء الستينيات التى اختلط فيها الوعى باللا وعى وتيارات الشعور . لم يعد الواقع هو تلك الثنائيات المكرورة : التقدم فى مواجهة التخلف ، الخير فى مواجهة الشر ، الغنى فى مواجهة الفقر إلخ .. أصبح الواقع ملتبساً وظنياً ، وقدمت محاولات تنتسب إلى الواقعية السحرية والعجائبية والغرائبية وخارج الواقع وما فوق الواقعى . النص الأدبى ـ فى تقدير تودوروف ـ هو النص الذى يحطم القواعد النوعية ، ولا يمكن أن يتقلص إلى مجرد معادلة ، ومن ثم فلا يمكن وضعه ـ بصورة نهائية ـ فى جنس محدد . ويذهب جوناثان كلر إلى أن الأنواع ليست مجرد فئات للتصنيف ، بل مجموعات من المعايير والتوقعات التى تساعد القارئ فى تحديد وظائف العناصر المختلفة فى العمل الأدبى . وهو رأى يبدو مقنعاً فى عمومه . مع ذلك ، فإنى أرجو ألا نختلف فى أنه توجد خصائص أو سمات يشترك فيها النص الإبداعى مع نصوص إبداعية أخرى ، تختلف عن نوع ذلك النص . فالقصة ـ على سبيل المثال ـ قد تستعين بدرامية الحوار ، أو تلجأ إلى هارمونية الموسيقا ، أو إلى أسلوب التبقيع ، أو الكولاج ، كما فى الفن التشكيلى ، أو تقنيات السينما والمسرح وغيرها . وثمة رأى أن الرواية نوع أدبى يقاوم التقيد بما هو تأملى وفنى خالص ، بحيث تذوب فى المجموع الكلى للتجربة الإنسانية من أفكار وآراء وطموحات وغرائز . لا تفرد مطلقاً فى الجنس الأدبى ، فهو لابد أن يفيد من الأجناس الأدبية الأخرى ويفيدها ، يتأثر بها ويؤثر فيها . وإذا كانت كتابات ما بعد الحداثة تتجاوز الأنواع ، الأجناس الأدبية ، تذيب الفوارق والحدود ، فإن التخلى عن الفروق بين الأنواع ، وظهور صيغة جديدة ، تأتلف وتختلط فيها كل الأجناس ، يعنى التحول إلى نص بلا ملامح ، وبلا هوية محددة [ عندما ظهرت اللا رواية واللا مسرحية ـ فى الستينيات ـ تصور الكثيرون أن الرواية والمسرحية حان أوان موتهما ! ]. القصة قد تفيد من لغة الشعر ، بينما تلجأ السينما إلى الرواية الأدبية ، وتعتمد الرواية على درامية الحوار ، إلخ .. لكن القصة يصعب إلا أن تكون قصة . الأمر نفسه بالنسبة للقصيدة والمسرحية والفيلم وغيرها . وإذا كانت بعض الأعمال الحديثة تطالعنا باعتبارها كتابات أو نصوصاً ، لا تسمية نوعية محددة ، كقصة أو قصيدة أو مسرحية ، فلعلى أومن بمقولة هيثر وابرو التى تؤكد أن معرفة النوع تهبنا مفاتيح عالية القيمة ، فيما يتصل بالكيفية التى نفسر بها قصيدة ..
***
(يتبع)

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:00 PM
يقول ألان روب جرييه : " ليست المشكلة هى تأسيس نظرية أو قالب موجود سلفاً نَصُبّ فيه كتابة المستقبل . وعلى كل روائى ، وكل رواية ، أن يخترع شكله الخاص ، وليس هناك وصفة يمكن أن تحل محل هذا التأمل الدائم " . ثمة مقولة إن الرواية نوع غير منته ، وقدرها أن تظل هكذا إلى الأبد . إنها تتسم ـ كجنس فنى ـ بالانفتاح واللانهائية . ما يشبه الإجماع النقدى على أن الرواية والقصة القصيرة هما النوعان القصصيان الحديثان اللذان جاوزا التعريفات والقوانين النقدية . وقد نشأت القصة الحديثة ـ فى تقدير أوستن وارين ورينيه ويلك وغيرهما ـ من الأشكال السردية غير الخيالية ، كاليوميات والمذكرات والرسائل والسير والتاريخ ، وأيضاً من خلال النادرة والخبر والطرفة والملحة وغيرها . [ وهو ما يخالف قول محمود أمين العالم : " ليس من الدقة أن نسعى إلى تلمس مصادر القصة العربية فى تاريخ الأدب العربى القديم ، وفى القرآن ، والأساطير الشعبية والحكايات والمقامات وكتب الأخبار " ـ الثقافة الوطنية ـ فبراير ـ مارس 1954 ] . ثم خالفت القصة الحديثة ـ فى محاولاتها للتجريب ـ كل الأبنية القصصية المعروفة ، وحطم كتاب القصة القصيرة والرواية المحدثون كل البنى القصصية المألوفة ، أو المتعارف عليها ، أو حتى التى حاولت التجريب دون أن تجاوز صفتها الإبداعية . أصبح مصطلح الرواية والقصة القصيرة ـ على سبيل المثال ـ مطاطاً . تلامس مع الملحمة والسيرة والمسرح والسيرة الذاتية إلخ . فالحيرة التى واجهها النقد فى النظرة إلى أيام طه حسين ، أو خليها على الله ليحيى حقى ، باعتبارها عملاً روائياً أو سيرة ذاتية ، تلك الحيرة تجد مرساها فى نسبة السيرة الذاتية إلى فن الرواية ، فالأيام أو خليها على الله إذن سيرة ذاتية ورواية فى آن . ولا يخلو من دلالة قول شلوفسكى إنه لم يعثر بعد على تعريف للقصة القصيرة . ثمة روايات وقصص جيدة دون أن يكون لها منظور جيد . إنها تعبير عن الإبداع الفنى وليس نظريات النقد . أهملت بعداً أو اثنين من الأبعاد الثلاثة : الحدث والزمان والمكان . وثمة أسماء لأشكال أدبية تتصل على نحو أو آخر بفن القصة القصيرة : القصيدة النثرية ، الخرافة ، الحكاية ، الطرفة ، الملاحظة ، الحدوتة ، اللوحة ، الفصل فى رواية ، إلخ .. وهناك القصة المضادة ، أى التى تهمل المتعارف عليه فى فن القصة ، مثل الزمان والمكان والمنظور والحبكة والشخصيات واللغة إلخ . وعلى سبيل المثال ، فالقول بأن الرواية ليست مجموعة من القصص القصيرة ، مقابلاً لأن القصة القصيرة ليست جزءاً من الرواية . ذلك القول لم يعد وارداً فى الحقيقة . قد تطالعنا رواية هى مجموعة من اللوحات المنفصلة ، المتصلة [ أذكرك بروايتى رباعية بحرى بأجزائها الأربعة ] وقد تأتى فصولاً فى رواية ، يشكل كل فصل ما يعد قصة قصيرة . والمجموعة القصصية قارب الجليد لإدوارد ماييا E Maelle يمكن قراءتها باعتبارها كذلك ، أو باعتبارها فصولاً تشكل رواية . وأيضاً رواية البنتاجون لأنطونيو دى بنيدتو Antonio Di Benedetto كتبها الفنان فى شكل قصص قصيرة . وقد دخلت العظات والخطب والرسائل فى نسيج السرد . والمتواليات القصصية قد تأتى ـ كما أشرنا ـ فى صورة لوحات منفصلة ، ومتصلة ، أو حكايات سردية تتعدد فيها الشخصيات والأمكنة . وثمة القصة التى لا تسرد شيئاً ، أو التى تخلو من الحدث والشخصيات والحبكة . وثمة تقطع الحكاية ، والقص واللصق [ الكولاج ] وتحليل اللاشعور من خلال وجهات نظر الشخصيات ، والمناجاة الذاتية ، والنثر الغنائى . الحكاية تختلف عن القصة القصيرة فى أن لها دلالة واضحة ، لكن الحكاية ذات الدلالة هى الكثير مما يطالعنا الآن باعتباره قصة ..
وإذا كانت الرواية الجديدة قد نشأت حوالى 1910 على يد فرجينيا وولف ، فإن الجدة فى الرواية متكررة ، ومتواصلة ، ومن الصعب القول إنها ستنتهى . الرواية ـ فى تقدير باختين ـ مجموعة من العمليات المفتوحة داخل حقل الكتابة . إنها لا تكون . فليس لها مجموعة من الخصائص الشكلية التى يمكن أن تحدها ، لكنها " تصير " ، فهى تتغير باستمرار وتتطور ، لكن ليس فى اتجاه محدد ، أو مرسوم سلفاً ، يمليه نظام للعلاقات بين الشكل الأدبى والبنية الاجتماعية التى تميز ظروف نشأته ( ت : خيرى دومة ) . ما يشبه الإجماع على أنه لم يعد هناك مالا تقبله الرواية ، وأن كل الأجناس ، وكل الحيل ، تخدم التقنية الروائية . أشير ـ ثانية ـ إلى روايتى رباعية بحرى . كل لوحة مستقلة بنفسها ، لكنها متصلة باللوحات التى سبقتها ، واللوحات التى تليها . تتشكل من توالى اللوحات بانوراما متكاملة ، بوسعنا أن ننسبها إلى الإبداع الروائى . وإذا كنت قد وصفت روايتى الحياة ثانية بالتسجيلية ، فلأن السرد يروى ما جرى بالفعل . لم أضف ، ولم أحذف ، اللهم إلاّ ما تصورته صياغة أدبية وتقنية . أما روايتى مد الموج فهى تنتسب إلى جنس الرواية ، لأنها تلتزم بتقنية الرواية ولغتها ، وإن اقتصر السرد الروائى على تبقيعات نثرية من سيرة حياة . وقد أفدت فى " البحر أمامها " من تقنية السرد المنفصل ، المتصل ، فى بنية روائية واحدة ، تتراكم فيه العلاقات والرموز والإيحاءات والإشارات والعبارات المضمرة والموحية .
***
إذن ، فالاتهام الذى يواجهه التراث القصصى العربى متمثلاً فى القصة والحكاية والنادرة وغيرها ، أنه لا يشابه القصة كما نعرفها اليوم .. هذا الاتهام يحتاج إلى مراجعة شديدة ، وبالذات فى ضوء اتساع مساحة الأشكال الفنية فى القصة الحديثة ، بصرف النظر عن الثقافة التى تصدر عنها . والقول بأن زينب هى بداية الرواية المصرية الحديثة يحتاج الآن كذلك إلى مراجعة ، لا لأن الروايات التى سبقتها [ حوالى 130 رواية ] لم تخضع لتقويم من أى نوع ، بحيث تستحق زينب الصفة التى وسمها بها يحيى حقى وآخرون ، لا لذلك السبب فحسب ، وإنما لأن فنية الرواية بالمعنى التقليدى لم تعد واردة . وإذا كان من السهل تقبل الرأى بأن الرياح التى تهب من أوروبا حملت ـ فى أوائل القرن العشرين ـ بذرة غريبة على المجتمع المصرى ، هى بذرة القصة ( فجر القصة المصرية ص 21 ) فإن ذلك الرأى يحتاج ـ فى ضوء المعايير الحالية لفن القصة ـ إلى إعادة نظر . نعم ، كانت القصة بذرة غريبة على المجتمع المصرى فى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ، القصة بقواعدها الكلاسيكية ، بخصائصها الموباسانية من بداية ووسط ولحظة تنوير . وهى قواعد وخصائص تجاوزتها التيارات والاتجاهات الفنية الحديثة بصورة مؤكدة . لم تعد صرامة البداية والذروة ولحظة التنوير ـ كما أوردها رشاد رشدى فى كتابه عن فن القصة القصيرة ـ مطلوبة . ما بعد الحداثة تذهب إلى أن " كل نص جديد إنما يكتب مكان نص أقدم " . بل إن بورخيس يحرص على التأكيد أنه لا أحد يمكنه أن يدعى الأصالة فى الأدب . كل الكتّاب ـ فى تقديره ـ ناسخون ومترجمون ومفسّرون للنماذج الأصلية المتوالية بتوالى الإبداعات ، فى توالى العصور ..
***
السؤال الذى يطرح نفسه : كيف تعتمد محاولات توظيف التراث العربى فناً قصصياً ، ولا تعتمد التراث العربى نفسه ـ بكل ما يشتمل عليه من فيض حكائى وأشكال قصصية ـ فناً قصصياً ؟! وعلى سبيل المثال ، فهل تختلف مشاهد الواقعية السحرية عن مشهد الباب المغلق ؟.. يصر الرجل على فتحه لرؤية ما وراءه . يجد حصاناً ، يفك قيده ، ويمتطيه . يطير الحصان ، وينزل به على سطح ، ويضرب بذيله ، فيتلف عينه اليسرى ؟!.. ألا نجد فى ذلك المشهد ـ وسواه ـ مدخلاً لواقعية أمريكا اللاتينية السحرية ؟!
***
لامست تخوم القصة أجناساً أدبية وفنية أخرى ، واختلطت بها وتشابكت ، وانتسبت جميعها إلى الإبداع القصصى ، بحيث انتفى التحديد الصارم لماهية القصة . بل إن صديقى عبد الله أبو هيف يذهب إلى أن تحديد عناصر القصة لا يعنى الركون إلى نظرية الأجناس الأدبية ، لأن فن القصة أنجب أجناساً متعددة فى القديم والحديث (القصة العربية الحديثة والغرب ـ 38 ) . وكما يشير كونديرا ، فإن معظم الروايات الحديثة ـ بالمعنى الزمنى وليس بمعنى الحداثة ـ تقف خارج دنيا الرواية . لقد أفادت الرواية من تقنية المدركات الحسية والبصرية : المونتاج والتبئير ، والزاوية القريبة ، والمزج ، والقطع ، والتناوب ، والاسترجاع ، وحذف علامات الترقيم ، والاستغناء عن أدوات الواصل . وتبادلت الرواية ـ والسينما بعامة ـ التأثر والتأثير . وثمة الاعترافات المصاغة فى شكل روائى ، والسير الذاتية للمبدعين ، والمشكلات والقضايا الأخرى التى تنسب إلى الرواية بالشكل وحده ، وثمة القصة المقال ، والقصة السرد ، والقصة اللوحة ، والقصة الرسالة ، والقصة الخاطرة ، والقصة الرحلة ، إلخ . وثمة تعاظم دور المتلقى بديلاً لسلبية القراءة ، وتداخل السرد بالمونولوج الداخلى ، والمزج بين الواقع والخيال ، والحسية والأسطورية ، وأنسنة الحيوان والأشياء . طرأ على نظرية القصة عموماً ما بدّل من النظرة الثابتة إليها ، كالشكلانية والبنيوية والتكوينية واللسانية وغيرها . لذلك فإنى أجد فى ما بعد الحداثة ما يحمله التراث العربى ، فأنسب إلى القصة والرواية ، ما تناثر فى كتب العرب من الخرافة ، والتاريخ ، والسيرة ، والحكاية ، والخطابة ، والتهذيب ، والشعبية ، والخبر ، والطرفة ، والملحة ، والرحلة ، والحلم ، وغيرها من فنون السرد العربى . ثمن زوجة قصة لنجيب محفوظ ، نشرها ضمن مجموعته همس الجنون تتحدث عن الزوج الذى يضبط زوجته فى موقف الخائنة ، ويدبر حيلة يدفع بها الزوجة إلى الانتحار دون أن يكون هو المتسبب بصورة معلنة . هذه القصة تذكرنا بحكايات العرب ونوادرهم وأخبارهم . القصة لا تستدعى التراث ولا توظفه ، لكن ملامح التراث تبدو واضحة بما لا يخفى . أنت تستطيع أن تتعرف إلى حيل الأزواج فى كشف خيانات زوجاتهم ، فى الكثير من حكايات العرب ونوادرهم . ولو أننا بدلنا الأسماء والمسميات ، وتحول البيت إلى خيمة ، والريال إلى درهم ، فستطالعنا حكاية ذكية من تراثنا العربى . أذكر بالحكاية التى جاءت فى " وفيات الأعيان " عن حب أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان ، وزوجة الخليفة الوليد بن عبد الملك ، لوضاح اليمن الشاعر . أخفته ـ ذات يوم ـ فى صندوق بعد أن دخل عليها الخليفة فجأة . وفطن الوليد إلى ما حدث ، فدعا الخدم وأمرهم بحمل الصندوق إلى شفير بئر ، ثم قال له : يا صاحب الصندوق ، إنه بلغنا شىء ، إن كان حقاً فقد دفناك ودفنّا ذكرك إلى آخر الدهر ، وإن كان باطلاً فإنما دفنّا الخشب . ثم قذف الخدم بالصندوق فى البحر ، وأهالوا عليه التراب ، وسويت الأرض " فما رؤى الوضاح بعد ذلك اليوم ، ولا أبصرت أم البنين فى وجه الوليد غضباً ، حتى فرق الموت بينهما " . لقد تعمد كلّ من الزوج والخليفة ألا يشير إلى ذلك الكابوس ـ بعد انقضائه ـ بتلميح أو تصريح ، ولا ذكره بخير أو شر ، ولا أجرى بسببه تحقيقاً ، ولا أثار عنه سؤالاً ، وطالع الزوجة بوجه هادئ كأنه شخص آخر غير الزوج المطعون . استعان حمدى فى ثمن زوجة بهدوئه ، وخطط للانتقام دون أن يصارح أحداً بما ينوى فعله . وهو ما فعله الخليفة . وكان الريال مساوياً للصندوق الذى اختفى فيه الشاب العشيق ، وإن اختلفت النهاية بين القصة والحكاية ، فقد قتل العشيق فى الحكاية ـ الأدق أنه قَبِل القتل! ـ أى أنه انتحر ـ بينما انتحرت الزوجة فى القصة ( محمد جبريل : عود على بدء ـ فتوة العطوف لنجيب محفوظ ) . لا تباين فى دلالات العملين ، وإن اختلفت فنية التناول ..
من الصعب أن ندعى غياب الصلة بين الأشكال القصصية التراثية ، والقصة العربية ـ بل والقصة بعامة ـ فى أحدث معطياتها . القول بأن الصياغة العربية تخالف الصياغة التى تضيف إلى فنية القصة ـ وتمثل فيها بعداً أساسياً .. هذا القول يبدو خافت الصوت إلى حد التلاشى فى ضوء التيارات الفنية الأوروبية الحديثة نفسها ، كاللاقصة ، واللاحكاية ، وتوظيف التراث إلخ . ولعلى أعيد التأكيد على أن القصة الحديثة لم يعد لها إطار ولا مدى محدد . ثمة قصيدة تسرد قصة ، وثمة قصة هى أقرب إلى قصيدة النثر ، وبعض المقالات تكتمل فيها مقومات القصة القصيرة ، بل إن بعض قصص بورخيس المتفوقة ليست إلا عروض كتب أو مقالات نقدية . وعلى سبيل المثال ، فإن إبداعات بورخيس تعاملت مع التراث الإنسانى باعتباره تراثه القومى . أعلن أن تراثه هو ثقافة العالم ، فلا يظل حبيساً داخل الحدود الضيقة لمدينة بذاتها ، ولا لبلد ذاته ، ولا لقارة محددة . إبداعات بورخيس تطالعنا بالكثير من الاقتباسات والمقارنات والإشارات . لم يحبس بورخيس قراءاته ولا أفكاره ولا إبداعه ، فى سجن التراث القومى لبلاده مثلما فعل الأوروبيون . انطلق فى كتاباته إلى الآفاق الثقافية الرحبة . استوعب أساطير اسكندنافيا ، وسير الشرق العربى ، وشعر الأنجلو ساكسون ، وفلسفة الألمان ، وأدب العصر الذهبى بأسبانيا ، وشعر الإنجليز ، وشعر هوميروس ودانتى ، وضفّر فى أعماله آيات القرآن ، وأحاديث الرسول ، وليالى ألف ليلة وليلة ، والعديد من الطرف والنوادر والحكايات والإشارات الثقافية ، مما يزخر به التراث الإبداعى العربى ، بالإضافة ـ طبعاً ـ إلى التراث الإبداعى الغربى كنثر ستيفنسون وحكايات الساجا الآيسلندية وغيرها . ثمة تكامل فى إبداع بورخيس بين الشعر والقصة القصيرة والمقال .. ذلك كله يصب فى بوتقة واحدة ، من الصعب أن تميز فيها بين جنس فنى وآخر . تداخلت مستويات القص . لم يعد الفضاء الروائى أو القصصى ينتهى بتلك الحدود الحاسمة التى كان يشترطها النقد قبل نشوء الاتجاهات الفنية والنقدية الحديثة . تشابكت المسميات والصفات ، واختلطت ..
***
باختصار ، فإنى أومن بالتراث ، بوعيه وجدواه ، وإمكانية استعادته واستمراره ، تواصلاً مع المعطيات المعاصرة والحديثة . وكما يقول أندريه موروا ، فإن كل قارئ من قراء القرن العشرين ـ أضيف : الحادى والعشرين ـ يعيد ـ لا إرادياً ـ كتابة روائع القرون الماضية بطريقته الخاصة .
.......................
الهلال ـ مارس 2002 م.

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:01 PM
الحداثة .. وما بعدها
........................

التعريف اللغوى للحداثة Modernity : حدث الشىء ، يحدث حدوثاً ، وحداثة وإحداث فهو محدث ، وكذلك استحدث . والحدوث كون شئ لم يكن ومحدثات الأمور ، ما ابتدعه أهل الأهواء من الأشياء ( لسان العرب ـ 2 / 463 ) .
يرجع البعض استخدام تعبير الحداثة ـ للمرة الأولى ـ إلى النقد الفرنسى ـ بودلير تحديداً ـ فى عام 1859 . وقد أطلق على الاتجاهات الحديثة فى الفن التشكيلى الفرنسى .
وإذا كانت الحداثة كما تصورها اجتهادات نقدية " تقاليد تناقض نفسها ، ولحظة تدمير للشروط والقواعد السائدة ، وتخريب عميق لها " [ يذهب رولان بارت إلى أن الحداثة تبدأ بالبحث عن أدب مستحيل ] ، فإن الحداثة لا تعنى المستقبل فقط . هذه نظرة خاطئة . إن تعريف الحداثة يمكن أن يطلق على كافة تجلّيات الإبداع فى كل العصور ، والتى قامت بالدور التدميرى والثورى للمستقر وتجاوزاته ، فشعر المتنبى وابن الرومى ، ومخاطبات النفرى ، وفلسفة ابن عربى ، وحكايات ألف ليلة ، وأعمال رامبو وديستويفسكى وكافكا وهمنجواى ومحفوظ وإدريس وماركيث .. كلها أعمال حداثية طمحت أن تقدم شيئاً مغايراً وغير متشابه بغية خلق إبداعى جديد . بل إن بودلير يصف الحداثة بأنها " ما هو انتقالى ، عابر ، عارض . هى نصف الفن الذى يتمثل نصفه الآخر فيما هو أبدى لا يتغير " .
الحداثة ـ فى تعريف جيانى فاتيمو ـ " حالة وتوجه فكرى تسيطر عليهما فكرة رئيسة مضمونها أن تاريخ تطور الفكر الإنسانى يمثل عملية استنارة مطردة ، تتنامى وتسعى نحو الامتلاك الكامل والمتجدد ـ عبر التفسير ـ لأسس الفكر وقواعده " . والحداثة تعنى أن العمل الفنى يمتلك هويته الخاصة التى يحددها بنفسه . ربما لهذا اعتبر البعض ثلاثى جيمس جويس ومارسيل بروست وفرانز كافكا هم بداية الحداثة . ومن هنا يأتى قول رامبو : " يجب أن نكون مطلقى الحداثة " ..
والحداثة تعنى أحد مستويين : أولهما هو الاستخدامات اللغوية ، بكل ما تحمله من دلالات . أما المستوى الثانى فهو فلسفة الحياة عند الفنان ، نظرته الشاملة من الكون والعالم والمجتمع والإنسان وعلم الجمال والموروث الخ ..
الحداثة ـ بأبسط عبارة ـ هى التغيّر المستمر ، والحتمى ، ثم التقدم الدائم ، والمتوقع . ومع ذلك ، فإنها لا تعنى رفض الماضى ، أو الانسلاخ عنه ، إنما هى التواصل ، ارتباط الجذور بالأفرع والأغصان .
***
إن النظريات الفنية والأدبية والنقدية تتلاحق من أواسط القرن العشرين . عشرات النظريات تتعارض وتتداخل وتتشابك وتتقاطع ، فتصيب المبدع ـ فضلاً عن المتلقى العادى ـ بحيرة صادمة ..
كان رفض البنيوية [ تينيانوف هو أول من استخدم لفظة " بنية " فى مطالع العشرينيات ، ثم استخدم رومان ياكبسون كلمة " البنيوية " ـ لأول مرة ـ فى 1929 ] ثم التفكيك ، للمذاهب النقدية السابقة والمعاصرة لغياب المعنى .. لكن البنيوية فشلت فى تحقيق المعنى ، بينما أفلحت فى تحقيق اللامعنى . بدا الرفض لذاته إذن دون تقديم البديل أو المغاير . ثم تقلصت النظرية البنيوية . احتلت مساحات من أرضها نظريات ما بعد البنيوية ، وما بعد الحداثة .. مضت البنيوية إلى أفق الغرب منذ العام 1966 ، وتولى جاك دريدا فى محاضرة بجامعة " جونز هوبكنز " خطوات التغسيل والدفن وإحلال التفكيك بديلاً ( المرآة المحدبة ص 15 ) ، ولكن المشكلة عند التفكيكيين إنهم لا يعترفون بوجود النص أصلاً !..
***
ما بعد الحداثة Postmodernity هى موضة هذه الأيام فى حياتنا الثقافية . سبقتها موضات الحداثة والبنيوية والأسلوبية وعبر النوعية والحساسية الجديدة وغيرها من المسميات التى ربما أضافت إلى حصيلتنا المعرفية ، لكنها تضع النقد فى إطار التنظير ، دون أن يجد ذلك الإطار تطبيقاً فعلياً له فى إبداعات " بعد حداثية " !
تقول نك كاى إن " الحداثة هى الأرض التى تقف عليها ما بعد الحداثة ، وتشتبك معها فى جدال ونزاع دائم ، وهى الأرض التى تمكّنها أيضاً من الدخول فى حوار وجدل مع نفسها . ومن هذا المنظور تتضح مشكلة تحديد الملامح المميزة لفن تيار ما بعد الحداثة . وهى مشكلة تتلخص فى أن التوصل إلى معنى وخصائص ما بعد الحداثة لا يتأتى إلاّ عن طريق الخوض فى معانى وخصائص الحداثة والحداثية " ( ما بعد الحداثية والفنون الأدبية ـ المقدمة ) .
والحق أن المذاهب الفنية فى الغرب هى إفرازات لأحداث مهمة ، وانعطافات فى الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية ..
المذاهب المعاصرة فى الغرب لم تظهر عفواً ولا مصادفة ، إنما أملتها طبيعة المرحلة التى حاول المبدعون أن يعبروا عنها ، وحاول النقاد مناقشتها بالتالى فى ضوء التوجه الإبداعى المغاير . وبطبيعة الحال ، فإن الجديد لابد أن يصبح قديماً . حتى أعمال فرجينيا وولف التى اعتبرت بداية للرواية الجديدة ، أصبحت ـ فى رأى ناتالى ساروت ـ فطرية ساذجة ، كما تحولت أعمال جويس وبروست إلى مجرد شواهد تمثل زمناً ماضياً !
ثمة تعريف لما بعد الحداثة بأنها التشكيك فى كل النظريات أو القصص الشارحة . ما بعد الحداثة ـ كما يقول ليوتار ـ لا تتحقق إلاّ فى صورة محاولة لتدمير كل التصنيفات والتقسيمات والإفلات منها ، وفى صورة تشكك جذرى فى كل ما هو معروف ومألوف وثورة عليه . إنها حالة من عدم الاستقرار الدائم . وعلى سبيل المثال ، فإن فنون ما بعد الحداثة تقيم علاقة مركبة جديدة مع الماضى ، وتتخطى كل التصنيفات الفنية ، وتقاوم التقنين والتحديد ، وتكسر القواعد . وتصف نك كاى ما بعد الحداثة ـ فى الفن والأدب والمسرح ـ بأنها تقترن بمحاولات التكسير والقلقلة التى تدفعها الرغبة فى تحدى قدرة عناصر العمل الفنى ما بعد الحداثى ، باعتباره شيئاً يحدث بصورة دائمة دون نهاية .إنها ـ بتعبير آخر ـ سعى إلى مراوغة القواعد وتجاوزها ، أو تدميرها ، وخرق الحدود المتفق عليها ، بمعنى رفض كل التصنيفات ، وخلخلة فرضيات قواعد الفن وقواعده ، وبمعنى تقويض للسعى نحو تحقيق الاكتمال ، والاكتفاء الذاتى للعمل الفنى . إنها تتبنى مبدأى التشظى والتنافر ، وتطرح من خلالهما أسلوباً ينأى عن النموذج المثالى القديم للعمل الفنى المتكامل ، الذى يفقد الكثير من قيمته لو أنه أضيف إليه ، أو حذف منه ..
وإذا كانت الحداثة ترتبط بالحركة الاجتماعية الشاملة التى استهدفت الخروج من مجتمعات العصور الوسطى ، والانتقال إلى مجتمعات تدين بالرأسمالية وما رافقها من ميل إلى التجديد والتحديث ، فإن ما بعد الحداثة تجد بدايتها فى الولايات المتحدة . وبالتحديد منذ انتصارات الحرب العالمية الثانية ، وما تلاها من محاولات للهيمنة ، فضلاً عن أنها التقت فى مرحلة لاحقة باتجاهات ما بعد التعبيرية الأوروبية ، وهى كذلك تعبير عن التحولات الاجتماعية والاقتصادية التى طرأت على المجتمع الأمريكى ، ورفعتها الرأسمالية المتعددة القومية إلى مرتبة نموذج مثالى يجرى تعميمه على مستوى العالم كله ..
واللافت أن اهتمام مثقفينا بالبنيوية قد بدأ عندما بدأ اهتمام مثقفى الغرب بها يقل ويذوى ، بل إنها أصبحت ـ فى أذهان النقد الغربى ـ تنتمى إلى الماضى ..
***
(يتبع)

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:02 PM
إن التخلف الذى نرسف فى إساره يجعل من الحداثة ضرورة .. ولكن أى حداثة ؟..
هذا هو السؤال ..
الملاحظ أن البعض من فاقدى الموهبة يلجأون إلى أواخر المذاهب الفنية ، دون أن تشغلهم الظروف الموضوعية التى أثمرت ذلك ، وهى ظروف لها إرهاصاتها وبواعثها ، بحيث تشكل النتيجة التى كان المذهب الفنى محصلة لها . أخشى أن أقول إن العديد من تلك الكتابات يحاول ـ ولو بحسن نية ـ طمس هويتنا ، يبعد بإبداعاتنا عن محاولات التأصيل وتأكيد الانتماء والجذور .
الثابت ـ تاريخياً ـ أن الحداثة الأوروبية ـ عندما ازدهرت فى الأعوام الأولى من القرن العشرين ـ إنما تحقق ذلك عند التقاطع بين نظام حاكم شبه أرستقراطى ، واقتصاد رأسمالى شبه مصنع ، وحركة عالية شبه ناشئة ، أو شبه متمردة . فأين الواقع العربى ـ باختلاف الوقت وتباين الظروف ـ فى هذه الصورة ؟
إن لحظتنا الحضارية تختلف عن اللحظة التى يحياها الغرب . دعك من التعبيرات المخدرة مثل القول إن العالم قرية صغيرة .. فثمة مجتمعات منتجة ، وأخرى مستهلكة ، وثمة من يعانى مشكلات الترف والديمقراطية والحرية ، ومن يعانى مشكلات الفقر وحق الإنسان فى المقومات الدنيا للحياة ..
أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون هدف جميل ، لكن اللحظة الحضارية أشبه بنظرية الأوانى المستطرقة ، والفن ينبغى أن يعبر عن المجتمع الذى صدر عنه ، وليس عن مجتمعات الآخرين . لا أتصور أن العمل الإبداعى يمكن مناقشته بعيداً عن بيئته ، عن الظروف الاقتصادية والاجتماعية التى صدر عنها ، ونشأ فيها ..
ولا شك أن الحداثة الغربية تنطلق من قلب تراث حضارى وتاريخى وفلسفى وإبداعى ، له خصوصيته المؤكدة . إنها نتاج واقع مغاير للواقع الذى يجدر بالحداثة العربية أن تنطلق منه . وعلى سبيل المثال ، فإن البنيويين ، يفرضون على النصوص الإبداعية " نظاماً ليس نابعاً منها ، ولا كامناً فيها ، بل هو سابق ومسقط عليها ، وأنه يحتمى بالتجريد والغموض لعجزه عن السيطرة على المادة " ( فصول ـ فبراير 1991 ) . حتى المفاهيم والمصطلحات التى تطالعنا فى كتابات الحداثة العربية ، تنتسب إلى ثقافة أخرى ، مغايرة ، وهو ما يفضى ـ بالضرورة ـ إلى حدوث انفصام بين المبدع والنص الذى يقرأه ..
ومع أن المناخ الثقافى فى كل من أمريكا وأوروبا أقرب منه إلى المناخ الثقافى بين كل منهما ، وبين الوطن العربى ، فإن الأمريكية إديث كروزويل ذهبت إلى أنه من الصعب على البنيوية أن تجد فى أمريكا نفس الاستجابة التى لقيتها فى فرنسا ، وذلك لاختلاف النظرة إلى التاريخ ، وإلى المستقبل . وفى المقابل ، فقد وجدت التفكيكية فى الثقافة الأمريكية تربة صالحة لاقترابها من المزاج النفسى الأمريكى أكثر من اقترابها من المزاج النفسى الفرنسى ..
نحن نلجأ ـ فى خطابنا الأدبى ـ ربما دون تبصر ـ إلى المفردات والتعبيرات المستوردة . لا نحاول التعبير بما يعكس خصوصية لغتنا وثقافتنا وفكرنا . إن المذاهب الأدبية والنقدية الأوروبية هى إفراز لإبداع الغرب . ولعلنا فى حاجة إلى الحداثة التى تجاوز التخلف ، وتسعى إلى الإضافة والتطوير والتقدم فى كل الآفاق ، وهى حداثة يجب أن تصدر عن ظروفنا ، تنبع منها . لا تحاكى ، ولا تقلد ، ولا تقتات على موائد الآخرين ، ولا تعبر عن واقع ليس هو الواقع الذى نحياه ..
ولعلى أزعم أن أعمالى التى توظف التراث قد تنتسب إلى ما بعد الحداثة من حيث إن ما بعد الحداثة تسعى " عن وعى إلى إعادة طرح صور من الماضى ، باعتباره كياناً مبهماً ، لا يمكننا التعرف عليه يقيناً ، ولا نملك إلاّ أن نعيد بناءه المرة تلو الأخرى من خلال الجدل المستمر بين العديد من الصور المعاصرة التى تحيل إليه ، وتسعى إلى تجسيده ، باعتباره فكرة مجردة " ( ما بعد الحداثية والفنون الأدائية ـ 26 ، 27 )
***
أعرف أن مدّعى الحداثة العرب يوجهون الاتهام إلى كل من يختلف معهم بالجهل والتخلف ، لكن الاستيراد قد يصح فيما يصعب على قدراتنا أن تنتجه ـ التكنولوجيا مثلاً ـ فى حين أنه من غير المتصور أن نستورد الفكر والإبداع أيضاً . الأدب تعبير عن خصوصية فى التاريخ ، وأنماط التفكير ، واللحظة المعاشة ، بالإضافة إلى أن متلقى الأدب ـ فى الدرجة الأولى ـ هو الوجدان ..
إن البنيوية والتفكيكية وغيرها من معطيات الحداثة ، ليست إلاّ مرحلة أخيرة ـ وليست نهائية ـ للفكر الفلسفى فى الغرب ، متداخلاً مع الإبداع الذى يحاول أن يعبر عن فلسفة حياة . إنها نتاج للحداثة الغربية بكل ما تنطوى عليه من ظروف وملابسات . فإذا تم نقلها إلى العربية فى عزلة عن تلك الظروف ، افتقدت شرعية الأبوة والبنوة ، وعانت غياب النسب !
المؤكد أن عمقى الحضارى يمتد بضع آلاف من السنين ، بينما العمق الحضارى للغرب يمتد بضع مئات من السنين ، مما يفرض مغايرة حادة ، والتأكيد على عدم النقل عن الحداثة الغربية ، يعنى ـ ببساطة ـ إنشاء حداثة عربية ، وهو ما لم يتبد ـ حتى الآن ـ فى الأفق القريب ، أو البعيد ..
ثمة بعد آخر : إذا كان من حق الفنان الموهوب أن يستشرف فى إبداعه أفقاً أوسع ، فإن من واجب الذين يعانون غياب المعرفة والموهبة ألا يحاولوا القفز دون أن تسعفهم قدراتهم ، والبديهى أن طالب الفن التشكيلى يبدأ بدراسة التشريح قبل أن يدرس الكلاسيكية وينتهى بالتجريبية والسوريالية وغيرها من المذاهب الحديثة ..
والحق أنى أنظر إلى العمل الإبداعى من وجهة نظر تناقش وتحلل وتفيد من القراءات والخبرات والآراء ، فلا تأخذ إلاّ بما ترى أنه أقرب إلى فهمى وتفهمى ، وإلى صلتى بالعملية الإبداعية ..
أصارحك بأنى أقف ـ فى الأغلب ـ موقف المتحير أمام الخطوط المتوازية والمتقاطعة والمائلة ، والزوايا الحادة والمنفرجة ، والدوائر ، والمستطيلات ، والمثلثات ، والمعادلات الجبرية ، والشفرات ، والطلاسم . وتشتد بى الحيرة حين تتقابل " القطيعة المعرفية " بعدم معاداة التقاليد بمعناها الإيجابى ، وإنما إقامة علاقة حوارية معها . وهو قول الحداثيين أيضاً . بل إنى حاولت أن أفيد من إضاءة النقد البنيوى لما قرأته وقرأه نقاد البنيوية من أعمال إبداعية ، فدفعنى شحوب الإضاءة إلى الاكتفاء باجتهاد شخصى ، يستند ـ فى كل الأحوال ـ إلى قراءات وخبرات ، ومتابعة للمدارس والمذاهب الأدبية والنقدية . أفادتنى ـ بلا جدال ـ فى تأليف كتابى " مصر فى قصص كتابها المعاصرين " الذى نلت به ـ ولست ناقداً ـ جائزة الدولة فى النقد !..
إن نقاد الحداثة يسعون إلى " تأصيل دراسات تحاول تطوير منهج علمى فى النقد ، يبتعد عن الانطباعية التى تغرق الدراسات النقدية على وجه العموم " ..
كلام جميل كما ترى ، وينشده الحداثيون وغير الحداثيين . ينشده من يجد فى النقد محاولة لإضاءة النص ، وليس التعتيم عليه ، لتحليله ، وليس الربط بين الغلاف ونوعية الخطوط والأبناط ، واعتبارها جزءاً مكملاً للعمل الإبداعى ، فى حين أنها رميات بغير رام . إنها تخضع للاجتهاد الشخصى الذى لا صلة له بالنص ، سواء من الفنان التشكيلى الذى يصمم الغلاف ، أو فنّى الكومبيوتر الذى تختلف نظرته إلى العمل ـ بالتأكيد ـ عن نظرة المبدع .
أعجب الأمور عندما يحاول الناقد أن يستنطق الإبداع بما ليس فيه . إن التعبير عن فلسفة الحياة هم للمبدع ، مثلما أن البحث عن فلسفة الحياة هم للناقد ..
المذاهب الفنية ليست موضة ، لكنها تعبير عن موهبة ومعرفة وفلسفة حياة . إن الوجه العربى من الحداثة يجب أن تكون له ملامحه المميزة . وكما أن المواطن الأوروبى له ملامحه التى تختلف ـ بدرجة وبأخرى ـ عن ملامح المواطن العربى ، فإن هذا الاختلاف قائم أيضاً ـ بدرجة وبأخرى ـ فى القيم والمثل والعادات والتقاليد ، والثقافة فى إطلاقها . ولعلى غير مغرم بالتسميات : الحداثة ، وما بعد الحداثة ، وما يتصل بهما من تسميات البنيوية والتفكيكية والأسلوبية وغيرها . أميل إلى التجريب بعامة . أرفض المحاكاة أو التقليد ، وأحاول الخصوصية . الحداثة العربية كما يصفها إلياس خورى ـ الأدق أن هذا هو ما يأمله ـ " محاولة عربية داخل مبنى ثقافى له خصوصياته التاريخية ، ويعيش مشكلات نهضته " ، فالحداثة العربية إذن حداثة نهضوية . إنها محاولة بحث عن شرعية المستقبل ( الذاكرة المفقودة ص 25 )
***
من السذاجة نقل المصطلحات النقدية الجديدة ، والتعامل بها ، فى عزلة عن خلفيتها الثقافية ، عن التطورات السياسية والفلسفية والاجتماعية التى انبثقت منها ، ونشأت فيها . وإذا لم يكن بوسع الحركة النقدية ـ لاعتبارات ليس هذا مجالها ـ أن تشكل نظرية نقدية عربية ، فإن ما نتطلع إليه فى المدى القريب ، أن تقدم اجتهادات نقدية عربية ، تجعل الإبداعات العربية ـ فى إطار الظروف العربية ـ محوراً لها . وبتعبير محدد ، فإننا فى حاجة إلى اجتهادات نقدية ، تصدر عن أعمالنا الإبداعية ، فهى اجتهادات عربية فى الدرجة الأولى .
........
1999

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:03 PM
الكاتب .. والقارئ
......................

نحن نكتب على أمل أن نجد قارئاً لم يقرأ الأعمال السابقة علينا
أندريه جيد


إذا كان الفن يكمن فى العلاقة بين الدوافع الكامنة وراء الإبداع الفنى وبين المتلقى لهذا الإبداع ، فإن الكثير من الشخصيات الروائية ـ والقول لأندور لايتل ـ يجيئون إلى الحياة عبر صفحات العمل الإبداعى بقوة الإلهام اللاشعورى المتحكم فى مسيرة الكتابة ، دون إعداد سابق قد يسهل على القارئ تبينه . أذكر رأى أستاذنا حسين فوزى بأن " الحاسة الفنية لا يكاد يخلو منها إنسان ، وإن تفاوتت قدرات الناس على الانفعال بالفن ، واختلفت قيمة الأعمال الفنية ذاتها بالنسبة لمقدرة الناس على التذوق ، ووعيهم الثقافى " ( الطليعة ـ مارس 1967 ) . لذلك فإن على القارئ أن يستدعى مخزونه المعرفى من قراءات وتجارب الذات وتجارب الآخرين ، بل وإعمال الخيال ليصل ما قد يحمله العمل الإبداعى من دلالات ..
الفنون هى أعلى شكل من أشكال النشاط التوصيلى . والعلاقة بين المبدع والمتلقى ـ فى تصورى ـ أشبه بالعلاقة بين جهازى الإرسال والاستقبال ، وعلى المبدع أن يطمئن إلى سلامة توصيلاته ، بمعنى أن يطمئن إلى صدقه الفنى ، لا يتعمد الغموض ، وإنما يترك العمل يكتب نفسه ، مستفيداً من موهبة المبدع ، ومن خبراته وقراءاته وتجاربه .. وفى المقابل ، فإنه على المتلقى أن يبذل جهداً مكافئاً لما بذله المبدع فى فنه ، أن يشارك المبدع مغامرة اكتشافه وإبداعه ، لا يكتفى بالتلقى السلبى أو السطحى الذى ينشد المتعة المجانية ، وإنما يحاول تذوق العمل الإبداعى ، وتبين دلالاته ، وتلمس النشوة الروحية العميقة التى يهبها لمتلقيه . بل إن عملية القراءة تختلف باختلاف لحظات التلقى . فالذهن الرائق ، والحالة المسترخية المنبسطة ، أو الموافقة التى قد تكون مسبقة لما يحمله النص من دلالات ، تتلقى النص بصورة مغايرة للذهن المكدود ، أو الحالة المزاجية المتعكّرة ، أو الرفض الذى قد يكون مسبقاً لما يحمله النص .
ولعلى أوافق سارتر على أن القراءة عملية خلق من القارئ بتوجيه من الفنان . ثمة نصوص تهبنى نفسها منذ السطر الأول ، تهبنى صداقتها ، وخطابها التحدثى ، وحميميتها . تنفتح أمام القارئ ، فيسهل عليه المتابعة والفهم . قد يكتفى بدلالة ما ، وقد يعيد القراءة ، فيخرج بدلالات أخرى . وثمة نصوص تنغلق أمام قارئها ، فهو يجد صعوبة فى تلقّيها ، لا يصل ـ من خلال المتابعة ومحاولة الفهم ـ إلى مستوى دلالى ، ومن ثم فهو يضطر ـ لتحقق المتابعة ـ إلى تحميل النص دلالات قد لا يحتملها ، أو قد يمتنع عن مواصلة التلقى .
القول بأن موت المؤلف سيجعل القارئ على الحياد ، يحتاج إلى مراجعة ، لأن عملية التلقى ـ بافتراض موت المؤلف ـ لا شأن لها بشخصية المتلقى نفسه . المتلقى شخصية مقابلة ، مغايرة ، لها خصائصها التى تحسن التلقى ، أو العكس . أنا أقبل على قراءة العمل الأدبى بمخزون معرفى وخبرات ، تمثل ـ فى مجموعها ـ الشخصية المتلقية التى هى أنا . المتلقى ليس شخصاً مطلقاً ، ليس مجرد فهم واحد ، متكرر ، فى تلقى العمل الأدبى ، لكنه شخص ، فرد ، يختلف فى ظروفه وبيئته وثقافته وتجاربه عن بقية القراء ، وباختلاف ذلك كله تختلف درجة التلقى بين قارئ وآخر ..
ربما وجد الفنان فى دراسة نقدية لأحد أعماله دلالات لم تكن فى باله عندما شرع فى الكتابة ، بل ولا حين دفع بالعمل إلى المطبعة . لم يكن يقصد المعنى الذى تحدث به القارئ / الناقد إطلاقاً . وللدكتور عبد الله الغذامى مثل مهم ، هو أن المتنبى كان يقول إن ابن جنى أعرف بشعره منه ، أى من المتنبى . وكانت اجتهادات ابن جنى فى شعر المتنبى ، تأويلاً وتفسيراً ، رائدة وغير مسبوقة ، فضلاً عن امتيازها المؤكد المستند إلى ثقافة موسوعية . لكن الأجيال توالت ، وقدمت تأويلات جديدة لشعر المتنبى ، تختلف ـ بصورة جذرية أحياناً ـ عما قدمه ابن جنى من تأويلات ..
والحق أن مشاهدة مسرحية ، أو فيلم سينمائى ، لا تحتاج من المتلقى إلاّ التركيز فى متابعة ما هو متجسد أمامه بالفعل . أما قراءة الرواية أو القصة ، فهى تترك للذهن تجسيد ما يقرأه ، بتخيل الشخصية والحدث ، بإثارة الحوار مع ، وفى ، ذلك جميعاً . إن الإبداع الجيد هو الذى نكتشف أننا لم نعد كما كنا عندما بدأنا تلقيه ..
وبالطبع ، فإن الكتابة لا تتم فى لحظات ، إنما هى قد تأخذ زمناً طويلاً من الكتابة والمراجعة والتأمل ، والاطمئنان إلى الصورة النهائية . بالإضافة إلى ما سبق ذلك من قراءة وتجربة ومعايشة ، بحيث اكتملت للمبدع أدواته الفنية ، واكتملت نظرته الشاملة . وفى المقابل ، فإن القراءة يجب ألا تتم فى لحظات . إنها تحتاج إلى جهد يقترب ـ ما أمكن ـ من جهد الكتابة . قد تصح القراءة السريعة لمواد الجريدة اليومية من أخبار وتحقيقات وغيرها ، لكن الكتابة الإبداعية تحتاج إلى قراءة واعية ، ومتأملة ..
***
ابتداء ، فإن المبدع يجب أن يعيد قراءة ما كتب أكثر من مرة . الناقد فى ذات المبدع هو صاحب النظرة الأخيرة التى تناقش وتحذف وتضيف وتجيز . وقد يكتب الأديب قصة فى ليلة ، ويراجعها فى أشهر .. وهذا ما أفعله شخصياً . وفى المقابل ، فإنه على القارئ أن يبذل جهداً مساوياً للجهد الذى بذله المبدع فى الكتابة . من الصعب التوقع بأن يمنح العمل الإبداعى عطاءه ، ويكشف مقولته ودلالاته ، دون أن يسهم القارئ فى مغامرة الاكتشاف . النص الإبداعى يحتاج إلى قراءة متأملة ، متعمقة ، متفكرة ، بحيث يلامس مفتاح العمل ، ويستطيع اكتناه دلالاته . وكما يقول أوكونور ، فإنه ليس للروائى أن يتوقع من القارئ أن يصبر على قراءته مرتين اثنتين ، إذا لم يكن مستعداً لقراءة ما يكتب عشرات المرات . أشفق على المبدع الذى يعنيه القارئ أكثر مما تعنيه العملية الإبداعية فى ذاتها . إنه يفكر فى التأثير الذى سيحدثه الموقف ، أو الشخصية ، أو الدلالة التى يعنيه توصيلها .. لكننى ـ فى الوقت نفسه ـ أرفض القارئ الذى تعنيه سهولة العمل . القارئ الذى أريده هو الذى يشاركنى فى متابعة الأحداث ، وفى فهمها ، وتقبل الشخصيات ، أو عدم تقبّلها ، التعاطف معها ، أو معاداتها . يقرأ بإيجابية ، يتأمل ، يضع الملاحظات ، يشارك بإيجابية فى تنامى النص ، يظل منشغلاً بما قرأه بعد أن يتركه . من المهم أن تتحول العلاقة بين المبدع والمتلقى من مجرد متابعة مسلية إلى مناقشة ، أخذ ورد ، قبول ورفض . ولعل غاية ما أرجوه أن أثير فى القارئ ـ القارئ العادى تحديداً ـ ملكة النقد . كذلك فإنى أفضل النهاية المفتوحة بدلاً من النهاية التى تقرر وتحسم . إنها تحض على تأمل العمل ، والتحاور معه ، ومحاولة الكشف عن الدلالة ـ أو الدلالات ـ الكامنة فيه . النهاية المفتوحة ، مجرد النهاية المفتوحة لقصة ما ، بحيث يضع المتلقى دلالتها ، يعنى أن المتلقى ليس مجرد مستهلك للعمل الإبداعى ، لكنه مشارك فى عملية الإبداع ..
الأدب هو المعرفة الكاملة بخبرة الإنسان ، والمقصود بالمعرفة الفهم الفريد والمتشكل للعالم ، وهو ما لا يقدر عليه غير الإنسان . وبالنسبة لى ، فحين أستغرق فى القراءة ، أغادر صفحات الكتاب ، وأغادر الكرسى الذى أقعد عليه ، والحجرة التى تحتوينى ، والمدينة التى أقيم فيها . أتعرف إلى أماكن أخرى ، قريبة وبعيدة ، وإلى شخصيات تتحدث بلغات متباينة ، وأحيا التاريخ والجغرافيا والفلسفة والميتافيزيقا وعلم الاجتماع والسياسة إلخ . وثمة حقيقة ـ أتصورها بديهية ـ هى أن عمل الروائى الأساسى هو أن يجعل القارئ يستمر فى قراءته ، وهو لن يستمر إلا إذا استهواه ما يقرؤه ، أو فلنقل ما دام يؤمن بصدق ما يقرؤه .
ثمة من لا يملك صبراً طويلاً على الأدباء الذين يكلفون القارئ مجهوداً ليتفهم كتاباتهم : " ليس لدى صبر طويل على هؤلاء الكتاب الذين يكلفون القارئ مجهوداً ليستبطن معنى ما يقولون . وما عليك إلاّ أن تذهب إلى كبار الفلاسفة لترى أنه من الممكن التعبير فى وضوح عن أعمق الأفكار " . وتقول الشاعرة ماريان مور : " إذا لم تستطع أن تشد انتباه المتلقى منذ البداية ، وتجعله يتابع ما كتبت ، فلا جدوى من الاستمرار " ، ولكن على القارئ ألاّ يتوقع حلاّ جاهزاً يقدمه له المبدع ، وعلى المبدع ـ فى الوقت نفسه ـ أن يحرك فى القارئ استجابة كافية للعمل بما يدفعه ـ بإرادته ـ إلى التفكير فى التغيير . الأدب فن للقراءة يقوم به القارئ وحده وهو يتلقى الصور التى يخلقها العمل الأدبى بمخيلته فى الدرجة الأولى ، أى فى التصور الروحى .
يقول ميشيل بوتور : " إن القارئ لا يقف موقفاً سلبياً محضاً ، بل يعيد من جديد بناء رؤيا أو مغامرة ابتداء من العلاقات المجمعة على الصفحة ، مستعيناً هو أيضاً بالمواد التى هى فى متناول يده ، أى ذاكرته ، فيضىء الحلم الذى وصل إليه بطريقته هذه كل ما كان يغشاه من الإبهام . إن الإبداع ليس مهمة المبدع وحده ، وإنما يجب أن يشاركه فيه القارئ ، لأنه وجه العملة الآخر . أوافق على أن القارئ طرف فى علاقة طرفها الآخر هو النص . " نحن نبدع النصوص حين نقرأها ، ونحن بالقراءة نقيم حياة النصوص ، أو نشهد على موتها " . وكان كورناى Corneille يترك الجميع يعلنون آراءهم ، ثم يحاول أن يفيد من النصائح الصالحة ، بصرف النظر عن مصدرها . ربما لذلك أحرص على أن أدفع بكل عمل جديد أكتبه إلى أصدقاء متباينى الثقافة والمكانة الأدبية أو الاجتماعية ، يبدون آراءهم ، فأهمل مالا أراه عيباً فى العمل ، أو إضافة له ، وأعمل بالملاحظات الإيجابية . وأذكر أنى عملت بملاحظات أصدقاء بعيدين عن العمل الثقافى ، لأنها أنقذت بعض ما كتبت من أخطاء معيبة . وعلى سبيل المثال ، فقد تنبه صديق إلى وفاة الخادم فى اعترافات سيد القرية قبل وفاة البطل " زاو مخو " ، وكنت قد جعلته يقف على تحنيطه كما كان الحال فى العصر الفرعونى . خطأ مبعثه مغالاتى ـ كما ذكرت لك ـ فى أن تكتب القصة نفسها . أبدأ بالقليل ، ويتخلق الكثير الباقى فيما بعد . تتخلق أحداث ، وتظهر شخصيات ، وتموت شخصيات ، وتتبدل مسارات ، ولا يكون لى فى ذلك كله حيلة . وأذكر أنى توقفت عند النهاية التى اختارها محمد قاضى البهار ، بعد أن حاصرته الظروف تماماً ، حتى همس لى ـ بعد أيام قليلة ـ وأنا أسير فى الشارع ـ انه اختار النزول فى البحر ..
ونزل محمد قاضى البهار البحر ، وإن لم أجعل ذلك التصرف نهائياً فى حياة قاضى البهار ، ربما لأنى وجدت فيه قيمة مصرية . قد تغيب عن حياتنا ـ لبواعث طارئة ـ لكنها لابد أن تعود ..
***
الفن إضمار ، بمعنى أن العمل الإبداعى يجب أن يوجد فيه ضوء ، وفيه أيضاً ظلال . وفى أوفيد بجماليون : " الفن هو أن تخفى الفن " . بل إن العمل الإبداعى قد يجد إضماره فى تقديم بعض المفاتيح غير الحقيقية ، بحيث يصعب أن نتوصل من خلالها إلى دلالات مؤكدة . وعلى حد تعبير جون برين فأنت لا تدرى ما يحدث فى الرواية حتى تنتهى .. بل إن الفنان ـ فى تقدير جورجى جاتشيف ـ لا يدرك الكثير من تفسيراته الممكنة .. ومع ذلك ، فإنى أوافق شوبنهاور على أن " أسلوب التعبير الملتبس الغامض دائماً ، من الدلالات البالغة السوء . وهو يأتى فى معظمه نتيجة لغموض الفكرة ، بمعنى أنه يوجد نقص وتناقض فى الفكرة نغسها ، أو أن الفكرة خاطئة " .
***
يقول فلوبير : " ان الفنان فى العالم الروائى ، صاحب القدرة على كل شئ ، برغم أنه لا يكشف عن ذاته .. ان عليه أن يكون مختفياً فى ثنايا عمله ، كالإله فى السماء " . لذلك فإنى أرفض الوصف الجسدى إذا لم يكن للعمل الإبداعى حاجة إليه . لماذا أقتحم ذهن التلقى بصورة محددة ، فى حين أنه ربما رسم صورة مغايرة ، تتسق مع الشخصية ، ومع الأحداث . الأبعاد الحقيقية لشخصية ما فى عمل إبداعى هى الأبعاد النفسية . كلما أجاد الفنان التعبير عنها ، توضّح تميزها ، صورتها الخاصة . وثمة عوامل مساعدة ، مهمة ، للأبعاد النفسية مثل تيار الوعى ، والحوارات الداخلية ، ودرامية الحوار ، والتصورات والأحلام والرؤى والذكريات الخ . أتفهم حب الكثير من الأصدقاء للقراءة أو السماع ، بدلاً من المشاهدة . القراءة والسماع يتركان للمتلقى فرصة تخيل المكان والشخصيات . أما المشاهدة فهى تحدد ذلك بصورة قاطعة . أنا أرسم الملامح الظاهرة إذا فرضت الحتمية الروائية ـ إن جاز التعبير ـ ذلك . أما الوصف لمجرد أن يكون للشخصية ملامحها الخارجية ، فهو تزيد لا معنى له ، ويشوش على الصورة التى ربما رسمها القارئ ـ فى ذهنه ـ للشخصية .
العمل الإبداعى يصل إلى المتلقى بقدر الصدق الفنى الذى عبّر به المبدع . الصدق الفنى هو ما أطلبه فى العمل الإبداعى الذى أتلقاه . ما يهمنى هو قيمة العمل الفنية ، لكننى لا أستطيع أن أهمل البيئة التى أحيا فيها ، لا أستطيع أن أهمل المعتقدات والقيم والتقاليد ، فلا أنسلخ عنها ، ولا أرفضها ، ولا أسخر منها . العلاقة الإبداعية هى بين مبدع ومتلق . ومن الصعب أن تنهض هذه العلاقة على نقيض الاحترام ، وهو ما لن يتحقق إذا ناقض المبدع ما يؤمن به المتلقى من قيم ثابتة ..
***
فماذا عن النقد ؟.. أليس الناقد قارئاّ ؟..
الناقد الممتاز ـ فى تعريف البعض ـ هو فنان تبحر فى المعرفة ، وذوّاق كبير ، لا أفكار مسبقة عنده ولا غيره . بينما يرى آخرون أن الناقد ليس مقوماً بتوخى العدالة فى أحكامه ، إنما هو روح مرهفة الحس تصف لنا مغامراتها بين روائع الفن . ويرى جوتييه Gautier فى الناقد الخصى المسكين المجبر على مشاهدة السيد الكبير ـ المبدع ـ وهو يلهو ! . أما روجر ب . هينكل فقد لاحظ أن معظم الدراسات التى تعنى بالقراءة النقدية تسلك أحد سبيلين ، فهى قد تتخذ من المجموعات القصصية أو المقتطفات الروائية ما تعتمد عليه فى تحقيق ما تريده من إيضاح المداخل المتعددة للقراءة النقدية ، أو أنها قد تلخص المقالات النقدية النظرية المعنية بدراسة الرواية . ويناقش الفرنسى ألبير تيبوديه ما يشاع بين الكتاب من أن الفنان مبدع ، وأن الناقد لا يبدع شيئاً ، وليس له وظيفة إلا أن يرى ، وأن يحكم ، وعلى وجه أخص أن يطرى ما ابتدعه الآخرون . والمديح الأكبر الذى يمكن أن يوجهه إنسان إلى ناقد كبير هو أن يقول له : إن النقد فى المستوى الذى ارتفعت به إليه أصبح حقيقة نقداً مبدعاً خلاقاً . ويجيب تيبوديه عن السؤال : ما هو ذلك الإبداع ؟.. يقول : " لنأخذ نمط المعمارى . لكن هناك معمارى ومعمارى . معمارى يبنى بيتاً للسكن ، على حين أن مايكل رانج يبتدع قبة سان بيير . أن تبنى معناه أن تطبق قواعد استخدام المواد الأولية وتلاحمها وفقاً لخريطة معدة ، أن تطبق الذكاء الحركى ، لكن أن تبدع ، معناه أن تسهم فى قوة الطبيعة ذّاتها ، أى أن تنتج من خلال عبقرية موازية للعبقرية الأولى " ( ت أحمد درويش ) .
***
ويفرض السؤال نفسه : هل الناقد مجرد وسيط بين المبدع والمتلقى العادى ، ليصبح المتلقى قادراً على الاستجابة للعمل الإبداعى ؟..
النقد الأدبى ـ بأبسط تعبير ـ هو فن الحكم على الإبداع الأدبى . دراسة العمل الفنى يجب أن تركز على العمل نفسه ، وليس المبدع أو المتلقى . تركز على بناء العمل ، مكوناته ، صورته الفنية ، عناصره المختلفة ، تفصل بين العمل الفنى وأية عوامل أخرى أساسية أو مساعدة ، مادامت لا تتصل ببنية العمل نفسه . وبالنسبة لى ، فأنا حين أقرأ عملاً ما لا أدعى أن ما كتبته عنه هو تقويم بقدر ما هو تعبير عما فى خاطرى . وأستعير التعبير من " ليمز " .
والحق أن قراءة النقد الذى يعرض للأعمال الأدبية ، ويناقشها ، ليست بديلة عن قراءة الأعمال الأدبية نفسها . ومع أن الناقد هو قارئ فى الدرجة الأولى ، فإن مهمته هى تحويل القراءة إلى كتابة ، أى أنه يهبنا فى كتابته ما لم يفصح عنه العمل الإبداعى . وفى أسرار البلاغة يقول الجرجانى إن الباحث عن المعانى كالغائص فى الدر . الكتابة السردية كنز ، والتأويل فعل اكتشاف ذلك الكنز .
ثمة رأى أنه " ليس هناك قراء يتشوقون إلى متابعة أحكام النقد أكثر من المؤلفين أنفسهم " . وفى تقديرى أنه إذا كان النص ـ حين يبدأ الناقد فى قراءته ـ يتحول إلى علاقة بين وعيين : وعى المبدع ، ووعى الناقد ، فإن النقد فى أفضل صوره ـ والتعبير لفورد مادوكس ـ يتعامل مع العمل الفنى كنقطة بداية فى عملية خلق جديدة . أما أبشع أنواع النقد ، فهى تلك المبنية على معرفة مسبقة خارجة عن العمل الفنى . الرومانسية ـ على سبيل المثال ـ تنظر إلى العمل الأدبى على أساس " أنه تعبير عن العالم الداخلى للفنان ، ومواز له . وصارت مهمة الناقد أو المفسر هى أن يفهم الفنان بهدف فهم العمل نفسه ، وذلك عن طريق الاستعانة بكل المعلومات التى يمكن له تحصيلها عن حياة الفنان وسيرته الذاتية " ( فصول ـ إبريل 1981 ) . ولعلى أميل إلى قول بيير ماشرى Pierre Macherey إن مهمة الناقد أن يركز اهتمامه على " لا شعور " النص " أى ما لا يقال ، وما هو مكبوت بالضرورة ( ت . جابر عصفور ) .
يقول همنجواى : " كثيراً ما أشعر بأن هناك اليوم منافسة بين الأدباء والنقاد ، بدلاً من الشعور بضرورة مساعدة كل جانب للآخر " . لا ينبغى ـ والقول لأميرسون ـ أن يكون النقد باحثاً عن الشجار ، داعياً إلى هدر الطاقات ، يمسك بالسكين ، وينتزع الجذور . عليه أن يكون هادياً ، معلماً ، ملهماً . عليه أن يكون ريحاً منعشة وليس ريحاً باردة تجمّد الأطراف " . أما بوب فإنه يرى ان " الناقد الكامل يقرأ كل عمل بالروح نفسها التى كتب بها المبدع عمله . عليه أن ينظر إلى العمل فى شموله ، ولا يسعى إلى أن يتصيد الهنات ، مادامت العاطفة الحقة قد حفزت الكاتب ، والنشوة قد أوقدت عقله " ..
أذكر قول تشستر فيلد : " لنترك الناقد الغبى يعيش على جثث الأعمال . أعطونى أنا روح العمل ورواءه " ..
أما الفنان الذى يمارس النقد ، فلعلى أذكر قول أستاذنا يحيى حقى إن " الفنان الذى يشتغل بالنقد ، إما أن يكون تدفقه غنياً جداً ، وموهبته كبيرة جداً ، بحيث لا يؤثر اشتغاله بالنقد على فنه ، وإما أن تكون قدرته على الفيض الفنى محدودة ولا ترضيه ، فيحاول التعبير عن أفكاره بكتابة المقالات النقدية مادام لم يشملها تدفقه الفنى " .
***
إذا تحدثت عن موقف النقد من حيث الكم النقدى الذى تناول أعمالى الإبداعية ، فلعلى أعترف أنه كثير للغاية إلى حد أن جماعة " أصوات " الأدبية ضمت بعض المقالات والدراسات والحوارات التى ناقشت أعمالى حتى عام 1984 فى كتابين ، وثمة أعمال أخرى سابقة وتالية ، تفوق ما ضمه كتابا جماعة أصوات ، وهما " محمد جبريل وعالمه القصصى " و " قراءات فى أدب محمد جبريل " . أذكرك بكتاب حسين على محمد " البطل المطارد فى روايات محمد جبريل " ، وكتاب ماهر شفيق فريد " فسيفساء نقدية ـ تأملات فى العالم الروائى لمحمد جبريل " ، وكتاب سعيد الطواب " استلهام التراث فى روايات محمد جبريل " وكتاب نعيمة فرطاس " فلسفة الحياة والموت فى رواية محمد جبريل الحياة ثانية " ، وكتاب حسن حامد " مصر التى فى خاطره " ، وكتاب سمية الشوابكة " التراث والبناء الفنى فى روايات محمد جبريل ، وكتاب محمد زيدان " المنظور الحكائى فى روايات محمد جبريل " إلخ ..
مع ذلك ، فإنى ـ حتى الآن ـ لست مدرجاً فى قوائم ـ وبتعبير أدق : لست مدرجاً فى تصنيفات السادة الأعزاء من أدباء الأيديولوجية والشللية ونقادها . إذا أرادوا أن يتحدثوا عن كتاب القصة والرواية ، فإنهم يعلنون القائمة التى تضم ممثلى الأيديولوجية أو الشلة فى أقل تقدير .. ولأنى أتصور الكاتب أكبر من أى منصب أو تنظيم حزبى أو أيديولوجى ، لأنى أرفض مبدأ الشللية فى إطلاقه ، ولأنى لا أتردد على المقاهى والجلسات الخاصة ، وأفضل المشاركة فى المؤتمرات الثقافية ، والحياة مع الناس العاديين ، وقضاء غالبية الوقت فى بيتى أقرأ وأكتب .. لذلك كله فإن قوائم الشلل والأيديولوجيات تخلو من اسمى ، وإن وجدت تعويضاً حقيقياً ، وجميلاً ، فى الكثير من الكتب والدراسات والموسوعات المتخصصة والحوارات التى تناولت سيرتى الإبداعية وأعمالى ، وفى العديد من الرسائل الجامعية التى كان قرار أصحابها بإعدادها أول تعرفى إليهم .
أزمة النقد ـ التى يتجدد حديثها فى الصحف والدوريات ـ اصطنعتها تلك التقسيمات الجائرة ، والمنحازة .. حتى أنه يمكن القول : قل لى من هم نقادك ، أقل لك من أنت !
...............
1987 بإضافات.

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:04 PM
ملاحظات في فن الرواية
....................

" العمل الفنى شأنه شأن العالم ، شكل حى ، كائن ، لا حاجة إلى تبريره "
ألان روب جرييه

إذا كان الأسبانى خوان أنطونيو دى ثونتو نيغى يصف بالبؤس من يبدأ روايته دون أن يجهل كيف يتمها ، فلعلى أعترف أنى ذلك البائس . مدخل الرواية عندى يبدأ خطوطاً عريضة ، اسكتشات ، أجساداً بلا ملامح ولا تفاصيل ، ثم تبين الرواية عن ملامحها وتفصيلاتها فى أثناء عملية الكتابة . لحظات تخلق فكرة العمل الإبداعى ، مناوشتها لى ، توضح الملامح والقسمات ، واختفائها ، لتحل ملامح وقسمات أخرى ، تحاول أن تأخذ تصوراً أدبياً ، ولو فى صورة أولية تبدأ بها عملية الكتابة . وقد تتغير الصورة ـ فى أثناء الكتابة ـ تماماً . ولعلى أشير إلى قول فورستر ، إن الروائى ـ بدلاً من أن يقف خارج عمله ليسيطر عليه ـ يلقى بنفسه فيه ، ليحمله إلى هدف لم يكن يتنبأ به ..
الرواية ـ فى تقديرى ـ مشروع إبداعى ، تتحدد ملامحه وقسماته أثناء الكتابة . أرفض التصور المعمارى للعمل الإبداعى على نحو يطلب النهاية وهو فى مرحلة البداية ، ولا يترك النهاية تغيب عن أفق نظراته . وكما تقول إيزابيل الليندى : " لست أنا التى أحدد الموضوع ، وإنما الموضوع هو الذى يختارنى ، ويتلخص عملى ببساطة فى تكريس وقت كاف وعزلة وانضباط لكى أكتب وأحسب " . الكاتب يعرف قدراً كبيراً عن قصته مسبقاً ، فقد أنضجها فى ذهنه بعناية ، وفى الوقت نفسه لا يعرف بشكل مطلق ما يحدث فيها بالتفصيل . والسبب فى ذلك هو أنه متى بدأ كتابة قصته ، فإن أفكاراً جديدة تأتى فى أثناء انهماكه فى الكتابة . ويروى كاميليو خوسيه ثيلا تجربته : " تأتينى الرواية تلقائياً . إنها ليست بالشىء الذى أتهيأ له بتأن . عندما أظفر برواية داخلى ـ يمكن أن تظل داخلى عدة سنوات ـ فإننى لا أفكر بكيفية تطويرى لها . عند نقطة ما تبدأ بالتشكل من تلقائها ، وبخطوة ثابتة ، بعد فترة ثمانية إلى عشرة شهور . أنا لا أومن ـ الكلام لثيلا ـ بكتابة سيناريوهات تمهيدية . إذا كانت الشخصيات حية ، فما عليك إلاّ أن تفتح لها الباب وانظر ماذا تفعل . إن قصة فعل الشخصيات هى الرواية " .
وبالنسبة لى فثمة ومضات ، أو صور متكاملة ، تلح . أتشاغل عنها حتى يصبح الإلحاح سيطرة كاملة ، فأجلس لكتابتها . لا أنهى الجلسة حتى أتمها . لا يشغلنى أن يكون النص مفتوحاً أو مغلقاً ، ما يشغلنى أن تقلع الطائرة فى موعدها المناسب ، أن أضع نقطة الختام ، فى اللحظة التى يجب أن توضع فيها ، فلا اختصار مخل ، ولا ترهلات . ربما أهملت سذاجة بعض المواضع أو ركاكتها ، وربما جاوزت عصيان السرد فى مواضع أخرى ، لكننى أعود إلى العمل جميعاً بين فترة وأخرى ، أضيف وأحذف وأعدّل وأبدّل ، حتى تكتمل صورته فى عينى الناقد الذى هو أنا . وتتجدد صورة المشروع الإبداعى ، بل وتأخذ صوراً متعددة ، ودلالات متعددة بالتالى ، أثناء القراءة . وكما يقول ريموند فيدرمان Raymond Federman : فإن الكتابة تعنى إنتاج معنى لم يكن موجوداً من قبل . إنها تتخلق وتنمو ، دون أن تخضع لمعان مسبقة . لا تتمثل الواقع ولا تحاكيه ، ولا تحاول حتى إعادة خلق الواقع . إن لها واقعها الخاص بها ، مكانها الروائى الذى قد يشتمل على إمكانية حقيقية ، وأخرى غير حقيقية [ قرية جارثيا ماركيث " ماكوندو " ـ على سبيل المثال ] ، وقد تلجأ إلى زمن حقيقى ، لكن زمن الرواية يظل هو زمن الرواية . إن مفهوم الزمن الروائى يختلف بالتأكيد عن المفهوم المنطقى للزمن . انه زمن الرواية ، الزمن السميولوجى الذى يختلف عن الزمن الواقعى الذى يحيا فيه ، وبه ..
من هنا ، فإنى أرفض إخضاع الزمكانية الروائية للتذكر . أرفض : وتذكر فلاناً ، أو تذكر المكان الفلانى .. فالبديهى أن الشخصيات والأمكنة والأحداث تنثال إلى الذهن دون ترتيب ، ربما انعكاساً لمواقف عابرة ، أو كلمات يصلها الذهن بما سبق . لا يفصل الكاتب بين الآنى والسابق ، إنما تتداخل اللحظات دون حدود فاصلة . ثمة عشرات ، وربما مئات ، وربما آلاف التعبيرات والأمثال والمواقف والمجازات مودعة فى حافظة الذاكرة ، وهى تغادر مواضعها فى أثناء عملية الإبداع . تظهر على الورق فى لحظة قد تفاجئ المبدع نفسه .
وعلى الرغم من عدم اجتماعيتى المعلنة ، فإنى حريص على أن أتلمس التجربة وألامسها ، بدءاً بالقراءة ، وانتهاء بالمعايشة ، أو الممارسة الفعلية ، مروراً بالسفر ، والتعرف إلى الخبرات ، والارتماء فى المغامرة ما أمكن . وبتعبير آخر ، أن أحيا الحياة ، أخوض بحرها ، ولا أكتفى بالوقوف على الشاطئ ..
قد ينشأ الحدث الروائى من مجرد لحظات عابرة فى حياة الفنان . كتب جارثيا ماركيث قصته قيلولة الثلاثاء ـ التى يعتبرها أفضل قصصه القصيرة ـ بعد أن شاهد سيدة وطفلها يرتديان الثياب السوداء ، ويستظلان بمظلة من شمس الصيف الحارقة فى طريق صحراوى . أما رواية الورقة الساقطة فقد تخلقت من لحظة عجوز يحمل حفيده إلى القبر . وأما رائعته الكولونيل لا يجد من يراسله فقد جاءت بتأثير رؤيته رجلاً يعانى انتظار قارب فى أحد الأسواق . كذلك فقد استمد فوكنر شخصيته الرئيسة فى رائعته الصخب والعنف من فتاة ، كان يقود سيارته ، حين رآها تلهو بأجوحة أمام بيتها فى الجنوب الأمريكى [ أذكرك بقول تولستوى : إن الكاتب الجيد هو الذى يستطيع أن يكتب قصة كاملة من شجار عابر رآه فى الطريق ] . أما شخصية إمام مدنى السمرة فى روايتى مواسم للحنين فإنها ثمرة رؤية متكررة لذلك الرجل الذى كان يسير فى شوارع الإسكندرية ، وهو يرفع إصبعيه بعلامة النصر .
***
عقل الشاعر يدأب أثناء عملية الإبداع ـ فى رأى أ . إم . فورستر ـ على دمج تجارب منفصلة ومتفاوتة ، وظنى أن ذلك أيضاً دأب الروائى والقاص والمسرحى ، المبدع بعامة . لقد جاءت كل تجربة إبداعية لى مختلفة عن التجارب السابقة ، تتخلق الشخصيات والأحداث والمصائر فى أثناء العملية الإبداعية ، وتتخلق الصورة الفنية كذلك . حين أبدأ فى كتابة قصة أو رواية ، فإن الصورة هى التى تفرض الإطار ، أو ـ بالتعبير النقدى ـ يفرض المضمون الشكل . لا أتخذ قراراً مسبقاً بالتكنيك الذى تختاره القصة أو الرواية ـ هى التى تختار ! ـ السرد العادى ، الاتجاه إلى المخاطب المشارك ، الاتجاه إلى المخاطب المتلقى غير المشارك ، الراوى العليم بكل شئ ، طريقة الاسترجاع [ الفلاش باك ] ، أسلوب التقطيع ، تصاعد الأحداث هارمونياً ، طريقة التبقيع ، القص واللصق [ الكولاج ] إلخ ..
الراوى ـ فى اللون الذى كتبت به روايتى النظر إلى أسفل ـ لا يتجه إلى القارئ وحده ، لكنه قد يتجه إلى متلق آخر فى داخل العمل ، متلق مشارك ، أو غير مشارك ، فى الحدث القصصى ، لا يراه القارئ وان تخيله . يتجه إليه الراوى بما يقول ، فهو قارئ مفترض ، متلق اخترعه الكاتب وتصوره القارئ . المتلقى الحقيقى للعمل ، وإن اختلف عنه المتلقى داخل العمل فى أنه جزء من العمل بالمشاركة ، أو أنه يتحدد فى إطار السلبية ، لا يسهم فى تجسيد الحدث القصصى ولا نموه . ملامحه ضائعة أو باهتة لأنه غير موجود بالفعل داخل العمل . لا أحد على مستوى النقد المتخصص ، أو القراءة العادية تعرف إلى ذلك المتلقى : هل هو صديق لشاكر المغربى ؟ هل هو وكيل النيابة " هل هو محقق الشرطة ؟ هل هو شاكر المغربى نفسه ؟.. صعب القول بتعريف محدد ، لأن المتلقى الذى تتجه إليه الرواية ـ فى داخلها ـ غير مشارك ، فهو غير موجود فعلاً ، وتغيب من ثم ملامحه الجسمية والنفسية .
ولأنى من غلاة المؤمنين بوحدة الفنون ، فقد شغلت على مستوى التجريب ـ منذ روايتى الأولى الأسوار بالتجريب الشكلى ، بالتكنيك ، مثل التقطيع والفلاش باك والمونولوج الداخلى وتيار الوعى وأسلوب التحقيق ، إلى غير ذلك من الخصائص الشكلية . ولعلى أسرف فى التجريب أحياناً ، فأتوقع عدم الفهم ، أو الرفض ، لدواع فنية أو دينية أو سياسية ، وأحتفظ ـ من ثم ـ بما كتبت فى داخل الأدراج [ التجريب كلمة لها العديد من المعانى والدلالات ، بل إنها لا تجد نفسها لغوياً ، بمعنى أنه لا يوجد لها المقابل اللغوى الدقيق . هل هو الاختلاف ؟ هل هو الخروج عن التقليدى ؟ هل هى المغايرة ؟ هل هى المجاوزة ؟ هل هى محاولة الإضافة ؟ هل هى محاولة التفرد والتعبير عن الخصوصية الفنية ؟ . يظل التجريب كلمة حمالة أوجه ، بمعنى أن معناها ودلالتها تختلف من مبدع إلى آخر ، فضلاً عن أن البعض يرفض الكلمة إطلاقاً . وعموماً ، فإنى أرفض التجريب الذى يطيل الوقوف أمام الإبداعات الأوروبية ، فهو ـ فى حقيقته ـ تقليد ، وليس تجريباً . التجريب هضم لقراءات وتجارب وخبرات ، ومحاولة إفراز ذلك من خلال خصوصية مؤكدة ] . فى ضوء ذلك ـ أو فى ظله ـ كتبت مجموعتى الأولى تلك اللحظة ، ودفعت بها إلى المطبعة . ولأنى حرصت على التجريب فيما كتبت ، فقد غلبت الذهنية أحياناً ، والمباشرة أحياناً أخرى ، فى بعض المواقف . وثمة العديد من قصصى القصيرة هى إسكتشات ، أو إرهاصات ، بأعمال روائية . أشير إلى روايتى بوح الأسرار التى نشرت قصة قصيرة ـ منذ عشرين عاماً ـ فى " الآداب " البيروتية . ثم شغلتنى ، وناوشتنى ، كإبداع روائى . وقد بدأت روايتى من أوراق أبى الطيب المتنبى باعتبارها قصة قصيرة ، ثم طالت فصارت رواية ، لا من حيث عدد صفحاتها فحسب [ أكثر من 150 صفحة ] وإنما من حيث تعدد شخصياتها وأحداثها ، وتوالى تلك الأحداث موجة إثر موجة ، وهى خاصية روائية بعكس القصة القصيرة التى تشبه الدوامة ..
وبالطبع ، فإنه من الصعب تصور أن يجلس المبدع ليكتب دون تصور ما ـ ولو تصور هلامى ، أو اسكتش بلغة الفن التشكيلى ـ لما يعتزم إبداعه . حاول أستاذنا نجيب محفوظ ذلك فى أعقاب نكسة 1967 ، وكان الذهن مشغولاً ، والنفس تعانى ، لكنه حرص على الجلسة اليومية ما بين السادسة والثامنة مساء . لم يكن فى ذهنه ما ينقله على الورق ، واحتذى حذو بعض الكتاب الأوروبيين ، وترك القلم ـ دون فكرة مسابقة ـ يسود بياض الصفحات ، فلخص ـ بتناول جديد ـ روايته القديمة عبث الأقدار . وكتب قصصاً قصيرة أخرى ، لا ترقى إلى مستوى إبداعاته بعامة ، فهى ـ أحياناً ـ تسرف فى التلغيز ، وتبدو ـ أحياناً ثانية ـ أقرب إلى المعادلات التى تهب شفرة تطلب الحل !
وإذا كان رأى مالارميه " إن الآلهة توحى لنا بالأبيات الأولى من القصيدة ، أما بقية القصيدة فينبغى أن نعتمد فيه على أنفسنا " ، فإن تشيخوف يرى أن الفنان لا يختار موضوعاته ، إنما هى التى تختار الفنان . الآلهة قد توحى بالسطور الأولى ، لكن بقية النص الإبداعى هى من صنع النص نفسه ، فهى تتخلق ـ فى أثناء عملية الكتابة ـ من داخله . لقد أعلن تورجنيف دهشته حين رأى ما حل ببطله " بازاروف " فى روايته الآباء والأبناء . وحين بدأ تولستوى كتابة روايته أنا كارنينا ، كانت المرأة باردة العاطفة ، وكانت تستحق المصير الذى واجهته ، لكنه اكتشف ـ بعد أن أنهى الرواية ـ أن صوت الرواية ـ الذى يختلف بالتأكيد عن صوت الروائى . وقد أشار سهيل إدريس فى تقديمه لروايته الحى اللاتينى إلى أن بطلى روايته أصابعنا التى تحترق فرضت مقتضيات الحدث الروائى ـ عكس ما كان يتوقع ! ـ أن يخون الرجل زوجته ، وتوشك الزوجة على الخيانة كذلك ، وخضع الفنان ـ على حد تعبيره ـ لتصرفات بطليه . حتى كلود سيمنون الذى كان يحرص على أن يعد ملفاً بأسماء شخصيات رواياته ، وأعمارهم ، ووظائفهم , وعاداتهم ، ونوعية الأمراض التى أصابتهم ، أو ستصيبهم ، وما إذا كانوا متزوجين ولهم أبناء . حتى كلود سيمون لم يكن يعرف ـ باعترافه ـ إلى أين تمضى الرواية التى يكتبها ، ولا النهاية التى سيضع عندها نقطة الختام .
ثمة مبدعون كبار يحرصون على التعرف إلى العمل الإبداعى ـ قبل الجلوس لكتابته ـ من ألفه إلى يائه . جابرييل جارثيا ماركيث يشير إلى أنه يمعن التفكير فى القصة ـ قبل كتابتها ـ سنوات طويلة ، حتى يستطيع حكايتها مرات كثيرة " من أمام ، ومن خلف ، وكأنها كتاب انتهيت من قراءته " . ونجيب محفوظ يعد ملفات بالملامح الظاهرة والجوانية لكل شخصاته ، حتى الشخصيات الهامشية ، أو التى تبدو كذلك . وقد وافق يوسف الشارونى على ملاحظتى بأنه يعرف موضع الكلمة فى داخل الجملة ، فى داخل السطر ، فى داخل النص . ويؤكد ماريو بارجاس يوسا إنه يحسب كل شىء بإحكام قبل أن يبدأ فى الكتابة . وعلى الرغم من إلحاح السؤال : كيف يفكر كاتب السيناريو ، وأن ذلك الأسلوب فى التفكير يتناقض مع التلقائية فى كتابة الرواية أو القصة . إنه أنسب بتقنية السيناريو الذى يعرف جيداً ـ قبل أن يبدأ التصوير ـ دور كل شخصية وموضع كل مشهد وكلمة .
الإبداع عندى لحظة اكتشاف ، تساوى معناها عند المتلقى . تفاجئنى الشخصيات والأحداث ، مثلما تفاجئ القارئ تماماً ، وتفاجئنا ـ القارئ والكاتب ـ النهاية التى ربما لم يتوقعها كلانا . أنا لا أعرف شيئاً مسبقاً . أعرف البداية فقط . أما النهاية ، فلست كاتباً للسيناريو حتى أحددهـا قبل أن أخلو إلى العمل . ليس عندى نتائج مقررة أحددها سلفاً .
على الرغم من ذلك ، فإن اختلاف وسيلة الكتابة بين القصد والعفوية ، لا تعنى التقليل من شأن الكتابة القصدية ، بقدر ما تعنى اختلافاً مزاجياً ، وفى طريقة الكتابة بين مبدع وآخر .
أنا لا أختار النهاية التى قد تفاجئ الفنان نفسه . لا أعرف حاضر شخصياتى ولا مستقبلهم ، لا أعرف كل شئ سلفاً ، فهى ليست مجرد خيوط أحركها . أفضل أن أبدأ خالى الذهن إلاّ من البداية ، وصور بلا ملامح محددة ، كالهلاميات ، ثم تكتسب الصورة ـ أثناء الكتابة ـ ملامحها . أذكر قول كلود سيمون : " قبل أن أكتب على الورق ، لا يوجد شئ إلاّ حشد غير محدد من الأحاسيس التى تكاد تكون غامضة ، ومن الذكريات التى تعانى غياب الوضوح ، فضلاً عن أن مشروع الكتابة نفسه يكون ضبابيا " . قد تكون البداية مجرد ومضة ، مشهداً عابراً ، عبارة قيلت عفواً . وعلى حد تعبير فورد مادوكس ، فإن الحياة توحى للفنان بمادة فنه ، لكن هذا الاستيحاء يقتصر على بذرة العمل الفنى ، على صورته الهلامية ، قبل أن يجد تجسيداً له فى أثناء عملية الإبداع .
ثمة اختلاط بين لحظات الماضى والحاضر واستشرافات المستقبل ، بين الفكرة التى تلح على نحو ما ، والقراءات ، والخبرات ، ومشاهدة أو سماع الأعمال الإبداعية . بل إنه أثناء فعل الكتابة تتوالى الصور والعبارات التى نسيتها تماماً ، لكنها تفد إلى الذاكرة . فالقلم ، فى لحظة غير متوقعة ، لحظة تختار نفسها ولا نختارها نحن ، نستعيدها واضحة أو شاحبة الملامح ، وقد تختلط الأزمنة والتفصيلات ، وان شكلت لبنات فى بنية العمل . وانحياز إبداعى لقيم محددة ، أو لقضايا بعينها ، أو لجماعة ما ، لا يأتى بقرار ، لا ألوى عنق العمل الإبداعى من أجل توصيل مقولتى ، وإنما التعبير عن ذلك يأتى من خلال العمل نفسه . قد تكون المقولة قديمة ، وقد يرفضها الحداثيون ، لكننى أومن أن كل مضمون يفرض الشكل الخاص به . وكما تقول ناتالى ساروت :" لا أظن أنه بوسع إبداع ما ، رواية أو لوحة فنية أو مقطوعة موسيقية ، أن يتحول إلى مجرد تطبيق لفكرة مسبقة . إنه بحث يبدع نفسه ، فهو يقرر بنفسه مسائله الخاصة به " . ولعلى أضيف قول نورمان ميلر إنه يبدأ فعل الكتابة دون أن يعرف ما الخطوة ـ أو الخطوات ـ التالية . إنه يعتمد على اكتشاف العمل لنفسه ، واكتشاف المبدع للعمل أثناء الكتابة ، ويعتمد ـ فى كل الأحوال ـ على الحياة التى يثيرها العمل " أشعر دائماً كأنى لست أنا الذى أكتب القصة ، وإنما أنا مدفوع للكتابة ، فلا أملك إلاّ أن أكتب " . البداية ـ دائماً ـ هى أصعب ما فى الأمر . السطر الأول فى عمل ما هو الأهم . أحيا الشعور بأن النهاية فى مدى الأفق .
ولم يكن مورافيا يعد إبداعاته مقدماً بأية صورة ، ولم يكن يفكر فيها عندما يكون مشغولاً بالكتابة . وكانت فرانسواز ساجان تبدأ الكتابة لكى تأتيها الأفكار ، وربما تغير أثناء الكتابة كل انتوت تسجيله من أحداث . وقد وصف الشاعر جورج راسل أوفلاهرتى بأنه أوزة حين يفكر ، وعبقرى حين يكتب الشعر . والمعنى الذى يقصده هو القيمة التى يكتسبها العمل إذا انطلق من العفوية ، وعبر بها ..
وشخصياً ، فإنى أبدأ بكتابة القصة القصيرة على أنها كذلك ، ثم ما تلبث ـ بتوالى الأمواج ـ أن تتحول إلى رواية . تتعدد الشخصيات ، وتتعدد الأحداث ، وتتسع المساحة ، ويزيد عدد الصفحات ، ليطالعنى ما كتبته ـ ختاماً ـ فى صورة رواية . ذلك ما حدث فى روايتى من أوراق أبى الطيب المتنبى . بدأت فى كتابتها قصة قصيرة ، لكن كثرة المصادر والمراجع ، وتبين الكثير مما يستحق التوقف بدّل ملامح القصة القصيرة ، فأصبحت رواية ، ليس فى مجرد زيادة عدد الصفحات ، وإنما فى اكتسابها لخصائص الرواية بعامة ..
وفى تقديرى أن انتهاء العمل الإبداعى عند نقطة محددة ينطوى على تعسّف مطلق فى التعامل مع حيوات كان يجب أن تظل مستمرة ، وهى تلك التى كانت لشخصيات الرواية قبل أن تختفى بالنهاية المغلقة . القصة قد تنتهى عند نقطة ما تختارها ، لكنها ليست النقطة التى تنتهى عندها حياة الشخصية ـ أو الشخصيات ـ فى الرواية ..
***
(يتبع)

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:05 PM
الشخصية الروائية تنتمى إلى مبدعها من حيث وضع البذرة فى الأرض ، النطفة فى الرحم ، لكنها تكتسب ملامحها من عملية التخلق . وإذا كان ميشيل بوتور يذهب إلى أن الروائى يبنى أشخاصه ، شاء أم أبى ، علم ذلك أو جهله ، انطلاقاً من عناصر مأخوذة من حياته الخاصة ، وأن أبطاله ما هم إلا أقنعة يروى من ورائها قصة ، ويحلم من خلالها بنفسه ، فإن القصة تكتب نفسها ، تستمد مقوماتها ، حياتها ، خصوصياتها ، من داخلى ، من ثقافتى وتأملاتى وخبراتى وخبرات الآخرين ، من التفصيلات والمنمنمات التى تشكل ـ فى مجموعها ـ نظرة الفنان الشاملة ، فلسفة حياته . لم يبدأ بيكاسو من اللحظة ، ولا من المطلق ، لكنه استوعب تاريخ الفن التشكيلى جيداً ، قبل أن تجرى ريشته بالخط الأول . درس مبادئ التصوير ، وتعرف إلى التقاليد الفنية منذ ما قبل عصر النهضة وإلى الفن الإغريقى والرومانى المسيحى . وتعرف أيضاً إلى تقنيات متحف السلالات البشرية ، وعلى أعمال السكان الأصليين لقارة استراليا وعلى أعمال الهنود الحمر والفن الفرعونى والهيلينى والقبطى والإسلامى إلخ .
وأحياناً ، فإنى أتقمص الشخصية بالتوغل فى العمل الإبداعى . تصبح هى أنا ، أو أصبح أنا هى . وبالتأكيد ، فقد كنت ـ على سبيل المثال ـ منصور سطوحى فى الصهبة ، ومحمد قاضى البهار فى قاضى البهار ينزل البحر ، وعماد عبد الحميد فى النظر الى أسفل ، ورءوف العشرى فى الخليج ، وحاتم رضوان فى الشاطئ الآخر ، وصلاح بكر فى صيد العصارى ، والراوى فى زوينة ، وهاشم السعدنى فى زمان الوصل ، والراوى شاباً فى مواسم للحنين ، بل إنى لم أضمن شخصية إسماعيل صبرى روايتى أهل البحر إلا لأن اسمه أطلق على الشارع الذى ولدت ، ونشأت فيه .
ولعلى أتوقف أمام الشخصية المسماة ـ بلغة السينمائيين ـ " الكاراكتر " ، الشخصية غير المألوفة ، والصامتة أحياناً ، سواء على المستوى الجسدى أو النفسى . الشخصيات العادية لا تلفت انتباهى ، لا أتوقف أمامها ، أعبرها بالعين وبالتأمل فى آن . أتذكر قول جين مالاكويه لنورمان ميلر : " الكتابة هى السبيل الوحيد لمعرفة الحقيقة . والوقت الوحيد الذى أعرف فيه أن شيئاً ما حقيقي ، هى اللحظة التى يعلن فيها عن وجوده أثناء فعل الكتابة . أنا أكتب لأكتشف ما أفكر فيه ، وما أنظر إليه ، وما أشاهده ، وما يعنيه ذلك كله ، ما أتطلع إليه وما أخافه ، وما الذى يدور فى توالى الصور داخل ذهنى " ..
وطبيعى أن الحرص على أن تكتب القصة نفسها قد أثمر بعض النتائج السلبية ، وأخطرها الوقوع فى " مطب " السهو . فأنا أسمى الشخصية ، ثم أختار ـ لسبب أو لغير سبب ـ اسماً آخر ، ويختلط الاسمان فى لحظات الكتابة ، فلا أنتبه إلى التداخل المعيب إلا فى لحظات القراءة . هذا ما حدث فى روايتى ياقوت العرش ، حين اختلط اسما المنزلاوى والتميمى ، وفى روايتى بوح الأسرار عندما أصبح اسم سليمان عبد الواحد ـ فى بعض الأحيان ـ سلامة عبد الواحد !. وفى زمان الوصل تسلل اسم الشخصية الحقيقى إلى إحدى الفقرات .
***
أصارحك بأنى لا أميل إلى القصة التى تراعى القواعد الفنية التقليدية : البداية ، والذروة ، والحل ، وهو مايسمى بالقصة القوس Arcstory، لكننى أوافق رامان سيلدن على أن : " الحبكة Mythos هى التنظيم الفنى لأحداث القصة " . لا أتصور قصة بدون حبكة . الحبكة هى الفنية . ومن الصعب تصور فن بدون فن . القصة تظل حكاية ، حتى تحيلها الحبكة الى قصة ، تهبها الخاصية الفنية . والقصة تكتب نفسها إطلاقاً ، حتى التكنيك ، الصورة الفنية تختارها القصة ، أسلوب الراوى الذى يعرف كل شئ ، أسلوب الراوى الذى يخاطب المشارك ، أسلوب الراوى الذى يخاطب غير المشارك . وقد لاحظ أنتونى ترولوب أنه لم يعرف على الإطلاق كيف ستنتهى قصته ، فضلاً عن أن الحبكة تبدو غائبة التفاصيل عندما يبدأ الكتابة . أتذكر قول ميشيل بوتور : " هنالك مادة ما ترغب فى الظهور ، وبمعنى آخر : ليس الروائى هو الذى يضع الرواية ، بل الرواية هى التى تضع نفسها بنفسها ، وما الروائى سوى أداة إخراجها ، ومولّدها . ونحن نعرف مقدار ما يتطلبه ذلك من علم ومعرفة وصبر وأناة " ( ت فريد أنطونيوس )
من عادتى أن أقرأ ما أكتب ، ثم أعيد القراءة ، ثم أضيف وأحذف وأبدّل ، وربما مزّقت أوراقاً مما كتبت ، وربما مزّقت الأوراق كلها ، لا أطمئن إلى انتهاء العمل إلاّ إذا اطمأن الناقد فى داخلى إلى تلك النهاية ..
وإذا كان ابن عميرة يرى أن قواعد الإعراب لا تفيد فى الكشف عن معانى الكلام وجماله ، أو أنها ليست من مسببات جمال الكلام ، فإن اللغة ـ تحديداً ـ ليست هامشاً فى العملية الإبداعية ، ليست مجرد أداة ، ولكنها جزء مهم فى نسيج العمل . ولعلى ـ مع ذلك ـ أحذّر من إغراء اللغة بما يسئ إلى العملية الإبداعية ، ويحيلها إلى كلمات ، أو عبارات ، جميلة ، مرصوصة ، لكنها تفتقد الروح . لا أقصد بأن تكتب القصة نفسها أن يبدع القلم الفكرة . ربما انساق القلم وراء سحر الكلمة المكتوبة ، فهو يبحث عن جماليات اللغة ، ولا ينظر إلى اللغة على أنها فحسب أداة تعبير ، أداة توصيل . اللغة ليست مجرد إطار . ليست مجرد توشية أوحلية . إنها لا تنفصل عن الحدث فى العمل الإبداعى ، فهى ـ فى أقل تقدير ـ وعاء الإبداع ، وسيلة الصياغة ، وإهمال الوعاء أو الوسيلة أشبه بتغليف جوهرة ثمينة بورقة ممزقة متسخة . وبالتأكيد فإن الرواية التى توظف التراث الفرعونى تختلف عن الرواية التى توظف التراث العربى ، وعن الرواية التى تصور واقعنا الآنى . لا أعنى التقليد أو المحاكاة أو ارتداء الأثواب المتعددة . قد يفيد الفنان من مفردات الفترة ، أو العصر ، يحيلها خيوطاً يضفر منها نسيج عمله الفنى . إذا أراد المبدع أن تكون له شخصيته الخاصة ، فلابد أن يكون له أسلوبه الخاص . الكلمات التى نستخدمها يجب أن تعبر عن موهبتنا الخاصة ، عن قاموسنا اللغوى الخاص ، عن طريقتنا فى صياغة الجملة . اللغة ليست مجرد كلمات ، ولكن بنى مركّبة ، وعبارات مؤلفة ، ونسق من الكلمات التى تحتفظ بفاعليتها الخاصة . ما أعنيه ليس مجرد الصياغة الأسلوبية ، أو بمجرد الحرص على موازين النحو والصرف وأصول البيان والبلاغة التراثية ـ وهى مهمة مطلقاً ـ وإنما العناية بالإيقاع والمفردات والتعبيرات ، ميلها إلى القصر أو الطول ، إفادتها من التشبيهات والاستعارات والكنايات وغيرها من " الحيل " البلاغية ، وغيرها . فإذا وضعت نقطة النهاية ، عدت الى " النص " أحذف كل مايمكن الاستغناء عنه ، فبديهى أن يبرأ من الأحداث الزائدة أو غير المبررة ، ومن الحشو والنتوءات . ولعل فى مقدمة ما أحرص عليه أن أجدد قاموسى اللغوى ، سواء بتطعيم اللغة بموروث مهجور ، أو بمفردات عادية ، تمليها الضرورة الفنية ، لا تسئ إلى جماليات اللغة ، ولا إلى السياق ، أو بخلق مفردات وتعبيرات تضيف إلى العمل ، وإلى اللغة بعامة . ولعلى أذكر قول الطيب صالح : " إننى على معرفة جيدة بالإنجليزية ، وعندى بالفرنسية معرفة لا بأس بها ، وأستطيع أن أجزم أنه ليس من لغة تضاهى جمال العربية " .
لقد وصف هارولد بنتر الجملة عند همنجواى بأنها كتلة واحدة ، يستطيع أن يحملها بيده ، ويقول إنها تستحق أن تبقى ، فهى أساسية . إن قلم المبدع يجب أن يؤدى دوره فى حذف كل ما يشكل نتوءاً فى عمله ، أو أن العمل فى غير حاجة إليه ، مهما تبدو الكلمة ، أو العبارة ـ فى ذاتها ـ جميلة . أكره الكلمة النشاز أو المجافية للسياق . أذكرك بما فعله تولستوى فى الحرب والسلام ، فقد بلغت أصولها ـ عقب الكتابة الأولى ـ أكثر من أربعين ألف صفحة ، فحذف الفنان تسعة أعشارها !..
وثمة أدباء كبار لا يعنون بعلامات الوقف والترقيم ، لا يلتفتون اليها . ما يشغلهم هو الكتابة وحدها ، السرد وحده . لا يستوقفهم اتصال الجمل ، وتغيّر اللحظات بما يستدعى وضع نقطة أو فصلة أو بدء جملة جديدة . وفى رأيى أن علامات الوقف والترقيم مهمة جداً . إنها ليست زخرفاً ولا وشياً ، وإنما هى تضيف إلى العمل بصورة مؤكدة . وإذا كنت قد لجأت إلى ترك فراغ أبيض فى النظر الى أسفل و الشاطئ الآخر ، فلم يكن ذلك لتصوير مرور الزمن ، وإنما لتصوير حالة مغايرة ، بصرف النظر عن استمرارية الزمان أم انقطاعها . أتذكر قول هنرى جيمس إن تصوير مرور الزمن يجب أن يتم بطريقة تختلف عن مجرد ترك فراغ أبيض ، أو الفصل بين الفقرات بصف من النجوم ..
***
يقول أرسكين كالدويل : " الكتابة عادة ، تتكون فى أنفسنا مثل التدخين " . أى فرد يريد أن يصبح كاتباً ـ كما يقول بول جاليكو Paul Gallico " ـ لا يوجد أمامه سوى ممارسة الكتابة باستمرار ، لا أن يحلم بأن يكتب ، ويفكر فى الكتابة ، ولا يخرج بأفكاره إلى حيز التنفيذ . فالكتابة أشبه بعضلة من العضلات ، كلما قمت باستعمالها وتمرينها ، كلما ازدادت مرونتها ، واستطعت استعمالها بسهولة تامة " . وثمة نصيحة يقدمها معظم المبدعين ـ وهى نصيحتى أيضاً ـ هى ألا يتحدث المبدع عن عمله قبل أن يبدأ فى كتابته ، ذلك لأنه عندما يتحدث عن العمل الذى يعد نفسه له ، سيكتفى بالكلمات الشفاهية ، ولن يجلس إلى الورق والقلم ـ لكتابته ـ يوماً . مع ذلك ، فإنى أحرص على أن أدفع بمسودات كتاباتى ـ بعد أن أضع نقطة الختام ـ إلى أصدقاء ، قد لا يكون لبعضهم بالأدب صلة حقيقية : أثق فيما كتبت ، وأعرف أن آراء الآخرين لن تدفعنى إلى إعادة كتابته ، أو إجراء تعديلات فى البنية أو السرد . ما أريده من قراءاتهم هو تنبيهى إلى مواضع القصور المعلوماتى . اسم شخصية ثانوية أكتبه فى فقرة تالية باسم آخر ، الاعتماد على الذاكرة المتعبة فى ذكر تاريخ قد لا يكون صحيحاً إلخ ..
***
يبقى أنه إذا لم تحقق القصة ما أرجوه منها ، ولها ، فإنى أفضل التخلص منها ، واعتبارها كأنها لم تكن ، ولا أحاول كتابتها ثانية . إنها أشبه بالطلقة التى خرجت من فوهة المسدس ، يصعب أن تستخدم ثانية .
.............................
الثقافة الجديدة ـ فبراير 2008م.

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:06 PM
دلالات الكتابة
...........

الكلمات تدوم أكثر من الأحجار كثيراً
كاميلو خوسيه ثيلا

أتفق مع تشيخوف فى قوله " إن الفنان يكتب قصة عندما يريد التعبير عن فكرة " . أختلف ـ فى المقابل ـ مع ألان روب جرييه فى أن الحدوتة لم يعد لها قيمة فى رواية اليوم ، وألح فى رفض الرأى بأن رواية القرن العشرين قد انعدم فيها المغزى . إن أهم المشكلات التى تعنى بها البنيوية ـ مع تحفظى المعلن على إمكانية تعبيرها عن مشروعنا الإبداعى أو النقدى ـ هى معنى النص ، أو قدرته على الدلالة . المعنى ، أو الدلالة ، هى كذلك المشكلة الأهم للمشروعات النقدية النى ظهرت عن الحداثة . وإذا كان رامان سلدن يذهب إلى أن مهمة الفن هى أن يعيد الينا الوعى بالأشياء التى أصبحت موضوعات مألوفة لوعينا اليومى المعتاد ( ت . جابر عصفور ) فإن الحدوتة ، الحكاية ، الفكرة ـ المسميات كثيرة ـ تظل هى نواة العمل الروائى ، بعداً رئيساً لها . اذا حاول المبدع أن يستغنى عنها ، فإنه يستغنى عن عمود مهم فى أساسات عمارته الروائية . أرفض قول فورد مادوكس بأنه على الفنان أن يحتفظ برأسه ، فلا يمنح تعاطفه لأحد من البشر ، ولا لقضية من القضايا ، وإنما عليه أن يظل ملاحظاً بلا مشاعر فياضة ولا شفقة . الفنان ينتهى ـ كما يقول مادوكس ـ إذا تحول إلى داعية . وهو قول صحيح تماماً . فللداعية وسيلته ، ولعالم الاجتماع وسيلته ، وللفنان وسيلته كذلك ، وهى ـ ببساطة ـ وسيلة الفن . وإذا كان تشيخوف يرفض أن يكون الكاتب قاضياً يحكم على شخصيات عمله الإبداعى ، ويطالب الكاتب بأن يكون شاهداً غير متحيز ، فإنى أجد انحياز الكاتب لقضية ما ، لوجهة نظر معينة ، لموقف أو مجموعة مواقف ، مسألة مهمة ومطلوبة ، ولعلى أتصورها ـ للفنان الحقيقى ـ بديهية . الفنان لا يجدف فى الفراغ ، ولكن يجب أن تكون له وجهة نظر ، رؤية معينة ، أو ما يسمى ـ بالنسبة للفنان المتكامل الثقافة والموهبة والخبرة ـ " فلسفة حياة " . ولعلى أذكرك بقول كازنتزاكس إن الكتابة ربما كانت ممتعة فى وقت التوازن واعتدال الأمزجة . أما الآن ، فالكتابة واجب حزين لتحفيز الآخرين على أن يتخطوا الوحش الكامن فى داخل الإنسان .
***
ثمة رأى أنه يجب أن تقدم القصة القصيرة فكرة فى الدرجة الأولى ، ثم وجهة نظر مخلصة فى الطبيعة الإنسانية ، ثم يأتى الأسلوب فى النهاية . بل إن وت بيرنت الذى يرى أن قصة بلا وجهة نظر مع فنية متفوقة لا تساوى شيئاً ، يفضل أن يكون للمبدع مقولة دون بناء فنى ، على أن يكون لديه بناء فنى دون مقولة . النص المغلق ودعناه فى قصص أمين يوسف غراب ، النهاية الباترة الحاسمة التى تحرص أن تهب المتلقى دلالة واحدة ، وحيدة . والحق أنه لا يشغلنى شخصياً إن كان تعدد الدلالة مما يذهب إليه النقاد الجدد أم لا ، لكننى أومن بتعدد دلالة العمل الإبداعى . كلما تفوقت فنية العمل الإبداعى تعددت دلالاته ، والعكس ـ بالطبع ـ صحيح . الاختلاف بين النص العلمى والنص الأدبى أن النص العلمى يعنى بتحقيق معنى محدد ، دلالة واضحة لا مجال فيها للمجاز أو البلاغة . أما النص الأدبى فهو يرفض ـ فى دلالته أو دلالاته ـ المعنى المحدد . إن قيمته ـ فى تقديرى ـ فى تعدد معانيه ، فى تعدد دلالاته ، وبتعبير آخر : فى تعدد مستويات القراءة . ولعلى أضيف إن النص الإبداعى ليس نصاً واحداً ، ولكنه نصوص متعددة بتعدد القراءات والتأويلات . لا أقصد التفكيكية ، وإنما أقصد ما يجب أن تكون عليه النهاية الجيدة للنص الجيد . إساءة القراءة كما يذهب التفكيك ، معنى لا أفهمه ، ولا يهمنى ، بل أعنى القراءة الواعية الفاهمة التى تتعدد بها مستويات التلقى . ولعل الاختلافات النقدية حول روايتى " الصهبة " ما يبين عن تعدد الدلالات . ثمة من اعتبرها تصويراً للعلاقات الأسرية فى تشابكاتها المحيرة ، ومن وجد فيها تناولاً لضغوط الواقع الاقتصادى وتأثيراتها ، وثمة من اعتبرها رواية واقعية ، ومن اعتبرها فانتازيا يختلط فيها الواقع بالحلم .. واجتهادات أخرى كثيرة ، تنتهى إلى دلالات عابرة تصل ـ فى تباينها ـ إلى حد التضاد !
الرواية ـ فى رأى روجر ب. هينكلى ـ يمكن أن تكون وسيلة ادراك معرفى ، بمقدورها أن تزودنا برؤية صحيحة عن عالم الحياة والأحياء والعلاقات الإنسانية تفوق فى قدرتها على التأثير فينا مايمكن أن نحصّله من علم الاجتماع والتاريخ والنفس والإنسان ( قراءة الرواية ) . وأتذكر قول ميشيل بوتور : " أنا لا أكتب الروايات لأبيعها ، بل لأحصل على وحدة فى حياتى . إن الكتابة بالنسبة لى هى العمود الفقرى " .
***
تقول سيمون دى بوفوار : " ان الرواية الفلسفية إذا ماقرئت بشرف ، وكتبت بشرف ، أتت بكشف للوجود لا يمكن لأى نمط آخر فى التعبير أن يكون معادلاً له . انها وحدها التى تنجح فى احياء ذلك المصير الذى هو مصيرنا ، والمدون فى الزمن والأبدية فى آن واحد ، بكل ما فيه من وحدة حية وتناقض جوهرى " .. مع ذلك فإن الرواية التى أعنيها هى التى تعبر عن فلسفة الحياة ، وليست الفلسفة بالمعنى الميتافيزيقى . للمبدع وجهات نظر فى الدين والفلسفة وما وراء الطبيعة والتاريخ والسياسة والعلم والفن . وهو يضمن إبداعاته ذلك كله ، أو جوانب منه . أرفض تحول الروائى إلى مفكر جدلى ، كما أرفض أن يتحول المفكر الجدلى الى روائى . ذلك نوع من الخلط يسئ الى الفلسفة والى الرواية فى آن . أعرف أن تولستوى يواجه اللوم ـ حتى الآن ـ للفقرات الفلسفية المقحمة على رواياته . إن أعمال كاتب ما يجب أن تشكل وحدة عضوية ترتبط جزئياتها بأكثر من وشيجة ، لأن رؤية الفنان لقضايا الإنسان الأساسية تتردد كالنغم عبر أعماله جميعاً ، وتربطها كلها فى وحدة عضوية متماسكة " ( صبرى حافظ : المجلة ـ مارس 1964 ) على الرغم من ـ أو مع الإشارة إلى ـ تحفظ فورد مادوكس أن تعقد الحياة المعاصرة ، قد يتيح لنا تأمل الحياة طويلاً ، ولكن من المستحيل أن نراها فى صورتها الكلية . ولعلى أشير كذلك إلى قول ألان روب جرييه " الفن ليس فيه شئ معروف قبلاً ، فقبل العمل الأدبى لا يوجد شئ ما ، لا يقين ولا دعوى ولا رسالة . والزعم بأن الروائى لديه شئ يقوله ، وأنه يبحث بعد ذلك عن كيفية قوله . زعم فاحش الخطأ ، فإن هذه الكيفية ، أو طريقة القول ، هى ـ بالتحديد ـ التى تكون مشروعه بوصفه كاتباً ( ت . شكرى عياد ) .
***
الأدب هو الأسبق دائماً فى النظرة ، فى محاولة استشراف آفاق المستقبل . إنه يسبق فى ذلك حتى العلم نفسه . وكما يقول كافكا : " فإن رسالة الكاتب هى أن يحول كل ما هو معزول ومحكوم عليه بالموت إلى حياة لا نهائية . أن يحول ما هو مجرد مصادفة إلى ماهو متفق مع القانون العام . ان رسالة الكاتب نبوية " . كانت القيمة الأهم لإبداعات تولستوى هى الترديد المستمر للأفكار العامة ، للنظرة الشاملة ، لفلسفة الحياة ، فى مجموع تلك الأعمال . وكان ذلك هو الذى أعطى أعمال تولستوى ـ كما يقول أدينكوف ـ " تكاملاً وتماسكاً داخلياً " . وعلى حد تعبير تولستوى ، فإن الكاتب الذى لا يمتلك نظرة واضحة ، محددة وجديدة للعالم ، ويعتقد أن ذلك بلا ضرورة ، لن يستطيع تقديم عمل فنى حقيقى . وإذا كان الموت هو المصير الإنسانى ، فإن العمل هو سلاح الإنسان ضد الموت " بالعمل وحده سيبزغ الفجر ، ولو فى القبر " . وقد حاول كل من تولستوى وديستويفسكى أن يجيب عن السؤال : هل الحياة جديرة بأن تحيا ؟. وكان تقديرهما أن الحياة التى نحياها ليست مجرد جسر إلى حياة أخرى ، أو أنها تنتهى بالعدم . ثمة ما ينبغى أن نتطلع إليه ، وأن نحاول صنعه حتى ننتزع للإنسانية أملاً من ظلمة المستقبل . وكان الإيمان بالعمل هو البعد الأهم فى الفلسفة الحياتية لأنطون تشيخوف . كان الطب مهنة تشيخوف ، وكان الأدب هوايته ، لكنه أخلص فى العناية بحديقته الصغيرة ، كأنه يحترف الزراعة ، وكان رأيه أنه لو أن كل إنسان فى العالم فعل كل ما بوسعه فى الرقعة التى تخصه ، فسيكون العالم جميلاً . يقول : " إن ما يحتاجه الإنسان هو العمل المستمر ليل نهار ، والقراءة الدؤوبة ، والدراسة ، والسيطرة على الإرادة ، فكل ساعة من الحياة ثمينة " . ويذهب إيتالو كالفينو إلى أننا كلما تقدمنا فى قراءة تشيخوف ، التقينا بشخصيات تقرر ـ فى نهاية الأمر ـ أن تعمل بجدية ، أو تتكلم عن تلك الحياة الرائعة التى ستقوم على لأرض بعد مائة عام ، أو بعد مائتين ، أو عن تلك الزوبعة التى سوف تجتاح كل شيء " . ويقول الدكتور أستروف بطل مسرحية " الخال فانيا " : " كل ما فى الإنسان يجب أن يكون جميلاً ، وجهه ، ملابسه ، روحه ، أفكاره ، ما أمتع لذة احترام الإنسان وتقديره " . والقيمة الأهم فى روايات الروسى إيفان جونتشاروف هى " الدعوة الموضوعية إلى العمل الذى تمليه الأفكار الأخلاقية الكبرى : التحرر من العبودية الروحية والاجتماعية عن طريق كل ما هو إنسانى وروحى " . أما رؤية د . هـ . لورنس المتكاملة فتعنى بعزلة الإنسان فى العالم الحديث ، والانفصام الحاد بينه وبين الطبيعة ، فى مقابل تشويه الثورة الصناعية ، وتأثيرها بالسلب على المدينة والقرية فى آن . والحرية هى النبع الذى تنهل منه أفكار سارتر وكتاباته الفلسفية ، وإبداعاته . إنها المحور فى فلسفة حياته ، حرية الفرد والجماعة والوطن . أما همنجواى فقد تمحورت رؤيته الحياتية فى أن العالم قادر على تحطيم أى انسان ، لكن كثيرين يستعيدون قواهم ، وينهضون . الحياة ـ فى نظر شخصيات همنجواى ـ معركة خاسرة ، لكن الهزيمة تصبح نصراً إذا واجهها المرء بنفس شجاعة ومقاومة ، أبطال همنجواى يدركون أن الموت هو الواقع الذى لا مفر منه . إنه اليقين الوحيد فى حياة الإنسان . وبتعبير آخر ، فإن الإنسان ـ فى فلسفة همنجواى الحياتية ـ قد يتحطم ، لكنه لا ينهزم . أبطال همنجواى يدركون أن الموت هو الواقع الذى لا مفر منه . إنه اليقين الوحيد فى حياة الإنسان ، ولعل ممارسة الجنس فى أتون المعارك الحربية ، والتلذذ بمصارعة الثيران ، وبالصيد .. لعل ذلك يمثل تحدياً ـ ولو عبثياً ـ لحتمية الموت . وعلى حد تعبير جارثيا ماركيث فإن شخصيات همنجواى لم يكن لها الحق فى الموت قبل أن يعانوا ـ لبعض الوقت ـ مرارة الانتصار . الإنسان ـ عند كامى ـ يكتشف عبثية الحياة ، لا معقوليتها ، وليس بوسعه الاّ أن يتحدى كل شئ فى هذا العالم . شجاعة الإنسان ـ فى تقدير كامى ـ ليست فى غياب اليأس ، وإنما فى القدرة على التحرك ضد اليأس ، ضد عبثية الحياة . إن العادلين فى مسرحية كامى يحملون رسالة تعطى لحياتهم معنى ، فهم يحيون من أجل أدائها ، ويجعلونها قضيتهم . وباختصار ، فإنه لكى يحيا الإنسان يجب عليه أن يبقى على شعور العبث فى داخله كى يستمد منه طاقة التحدى اللازمة للبقاء .
***
(يتبع)

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:07 PM
إن ما يغيب عن ابداعاتنا هو الفلسفة المتكاملة ، فلسفة الحياة التى تستطيع أن تربط الأفكار بالانطباعات . فمعظم روائيينا يرون أن العمل الإبداعى يجب أن يقتصر على المتعة ، على تحقيقها ، واستثارة اهتمام القارئ ومتابعته ، ومشاعره . أذكر قول أستاذنا زكى نجيب محمود : " ان الكاتب فى مصر ، انما يكتب فى غير قضية أساسية تكون فى حياتنا الفكرية والأدبية بمثابة القطب من الرحى " . حيادية الإبداع مسألة يصعب تقبّلها . بعض الأصدقاء المبدعين يعتز بحيادية ابداعاته . وهـو قول ينطوى على قدر من المبالغة ، أو من النية الحسنة . المبدع ـ فى تقديرى ـ يجب أن يكـون منحازاً لقيمة ، أو لقضية ، أو لقيم ، أو لجماعة . هذا الانحياز يبين عن نفسه على نحو ما فى مجموع أعمال المبدع ، وهو ماسميته بفلسفة الحياة ، تلك الفلسفة التى تطالعنا ـ بصورة مؤكدة ـ فى أعمال نجيب محفوظ ، بينما تغيب ـ أو تكاد ـ فى أعمال غالبية مبدعينا
يوماً ، سألت يوسف السباعى عن فلسفته فى أعماله . وتطرقت المناقشة إلى توفيق الحكيم . قلت : عبّر الحكيم عن فلسفته نظرياً فى كتابه " التعادلية " ، وعبر عنها تطبيقياً فى الإبداعات التى أصدرها ، ونحن نجد فارقاً كبيراً بين النظرية والتطبيق عندما نفتقد التعادلية فيما قرأناه للحكيم . إنه يتحدث عن فلسفة أخرى يمكن تسميتها " الزمانية " ، الزمن فى حياة الإنسان المصرى ، وانعكاسه على قيمه ومعاملاته ونظرته إلى الأمور . قال السباعى فى تحيّر : الواقع أننى لم أفكر فى الزمنية هذه فى أعمال الحكيم ، ولم أبحث عنها . ولعلى أستعيد قول أحمد بهاء الدين إننا إذا جمعنا أعمال الحكيم الفكرية والآراء التى عبر عنها ، فسنجد أنه عبر عن كل رأى ، ودعا الى الشئ ونقيضه .
واللافت أن الزمن هو نبض العديد من الأعمال الإبداعية العالمية ، مثل عوليس لجيمس جويس ، والبحث عن الزمن المفقود لمارسيل بروست ، والجبل السحرى لتوماس مان إلخ .. وبالطبع ، فإن الفكرة الفلسفية تصبح ـ فى اللحظة التى تدخل فيها إلى العمل الفنى ـ خاضعة لقوانينه ، وليس لقوانين العمل الفلسفى .
***
بالنسبة لى ، فإنى أكاد أتصور أن الكتابة خلقت من أجلى ، قبل أن أخلق أنا للكتابة . لا أتصور نفسى فى غير الكتابة ، وفى غير القراءة والتأمل وتسجيل الملاحظات والإبداع . الكتابة عندى جزء من حياتى اليومية . جزء من تكوينى الجسدى والنفسى ، وهى مثل احتياجات الإنسان الضرورية ، مثل الطعام والجنس والنوم والحرية . أذكر قول رايومونى Rayaumoni " لقد أصبحت روائياً بالضرورة ، وما استطعت تجنب ذلك " .
لقد بدأت فى المعايشة والملاحظة والاختزان من سن باكرة للغاية ، ربما لأنى كنت مهموماً بكتابة القصة فى تلك السن . لم أتعمد أى شئ ، لكن ما أختزنه ـ دون تعمد ـ من قراءات ، وتجارب لى ، وتجارب للآخرين ، ورؤى ، وخبرات ، وملاحظات ، يظهر فى لحظة لا أتوقعها أثناء فعل الكتابة . ثمة مشكلة ، أو مشكلات ، تلح على وجدان الكاتب ، وتبين عن ملامحها فى مجموع أعماله ، هذه المشكلة أو المشكلات ، هى محصلة خبرات شخصية ، وتعرف إلى خبرات الآخرين ، وقراءات وتأملات يحاول التعبير عنها من خلال قدرة إبداعية حقيقية . وحتى الآن ، فإنى أستعير من توماس هاردى قوله ، فى إجابته عن السؤال ، عن فلسفة الحياة فى أعماله ، بأنه ليس له فلسفة بعد ، وإنما هى كومة مختلطة من الانطباعات ، مثل انطباعات طفل حائراً أمام عرض سحرى . أنا أحاول أن أفيد من قراءاتى ، وخبراتى ، وخبرات الآخرين ، صوغ وجهة نظر متكاملة . ولعلى أزعم أن عالمى الإبداعى يتألف من " تيمات " أساسية يدور حولها ما أكتبه من رواية وقصة . من يريد تناول أعمالى ، أو حتى يكتفى بقراءتها ، أن يقرأ كل هذه الأعمال ، مجموع ما كتبت . ثمة وجهات نظر ، نظرة شمولية ، إطار عام ، أحاول أن أعبر ـ من خلاله ـ عن فلسفة حياة مكتملة ، بالإضافة إلى محاولات التجريب تقنياً ، ربما أعدت تناول التيمة الواحدة فى أكثر من عمل . لا يشغلنى التكرار بقدر ما يشغلنى التعبير عما أتصوره من أبعاد فلسفية حياتية .
وطبيعى أن نظرة الكاتب الى الهموم التى تشغله ، موقفه الكامل منها ، يصعب أن تعبر عنـه قصة واحدة أو قصتان ، لكننا نستطيع أن نجد بانورامية نظرة الفنان فى مجموع أعماله ، وفى كتاباته وحواراته التى تناقش تلك الأعمال . لذلك فإن الكثير من أعمالى تنويع على لحن سبق لى عزفه فى أعمال سابقة ، وربما مهدت لعمل ما بعملين أو ثلاثة ، أعتبرها إرهاصاً لذلك العمل ، أو أنها استكمال له . إنى أفضل أن أُقْرأ كعمل كلى ، وليس كأعمال منفصلة . أن يقرأ الناقد مجموع أعمالى ، ويتأمل دلالاتها المنفصلة ، ودلالاتها الكلية ، يحاول أن يتعرف فيها إلى فلسفة حياتى ، إلى نظرتى الشاملة . للمبدع وجهات نظر فى الدين والفلسفة وما وراء الطبيعة والتاريخ والسياسة والعلم والفن . وهو يضمّن إبداعاته ذلك كله ، أو جوانب منه . وقد حاولت ـ فى مجموع كتاباتى ـ أن أعبر عن القضايا الأساسية التى تلح على ذهنى ، وأعتبرها قضية حياة . لست الكاتب البريطانى أنتونى باول الذى يؤكد أن هدفه من الكتابة ، هو إعادة تشكيل العالم ، أو تحقيق النظام فيه .. ولا أريد ـ مثل الألمانى ستيفن هيرمان ـ أن أترك أثراً ، بل ولا أريد ـ بقصد ـ تغيير العالم اليومى للمتلقى ، الذى هو واحد ممن تتجه إليهم إبداعاتى . ما أريده أن أتخطى حواجز المكان ، بل وحواجز الزمان ، فأتخذ من الإنسان موضوعاً ، ومن العالم موضعاً ، وأجعل وقتى هو العصر الآنى . أتفهم قول أندريه موروا إنه ليس على الرواية أن تبرهن على شيء ما ، فالعمل الفنى ليس جدلاً ، ولا برهاناً ، وخصيصته ـ بالعكس ـ هى أن يبعث على الإقناع ، بمجرد التأمل " إنه هناك ، هذا كل شيء " .
إن تجربتى الإبداعية ـ على تعدد أبعادها وتنوعها ـ تحاول الخضوع لوجهة نظر شاملة ، لفلسفة حياة تحاول التكامل ، وإن استخدمت فى كل عمل ـ الأدق : يستخدم كل عمل ـ ما يناسبه من تقنية . إن القارئ المتأمل يستطيع أن يتعرف إلى المبدع ، فى مجموع ما كتب .
ظنى أن القضية الأساسية فى خلفية كل القضايا هى الوجود الإنسانى : الحياة ، المصير ، الموت ، ما بعد الموت ، وما قد يخلفه الإنسان من أثر فى هذا العالم . ثمة الحب ، والموت ، والإحساس بالمطاردة ، والوحدة ، والحنين إلى الماضى ، والعزلة عن الجماعة ، وصلة المثقف بالسلطة ، والقهر فى الداخل ، والغزو من الخارج . لكن العنوان العريض الذى أتناول ـ من خلاله ـ تلك القضايا هو المقاومة ، مقاومة كل مظاهر القهر والمطاردة والتسلط والعبث .
من المؤكد أنى لا أميل ، بل أرفض دعائية الفن وجهارته وتقريريته ومباشرته ، لكننى لا أنفى القيمة ، لا أرفضها . أجد فيها بعداً مهماً فى العمل الإبداعى ، وإلاّ تحول إلى ثرثرة لا معنى لها ، لا قيمة فيها ولها . ربما أكون محمّلاً بفكرة ، أو مقتنعا بها ، وربما حاولت أن أعبّر عن ذلك فى كتاباتى ، لكنى أفضّل أن يتم على نحو فنى ، فلا تقريرية ، ولا جهارة ، و لامباشرة ، وإنما حرص مؤكد على فنية العمل الإبداعى من حيث هو كذلك ..
***
كانت الأسوار هى روايتى الأولى . كتبتها بعد إنهاء الأجزاء الثلاثة من كتابى " مصر فى قصص كتابها المعاصرين " [ أفردت لذلك مقالة مستقلة ] . ثم شغلتنى إمام آخر الزمان . حاورت فيها أصدقاء ، أذكر منهم سامى خشبة الذى سألنى وهو يودعنى فى رحلة عمل الى منطقة الخليج : لماذا تشغلك دائماً فكرة المخلص ؟..
تقول أسطورة يونانية ان الآلهة تهجر المدن المهجورة . ويقول مالرو : " إننا نعلم أننا لم نختر أن نولد ، وإننا لن نموت باختيارنا ، وأننا لم نختر أبوينا ، وأننا لا نستطيع أن نفعل شيئا ضد الزمان " . الموت هو الحقيقة التى تواجهنا ، تصدمنا ، منذ بواكير حياتنا . يموت الأب أو الأم ، فنبدأ بالقول الكاذب : لقد سافر . ثم نعلم الإبن السائل بالحقيقة ـ فيما بعد ـ فيبدأ فى إلقاء الأسئلة : ما الموت ؟ ما الآخرة ؟ ما الجنة والنار ؟ إلخ . نحن نمضى فى الطريق إلى الموت دون أن تكون لنا إرادة . إنه ـ كما يقول مالرو ـ يحيل الحياة إلى مصير . من الأصوب أن نواجه الموت باسم غاية نحيا من أجلها . يتساءل مالرو : ماقيمة حياة لا يقبل المرء أن يموت فى سبيلها ؟ . إن الإنسان يقامر بحياته فى سبيل ما يؤمن به من قيم ، ويتحدى الموت بوصفه التأكيد النهائى لشخصيته الحقة . سيكون للبذل ، للتضحية ، معنى : لو أنه اكتفى بما قدمه دون أن ينتظر جزاء إيجابياً ، ولا يفاجأ بأن الجزاء سلبى . وقد فضّل الحسين ـ كما تعلم ـ أن يستشهد ، على أن يتنازل عن الفكرة التى يؤمن بها . المثقف الحقيقى مطالب ـ دوماً ـ بأن يغلب الموضوعى على الذاتى . إنه يرضى بالمنطق الذى ترفضه العلاقة بين حبيبين ، فهو يحب من طرف واحد ، لا ينتظر من المحبوب اعترافاً بالجميل ولا مساندة ، وربما انتظر جزاءً سلبياً . إنه قد يموت وهو يهتف باسم من دفع حياته ثمناً لخذلانه ، لخذلان المثقف !
***
القهر فى الداخل ...
أتذكر كلمات خوان جويتيسولو ـ بعد وفاة فرانكو ـ " لقد عشنا احتلالاّ طويل الأمد وغير ملحوظ من الخارج ، احتلالاً بلا خوذ ولا بنادق ودبابات ، وليس احتلالاً للأراضى ، بل احتلال للعقول " . الإنسان مطارد منذ الميلاد إلى الموت . إنه ـ كما يقول سارتر ـ مخلوق يطارده الزمن ، لكن المطارد فى رواياتى ليس الزمن وحده . إنه قد يكون السلطة ، أو قيم الجماعة ، أو غيرها مما قد يضيع حياته فى محاولة الفرار منه . قد يكون البطل مطارِداً ، وقد يكون ـ فى الوقت نفسه ـ مطارَداَ . ذلك ما يسهل تبينه فى شخصية منصور سطوحى فى الصهبة ، أو شخصية السلطان خليل بن الحاج أحمد فى قلعة الجبل ، أو أبى الطيب المتنبى فى أوراقه ، أو زهرة الصباح ، أو رءوف العشرى فى الخليج ، أو الحاكم بأمر الله فى سيرته الروائية ، إلخ.
وإذا كان المصريون القدماء يسمّون الموت " النزول من البحر " ، فإن محمد قاضى البهار نزل الى البحر ، ولم ينزل منه ، فهو اذن قد نزل الى الحياة . وبالإضافة الى محاولة قاضى البهار الفرار من القهر ، فإنى أتصور حياته قد أظهرت الهوة التى تفصل بين عالم المثالية الذى كان يحيا فيه ، والواقع القاسى الذى يريد أن يفرض عليه طقوسه وقوانينه وأحكامه ، وهو واقع لا يستند إلى قيم نبيلة ، ويلجأ الى الزيف والخداع ونكران الحقيقة ..
والآن ، فإن التيمة الأساسية التى تلح فى غالبية أعمالى ، هى مواجهة الآخر ، سواء بالمقاومة الجسدية ، أو بتفعيل التحدى الحضارى ..
إن الصراع العربى الإسرائيلى ليس مجرد مواجهات سياسية وعسكرية ، إنما هو صراع ذو إبعاد تاريخية وحضارية وثقافية . إنه تواصل واستمرارية حياة ، وتناول الإبداع لجوانب من ذلك الصراع لا يعنى السقوط فى هوة المباشرة أو الجهارة ، بل إن الإعمال الكبيرة هى التى تناولت قضايا كبيرة . المثل : خريف البطريرك " لجارثيا ماركيث ، والحرب والسلام لتولستوى والطاعون لكامى ، والحرافيش لمحفوظ ، والحرام لإدريس ، وسمرقند لمعلوف ، وغيرها . وبالنسبة للصراع العربى الصهيونى ـ تحديداً ـ فمن الصعب إغفال أعمال غسان كنفانى المهمة ، مثل رجال فى الشمس ، وعائد إلى حيفا ، و " ما تبقى لكم " وغيرها . ذوى إعجابى القديم بعبقرية زفايج ، وروايات كافكاا ، واجتهادات فرويد ، ونظرية إينشتين ، ولوحات شاجال . شحبت الملامح الجميلة فى مرآة الصهيونية . فرض التوجس نفسه حتى فيما لم يعد يحتمل ذلك .
***
ماذا يبقى من ذلك كله ؟..
بالطبع فإن المتلقى قد ينشد الدلالة فى العمل الإبداعى . وقد يكتفى فحسب بمتعة التلقى ، بمتعة القراءة أو السماع أو المشاهدة . لكن الكتابة بقصد التسلية ـ على حد تعبير جورج مور ـ سوف تنتهى بالفن إلى لا شىء .
أوافق على الرأى بأن الإنسان إذا تعلم أن ينظر إلى الفن على أنه شىء لا ينتمى إلى الجمال والحق ، بل إلى الرأى وحده ، فإنه ـ كما قيل ـ سيفقد بصيرته ، ويصبح كما يريده رجال العصابات ، حيواناً ينتمى إلى قطعان "
وإذا كان رامان سلدن يرى أن العمل الإبداعى الجيد هو الذى يخبرنا بالحقيقة عن الحياة الإنسانية ، بالكيفية التى تكون عليها الأشياء ، فإنى أستعير قول بورخيس : " المهم أن يبقى أربع أو خمس صفحات من كل ما يكتبه الكاتب " .
...........................
الأسبوع الأدبى ـ 13/5/2006م.

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:07 PM
القـــــراءة
.............

إن المرء هو حصيلة ما يقرأه . وكما يقول كارلوس فوينتس : " أنت تتكون من الشىء الذى تأكله ، كما أنك المجلات المصورة التى تمعنت فيها وأنت طفل " ..
كانت مكتبة أبى ، التى تعلمت فيها القراءة ـ بالإضافة إلى الكتاب المدرسى ـ باعثاً لأن أقرأ كتب " الكبار " قبل أن أقرأ كتب " الأطفال " . قرأت طه حسين والحكيم والجبرتى والأصفهانى والمقريزى والماوردى وأجاثا كريستى وألكسندر دوماس ، قبل أن أقرأ كتب سعيد العريان وفريد أبو حديد وكامل كيلانى . أقصد كتبهم التى صدرت للأطفال . أتاح لى زميلى فى الفرنسية الابتدائية ممدوح الطوبجى ، قراءة كل تلك الأعمال . قام بدور مكتبة الإعارة ، فهو يعيرنى رواية ، أعيدها فى اليوم التالى ، وأحصل على رواية أخرى ، وهكذا ..
والحق أن مكتبة الطوبجى لم تقتصر على كتب الأطفال ، فقد تعرفت فيها ـ للمرة الأولى ـ إلى صلاح جاهين . طالعنى عالمه الإبداعى الجميل فى قصائده الأولى . ولازلت أذكر ـ حتى الآن ـ ترديدى لأسطر القصيدة : القمح مش زى الدهب .. القمح زى الفلاحين .. عيدان نحيله .. جدرها مغروس فى طين ..
المؤكد أن القراءة صرفتنى عن شواغل وهوايات كثيرة . استولت على كل وقتى ، فانصرفت عما عداها . فتحت أمامى نوافذ وأبواباً ، وسلطت الضوء على فضاءات متسعة ، امتدت آفاقها بتنوع القراءة وخصوبتها وجدواها ، وتعبيرها عن الأنا والهو والوطن والعالم . أذكر وصف هنرى ميلر لرامبو بأنه كان يقرأ وهو واقف ، ويقرأ وهو فى طريقه إلى العمل . حتى كرة القدم والجمباز وتنس الطاولة وغيرها من الألعاب التى أحببتها ، ما لبثت أن انصرفت عنها لاعباً ، واكتفيت بالفرجة على مبارياتها إن أتيح لى ذلك ..
وفى مطالع الستينيات ، فى الأيام الأولى لعملى بالصحافة ، كنت أركب الترام أو الأوتوبيس إلى ميدان القلعة . أصعد فى شارع المحجر . يطل ـ فى أسفل ـ على أحواش المقابر ، وفى امتداد النظر على أحياء القاهرة . أصل إلى دار المحفوظات ، فأضغط على الجرس المثبت بالباب . يعلو الرنين فى المكان بكامله . هذا زائر ربما يكون لصاً ، فاحذروا !. أرقى السلالم إلى القاعة العلوية . فسيحة ، فى جوانبها كتب ومجلدات . أطلب ما يعن لى قراءته . يجتذبنى اسم الصحيفة ، وقِدم تاريخ صدورها ، فأطلبها . زادت تلك الفترة من حبى القديم للتراث . بدأت بقراءة ما كانت تضمه مكتبة أبى من كتب تراثية ، ثم بدت لى صحف دار المحفوظات عالماً ينتسب إلى العالم الذى كنت أحياه ..
النسيان هو ما أعانيه فى القراءة . أتبين ـ فى فقرة ما ـ قد تتضمنها الصفحات الأخيرة ـ أن هذا الكتاب قد سبق لى قراءته ، وأقبل عليه كأنى أقرأه للمرة الأولى . ما يثبت فى الذاكرة مما أقرأه قليل ، لا أتمتع بالذاكرة الحافظية التى كان يمتلكها العقاد وكامل الشناوى . ثباته فى الذاكرة لأنه يهمنى ، أو لأنه عمق من فهمى لقضية ما .
أمضيت معظم حياتى فى ثنايا الكتب . ثمة كتب أقرأها فلا أذكر أنى قرأتها إلا عندما أصل إلى معلومة ما ـ ربما فى نهاية الكتاب ـ بما يذكرنى أنى قرأته من قبل . وثمة ـ فى المقابل ـ كتب تظل فى داخلى ـ الذهن والوجدان معاً ـ تناوشنى ، وأستعيد ما بها من شخصيات ومواقف وأحداث . القيمة الأهم عندى هى معايشة آلاف الشخصيات والأحداث والتواريخ والمعالم والأفكار . الوجود الإنسانى منذ بداياته : عهود ما قبل التاريخ . أيام الإسلام الأولى . مؤامرات القصور . حكايات الحب العذرى . اكتشافات المناطق المجهولة . نشأة الزراعة . عصر البخار . أعماق المحيطات والبحار وضفاف الأنهار . الأسواق العتيقة والقيساريات . لحظات التاريخ الحرجة . محاكم التفتيش . حضارات الفراعنة . عقود العرب فى الأندلس . معاناة المقيدين فى الأقبية والزنازين . شخصيات شكسبير . حكايات شهرزاد . رحلة الإسراء والمعراج . رسالة الغفران . الكوميديا الإلهية . إبداعات الواقعية الطبيعية . سير الملوك والقاصرة والأكاسرة وقطاع الطرق والجوارى والزهاد وقادة الجيوش ، وبنو هلال والخليفة الزناتى والظاهر بيبرس وأبو الحسن الشاذلى والسيد البدوى وإبراهيم الدسوقى وكليوباترة وشجر الدر . غزوات الإسكندر . الفايكنج . الغزوات الصليبية . الثورة الفرنسية . الانقلابات العسكرية .. إلخ .
ومع أنه قد أتيح لى قراءة الكثير من الكتب ، فإن الكثير من الكتب لم يتح لى قراءتها . أوزع ساعات اليوم ـ بصرامة ـ بين القراءة والكتابة وأمور الحياة اليومية . وإن كان أغلب الوقت للقراءة ، لكن مشروعى القرائى لم يتحقق على النحو الذى كنت أتطلع إليه . ما كنت أتصور أنى سأقرأه فى يوم واحد ، ربما استغرقت قراءته أسبوعاً أو أكثر . وثمة كتب أعيد قراءتها مرة ثانية ، وثالثة ، وفى كل مرة يبين الكتاب عن جوانب لم أكن قد تنبهت إليها . وأحياناً فإنى أقرأ النص الإبداعى ـ فى المرة الأولى ـ لمجرد المتعة ، ثم أناقش ـ فى المرة أو المرات التالية ـ ما يحمله النص من دلالات . فى النص الواحد قابلية لبضع دلالات ، وليس ثمة قراءة يمكن أن تستنفد أبداً كل المعانى المطروحة فيه . ما يشغلنى هو النص . لا شأن لى بحياة المؤلف ولا بموته ، ولا بأن إزاحة المؤلف تؤدى إلى القراءة " التى هى فى الأثر الأدبى قراءة استهلاكية تقيّد القارئ بالمعنى الحرفى للنص " ، ولا لتقريب القراءة من الكتابة بحيث يصبح القارئ كاتباً . النص هو الكتابة التى أقرأها ، العالم الذى يلح الكاتب فى اجتذابى إليه ، أو تنفيرى منه ..
أعترف إنى أفضل أن أقتنى الكتاب . أشتريه ، أو أحصل عليه بالإهداء ، ولا أستعيره ، الكتاب الذى أبدأ فى قراءته ـ إن كان يستحق القراءة بالفعل ـ أبدأ معه ـ فى الوقت نفسه ـ علاقة صداقة . وقد يتحول إلى صديق جميل ، فأنا لا أتصور أنى أستغنى عن صداقته ، لا أستطيع أن أستغنى عنه !. وحين أقرأ عملاً إبداعياً ، فإن قراءتى له تختلط باستعادة ذكريات شخصية ، وتخيل ، وتأمل . أحب الكتاب الذى يحتفظ برونقه . يضايقنى اتساخ الصفحات أو تمزقها . أرمقها ـ فى لحظات القراءة ـ بنظرة مستاءة ، متكررة . والحق أنى أحب الكتب بعامة . أحبها مصفوفة فى داخل الأرفف ، أو على طاولة ، أو فى واجهات المكتبات ، أو عند باعة الصحف . تجتذبنى فأتأمل العناوين ، وربما قلبت الصفحات بسرعة قبل أن يراجعنى البائع فيما أفعل ، أو يبدى تذمره . أجد نفسى بين الكتب كالمتصوف فى الحضرة . تجتذبنى حتى الرائحة . تمنيت أن أعمل فى مكتبة . أقضى الوقت فى مهنة تتصل بالقراءة . أقلب الكتب بيدى ، أبيعها ، أشتريها ، أقرأها .
إن رواية جيدة قد تصرفنى عن أشياء كثيرة . لا أتابع المناقشات ، ولا أشاهد التليفزيون ، ولا أتناول الطعام فى موعده ، ولا أذهب إلى النوم . أسلم نفسى لسحر القراءة الجميل . القلم الرصاص فى يدى ، أخط به تحت التعبيرات التى تستلفت نظرى ، فهى تحتاج إلى التأمل ، أو إلى المناقشة . لا أميل إلى الحرف الكبير ، لأنه قد يصلح للكتب المدرسية ، ولا أميل إلى الحرف الصغير لأنه يجهد العين . الحرف المتوسط لا يزيد صفحات الكتاب أكثر مما ينبغى ، ويريح العين فى القراءة . وأفضل أن تكون فقرات النص متصلة ، منفصلة ، بمعنى أن يظل السياق متصلاً ، تقطعه ـ لتسهيل القراءة ـ فواصل ، كالعناوين الفرعية ، أو الموتيفات الصغيرة ..
ولاشك أن الكلمات التى تكتب للقارئ ، تختلف عن الكلمات التى تطالع مشاهد المسرح ، وعن الكلمات التى تخاطب الأذن المستمعة . والحق إنى لا أحسن الإصغاء ، ولا أحسن الاستماع عموماً . أهب سمعى لمحدثى لحظات ، ثم أطير إلى جزر بعيدة وقريبة ، تعزلنى عن محدثى وعن كل ما حولى . أنسى مجرد وجوده . أكتفى بهزة من رأسى بما يعنى المتابعة . المصيبة لو أنه قطع حديثه وسألنى فى أجزاء مما قال . يعرونى ارتباك ، وأغمغم بما لا يعبّر عن معنى محدد . حتى الإبداعات التى أستمع إليها ، أغمض عينى ، وأحاول التركيز حتى لا أشرد ، فأفقد القدرة على المتابعة ..
النص ـ كما نعرف ـ ما هو مكتوب . ويقول والتر سلاف : " إن الأعمال الأدبية تكتب لكى تقرأ " . ومع أن مصطفى ناصف يشدد على أن كل نص مقدس يراعى فيه قراءة الجهر لا قراءة العين ، وأن إهدار القراءة الجهرية إهدار لمعنى الرسالة أو البلاغ أو البطولة أو الخطاب الحى البرىء ، فإن طريقتى الوحيدة فى القراءة هى الصمت . القراءة سراً . لا أتصور أن القراءة بصوت مرتفع تساعد على التركيز ، ومن ثم على الاستيعاب . [ ثمة رأى يقول : من المهم أن تسرع فى القراءة لكى تتفادى الملل ] . قيل إن " القراءة فى الصمت الذى يرافقها ليست إلاّ امتداداً للعمل الأدبى نفسه " . وعندما أستغرق فى القراءة ، فإنى أمارس فعل الاستغراق ، لا أقرأ لمجرد أن أتعرف إلى تفصيلات الحدث ، ولا حتى إلى الملامح الظاهرة أو النفسية للشخصيات ، إنما أحاول التعرف إلى جماليات العمل الإبداعى : اللغة ، الفنية ، السرد ، الحوار ، الدلالة .. كل ما يتصل ببنية العمل الإبداعى . وبالتحديد ، فإنى أبحث فى العمل الإبداعى ـ ربما لأنى أحاول الإبداع ـ عن كل ما يهبه ـ أو لا يهبه ـ من خصوصية . وبالطبع ، فإن المروى عليه ، أو المخاطب ، يختلف عن القارئ . المخاطب جزء فى العملية الإبداعية . أما القارئ فهو جزء فى عملية التلقى . القارئ متابع للحدث الذى يشارك فيه الراوى والمروى عليه . القارئ مخاطب غير مشارك ، بمعنى أنه لا يسهم فى صياغة الأحداث ولا تنميتها . يتخيل ، ويناقش ، ويوافق ، ويرفض ، وإن تحدد دوره فى متابعة ما يقوله النص . أما المخاطب فى داخل العمل الإبداعى فهو قد يكون مشاركاً أو غير مشارك ، لكنه يتصل على نحو ما بصميم العمل . المخاطب المشارك يملك الفعل ، مثل شهريار الذى لم يلغ إنصاته لحكايات شهرزاد توقع إنهائه للعبة الحكى . كانت شهرزاد راوية ، وكان شهريار مروياً عليه ، أو مخاطباً مشاركاً . أما القارئ فهو يتابع ما يدور بين الراوى والمروى عليه . مشاركته تتحدد فى المتابعة ، وانعكاس الأحداث على وجدانه . قد يكون المروى عليه مشاركاً ، فالراوى يتحدث عن مواقف شاركا ـ الراوى والمروى عليه ـ فى صنعها ، أو فى تلقيها . وقد يكون المخاطب ، أو المروى عليه ، غير مسمى . لا يعرف القارئ اسمه ، ولا مهنته ، بل ولا دوره فى أحداث العمل الإبداعى . هو أشبه بالموضع الذى يعيد إلى القارئ صدى الحدث . إنها قراءة ـ كما يصفها رولان بارت " لا تترك شيئاً يمر ، تزن النص وتتشبث به " . إن القراءة ـ بما تحمله من معلومات وخيال وآراء ـ تحرّك مخزون الذاكرة ، تستدعى ما كان غائباً ، أو مفتقداً . وكما يقول أندريه موروا ، فإن القراءة فن يستطيع المرء عن طريقه أن يلتقى من جديد بالحياة نفسها لكى يتفهمها على غير حقيقتها عبر الكتاب نفسه .
***
الإنسان ـ فى تقدير أفلاطون ـ يحول ما يقرأ إلى صورة منطوقة . الكلام هو الصورة الأصلية للغة . ويقول جمال الدين بن الشيخ إن القراءة لا تنحرف بالحكاية [ القصة ] لكنها تتولد فيها . إنها ترتكز على اختيار دلالة معينة ، توجه مجموع النص فى اتجاه منظوره الخاص ، وفى اتجاهه فقط . إن القارئ هو الذى ينتج النص من خلال فعل القراءة ، يسقط عليه وعيه وفهمه وخبراته وثقافته ، وربما حالته النفسية فى لحظات القراءة . ومن جماع ذلك كله ينتج أبعاد النص الشكلية والمضمونية ، ويسقط دلالته أو دلالاته . إن قراءة أى نص هى ـ على نحو ما ـ قراءة ثقافة القارئ وفهمه ووعيه وخبراته . طبيعى أن تختلف دلالة العمل الإبداعى باختلاف قرائه ، باختلاف ثقافتهم ومستواهم التعليمى وأمزجتهم وحالتهم النفسية وانتمائهم الطبقى . قد أجد فى القصة دلالة ما ، تختلف عن الدلالة التى تتحقق فى لحظة أخرى مغايرة ، بل إن النص قد لا يتكيف مع كل قارئ يدخل فى اتصال معه . القارئ الذى يطرح دلالة يتصورها للعمل ، يختلف فى ثقافته ووعيه وحسه الفنى والجمالى عن القارئ الذى يكتفى بالبحث عن الدلالة فى ثنايا العمل ، أو فى نهايته . قد يفاجأ القارئ غير المتخصص ، أو الذى ألف قراءة الجريدة اليومية ، يصده عن المتابعة أو المواصلة . القارئ الحقيقى هو القارئ المبدع . إنه يقرأ بجماع الحواس ، وليس بالعينين وحدهما . يقرأ بعينيه ، ويقرأ كذلك بذهنه ووجدانه ومخزونه المعرفى وتأملاته . يحيا فى داخل النص ، ولا يكتفى بالحياة على هامشه . القراءة التى تعى خصائص العمل الإبداعى ، تختلف ـ بالتأكيد ـ عن القراءة التى لا تدرك تلك الخصائص ، فهى تقرأ النص الأدبى بالكيفية نفسها التى تقرأ بها التحقيقات الصحفية ، أو أخبار الحوادث ..
وبالنسبة لى ، فإن قراءتى لنص ما ، ترافقها ـ بالضرورة ـ قراءات سابقة فى نصوص أخرى . تنقّل غير محسوب بين تجارب وخبرات ورؤى ، قد لا تتصل بالموضوع الذى يتناوله النص ، لكنها تستدعى نصوصاً غائبة ، تختلط وتتقاطع وتتشابك ، فيغيب بعضها حالاً ، ويناوشنى بعضها لحظات ، وربما استقر بعضها فى الذاكرة ، أفيد منه ـ فيما بعد ـ فى عمل أكتبه . وفى تقديرى أن القارئ المبدع هو قارئ إيجابى . إنه يقرأ بعينيه ، ويقرأ بعينيه ، ويقرأ كذلك بذهنه ووجدانه ومخزونه المعرفى وتأملاته . ويصف جورج أورويل محاولاته النقدية بأنها مجرد هواية . ويضيف ـ بنص كلماته ـ " القراءة هى النشاط الطبيعى لأى إنسان مهتم بالعالم الذى يحيا فيه . وحين يمارس المرء القراءة ، فلا بد له من أن يفضل بعض الكتب على غيرها ، وأن يكره بعض الكتب أكثر من غيرها . وبديهى ـ فى هذه الحالة ـ أن يكتب وجهة نظره فى تلك القراءات " .
(يتبع)

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:08 PM
النص لا يتحقق إلا إذا وجد من يقرأه . ثمة نصوص لا تهب نفسها من القراءة الأولى . تظل مغلقة ، لا تسلم مفاتيحها إلاّ بعد تعدد القراءات . وثمة كتب أبذل وقتاً طويلاً فى قراءتها ، ثم أتبين ـ وأنا أطوى الكتاب ـ أنى كنت كالذى دخل حجرة خالية ، تضم جدرانها الفراغ ، وأنى لم أفد منها بشئ ، لا فى المعلومة ، ولا فى إثارة الذهن أو الوجدان . مجرد سطور توالت ، فلم تخلف ـ فى النهاية ـ شيئاً . لا تهبنى الشعور بأنى قرأتها . وربما تجتذبنى كلمات لكاتب لم أقرأ له من قبل . تستفزنى بالكثير من الأسئلة والإجوبة والفكر المتوهج والإبداع الجميل . أتذكر القول : " النص الأدبى يساعد قراءه على تجاوز حدود موقفهم فى الحياة الحقيقية " . لازلت أحيا تلك اللحظات التى تعرفت إليها ـ للمرة الأولى ـ إلى دنيا نجيب محفوظ . كيف بدا لى أحمد عاكف فى خان الخليلى بجسده المكدود وصلعته التى تفصد العرق منها بحرارة شمس الظهيرة ، وتبدّل طريقه من السكاكينى إلى حى الحسين ، لتبدأ قصة حبه الاستثناء للصغيرة نوال .
من المهم أن يجارى القارئ خيال المؤلف . يتخيل ملامح الشخصيات والأحداث . وكما يقول شتيرن فإن النص الأدبى أشبه بالميدان الذى يشترك فيه المؤلف والقارئ فى لعبة التخيل . تغيظنى الإبداعات التى تبين عن ملامحها منذ الصفحات الأولى . النص الذى يبين عن كل أبعاده ، ربما أهمل القارئ استكمال قراءته ، لشعوره بأنه قد تحول فى عملية التلقى إلى عنصر سلبى وليس عنصراَ مشاركاً . الإسراف فى وضوح النص يساوى الإسراف فى غموضه ، لأنه ـ فى الحالين ـ قد يصرف القارئ عن لعبة التواصل والمتابعة . النص والقارئ شريكان فى عملية تواصل ، هى عملية الإبداع والتلقى التى تقوم على مشاركة المبدع بالكلمات ، فى حين يشارك القارئ باستنباط المعنى أو الدلالة . لا أميل إلى التلقى السلبى من قارئ العمل . ما يهمنى أن يتحول القارئ إلى صديق يتحاور مع ما أكتب ، ولا يكتفى بمجرد التلقى السلبى . وكما يقول ديفيد بليتش فإن القارئ يحول ـ فى أثناء عملية القراءة ـ إدراكه الحسى للكلمات إلى سياق أو نظام تخيّلى ضمن نظام ذاتيته الخاصة . إن تراثنا القصصى ـ على المستويين العربى والعالمى ـ له جذوره القديمة ، وامتداداته ، وتواصله . لذلك فأنا أرفض الأعمال التى لا تحترم هذا التراث ، ولا تحترم ذكاء القارئ . ما كان يطالع قارئ بدايات القرن العشرين يجب أن يختلف ـ بالتأكيد ـ عما يطالعه قارئ بدايات القرن الحادى والعشرين . الفن إضمار ..
كاميلو ثيلا يرى أن العمل الأدبى يكتب من جديد فى كل قراءة له . من الصعب ـ إن لم يكن من المستحيل ـ فى تقديرى ـ أن تتطابق قراءتان لكتاب واحد . ولعلى لا أتعاون فى إعادة الإبداع ـ كما يقول اللاتينى أندريس أمورس ـ لكننى أتخيله ، أتخيل الشخصيات والأحداث ، توصلاً إلى المعنى والدلالة . القصة المنفلوطية التى لا تكاد تترك للقارئ شيئاً يتخيله ، القصة التى يحرص الكاتب على تمامها . لم تعد مما يتقبله القارئ الحالى . إنه يميل إلى القراءة الإبداعية ، القراءة التى تتخيل . القراءة تساوى النص الإبداعى + خيال القارئ . العلاقة بين المبدع والمتلقى طرفاها نص إبداعى من ناحية المبدع ، ومحاولة للاكتشاف والتعرف واستكناه الدلالات من ناحية المتلقى .
أوافق على القول إنه إذا كان الأدب هو ما يحدث فى أثناء القراءة ، فإن قيمته تعتمد على قيمة عملية القراءة . وحين أبدأ فى قراءة نص ما ، فأنا لا أمارس عملية القراءة وأنا خالى الذهن من المخزون المعرفى ، ومن وجهة النظر ، ومن الحس الجمالى ، ومن الذكريات الشخصية التى ربما استدعاها الذهن فى أثناء عملية القراءة . قراءة عمل إبداعى ما ، لا تستطيع أن تفصله عن قراءات أعمال إبداعية أخرى ، سبقته ، واتفقت ، أو اختلفت ، معه ، من حيث التجربة التى تعبر عنها ، أو التقنية ، أو الدلالة التى تستهدفها . حتى ما قد يبدو أنه فراغات فى السرد القصصى أو الروائى ، على القارئ أن يملأه بخياله وثقافته وخبراته وتجاربه ورؤيته لطبيعة ما ينبغى أن تمضى إليه الأحداث .
أحببت وصف خوليو كورتاثر لقارئ إبداعه بأنه رفيق سفر . القارئ هنا فى لحظة مشاركة ، طرفاها هما الكاتب والقارئ . أرفض زعم البعض أن القارئ لا يعنيه ، والناقد بالتالى . أتذكر قول ميشيل بوتور : " أنا أكتب لكى أقرأ ، وما قصدى من الكلمات التى أكتبها إلا أن يقع عليها النظر ، حتى لو كان نظرى " . الثقة هى العلاقة الضرورية بين الكاتب والقارئ . وإذا لم يتصل بينهما جسر الثقة ، فإن ذلك ينعكس بالضرورة على نظرة القارئ الى معطيات الكاتب ، وأغلب الظن انه سيرفضها . أذكرك بشتاينبك الذى أعلن ـ يوماً ـ فى استوكهلم ان الكاتب الذى لا يؤمن ايماناً حازماً بقدرة الإنسان على الكمال غير جدير بعضوية الأدب وتفانيه . ثم أعلن ـ فيما بعد ـ تأييده للعدوان الأمريكى فيتنام ، فزال احترامه من نفوس الملايين الذين قرءوا له عناقيد الغضب واللؤلؤة وشارع السردين المعلب وغيرها..
وبصرف النظر عن اتفاق المبدع والمتلقى ، أم اختلافهما ، عن إعجاب القارئ بالعمل الذى قرأه أو رفضه له ، فلعلى أذكّر المبدع بقول هالى بيرث : " قد تعيش حياة جيدة ، حتى لو لم تصل كتبك لمعدل أفضل المبيعات ، وحتى لو لم ير زملاؤك النقد الجيد الذى كتب عنك ، بل النقد الذى يسئ اليك . وحتى لو سألك أعز أصدقائك أو زوجتك : لماذا لا تكتب الروائع فى ساعة أو أكثر قليلاً ، بدلاً من أن تمكث شهراً أو سنة فى كتابة ماتكتبه . ضع قناعاًَ صلباً على وجهك فى مواجهة الأصدقاء والأقارب المنتقدين . خذ التجربة كما تأتى ، واستمر فى عملك " (ت . أحمد عمر هاشم )



***
النسيان هو أخطر ما أعانيه فى عملية القراءة . أقرأ الكتاب ، فأتصور أنه لم يسبق لى قراءته من قبل . أثبّت ملاحظات على الهوامش . أتفق وأختلف ، ثم أتبين ـ قبل أن أتم قراءة الكتاب ـ من خلال سطر أو بضعة أسطر ـ أنه قد سبق لى قراءته . لذلك فإنى أحاول التغلب على مشكلة النسيان بمعاودة القرءة . أتحقق من الأسماء ، والأرقام ، ومواقع الأحداث ، والصلة بين كل حدث وآخر . العامل الأهم فى عبقرية العقاد ـ فى تقديرى ـ ذاكرته الحافظية . العديد من كتبه قراءات : الله .. فى بيتى .. مراجعات فى الآداب والفنون .. إبليس .. ساعات بين الكتب .. فلسفة الثورة فى الميزان .. هو لا يقدم قائمة بالمصادر والمراجع ، لأنه قرأ جيداً ، وثبّت ـ بتشديد الباء ـ ما قرأه فى ذهنه . تحول إلى رف فى الذاكرة يستخرجه فى توقيته المحدد ..
قد يحمل المبدع بعض التأثيرات من تنوع قراءاته ، لكنه لابد أن يذيب تلك القراءات فى بوتقته ، يصهرها فى ذاتيته الفنية ، فتعبّر عنها .


***
الفن هو عالمى الذى أحبه . ولأنى ـ منذ سنوات ـ أحيا فى عزلة اجتماعية ، لا أغادر البيت ـ كل يوم ـ إلاّ بضع ساعات ، ثم أعود لأخلو إلى كتبى وأوراقى وقلمى ،
ولأن الكتابة الإبداعية مما يصعب ممارسته طيلة يوم العمل ، فإنى أحاول الإفادة من قراءاتى بملاحظات . نوع من القراءة الإيجابية ، على حد تعبير صديقى يوسف الشارونى . الفنان ـ فى نصيحة جورج مور ـ يجب أن يمارس الكتابة كل يوم . حين يواتيه الإلهام ، وحين يبتعد عنه ، عليه ألا ينتظر الإلهام ، بل يستدعيه ، ويلح عليه . وهذا ما أفعله حين أسرف فى القراءة ، لا أقرأ فى الفن وحده ، وإنما أقرأ فى كل ما تصادفه يداى . حتى العلوم البحتة والرياضيات ، ربما أجد ـ فى مواضع منها ـ ما يستفز ملكة الإبداع فى داخلى .
العمل الإبداعى يصنع علاقة ما بين المبدع والمتلقى . وكما تقول هالى بيرنت ، فإن المبدع لا يكتب لنفسه مع أن الكتابة تحقق له اشباعاً ذاتيا يصعب التهوين منه ، ولا تكتمل القصة الاّ اذا خاطبت ـ على نحو ما ـ عقل المتلقى . يرى ولفجانج ايزر Wollfgang Iser ان تجربة القارئ فى القراءة هى مركز العملية الأدبية ، فالقارئ يأخذ النص الى وعيه ، يحوله الى تجربة خاصة به ، فهو يوفق بين التناقضات فى وجهات النظر التى تظهر فى النص ، ويشارك فى ذلك مخزون التجربة الذى يملكه القارئ . وكما يقول ايزر فإن القراءة تمنحنا الفرصة لصياغة ماليس مصوغاً ( ت . جابر عصفور )
أذكر ـ فى قراءاتى الباكرة ـ أنى لم أكن أصبر على توالى أحداث الكثير من الروايات ، بل كنت أقفز الى الصفحة الأخيرة لأعرف ماذا انتهت اليه الأحداث . هل كان ذلك لتعثرى فى قراءات البداية ، أو لتشويق فى الرواية ، أو لملل أغرانى بالتعرف الى النهاية ، خلاصاً من بطء الأحداث وتلكؤها ؟.. لكننى بعد أوافق روجر ب . هينكلى على أن الروايات التى لا تمدنا بالشعور بالحياة ، ولا نتجاوب معها بشحذ مكاتنا ، قد تستحق بعض البحث ، لكنها ـ بالتأكيد ـ لا تستحق طبعة ثانية ، وان كنت أختلف مع هينكلى فى أن تحليل الرواية بإعادة تقديم أحداثها بعبارات الناقد الخاصة ، عمل ليس له أدنى قيمة ، فإعادة رواية الأحداث ـ بذكاء وتفهم ـ وسيلة لحمل أفكار الناقد ، وتحليله للعمل الإبداعى . ولعلنا نذكر وصف بيرسى لوبوك "للقارئ الجيد بأنه فنان . ولايخلو من دلالة قول سارتر : " لا وجود للفن الاّ من أجل الغير ، وعن طريق الغير " ..
ان بداية النقد ـ والقول لبيرسى لوبوك ـ هى القراءة السليمة ، أو بعبارة أخرى : الدخول الى الكتاب قدر المستطاع . إن التقاط الملاحظات ، وتسجيلها ، يخلق نوعاً من الحوار المؤكد بين الكاتب وقارئه . لذلك فإنى أوافق أنور المعداوى على أن " النقد يعتمد على الذوق المرهف قبل أن يعتمد على أداة أخرى من أدوات الناقد " .
واذا كان بوب يطالب القارئ بأن ينظر الى مايريد الكاتب أن يعبر عنه ، لا يطلب المزيد ، فإن أحداً لا يبلغ بالتعبير شيئاً لم يقصد الوصول اليه ، فإنى أوافق على أن يكون مشاركاً بالقراءة ، على ألا تبلغ هذه المشاركة ـ بالطبع ـ حد تدخل المبدع فى النص ليقدم أحكاماً شخصية من عندياته ، ويتباهى بأن النص هو من عندياته ، وعلى القارئ أن يتابع أو ينصرف عن القراءة ، مما يسئ الى العملية الإبداعية ويحيلها الى تظرف مرفوض ، كما فعل طه حسين فى " المعذبون فى الأرض " ، كما يجب ألاّ تبلغ حد القاء المبدع للأسئلة على المتلقى مثلما فعل ترولوب حين اتجه الى القارئ فى نهاية رواية له : والآن أيها القارئ .. هل نجعل القسيس يتزوج الآنسة جونز ، أو ترفض أن تتزوجه ؟ ..
أما الملاحظات التى أسجلها فى هيئة دراسات ، فمن الصعب أن أسميها كذلك ، ولا هى ترقى إلى مستوى النقد بما يجب أن تحرص عليه من علمية أكاديمية ، فإن لقيت قبولاً لدى القارئ ، اعتبرت ذلك من قبيل المصادفة الحسنة ، ليس إلاّ ..


***
من ملاحظاتى القرائية ، أن العديد من الأدباء يكتبون فى كشكول أو كراسة ذات أسطر ، لا يبدّلون ما يكتبونه ، بل ولا يعودون إليه [ محمود البدوى وعبد الحميد السحار ، مثلاً ] . رحلة تمضى إلى الأمام ، لا يشغلها التلفت . وبالنسبة لى ، فإن عملية الكتابة الإبداعية قد تستغرق وقتاً قصيراً أو طويلاً ، معايشة وتأملاً واختماراً واحتشاداً واستعداداً ، ثم تفرض لحظة الكتابة نفسها . الزمن الفعلى لعملية الكتابة تستغرق ما بين الساعتين والساعات الثلاث . تتصل منذ الحرف الأول ، فى الكلمة الأولى ، فى الجملة الأولى ، إلى الحرف الأخير فى القصة ، أو الفصل من الرواية . ثم أعيد قراءة ما كتبت . أنا أكتب العمل الإبداعى ، وأنا أول من يقرأه ، وهى قراءة نقدية وليست للمتعة . متعتى ـ إن كان التعبير دقيقاً ـ فى عملية الكتابة . القراءة عندى جزء متمم للعملة الإبداعية . إنها تلى عملية الكتابة . يخلى المبدع موضعه للناقد فى داخلى ، يطيل التأمل إلى العمل فى مجمله ، وفى اللغة والأسلوب والتكنيك . حتى الجملة والكلمة والحرف ، أتأملها ، وأجرى فيها بالحذف والإضافة حتى أطمئن إلى أنه بوسعى أن أدفع بها إلى المطبعة . عموماً ، فإن الذهن هو جسر التعامل مع النص الإبداعى . إنه يشير بما ينبغى أن يظل فى موضعه ، وما ينبغى أن يحذف ، وينصح بالإضافة والحذف حتى يضع القلم فى النهاية ، فيدفع ـ من ثم ـ بعمله الإبداعى إلى المطبعة . ربما أعدت قراءة بعض الفقرات حتى أحفظها ، وربما حذفتها ، أو حذفت منها ، أو أضفت إليها . وقد أبدّل حرفاً أو كلمة أو عبارة ، مثل وضع الرسام للمسات الأخيرة بالريشة ، فى لوحة بعد أن يتمّها . باختصار ، فإنى أصبح القارئ المثالى لما كتبت ، وإن كنت أوافق على رأى ميشيل بوتور : " الروائى هو قارئ نفسه ، لكنه قارئ غير كاف ، يتألم من عدم كفايته ، ويرغب كثيراً فى العثور على قارئ آخر يكمله ، حتى لو كان قارئاً مجهولاً "
ولعل جزءاً من حرصى على أن أنقل ما أكتبه على الكمبيوتر ، مبعثه الإفادة من علامات الترقيم : الفاصلة ، النقطة ، نقطتى الكلام ، الشرطة ، القوس ، علامة الاستفهام ، علامة التعجب .. أحرص فأضع كل علامة فى موضعها . أثق أن ذلك ما تتطلبه فنية القصة ..
وتختلف أبناط الطباعة فى الكمبيوتر بما يعيننى ـ بصورة مؤكدة ـ فى فنية القصة : الحجم الأصغر ، أوالأكبر ، الفراغات ، إمالة الحروف [ أذكرك بروايتى زمان الوصل ] ، اللون الأسود .. ذلك كله لم يكن بوسعى الإفادة منه فى فنية القصة أو الرواية ، لولا الكمبيوتر .. ذلك كله لم يكن بوسعى الإفادة منه فى فنية القصة أو الرواية لولا الكمبيوتر . صنعته فى الأسوار وفى النظر إلى أسفل و من أوراق أبى الطيب المتنبى و رباعية بحرى ، بالإضافة إلى العديد من القصص القصيرة ..
مراجعة ما أكتب مهمة لا تنتهى ، مادام فى موضعه على الكومبيوتر . أراجعه ، فأضيف إليه ، وأحذف منه . مهمة ـ كما قلت ـ لا تنتهى إلا بعد أن أنقل المادة المكتوبة على الطابعة . خطوة نهائية قبل أن تدور بها المطبعة . لا أعود إلى العمل المطبوع ثانية ، ولو من قبيل مراجعة ما فات .
................
1993 بإضافات

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:09 PM
الفن إضمار .. ولكن ..
......................

" إذا كان المعنى شريفاً ، واللفظ بليغاً ، وكان صحيح الطبع ، بعيداً عن الاستكراه ، ومنزّهاً عن الاختلال ، مصوناً عن التكلف ، صنع فى القلب صنيع الغيث فى التربة الكريمة "


الجاحظ


" الفن ليس طريقة معقدة لقول أشياء بسيطة ، بل طريقة بسيطة لقول أشياء معقدة "


جان كوكتو


" كلما كان الإنسان أقل ثقافة .. كانت كتابته أكثر غموضاً "


كونتليان Quintilian
" فليكن الروائيون صادقين مع ضمائرهم الفنية ، وسيتبعهم الذوق الجماهيرى فيما بعد "


الروائى الإنجليزى جورج جيسينج

أوافق ألان روب جرييه فى أن " الحديث عن مضمون القصة وكأنه شئ مستقل عنها ، يعنى محو هذا اللون الأدبى كله من عالم الفن " . وأثق أيضاً أن مضمون العمل الإبداعى هو الذى يفرض صورته الفنية . وكما يقول كيتور فإن " الصلة بين الشكل والمضمون فى أى عمل فنى عظيم ـ سواء أكان مسرحية أو لوحة تصوير أو قطعة موسيقية ـ صلة حيوية جداً ، حتى ليمكن القول بأنهما متوحدان توحداً كليا " ..
وفى المقابل ، فإنى أخالف الرأى بأن تعقيد التقنية هو العامل الكبير فى كتابة القصة القصيرة . يخطئ البعض حين يتصور أن وظيفة التقنية جمالية أو زخرفية ، وأنها تدليل على موهبة الفنان ، وإجادته ترتيب الأحداث ، بما يحدث فى نفسية المتلقى أكبر قدر من الانبهار أو الدهشة أو التوتر . التقنية تختلف عن ذلك تماماً ، بل إنها فى النقيض من ذلك تماماً . العمل الإبداعى يفرض تقنيته ، يحددها . التقنية تتخلق فى داخل العمل لحظة بدء ، وأثناء الكتابة ، بحيث يمكن القول إن التقنية تكمل المادة ، مثلما إن المادة تكمل التقنية . وبمعنى آخر ، فإن المضمون والشكل وجها عملة واحدة ..
لقد واجه ت . إس . إليوت اتهام النقاد له بالغموض بأنه ليس عليه أن يكون واضحاً ، وأن عليه أن يقدم أفكاره ومشاعره وتخيلاته ، وعلى المتلقى أن يبذل جهده ، ويتعب ذهنه ، فى فهم المادة الإبداعية . ومع ذلك فإن إليوت قد حذر من " ذلك الغموض الذى لا يعدو نوعاً من الادعاء ، فالكاتب يحاول أن يخدع نفسه ، ويحاول أن يقنعها بأن عنده أشياء يريد أن يقولها أعمق مما قاله بالفعل ..
المشكلة التى يعانيها بعض " المؤلفين " ـ فى تقدير إليوت ـ هى أن يحاول إقناع نفسه بأن عنده أشياء يريد أن يقولها أعمق مما كتبه . وربما جاء الغموض تعبيراً عن صعوبة الكتابة ، أى أن الأفكار أكبر من القدرة على صياغتها ، وقد يأتى الغموض من طبيعة الموضوع فيسيطر على ما كتبه المؤلف !
أتفهم السؤال الذى طرحه سارتر : هل تعتقد أن قارئاً من بلد فقير يستطيع أن يقرأ ألان روب جرييه ؟..
نحن نعجب بكافكا وجويس وساروت وجرييه ، لكننا ـ فى الوقت نفسه ـ قرأنا ـ وسنظل نقرأ ـ لتشيكوف وادريس وتولستوى ومحفوظ وديستويفسكى وبلزاك وزولا .. هؤلاء العظماء أصحاب الإبداعات الكلاسيكية !. بل إن كارل راداك ينصح من يكتب روايات ، أن يتعلم كتابتها من تولستوى وبلزاك وليس من جيمس جويس .
إن طلبك من الشاعر ـ والقول لهنرى ميلر ـ أن يتحدث بلغة رجل الشارع ، يماثل انتظارك من النبى أن يوضح نبوءاته . إن ما يبلغنا من من ممالك سابقة ، بعيدة ، يأتى مسربلاً بالسر والغموض " . وفى المقابل ـ والقول لميلر أيضاً ـ فإن " عبادة الشعر تبلغ نهايتها حين لا توجد إلاّ لحفنة ثمينة من الرجال والنساء ، فلن يعود الشعر فناً ، وإنما لغة شفرة لجمعية سرية مهمتها الدعوة إلى الفردية الفارغة " ( ت . سعدى يوسف ) .
وعلى الرغم من أن طبيعة الشعر تجعله أميل إلى الغموض ، بل إن القصيدة الجديدة هى غامضة من حيث شاعريتها ، وطبيعة لغتها التى تختلف بالضرورة عن لغة حياتنا اليومية ، فإن رأى الصديق الشاعر الكبير أحمد عبد المعطى حجازى ـ وهو شاعر متفوق ـ أن " القصيدة التى يعجز القارئ المثقف عن أن يجد دلالاتها أو معناها هى قصيدة رديئة " .
وبالطبع ، فإن الوضوح يختلف عن السطحية تماماً ..
أما إحالة الغموض إلى الرمز ، فإن كل فن حقيقى هو ـ فى الدرجة الأولى ـ فن رمزى . وإن كان العمل الإبداعى ـ كما يقول جارودى ـ لا يتخذ شكل الرمز إلا لأن الكاتب لا يستطيع أن يعبر بطريقة أخرى عما يريد أن يقول . إن مضون الرمز هو الواقع نفسه ، ذلك لأن الرمز تشغله مناوأة السلطة . قد تكون سلطة قبلية أو سياسية أو دينية أو اجتماعية إلخ . وهو لا يتجه إليها بالخطاب المباشر ، وإنما يجعل الخطاب على لسان الطير أو الحيوان ، أو حتى النبات . ويستعمل الصور البلاغية والمجازية . وإذا كانت الرواية الرمزية قد برزت ـ كما يقول روجر ب . هينكلى ـ نتيجة لارتقاء التفكير الأدبى فى الشكل الروائى ، فإن العمل الإبداعى يفقد الكثير من مقوماته إن تحول إلى معادلة رياضية .
إذا كان الكاتب الراحل مصطفى لطفى المنفلوطى قد بدأ ريادته فى القصة والرواية بأعمال تستهدف وجدان القارئ بما تتضمنه من عبارات رومانسية ، وتناول لأحوال المحبين ، ومواقف تبرز التناقض فى الأوضاع الطبقية داخل المجتمع .. فإن جيل طه حسين والحكيم والمازنى وغيرهم لم يلجأوا إلى التعريب مثلما فعل المنفلوطى ، وإنما حاولوا أن يتناولوا مظاهر الحياة فى البيئة المصرية من خلال أعمال يسهل نسبتها إلى سوسولوجيا الأدب ، مثل شجرة البؤس ، والأيام ، وزينب ، وهكذا خلقت ، وإبراهيم الكاتب ، وعودة الروح إلخ ..
ثم جاء جيل الوسط الذى أصّل فن الرواية والقصة القصيرة فى حياتنا ، وأهم ممثليه : نجيب محفوظ والسحار وعبد الحليم عبد الله والبدوى وغراب وصلاح ذهنى . تعرفنا إلى الفن الروائى والقصصى فى صورته العالمية من خلال أعمال تقف على أرضية المحلية . ثم توالت الأجيال بدءاً بجيل يوسف إدريس إلى جيل التسعينيات الذى يحاول الآن أن يرسم ملامحه فى الخارطة ا[داعية المصرية ..
وبالتأكيد ، فإن التناول القصصى للمنفلوطى يختلف بالضرورة عن التناول الذى أبدعته الأجيال التالية ، وإلى الآن ..
ثمة تراث متراكم من الأعمال القصصية والروائية ، منذ تحققت للقصة القصيرة صورتها الفنية فى ما تراه العيون لمحمد تيمور ، وللرواية صورتها الفنية فى عذراء دنشواى لمحمود طاهر حقى . وهذا التراث يعنى أن المبدع يتجه الآن إلى قارئ جديد ، أشد تمرسا بفنية القصة والرواية ، فهو يصدم بالشروح والتبسيطات التى تلغى ذكاءه ، وتحاول مساعدته على تلقى العمل
فما فائدة مئات القصص وعشرات الروايات التى سبق له قراءتها ؟..
الفن إضمار مقولة صحيحة ، ويجب أن نؤكد عليها ، وإن كنت أتحفظ كذلك ، فأوكد ـ فى الوقت نفسه ـ أنه على المبدع أن يحترم ثقافة القارئ ووعيه .. وأبشع الأعمال الأدبية تلك التى قد لا يفهمها كاتبها ، لكنه يدفع بها إلى المطبعة تصوراً أن القارئ ربما وجد فيها ما غمض عنه هو .. مثل تلك الأعمال يجب أن يعاقب كاتبها باعتباره مدلساًً أو مزيفاً ، وأن يواجه الحكم الذى يواجه به هؤلاء !..


***
أوافق أستاذنا الدكتور الطاهر مكى فى أن " المبدعين الحقيقيين يجب أن يسبقوا عصرهم ، وأن يكونوا بالضرورة غير مفهومين من معاصريهم " .
الفن اضمار .
أنا أعنى بتصوير الأحاسيس الغامضة ، أو التى لم تتبلور بعد ، بحيث يبذل المتلقى جهداً مسواياً لما قد تنطوى عليه من اضمار حتى يميزها أو يدركها ..
الإضمار ، أو حتى الغموض ليس عيباً ، بل إنه قد يضيف إلى العمل الفنى ، بل إن أبا أسحاق الصابى يرى أن أفخر الشعر ما غمض " . ومع ذلك ، فإنه من المفروض أن يتضمن العمل مفاتيحه الداخلية ، التى تعين على الفهم واستكناه الدلالات .
والحق أنه إذا لم يكن ثمة ما يوجب على الفنان أن يكون غامضاً ، فإن المتلقى ـ بالتالى ـ غير مطالب بأن يسرف فى الجهد كى يستبين المعانى التى يقصدها الكاتب . أذكر قول روبرت فروست لأحد الشعراء الشباب ، اتسمت قصيدة له بالغموض : " إن كانت قصيدتك سراً من أسرارك ، فأولى بك أن تحتفظ بها لنفسك " .
البعض يعانى افتقاد الموهبة ، أو فقر اللغة ، أو نقص الإمكانات ، فهو " يضطر " ـ أعنى التعبير ـ إلى الغموض . أذكر قول سومرست موم : " أن يكون الكاتب نفسه غير متأكد من معناه ، فهو يشعر شعوراً غامضاً بما يريد أن يقوله ، لكنه لم يكوّن له صورة واضحة فى ذهنه ، إما لنقص فى قواه عقلية ، أو من الكسل ، ومن الطبيعى فى هذه الحالة ، ألا يجد التعبير الدقيق للفكرة المشوشة " . ويضيف شوبنهاور إلى هذه الكلمات قوله : " إن أسلوب التعبير المسرف فى الغموض ، يأتى فى تسع وتسعين حالة من مائة حالة ، نتيجة لغموض الفكرة عند المبدع " .
إن المبدع يواصل الكتابة دون أن تتضح أمامه ملامح العمل الذى يكتبه ، يكتفى بالشعور الغامض ، أو غير المحقق . يريد أن يعبر عن أشياء محددة ، لكنها تشحب وتتضاءل ، وتتحول إلى هلاميات عند محاولة الفنان لأن يسطرها على الورق ، فهو يترك ما عجز عن التعبير عنه لذكاء القارئ ، يفسّره على النحو الذى يراه . ولأنه هو نفسه لم يفهم ، فإن القارئ بالتالى لن يفهم . لقد تصور أنه لجأ إلى ذكاء القارئ ، لكنه ـ فى الحقيقة ـ لجأ إلى نقيض ذلك ، أو ما تصور أنه كذلك ، لأنه من المستحيل أن أطالب الآخرين بفهم العمل ، الذى لم يفهمه كاتبه !. وكما يقول سومرست موم ، فإن من أسباب الغموض أن يكون الكاتب نفسه غير متأكد من معناه ، فهو يشعر شعوراً غامضاً بما يريد أن يقوله ، لكنه لم يكوّن له صورة واضحة فى أذنه ، إما لنقص فى قواه الذهنية ، أو من الكسل " .
وباختصار ، فإنه لا يمكن ـ بمشاعر كاذبة ـ أن أنتج فنا صادقاً . ولعلى أضيف قول كونتليان " إن الأشياء التى يقولها الرجل المثقف ثقافة عالية ، فى الأغلب الأعم ، أيسر فهما وأكثر وضوحاً . وكلما كان الإنسان أقل ثقافة ، كانت كتابته أكثر وضوحاً " ..


***
العمل الإبداعى علاقة بين المبدع والمتلقى . إنه لا ينطلق فى فراغ ، وإنما هو يتجه إلى قارئ أو مشاهد أو مستمع ، يشغله الاستمتاع ـ فى الأقل ـ بهذا العمل .. لكن معظم الأعمال الأدبية الحديثة تتجه إلى الغموض بلا سبب ، وبغير ضرورة فنية . وهو ما انعكس على قاعدة المتلقين ، فتقلصت بصورة واضحة ، حتى أن المجلات الأسبوعية التى كانت تخصص ـ على سبيل المثال ـ مساحة ثابتة للقصة ، ملأت هذه المساحة بمواد صحفية أخرى ، يسهل على القارئ فهمها وتقبّلها ، بدلاً من اللوغاريتمات الذى يحفل به الكثير من إبداعاتنا القصصية المعاصرة . ولقد كنت ـ أعترف ـ واحداً من الذين انساقوا ـ دون استعداد نفسى ولا فنى ـ لذلك التيار . بدأت فى الماهية ، ويا سلام ، والصورة ، وموقف ـ قصصى القصيرة الأولى ـ بما يقرب من اللقطة التسجيلية التى تشى بدلالات . ثم صرفنى ـ وهذا هو خطئى الأعظم ـ تيار الغموض الذى جرف العديد من أبناء جيلى ..
وأذكر أن مجلة " سنابل " التى كانت تصدرها محافظة كفر الشيخ بإشراف الصديقين محمد عفيفى مطر ومحمود بقشيش قد أثارت نقاشاً حول قضية الغموض ، أيد فيه معظم المشاركين وجود الظاهرة ، وإن اختلفوا فى تبين بواعثها . وكان رأيى ـ كما أوردته المجلة ـ أن العمل الفنى لا يتسم بالغموض لذاته " حتى اللامعقول لابد أن يصدر فى الدرجة الأولى عن رؤية معقولة ، وإلاّ تحولت الكلمات إلى شئ آخر لا يمت إلى الفن بصلة ، لكن المعاناة التى يتطلبها العمل من كاتبه ، تريد معاناة مقابلة من قارئ العمل . وأحياناً يساوى الغموض عدم فهم القارئ ، أو قراءته للعمل الإبداعى بنفس طريقة قراءة الجريدة اليومية . وأحياناً أخرى ، يعانى البعض افتقاد الكلمة التى يريد أن يقولها ، لكنه يصر أن يكتب ، والبعض تعجز حصيلته اللغوية عن صوغ كلماته ، فلجأ إلى الهلاميات اللغوية ( سنابل 15/4/1971 ) .


***
ثمة رأى يذهب إلى أن الفهم عند القارئ ، والوضوح عند المبدع ، هما شيئان أساسيان للأدب ، ويتضمنان التزامات من كل منهما . ولعل المثل الذى يحضرنى ، أن المبدع أشبه بجهاز إرسال ، وواجبه دائماً أن يطمئن إلى سلامة توصيلاته ، التى تتحدد فى حرصه على الصدق مع نفسه ، ومع فنه ، فلا يتعمد شيئاً ، لكن يترك العمل الفنى هو الذى يكتب نفسه ، لا يلوى ذراع القصيدة أو القصة سعياً وراء الإبهار أو التلغيز ، وإنما يترك للعمل الإبداعى اكتساب ملامحه وقسماته أثناء عملية الإبداع . أما المتلقى فهو أشبه بجهاز استقبال ، عليه هو أيضاً أن يطمئن إلى سلامة توصيلاته ، وتتمثل فى تسلّحه بالثقافة والوعى والفهم ، بحيث يمكنه استقبال العمل الفنى بصورة جديدة . لا أفهم أن يكون الغموض هدفاً فى ذاته ، من أجل أن يثار النقاش حول المعنى الذى يقصده الكاتب ، ثم لا يصل النقاش إلى أى شئ . ذلك أقرب إلى مسابقة الكلمات المتقاطعة التى تزجى بها الصحف اليومية فراغ وقت قرائها ..
إن الغموض الذى يصدر عن عمق الفكرة وطرافتها ، والتأبّى على التعبير الأوضح ، يختلف عن الغموض الذى لا يعدو تعبيراً عن قصور الأدوات ، وعدم تمكن الكاتب من الجنس الأدبى الذى حاول إبداعه . وكما يقول إليوت فهناك غموض هو فى الواقع نوع من الادعاء ، فالمؤلف يحاول أن يخدع نفسه ، ويعمل على أن يقنع نفسه بأن عنده أشياء يريد أن يقولها أعمق مما عنده ..
حتى أعمال بيكيت التى نسب لمؤلفها انه يستطيع فهمها تماماً .. هذه الأعمال لا يمكن أن تكون بلا معنى ، لأننا قد نطلق على مثل هذا العمل أى شئ ، إلاّ أن نسميه فناً !.. وأذكر عندما قدم مسرح الجيب مسرحية بيكيت لعبة النهاية ، أن أقلام النقاد استراحت إلى الرأى القائل باستحالة فهمها ـ ألم يعلن ذلك الفنان نفسه ؟! ـ وطالبت بأن تكون نظرة المشاهد إليها مثل نظرته إلى اللوحة التجريدية . لكن نجيب محفوظ رفض ذلك التفسير ، وأصر على أن مسرحية بيكيت عمل فنى ، لابد أن يكون للفن معنى . ثم قدم تفسيراً رائعاً ، وذكياً ، للعبة النهاية


***
إذا كان من عمل الناقد ـ كما يقول ستانلى هايمان ـ " عندما تتسع الهوة بين الأدب الجاد وذوق القراء ، هو أن يكون همزة وصل بين العمل الغامض ، أو الصعب ، وبين المتلقى " فإن للمباشرة عيوبها ، والغموض ـ إذا كان وليد الضعف ، أو الضحالة ـ عيوبه أيضاً . يغيظنى أن يكون الغموض بلا ضرورة فنية ، يفرضه الكاتب من خارج العمل ، ولا يأتى من داخله . فإذا حاول الناقد تفسير العمل الفنى ، فإن عليه أن يكشف المباشرة الزاعقة ، أو الوعظية ، أو يوضح دلالات الغموض إن كان مما يفرضه العمل الفنى ويتحمله . أضيف : أنى لا أميل إلى التقنية التى تبلغ ـ على حد تعبير كارل راداك Karl Radak درجة التعقيد المتشنج ، ولا أميل ـ فى الوقت نفسه ـ إلى التقنية المتفوقة التى تؤطر عملاً تافهاً ..
المقولة الشهيرة تعلن أنه إذا طالب المتلقى المبدع أن يكتب ما يفهم ، فإن على المتلقى أن يفهم ما يكتب . وفى المقابل ، فثمة من يرفضون ـ رغم ثقافتهم المرتفعة ـ تلك الأعمال التى تكلّف القارئ جهداً لتفهّمها ، وهو ما يعبر عنه كلثوم بن عمرو العتابى " إن كل من أفهمك حاجة من غير إعادة ولا حبسة ولا استعانة ، فهو بليغ "
لقد كان رأى ت . إس . اليوت أنه ليس هناك ما يوجب على الفنان أن يكون واضحاً . إن الإبداع مهمته ، وبذل الجهد فى الفهم واستبانة المعانى مهمة المتلقى . إيفور براون يرفض هذا الرأى ، يرى فيه دليلاً على الكسل أو التكلف ، وتنازلاً من الفنان عن رسالة الفن . يضيف : " إن الشائع فى هذه الأيام فى عالم الأدب هو أن لا تعرف ماذا تعنى . فإذا تحداك إنسان ، فما عليك إلاّ أن تهز كتفك غير حافل ، وتقول إنك كتبت ما كتبت ، وأن على القارئ أن يتبين المعنى ، وأن ما يبديه المؤلف من الملحوظات يحمل الكثير من المعانى ، والقارئ يقوم مقام القابلة التى تستولد هذه المعانى ، وليس من عمل العبقرى أن يجعل كلامه واضحاً مفهوماً " ( ت . على أدهم ) .
والواقع أن الغموض ـ أو البساطة ـ مسألة لا تصدر عن الأديب بقرار ، بمعنى أنى لا أتصور أن أديباً يتعمد التلغيز أو التبسيط الزائد ، لكن العمل الفنى ـ بما ينبغى أن ينبض به من تلقائية ـ هو الذى يفرض الصورة التى تطالع القارئ . وكما يقول همنجواى : فقد " تبدأ فى كتابة القصة دون أن تكون لديك أية فكرة مسبقة عن الطريقة التى ستنتهى بها ، فكل شئ يتبدّل ويتغير ، كلما تقدمت القصة . وهكذا نجد أن الحركة قد تبدو بطيئة للغاية فى بعض الأحيان ، حتى ليصعب على الإنسان أن يصدّق أن هناك حركة على الإطلاق "..
الغموض ـ أو العكس ـ مسألة نسبية . فما يراه البعض غموضاً ، يراه البعض الآخر عملاً سهل التلقى . والقضية أساساً فى جدّية الفنان وصدقه من ناحية ، ووعى المتلقى وثقافته ، بل وفهمه لخصائص العمل الفنى من ناحية ثانية . وكما يقول يحيى بن حمزة العلوى فإن " المقصود إذا ورد فى الكلام مبهماً ، فإنه يفيده ببلاغة ، ويكسبه إعجاباً وفخامة ، وذلك إذا قرع السمع على وجهة الإبهام ، فإن السامع له يذهب فى إبهامه كل مذهب " .
الفن إضمار ، والفن تكثيف وإيماء بدلالات [ يقول جين ب . تومبكنز إنه تكفى كلمات قليلة لتيسير تأويل حالة معقدة ] لكنه يفقد صفة الفن إذا بلغ حد الغموض ، وللغموض ـ فى تقديرى ـ أكثر من سبب ، فقد يصدر عن ادعاء ساذج ، أو قصور فى التعبير ، أو عدم استطاعة للوسيلة الفنية ـ وهو ما يعانيه الكثير من الأدباء الشباب فى أعمالهم الأولى ـ وقد يكون السبب عمق المقولة بما يهمل وضوح التعبير ..


***
يضايقنى قول البعض : هذا كاتب صعب ..
أنا لا أتعمد الغموض ولا التلغيز . أبدأ الكتابة وليس فى داخلى سوى فكرة ، هى ـ فى الأغلب ـ غير مكتملة .. لكن العمل الأدبى الجيد ـ والقول ليحيى بن حمزة العلوى ـ يتطلب قراءات عديدة . فأنت كلما قرأته اكتشفت فيه معان جديدة ، فهو إذن يتطلب جهداً موازياً لجهد المبدع ، جهداً لا حد له . من المهم أن تكون قراءة المتلقى خلاّقة ، بمعنى أن يتصور الأحداث والشخوص التى يتضمنها العمل الفنى . بغير هذه المشاركة الفعالة فإن المتلقى لن يخرج بشيء.
...............
1988 ـ بإضافات

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:10 PM
المثقف والمجتمع والسلطة
...................................

لا تحلموا بعالم سعيد ..
فخلف كل قيصر يموت ..
قيصر جديد .

أمل دنقل


" الذئب ما كان ذئباً ، لو لم تكن الخراف خرافاً "
مثل أيرلندى

" إن الروايات العظيمة لا يكتبها أناس خائفون "
جورج أوريل


ننحن فى عصر أصبح من واجب الأعمال الفنية فيه أن تطلق الرصاص
مشكلة بعض النقاد مع روايتى " من أوراق أبى الطيب المتنبى " أنهم توقفوا أمام ما تصوروه انعكاسات أحداث قريبة ، مثل فترة السادات وما صحبها من تطورات . والحق إنى لم أكتب الرواية لمناسبة وقتها ، لم أقصد أن أتناول قضية ذات أهمية بالغة ، لكن الحل ـ على أى نحو ـ ماثل فى مدى الأفق ..
إذا كان المبدع يكتب من أجل عصره ، من أجل الآنية ، فإنه يكتب من أجل الإضافة والتطوير والتقدم . إنه لا يكتب للمجتمع الآنى وحده ، وإنما يكتب لكل الأزمنة ، وللإنسان بعامة . الإبداع الحقيقى هو الذى يمتلك حيوية المواصلة والتأثير والحس الإنسانى ، حتى بعد انتهاء المناسبة التى كتبت فيها ، أو ـ ربما ـ عبّر عنها . يهمنى أن تخترق شخصيات أعمالى زمانها ، فلا تستقر فى زمان محدد ، وتتلاشى من ثم بتلاشيه . أرفض شخصية المناسبة ، مثلما أرفض ـ فى الشعر ـ قصيدة المناسبة . نحن نقرأ ديكنز ، لا لأن أعماله تناولت إصلاح السجون ، ونقرأ تورجنيف لا لأنه كتب عن قضايا التحرر فى روسيا ، وهوجو لا لأنه انتقد نابليون الثالث . تلك مهام المؤرخين أو المصلحين الاجتماعيين . إن هؤلاء الأدباء ـ وغيرهم ـ وظفوا تلك " التيمات " الاجتماعية أو السياسية ـ إن جاز التعبير ـ فى أعمال إبداعية ، بعدها الإنسانى يتيح لها الحياة بعيداًُ عن الأحداث التى تناولتها ، بعيداً عن الآنية الطارئة التى يزول تأثيرها بزوال الحدث ..
ثمة قضايا محددة تشكل الرؤية الشاملة ، فلسفة الحياة ، لعالمى الإبداعى . ومن بين تلك القضايا : المطاردة ، الغزو من الخارج ، القهر فى الداخل ، صلة المثقف بالسلطة ، وبمجتمعه ، وما يتصل بها من قضايا الحرية والعدل ..
من أوراق أبى الطيب المتنبى ـ فى تصور كاتبها ـ لا تناقش قضايا آنية ، لكن القضية المحور هى علاقة المثقف بالسلطة من ناحية ، وعلاقته بجماهير شعبه من ناحية ثانية ، وهى قضية تلح فى الكثير من أعمالى الروائية والقصصية ، مثل " الأسوار " و " من أوراق أبى الطيب المتنبى " و " النظر إلى أسفل " و " قاضى البهار ينزل البحر " و " زهرة الصباح " وغيرها ..
العاشق الحق ـ فى رأى أبى الطيب المتنبى ـ هو الذى لا يطمع ، لا يريد مقابلاً من معشوقه ، وإنما هو يضحى فحسب ، ولا يتوقع المقابل .


***
كان إلهامى [ رواية البوسنى رشاد قاضيتش رحلة إلهامى إلى الموت ] يعرف المصير الذى ستنتهى إليه رحلته . بعث الحاكم الجلالى فى طلبه ، ومن يطلبه الجلالى فهو لابد أن يموت . وأهمل إلهامى ـ فى طريقه إلى قصر الجلالى ـ كل النصائح التى دعته إلى الاختفاء بعيداً عن أعين الجلالى " إذا كان كأس الموت ينتظرنى ، فأنا على استعداد " . ولم يكن إلهامى يقبل على الموت لذاته . لم يتقبل فكرة الموت باعتبارها انتحاراً ، لكن كان لديه ما يقوله للجلالى قبل أن يأمر بإعدامه . كان يدرك فداحة الثمن الذى يجب أن يدفعه مقابلاً للفكرة التى يحملها ، للكلمات التى يريد أن يوجهها إلى الحاكم . كان يستطيع الاعتذار عن كلماته ـ كما أسرف الجلالى فى مطالبته بذلك ـ والعودة إلى مألوف حياته ، لكنه رفض أن يعتذر عن القصيدة التى عرّضته للموت . وزاد فنصح بما جعل من الحتم إعدامه . ويهمس إلهامى بينه وبين نفسه : يا رب !.. أنت أفضل من يعرف لماذا يستدعوننى ، وماذا ينتظرنى هناك . إذا كان هذا بسبب ما قلته ، فلا تجعل الخوف يهزنى ، فيدفعنى إلى أن أنكر أو أندم على ما صنعته ، ولا تسمح بأن يتسلل الخوف إلى عينى ، وبأن يتم الإحساس بالرجفة فى صوتى . ساعدنى على أن أظل صلباً ، ثابتاً ، على طريق الحقيقة ، وأن أغمض عينى واسنمك فى قلبى . ويحلم إلهامى بمن يسأله : من هم أولئك الأبرياء الذين قتلوا على طريق الحقيقة ؟ . يجيب : الشهداء ..
ـ وأين مثواهم ؟
ـ فى الجنة !
ويقف إلهامى أمام الجلالى . يقول له : إن الإمبراطورية ـ العثمانية ـ مديدة شاسعة ، بحيث لا يمكن رؤية نهايتها . والماء صاف فى منبعه . ولكن إلى أن يصل إلى أولئك الذين ينتظرونه فى عطش ، فلا يمكن ـ فى بعض الأحيان ـ غسل الأقدام فيه . ويتحدث إلهامى عن أولئك الذين يجب أن يكونوا فى المقدمة ، وأن يحددوا ماهية العدالة ، ويوزعوها ، بدءاً من رجال الإمبراطور والأعيان ، وانتهاء بالعلماء . إنهم يتحدثون عن شئ ، ويفعلون شيئاً آخر . إنهم يفكرون فى أنفسهم فحسب . ويضيف إلهامى قوله : يا باشا ، إن الناس أهم من السلطان ، من الإمبراطورية . ولم ينبت شئ طيب من الدماء . إن الإنسان هو أكمل ما خلقه الله ، وويل لمن يمتهنه !
ويدفع إلهامى حياته ثمناً لهذه الكلمات !


***
إنسان " ، رواية للإيطالية أوريانا فالاتشى ، صدرت بعد روايتى الأسوار بعدة سنوات . فقد صدرت الأسوار فى 1973 ، بينما صدرت إنسان بالإيطالية ـ للمرة الأولى ـ فى 1983 [ فى الروايتين موقف واحد عن التمثال الذى ينطقه رجال السلطة . فى الأسوار أنطقوا تماثيل أبو سمبل ، وفى إنسان أنطقوا تمثالاً يونانياً قديما . توارد خواطر كما ترى ] . شدنى فى رواية فالاتشى إنها تعبّر ـ من خلال تجربة حقيقية ـ عن الدور الذى أتصوره للمثقف / المناضل فى مجتمعه . مثقف ليس ـ بالضرورة ـ فى حجم الحسين وجيفارا والليندى وغيرهم ، لكنه لابد أن يكون مؤمناً ـ بالضرورة ـ بأن التضحية هى ما يجب أن يبذله دون أن يتلقى مقابلاً من إعجاب ، أو ثناء ، أو حتى مساندة . بل إنه قد يلقى جزاء سلبياً من هؤلاء الذين بذل عمره فدية عنهم ! [ زال تقديرى للكاتبة بعد أن أعلنت مناصرتها للصهيونية ، وأنكرت على الفلسطينيين حقهم فى الحرية ! ] . يقول باناجوليس للكاتبة : " الناس فى الحقيقة هم القلائل الذين يكافحون ويأبون الخضوع . أما الآخرون فليسوا ناساً . إنهم قطيع " (ت محمود مسعود ) . يقول باناجوليس ـ مصدوماً ـ " ما الفائدة من المعاناة والكفاح ، إذا كان الناس لا يفهمون ، إذا كان الناس لا يهتمون ؟.. كل ما فعلته كان غلط فى غلط " . وتقول أوريانا لحبيبها بعد أن تحيفه اليأس : " إذا قضيت نحبك ، فإنهم ـ مواطنوه ـ سوف يجلونك ، وربما يحاكونك ، ولن تبقى وحدك بعد ذلك"
لقد بذل باناجوليس حياته من أجل أن تسترد بلاده ـ اليونان ـ حريتها من الحكم الديكتاتورى ، لكن الرصاصة التى أردته تأخرت طويلاً ، بحيث أتاحت له الظروف أن يخطط ، ويقاوم ، ويعتقل ، ويعانى التعذيب ، ويدخل البرلمان ممثلاً للملايين من البسطاء ، حياة خصبة ، وعميقة ، على الرغم من أنه اغتيل قبل أن يبلغ الأربعين ..
ويدرك باناجوليس ـ قبل أن يلقى مصرعه على أيدى أعوان الديكتاتورية ـ إن " أغنية التحية للمقاتل الحقيقى هى حشرجة الموت التى يصدرها عندما تطلق النار من قبل فريق الإعدام فى حكم الطغيان " ، وإنه يتوجه إلى عالم يلحق فيه بأبطال آخرين ، بدونهم لا يكون للحياة معنى ، ويثقون أن التوقف عن النضال هو الجنون بعينه ، وأن البذرة التى غرسوها فى الهباء سوف تذكو وتتشكل فى أوانها المقسوم " ..
***
(يتبع)

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:12 PM
يقول أرسطو : " كل من كان غير قادر على العيش فى المجتمع ، أو لا حاجة له بذلك لأنه مكتف بنفسه ، فإنه إما وحش أو إله " . وفى كليلة ودمنة : ثلاثة مهلكات : القرب من السلطان ، وإفشاء السر للنساء ، وتذوق السم على سبيل التجربة . لذلك فإن المثقف يحرص ـ عادة ـ على أن يضع مسافة بينه وبين السلطة ، ربما لكى يتاح له الرؤية جيداً ، ويتاح له التحليل والتقويم بالتالى . ولعلى أضيف أن البديهى قيام نفور ـ أو عداء ـ بين السلطة والمثقف . السلطة تعبر عن الفوق ، أما المثقف فهو يعبر ـ أو هذا هو المفروض ـ عن التحت ، عن القاعة الأوسع من المواطنين . أدين ذلك المثقف الذى وصفه باناجوليس بأنه ينحنى أمام أية قوة ، أية سلطة ، أى عات مستبد . يحيا كل من يحكم بشرط ألا تقع متاعب ، والديكتاتوريات تولد منه ، والأنظمة الشمولية يدعمها ويؤازرها .
وإذا كان جيتان بيكون قد عاب على أندريه مالرو أنه لم ينضم إلا إلى الثورات التى كانت على وشك النجاح ، وأن مالرو لم يكن على استعداد لأن يظل مخلصاً لوضع سياسى تغيب عنه الفرصة الحقيقية ، فإن الكاتب النيجيرى كين سارو ويوا ـ فى المقابل ـ حقق أرباحاً طائلة من مؤلفاته ، شجعته على الهجرة إلى بريطانيا ، وشراء بيت ريفى فاخر فى إحدى المقاطعات هناك ، لكنه عاد إلى وطنه ليقف إلى جانب مواطنيه من قبيلة " أوجونى " ذات الأقلية العددية ، وأسهم سارو فى تأسيس حركة " من أجل بقاء الشعب الأوجونى " . وبصرف النظر عن صواب النزعة الانفصالية من عدمه فى إنشاء تلك الحركة ، فقد دفع سارو حياته ـ وكانت حياة مرفهة بكل المقاييس ـ مقابلاً لإيمانه بما يرى أنه حق لأبناء قبيلته ..



***
والحق أنه من الصعب تصنيف المثقفين باعتبارهم طبقة . إنهم نسيج متداخل فى كل طبقات المجتمع . ثمة المثقف المبدع ، والمثقف العامل ، والمثقف الموظف ، والمثقف العالم ، والمثقف الفلاح ، إلخ .. المثقف مواطن يمتلك المعرفة والوعى ، ويحاول من ثم أن يدافع ـ بمعرفته ووعيه ـ عن مجتمعه الذى قد يعانى الكثير من السلبيات ، فى مقدمتها ـ غالباً ـ قهر السلطة !
وعادة ، فإن البسطاء يتعاطفون مع آراء المثقفين التى يجدون فيها تعبيراً عن واقعهم ، ومناصرة لقضاياهم ، وإن كان ذلك لا يحدث فى كل الأحوال . يقول تشيكوف على لسان أحد أبطاله " إن أقسى الأمور على المرء هو أن يعمل دون أن يلقى الود والتعاطف من أى إنسان " ، كم تأثرت ، وقهرنى الحزن ، حين قرأت كلمات مصطفى كامل اليائسة التى كتبها إلى جولييت آدم عن " هذه الأمة التى بلانى الله بأن أكون واحداً من أبنائها " . وفى المقابل ، فقد وجدت ما يستحق التقدير فى قول القاضى الهولندى فان بملن " يخطئ من يظن أن المصريين المثقفين لا يهتمون إلا بمصالحهم الخاصة ومصالح عائلاتهم ، فإنهم ـ على العكس ـ يكرهون الحكم التركى والحكم الأروبى على السواء ، ويريدون حكومة وطنية بكل معنى الكلمة ، وهم يحبون مصر الحديثة ، ومصر التاريخية ، ويهتمون بمصير الشعب ، ويتألمون لمصائبه التى لانهاية لها " ( نقلاً عن الرافعى : عصر إسماعيل ص 123 )
يقول الفنان فى قصة محمود تيمور السماء لا تغفل أبداً : " نحن الآن نعمل وكلنا يسعى لغرض أسمى ، ولإسعاد البشرية ، ولكن : هل تحس البشرية بعملنا ، وما نلاقيه من صعاب ؟ أبداً ! أبداً ! . ويسأل الراوى فى قصة رفعت السعيد السكن فى الأدوار العليا : ماذا يجدى الأمر كله ؟ الشعب نائم ، بل هو صوت يتظاهر ضدنا ، ضدنا نحن الذين نهب نسمات حياتنا من أجله . تبدو الأمور جميعاً بغير معنى . نحن نضحى من أجل من لا يريد ... لو أن الناس تحس بعذاباتنا لهان الأمر ، لهانت كل العذابات ، لكن الناس بعيدون عنا ، وكلماتنا : ماذا تجدى ؟ هل تقنع أحداً ؟ ( رفعت السعيد : السكن فى الأدوار العليا ) . أما باناجوليس فإنه يعيد النظر إلى ما حوله : " فى الخارج الحياة ، والفضاء ، والناس ، والحب ، والغد . ما أشق أن تكون بطلاً ! ما أقسى هذا وأبعده عن الكينونة البشرية ، وما أشد بلادته وأقل جدواه ! هل يتهيأ لأحد قط أن يثنى عليك لأنك برهنت على أنك بطل ؟ هل يمكن أن يقيموا لك نصباً ، ويطلقوا اسمك على الشوارع والميادين ؟ وإذا هم فعلوا ذلك ، فما الذى يجدى عليك شبابك المضيّع ؟ وحياتك التى لم تعشها ؟ كلا! كف عن هذا . إنه لكفران ! فأنت لا تؤدى واجبك لمجرد أن يلقاك إنسان بالحمد والشكران ، وإنما تؤديه بدافع العقيدة ، لنفسك ، ولكرامتك الذاتية ! من يدرى كم من الكائنات البشرية من الشرق والغرب فى غياهب السجون ، فى المعتقلات الانفرادية ، مدفونين أحياء بسبب كرامتهم الذاتية ، ودون ارتقاب لأى شكر ؟!.. منهم أناس لا تعرف حتى أسماؤهم ، ولن تعرف أبداً ! أبطال مجهولون ، لا يشاد بهم ، وهم أيضاً متعطشون للشمس والسماء والحب ورفقة الناس ، مضطهدون كذلك ، محرومون من الفضاء والضياء ، معذبون أيضاً بزبانية من أمثال زاكاكيس ، يعاقبونهم بتجريدهم من الأحذية والسجائر والكتب والصحف والأقلام والورق ، ويصادرون قصائدهم الشعرية ، ويلبسونهم قمصان المجانين : هو مجنون ! هو مجنون ! " .
لكن المثقف هو الحقيقى هو الذى يعمل دون أن ينتظر المقابل . وعلى الرغم من الإحباط الذى تملك الراوى فى رواية رفعت السعيد ، فإن المثقف ـ المهموم بمشكلات الوطن ـ لا ينتظر المقابل لما يبذله ، حتى لو كان تضحية جسدية .
المثقف الحقيقى لديه رؤية نقدية للمجتمع الذى ينتمى إليه ، وللمجتمع الإنسانى الأوسع ، بحيث لا ينغلق على العالم ، ويأخذ من التجارب المتنوعة بلا عقد ولا حساسيات ، ومن منطلق الفهم والتفهم والثقة بالذات والقدرة على الفعل . لن يمارس المثقفون / الصفوة دورهم المطلوب ، ما لم يدركوا أن هذا الدور لصالح المجموع ، وليس ضد الحاكمين فى الوقت نفسه ، وكما يقول بولاك Polak فإن ما يؤدى إلى تقدم مجتمع ما ، هو الصور المستقبلية التى يكونها الصفوة من مواطنيه . فإذا تباينت المصالح بين الحاكم والمحكوم فإن قيمة المثقف فى ابتعاده عن السلطة الحاكمة بقدر اقترابه من مواطنيه المحكومين . دور المثقف الإيجابى ـ فى كل الأحوال ـ هو الإضافة والتطوير والتقدم . والحديث عن مشروع ثقافى عربى يبدو حلماً وردياً وصعب المنال ، ما لم تتحقق ديمقراطيات ـ أو حتى شبه ديمقراطيات ـ تتيح للثقافة الحقيقية أن تتنفس ، وتؤدى دورها المأمول لصالح الجماعة . وكما تقول أوريانا فالاتشى فإن الجناة الحقيقيين فى الأنظمة الديكتاتورية هم أولئك الذين يختفون خلف ستار من المسئولية " هم السادة الأجلاء الذين يستغلون أى إنسان ، ويبرزون دائماً إلى القمة ، مهما تكن نظم الحكم التى ترتقى إلى السلطة ، ومهما تكن نظم الحكم التى تهوى " . وقد دخل أبو نصر الطائى على سليمان بن عبد الملك ، فقال : تكلم يا أعرابى . قال : يا أمير المؤمنين ، إنى مكلمك بكلام ، فاحتمله ، وإن كرهته فإن وراءه ما تحب ، إن قبلته . قال : يا أعرابى ، إنا لنجود بسعة الاحتمال على من لا نرجو نصحه ، ولا نأمن غشّه ، فكيف بمن نأمن غشّه ، ونرجو نصحه ؟. قال الأعرابى : يا أمير المؤمنين ، إنه قد تكنّفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم ، واتبعوا دنياهم بدينهم ، ورضاك بسخط ربهم ، خافوك فى الله تعالى ، ولم يخافوا الله فيك ، حرب الآخرة ، سلم الدنيا ، فلا تأتمنهم على مائتمنك الله تعالى عليه ، فإنهم لم يألوا فى الأمانة تضييعاً ، وفى الأمة خسفاً وعسفاً ، وأنت مسئول عما اجترحوا ، وليسوا بمسئولين عما اجترحت ، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك ، فإن أعظم الناس غباء من باع آخرته بدنيا غيره . قال سليمان : يا أعرابى ، أما إنك قد سللت لسانك ، وهو أقطع سيفيك . قال الرجل : أجل يا أمير المؤمنين ، ولكن لك لا عليك . وفى مسرحية على أحمد باكثير " مأساة أوديب " يقول أوديب لترزياس : " لا تؤاخذنى بجريرة دبرها غيرى وأحكم تدبيره ، فلم يكن لى من الوقوع فيها بد . أتريد يا تزرياس أن تحمّلنى تبعة هذا الجرم الشنيع ، دون أولئك الذين دفعونى دفعاً إليه " .


***
المثقف ـ فى رأى سارتر ـ ليس مسئولاً عن نفسه فحسب ، وإنما هو مسئول عن كل البشر . والإنسان الذى يرك قيمة الاختيار ، لا يستطيع الاّ أن يختار الخير ، والخير لا يكون كذلك الاّ إذا كان للجميع . المثقف قائد للجماعة ، والثوار بعض الجماعة التى يقودها بأفكاره . إنه يوجه ، وينصح ، ويحذر ، وبقدر وعى مواطنيه تأتى استجاباتهم لأقواله ، وهى استجابات تذكرنا بحديث الرسول ( ص ) الذى يطلب من الناس أن يغيّروا ما فسد ، بدءاً بالسيف ، وانتهاء بالقلب ، وهو أضعف الإيمان ..
ولعل أخطر ما يعانيه المثقف هو الانفصام بين الفكر والفعل ، بين الرأى والمبادرة إلى نقيضه . الحكمة اليونانية تقول : " إذا أراد الله بقوم سوءاً ، جعل عشقهم الأول للسلطة السياسية " . وهذا هو المرض الذى يعانى تأثيراته معظم مثقفى الوطن العربى . السلطة شاغلهم ، وربما توسلوا إليها بمغازلتها ، بمداهنة الحاكم وتملقه ، ومعاونته ـ فى أحيان كثيرة ـ على القيام بأدوار سلبية فى حياة شعوبهم . وكما يقول بوردو ، فإن السلطة لا تحكم ولا تأمر إلا بمساعدة من تحكمهم ..
إن المثقفين ـ فى تقدير ميشيل فوكو ـ طرف من السلطة ، مجرد كونهم عناصر وعى وخطاب يجعل منهم طرفاً فى لعبة السلطة . دور المثقف الحقيقى ـ المطلوب ـ هو النضال ضد أشكال السلطة . لكن المثقفين ـ فى أحيان كثيرة ـ يمثلون القوة الخفية ، الحقيقية ، فى مواقع السلطة . تبدو السلطة لملك أو سلطان أو رئيس جمهورية ، لكن السلطة الفعلية تظل فى أيديهم ، يمسكون بكل خيوط اللعبة ، ويتحول الحاكم إلى مجرد واجهة . يصفهم عبد النبى المتبولى فى " زهرة الصباح " : " لا أحد يعرف وظائفهم ، ولعلهم بلا وظائف محددة ، لكنهم أخطر من خاصة الملك " .
لقد أظهر عبد الرحمن الجبرتى حيرته ، عندما قارن بين أى مملوك محسوب على الإسلام ، يقطع رقاب أخوته فى الدين ، دون جريرة حقيقية ، وبين قيادة الاحتلال الفرنسى التى حرصت على تقديم سليمان الحلبى إلى المحاكمة ، بعد أن قتل كليبر ، واعترف بما فعل . وانتدب له محام ، وأجريت المحاكمة فى العلن ، قبل أن يصدر الحكم بالإعدام ..
فأى فارق ؟!


***
الصفوة هى التى تمسك فى يدها بمقاليد الأمور فى المجتمع من خلال إمساكها بمقاليد الأمور فى مراكز البحث العلمى والجامعات ووسائل الإعلام ودور النشر واستديوهات السينما والمسارح . الصفوة هى القيادة الحقيقية للرأى العام ، هى التى تشير وتوجه وتؤثر وتحرك . أذكر قول توفيق الحكيم : " إن انقراض طائفة الخاصة التى تفكر بعقلها الممتاز ، وتقود الشعب ، وتبصّره وتنهضه وتهديه ، معناه زوال الرأس من جسم الأمة . هل رأيت جسماً يسير بلا رأس ؟! " .
يطالب صلاح الدين حافظ " الصفوة " المثقفة ، أو " النخبة " بأن تجيب عن السؤال : أى مصر تريد ، وأية صورة تتخيل وتعمل من أجلها ، الآن ، وفى المستقبل ؟..
هذا هو ـ فى تقدير صلاح الدين حافظ ـ دور النخبة المثقفة ، بدلاً من الدور الذى تتزاحم عليه الآن بتهالك شديد ونفاق قبيح ، طلباً لمنصب زائل ، أو طمعاً فى مال سائب " ، فهى " تعزف لحن الانهيار ، وترقص على أنغام الفرقة ، وتبيع المحرمات الوطنية والقومية فى سوق النخاسة بأبخس الأسعار " .
أخطر الأمور حين تصبح الأحزاب والمؤسسات الدستورية مجرد واجهة ، كومبارس ، لحاكم فرد ، ديكتاتور ، يملى إرادته فلا راد لها ، ولا معقب على ما يصدر عنها من قرارات . وحسب التعبير الشائع ، فإن الطاعة تؤمن النظام . أما المقاومة فهى تؤمن الحرية .
لقد ورثت أيام الاحتلال قوى " وطنية " ركبت الموجة ، أو أفادت من تاريخها النضالى فى الحصول على مكاسب طارئة ودائمة ، بصرف النظر عن عدم مشروعية الوسائل . خرج الوطن من سلطة الاحتلال الأجنبى ، ليقع فى قبضة سلطة أخرى ، تنتمى إلى الوطن نفسه ، باعتبار أن قادتها هم من أبناء الوطن ، لكن ممارسات هذه السلطة ـ فى الحقيقة ـ أشد قسوة من سلطة الاحتلال . وإذا كان عسف سلطة الاحتلال يسهم فى تجميع كل القوى سعياً لاستقلال الوطن ، فإن تفتت القوى الوطنية ما بين معارض لسلطة الحاكمين من أبناء الوطن ، ومؤيد لهذه السلطة ، يعنى ـ ببساطة ـ تفتت الوطن جميعاً ، غياب الوحدة التى يفرضها وجود محتل أجنبى ..


***
الحكمة العربية تقول : " خير الأمراء الذين يأتون العلماء ، وشر العلماء الذين يأتون الأمراء " ..
والحق أنه من الظلم للمثقف إهمال محاولات السلطة لاحتوائه ، إدماجه داخل جهازها الحكمى ، يتحول إلى مجرد حاشية ، بطانة ، بوق دعاية أو أداة تسلط ، يتحول ـ باختصار ـ إلى خصم مناوئ للجماعة ، وليس جزءاً منها ، ومتفاعلاً معها . دوره ـ ببساطة ـ يقتصر على تجميل الأحداث ، وليس المشاركة فى صنعها . تبرير الشرعية ، وليس الحكم عليها . أذكرك بدور بعض المثقفين فى من أوراق أبى الطيب المتنبى و النظر إلى أسفل و زهرة الصباح وقلعة الجبل وغيرها . كان دورهم أشبه بدور المحلل . والمعنى الذى أقصده ، دور المثقف فى وصل ما ينقطع بين السلطة والمواطنين ..
من الصعب ـ على سبيل المثال ـ إغفال الدور السلبى الذى قامت به الصفوة العربية فى إسقاط تجربة دولة الوحدة . تغاضى مثقفو مصر وسوريا عن سلبيات القيادة فى الممارسة . لم يرتفع الصوت الشجاع بالنقد ، أو حتى بالملاحظة ، فبدأت عناكب التآمر ـ وهى محسوبة ـ للأسف ـ على الصفوة ـ فى نسج خيوطها ، حتى فاجأت القيادة والعالم العربى بتقويض التجربة . والطريف ـ والمؤسف ـ أنها احتفظت بعلم الوحدة ، وذرفت الدمع ـ فيما بعد ـ على ما واجهته التجربة الوحدية ، بل إن الوقفات تتجدد كل عام فى مناسبة إعلان قيام دولة الوحدة !


***
إن ديمقراطية الانتخابات فى عالمنا العربى ، وفى معظم دول العالم الثالث ، تصطدم ـ غالباً ـ بثلاث عقبات :
ـ غياب الوعى الجماهيرى ، وهو ما ينعكس على صندوق الانتخاب . فالأكثر شهرة أو تأثيراً مادياً أو اجتماعياً ، هو الأشد إمكانية فى الفوز بأصوات الناخبين ..
ـ تزييف الانتخابات بواسطة الحكومة ، خاصة إذا كانت هذه الحكومة تابعة للحزب الحاكم ..
ـ اللامبالاة الجماهيرية ، وبالذات ـ وللأسف ـ بين الفئات المثقفة ، وهو ما يتبدى فى عزوف أفرادها عن الإدلاء بأصواتهم ..
وغالباً ، فإن الحاكم فى عالمنا العربى يأتى بالقوة المسلحة ، ولا يذهب إلاّ بالقوة المسلحة ، وقد اكتسبت قصة الجواتيمالى أوجستو مونتوسو " الديناصور " شهرتها كواحدة من أهم القصص القصيرة فى أمريكا اللاتينية فى القرن العشرين ، ليس لمجرد أنها أقصر قصة قصيرة فى العالم ، فهى لا تزيد عن جملة واحدة ، وإنما لأن الديناصور الذى استيقظ بطل القصة ، فوجده ممدداً إلى جانبه ، هو السلطة التى تحرص أن تظل فى موضعها . بالإضافة إلى ذلك ، فإن معظم الحكام العرب ذوو نزعة كارزمية ، بمعنى أنهم هبة أرسلتها العناية الإلهية لإنقاذ الأمة ، والصفات الخارقة التى يتحلون بها إنما تفجرت من نبع إلهى ..
وقد أعلن أحمد بهاء الدين ـ يوماً ـ بصراحته الذكية ـ أنه كان أقل الصحفيين نفاقاً للسلطة الحاكمة ، فهو يدرك جيداً أن السلطة لن تظل صامتة ، مقابلاً للإصرار على مناقشة تصرفاتها ، فضلاً عن رفض تلك التصرفات . إنه قد يلجأ إلى وضع " الدسم فى العسل " ، يغلف الدواء بالقليل من السكر ، حتى يسهل على السلطة ابتلاع النصيحة !.. لكن أحمد بهاء الدين لم يكن يشغل ـ مع من يماثلونه فى الفهم ـ إلاّ حيزاً محدداً ومحدوداً . فثمة من رفضوا حتى إعلان رأس السلطة انه يرفض النفاق وأغنيات الإشادة به . اعتبروا رفض رأس السلطة نفاقاً للجماهير . وزادوا من إيقاع النفاق بما تعجز الكلمات عن وصفه !..


***
إن الإبداع ـ بطبيعته ـ انحياز . فهو ينحاز إلى مبدأ ، أو إلى فكرة أو قضية ، والمبدع لابد أن ينحاز إلى مواطنيه ، وإلى الإنسان بعامة ، فى تعامله مع القيادات التى تحكمه . هذه بديهية لا تقتصر على شعبنا العربى وحده ، وإنما تشمل كل شعوب الدنيا فى علاقاتها بأنظمتها ..
من هنا ، فإن تصور استمرارية الوفاق بين المبدع العربى ، والمثقف العربى عموماً ، وبين السلطة ، هو ضرب من التمنى المستحيل ، لأن المثقف يطلب المطلق فى الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والرفاهية لكل المواطنين . أما السلطة ، فإنها تضع القوانين والقواعد التى ترى أنها لازمة للحفاظ على كيان المجتمع . وتصور العلاقة المثلى بين المثقف العربى والسلطة فى المستقبل ، يجب أن يستند إلى الموضوعية ما أمكن ، بحيث يدرك كل طرف طبيعة هذه العلاقة منذ تشكلت بين حاكم ومحكوم ، وبحيث ينشأ الفهم والتفهم ، ومحاولة الاقتراب ، والسعى إلى الغاية المشتركة ، وهى صالح الوطن والمواطن ..
إن علاقة المثقف والسلطة يحكمها ـ فى الأغلب ـ الشك والتوجس وعدم الثقة . وهى نظرة متبادلة بالطبع . فإذا أسرفت العلاقة فى اتجاهها السلبى ، ربما خضعت للعداء والعنف من كلا الطرفين كذلك !
ومن المؤكد أن الثمن لا يدفعه الحاكم وحده ، ولا المثقف فحسب ، وإنما يدفعه المواطن العادى فى كل الأحوال . بل إن الثمن الذى يدفعه المواطن العادى يكون ـ بالضرورة ـ أكثر فداحة على المستوى الاقتصادى فى أقل تقدير .
المصيبة أن المثقف يتحول بصورة مأساوية إذا التحم بالسلطة ، إذا أصبح قيادياً فى السلطة ، رئيساً أو وزيراً ، أو مسئولاً على أى مستوى . وكما تقول إيزابيل الليندى ، فإن المشكلة فى الثوريين هى أنهم ـ بعد نجاحهم ـ يصبحون متصلبين ، ومن ثم يصبحون هم السلطة . وعند ذلك نواجه المشكلة نفسها مع السلطة " .
ولعله يجدر بنا أن نشير إلى أن المثقفين الذين اقتربوا من السلطة ـ على نحو أو آخر ـ فى امتداد تاريخنا العربى ، قد واجهوا محناً كانوا فى غنى عنها ، لو أنهم أدركوا التباس العلاقة بين السلطة وبينهم ، وأن الإطار الذى ينبغى أن تصدر ـ من خلاله ـ آراؤهم ، هو الإعجاب بقرارات صدرت فلا شأن له بها ، وتبريرها ، وليس إبداء الملاحظات مهما تسربلت بالرقة . ونتذكر المئات ، بداية من ابن خلدون وانتهاء بمحمد مزالى [ الظاهرة عربية ، والجنسية التونسية مجرد مصادفة ! ]
إن حق المثقف ، وواجبه ـ ومسئوليته فى كل الأحيان ـ أن يرفض ما يراه خطأ ، ويقاومه ، فلا يلجأ إلى إيثار السلامة ، حتى لو أخذ صورة تصفية الذات . وهو ما فعله سقراط ، وأدانه عليه نيتشة عندما خضع لقهر الدولة ، فتجرع كأس السلم ، وأنهى حياته ليظل ـ بعد موته ـ مواطناً صالحاً .


***
تبقى حقيقة يجدر بى تأكيدها : ثمة فارق بين السلطة والتسلط . وممارسات الحكام العرب فى أمور بلادهم هى مجرد تسلط ، من مظاهره القهر والسعى إلى المصالح الفردية والمحسوبية . الصوت الوحيد الذى يستطيع أن يسمعه الخطاب السلطوى / التسلطى هو صوت القوة ، وعندما يسمع هذا الصوت فى النهاية ، فإن صوت السلطة يلوذ بالصمت . قد تفلح السلطة فى السيطرة على المثقف ، بالترغيب الذى يتطلع إلى المظهرية ، ووجاهة الادعاء بأنه ينتمى إلى قبيلة المثقفين بكل ما لديها من تأثير على المواطن العادى . وقد تفلح السلطة فى السيطرة على المثقف بالترهيب الذى يصل إلى حد التصفية الجسدية ..
ولأن السلطة حين تصاب بالرعب فإنها تتبنى الرعب ، فإن على المثقف أن يصمد ، وأن يناضل . أذكرك بمقولة غاندى " أفضل للإنسان أن يناضل بدلاً من أن يخاف " ..
......................................
أدب ونقد ـ إبريل 2001 بإضافات .

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:13 PM
الصحافة .. والأدب
.......................

" ليتنى أجعلك تحب الكتب أكثر مما تحب أمك ، وليت فى استطاعتى أن أظهر جمالها أمام وجهك ، فالكتابة أعظم حرفة فى الوجود "
من تعاليم الحكيم الفرعونى خيتى داووف

ـ 1 ـ
ربما اعتبر بعض الأدباء من الصحفيين وصف أساليبهم بأنها صحفية ، نوعاً من تهوين القيمة الأدبية . والحق أن همنجواى كان يعتز بهذه الصفة ، فأسلوبه بسيط . وكان يعتز بأنه تعلم من الصحافة : الموضوعية ، والإيجاز ، والوضوح . مع ذلك ، فإن قارئ الأدب يختلف عن قارئ الجريدة . قارئ القصيدة والقصة والرواية يختلف عن قارئ الحادثة والتحقيق الصحفى . وإذا كان قارئ الأدب يقرأ ـ غالباً ـ معظم ما تحويه الجريدة من مواد ، فإن قارئ الجريدة يكتفى بالنظرة العابرة إلى المواد الأدبية ، أو لا يلتفت إليها .
سئل أرسكين كالدويل : هل العمل فى الصحافة يساعد أو يعوق كتابة القصة القصيرة ؟..
أجاب : لا أعرف شخصاً واحداً أضرّ به التمرين على الكتابة من أى نوع . ان الصحافة ، فضلاً عن أنها تفيد فى التمرين الدائب على الكتابة ، فإنها تساعد أيضاً على تكوين عادة الكتابة كل يوم . إن انتظار الوحى عذر قلّما تجده لدى المؤلفين الذين تمرّسوا بالصحافة .
وحتى الآن ، فإن جارثيا ماركيث يحرص على العمل فى الصحافة ، ذلك لأن الصحافة ـ فى تقديره ـ تحميه ، وتحرسه ، وتجعله متصلاً بالعالم الحقيقى . كانت الخبرات الصحفية ـ باعتراف ماركيث ـ وراء العديد من أعماله الروائية ، مثل قصة غريق ، حكاية موت معلن ، نبأ اختطاف . بل إن رائعته خريف البطريرك استلهمها من تغطيته لوقائع محاكمة شعبية لجنرال أمريكى لاتينى اتهم فى جرائم حرب ..
تمنيت ـ منذ الصبا ـ أن تقتصر حياتى على كتابة القصة . لا تشغلنى شواغل أخرى من أى نوع . لكن الأمنية ظلت فى إطارها لم تجاوزه . لابد ـ لكى أكتب ـ أن آكل وأقرأ وأسكن فى شقة ، وأمتلك قلماً وورقاً ، ولابد ـ لتحقيق ذلك كله ـ أن أحصل على مال ، وحتى أحصل على مال ، فإنه يجب أن أعمل . وكان وقت العمل ـ الذى لم أحبه دائماً ـ هو المتهم دوماً فى السطو على الوقت الذى تمنيت أن يكون خالصاً للإبداع .
تبلورت خططى القريبة فى ضرورة أن أظل فى عملى بالصحافة ، باعتبارها المهنة الأقرب إلى الكتابة الأدبية ، وأن أحصل منها على مورد يتيح لى تلبية احتياجات العيش ، فلا أنشغل بأعمال أخرى تنتسب إلى الكتابة ، لكنها قد تصرفنى عن القراءة والكتابة ، وأن ألزم نفسى بنظام صارم ـ مثلى فيه أستاذنا نجيب محفوظ ـ يحرص على الجهد والوقت . وأخيراً ، أن يكون لى بيت زوجية ، فلا تواجه مشاعرى العاطفية ولا الحسية ما يمكن أن أسميه بالتسيب . وهو الأمر الذى كاد يضيع مستقبلى جميعاً ، فى الفترة القصيرة التى أمضيتها فى بنسيون شارع فهمى ، أول قدومى إلى القاهرة . وهو ما سأحدثك عنه فى أوراق أخرى ..
أذكر أنى مارست فى العمل الصحفى جميع أنواع الكتابة . كتبت الخبر والتحقيق والمقال والدراسة . أهب كل نوع ما يحتاجه من مفردات لغوية وصياغة وتقنية ، باعتبار القارئ الذى أتجه إليه فيما أكتب . وبالتأكيد ، فإن قارئ التحقيق الصحفى يختلف عن كاتب المقال الأدبى ، واللغة القصصية تختلف عن لغة الصحافة . أتاحت لى الصحافة أن أكتب فى كل الظروف ، لا أطلب الإضاءة الباهرة ، أو الخافتة ، ولا الموسيقا الخافتة ، وعلمتنى إلقاء الأسئلة ، واتصال التقليب فى المصادر والمراجع ، وإهمال التعبيرات التى لا معنى لها ، ومخاطبة قراء ينتمون إلى مستويات ثقافية مختلفة . كما يسّرت لى الصحافة سبل اقتناء الكتب التى تعجز مواردى عن شرائها جميعاً . فأنا أكتب فى صفحة أدبية . فى هذه الصفحة باب للكتب ، فأنا أكتب عن كل كتاب يهديه صاحبه ـ أو ناشره ـ للجريدة ، ثم أحتفظ به لنفسى ، وفى بريدى اليومى نصوص أدبية ما بين شعر وقصة ودراسات ، تطلب النشر فى الجريدة ، وهو ما يجعلنى فى حالة تواصل مع الكتابات الجديدة . وأتاحت لى الصحافة مجالات ربما لم أكن أستطيع أن أقترب منها فى الوظيفة العادية . سافرت إلى مدن وقرى داخل مصر وخارجها ، والتقيت بشخصيات تمتد من قاعدة الهرم الاجتماعى إلى قمته ، وبثقافات متباينة ، وإن لم يتح لى عملى فى الصحافة امتيازاً من أى نوع . كانت جيرتى للشيخ بيصار شيخ الأزهر الأسبق ، ولوزير سابق لا أذكر اسمه ، مبعث اعتزازى بأنى أجاور ناساً مهمين فى غياب أصدقاء من السلطة . وحتى لا أبدو فى موضع سىء الحظ ، فإنى أعترف بحرصى على الوقوف فى الطابور ، فضلاً عن عدم ميلى إلى مصادقة السلطة ، حتى لو تمثلت فى اكتفائى باجترار صداقات أتيح لطرفها المقابل بلوغ مراكز متفوقة فى السلطة . وكان عملى الصحفى ، الحياة فى الصحافة ، الأحداث والشخصيات التى تعرفت ـ بواسطتها ـ إليها ، وراء العديد من أعمالى الروائية ، بداية من الأسوار ـ روايتى الأولى ـ وانتهاء بزوينة ، مروراً بالنظر إلى أسفل وبوح الأسرار والخليج وغيرها . بل إن الصحفى هو الشخصية الرئيسة فى هذه الأعمال ..
ـ 2 ـ
قد ترضى الصحافة بالكاتب قاصاً أو روائياً أو شاعراً فى بعض الأحيان ، لكنها تريده صحفياً فى كل الأحيان . إنها تريده كاتب مقال أو تحقيق أو خبر إلخ .. مما يتفق مع وطبيعة العمل الصحفى الذى يعد الأدب ـ فى تقدير القيادات الصحفية ـ جزءاً هامشياً فيه . أصارحك بأنى نشرت روايتى " قلعة الجبل " فى الجريدة التى أعمل بها . نقلت المسودات على الآلة الكاتبة ، وصورتها ، ونشرتها فى جريدتى ، فلم أتقاض فى ذلك كله مليماً واحداً ، فى حين أن الزميل الذى يسبق الآخرين بخبر فى بضعة أسطر ، يتقاضى مكافأة تبلغ عشرات الجنيهات !.. انعكاساً واضحاً ، ومفزعاً ، للنظرة إلى العمل الأدبى ، قيمته ضمن مواد العمل الصحفى ..
وكما يقول كونديرا ، فإن التفكير الصحفى تفكير سريع ، ولا يسمح بالتفكير الحقيقى . كما أن تصوره للعالم فى غاية التبسيط .
أما تشيخوف ـ الذى عمل بالكتابة الصحفية زمناً ، فهو يقول : " أن يكون المرء صحفياً ، معناه على أحسن تقدير أن يكون وغداً " . وقيل إن الصحفى يكتب للنسيان ، أما الأديب فيكتب للذكرى .
ـ 3 ـ
الفن ـ الرواية والقصة على وجه التحديد ـ عالمى الذى أوثره بكل الود . أتمنى أن أخلص لهما ـ تجربة وقراءة ومحاولات للإبداع ـ دون أن تشغلنى اهتمامات مغايرة . لكن الإبداع فى بلادنا لا يؤكل عيشاً . ربما أتاحت رواية وحيدة فى الغرب لكاتبها أن يقضى بقية حياته " مستوراً " ، أن يسافر ويعايش ويتأمل ويقرأ ويخلو إلى قلمه وأوراقه دون خشية من الغد ، وما يضمره من احتمالات ، لكن المقابل المحدد والمحدود الذى يتقاضاه المبدع فى بلادنا ثمنا لعمله الأدبى يجعل التفرغ فنياً أمنية مستحيلة !.. من هنا كان اختيارى ـ الأدق : لجوئى ـ إلى الصحافة ، فهى الأقرب إلى قدرات الأديب واهتماماته ، وهمومه أيضاً .
كانت قيمة الخبر ـ أذكرك بأن الفترة هى مطالع الستينيات ـ خمسة قروش . أما التحقيق أو الحوار فيصل إلى خمسين قرشاً . تسجّل المواد المنشورة فى دفاتر ضخمة ، أشبه بدفاتر الصادر والوارد ، وتجمع فى نهاية كل شهر ، ليتقرر ـ من مجموعها ـ مبلغ المكافأة الذى يتقاضاه كل محرر . وكان يتولى عبء التسجيل فى " الجمهورية " الزميل الراحل جلال السيد . أما كمال الجويلى فى " المساء " فإنه كان يسجل المواد المنشورة يوماً ، ويهمل التسجيل أياماً . ويعتمد فى نهاية كل شهر على تقديره الشخصى ، وكان على الدوام تقديراً متسامحاً وسخياً ..
ومع أن من لا حقوق له ، لا مسئوليات عليه ، فإنى تحملت الكثير من المسئوليات دون أن أتمتع بحق واحد !
كنت أعمل بنصيحة أرسكين كالدويل : " ليس كل الكتاب الذين تنشر أعمالهم محترفين . أعمال كثيرة جيدة كتبها كتّاب تحيط بهم ظروف قاسية ، كالعمل البيتى كل يوم ، أو الذهاب إلى العمل خمسة أو ستة أيام فى الأسبوع . الكتابة ، كهواية جمع الطوابع أو الصيد ، من الممكن أن تكون هواية ممتعة ، وقليل من جامعى الطوابع أو هواة الصيد يتركون أعمالهم "
ومع تحفظى على " الصورة " فإنى أوافق على المعنى . فليست الكتابة مجرد هواية ممتعة كجمع الطوابع أو الصيد . إنها أمر يجاوز ذلك تماماً فى أهميته وخطورته ..
كنت أتذكر المازنى العظيم وهو يجد فى كل ما يصادفه مادة صحفية ، بينما الفن ـ وحده ـ شاغله . كتبت فيما أعرفه ، واستعنت بالقراءة ومحاولة الفهم والاقتراب المباشر فى ما لم أكن أعرفه ، ووجدت فى حياتى الصحفية ـ أحياناً ـ ما يغرى بعمل أدبى ـ روايتى " الأسوار " ـ مثلاً ـ وروايتى " بوح الأسرار " لكن الأدب ـ على الرغم منى ـ ظل تزجية فراغ . أحاول الكتابة إذا وجدت فى أسوار الصحافة منفذاً ..
أذكر كذلك قول المازنى لأحد الأدباء الذين عابوا عليه وفرة كتاباته : " ستقول إن المازنى كان بالأمس خيراً منه اليوم ، وإنه ترك زمرة الأدباء ، وانضم الى زمرة الصحفيين ، وإنه يكتب فى كل مكان ، ويكتب فى كل شئ ، حتى أصبح تاجر مقالات ، تهمّه ملاحقة السوق أكثر مما تهمّه جودة البضاعة .. أليس كذلك ؟.. ولكن لا تنس أن الأديب فى بلدكم مجبر على أن يسلك هذا السبيل ليكسب عيشه وعيش أولاده ، وليستطيع أن يحيا حياة كريمة تشعره بأنه انسان " ( الرسالة ـ العدد 842 ) .
لذلك منيت النفس وأنا أرحب ـ متحسراً ـ بالسفر إلى سلطنة عمان للإشراف على إصدار جريدة أسبوعية ـ تحولت إلى يومية فيما بعد ـ بأن أدّخر فى الغربة ما يعيننى على الإخلاص للفن وحده ، لكن الأمنية ظلت فى إطارها ، لا تجاوزه . وكان لابد أن أكتب فى موضوعات تقترب من الفن أو تبعد عنه . وحتى لا أفقد ذاتى فى سراديب مجهولة النهاية ، فقد فضلت أن تكون محاولاتى أقرب إلى ما يشغلنى فى الفن ، وفى الحياة عموماً . وبصوت هامس ما أمكن فإن مصر ـ الموطن واللحظة والماضى والمستقبل ـ هى الشخصية الأهم فى كل محاولاتى الإبداعية . ذلك ما أحرص عليه ، وما لاحظه حتى القارئ العادى . تعمدت أن تكون مصر : تاريخها ، وطبيعتها ، وناسها ، ومعاناتها ، وطموحاتها ، نبض كتاباتى جميعاً . ما اتصل منها بالصحافة ، وما لم يتصل ، ما اقترب من الأدب وما لم يقترب . وكانت حصيلة ذلك كله ـ كما تعرف ـ عشرات الدراسات والمقالات التى تتناول شئوناً وشجوناً مصرية بدءاً من كتابى " مصر فى قصص كتابها المعاصرين " مروراً بـ " مصر من يريدها بسوء " و " قراءة فى شخصيات مصرية " و " مصر المكان " إلخ .. وانتهاء بما قد يسعفنى العمر بإنجازه
ـ 4 ـ
أذكر السؤال الذى وجهه أحد تلامذة ريلكه إليه . قال التلميذ : ماذا يمثل الفن لديك ؟.. قال ريلكه : قم من نومك ليلاً ، والق على نفسك السؤال : هل إذا حجبت عنى فرصة الإبداع أموت ؟.. فإذا جاءت الإجابة نعم ، اعلم أنه ليس أمامك إلاّ السير فى طريق الفن ، ولا تعبأ بشئ !..
وقد أعلن بيكسيريكور ( 1773 ـ 1844 ) يوماً " إنما أكتب لمن لا يقرأون " ، ذلك لأن ميلودراماته الفاقعة كانت تهدف إلى مخاطبة نوعيات تكتفى بالمشاهدة ، ولا تقرأ . أما أنا فقد كنت موقنا بأنى أكتب لغير أحد على الإطلاق .. فجريدتى كانت بلا قارئ . حتى الآلاف الذين كانت تسجلهم أرقام مبيعاتها لم يكنوا قراء منتظمين . كانوا " طيارى " ينادون على بائع الصحف إذا صعد إلى الأوتوبيس أو الترام أو المترو ، أو إذا دفع بالجريدة من نافذة السيارة .. ولكن هؤلاء القراء لم يكونوا يشعرون بغياب " المساء " إن لم ينشره البائع أمام أعينهم !.. تلك كانت مشكلة " المساء " . جريدة بلا قارئ . ومع هذا ، فقد ظللت أعانى ـ لأعوام ـ قلة فرص النشر فيها !..
ـ 5 ـ
ذلك الوضع الغريب الذى يجعل من الصحافة تابعة ، فهى لابد أن تصدر بتصريح ، وأن يصدرها أحد الأحزاب القائمة ، أو من خلال شركة مساهمة وفق قواعد تصعّب الأمور ، إلى حد الاستحالة ، أو تحصل على ترخيص من خارج مصر ، فهى تعامل معاملة الصحف الأدنبية ، وقد لا يسمح لها بدخول البلاد ..
كان عام 1951 أزهى الأعوام فى تاريخ الصحافة المصرية ، حين صدر العديد من الصحف التى تعبر عن وجهات نظر متباينة ، وتخاطب القراء فى اهتماماتهم ومستوياتهم الثقافية . ولم يكن الأمر يحتاج إلا إلى أفكار وكتابات ومطبعة ..
الإعلام فى توجهاته الصحيحة يحمل الثقافة إلى المجتمع الذى يخاطبه . هذه نقطة اشتباك مهمة ، وضرورية ..
فإذا تحولت الصحافة إلى نشرات دعائية أو مبتزة ، فإنها تتحول إلى شئ لا صلة له بالثقافة ، إنما هى أقرب إلى أنشطة المافيا التى يبرأ منها المثقف والإنسان العادى فى آن ..
المفروض أن العاملين فى الصحافة هم من المثقفين . لذلك فإنى أتصور أنه لو حدث توتر من أى نوع ، فسيكون بين الصحافة التى يحررها مثقفون ـ وبين السلطة . ولأن الثقافة سلوك وليست مجرد معرفة ، فإنى لا أعتبر هؤلاء الذين لا يعبّرون عن الضمير الجمعى للوطن الذى يحيون فيه . وأرجو أن يكون المعنى واضحاً ..
إن محررى الصحف هم من المثقفين . وإذا كان البعض قد انشغل بقضايا لا تهم الجماعة المصرية ، فذلك استثناء وليس قاعدة ..
أنا لا أتصور أن الممارسة الاستبدادية تأتى من المثقفين ضد أنفسهم فى الصحف التى يتولون تحريرها ..
والحق أن الصحافة بالنسبة لمجتمعات العالم الثالث ـ ونحن ننتمى إليه ـ تستطيع ـ بل يجدر بها ـ أداء دور تثقيفى مهم فى ظل ارتفاع أسعار الكتاب ، وتدنى مبيعاته بالتالى ، وغلبة التفاهة على برامج الإعلام .. لكن الجوقة الإعلامية ـ فيما أرى ـ تقوّض الأسهل . وإذا كانت السينما ترفع شعار الجمهور عاوز كده ، فإنى أخشى أن هذا هو شعار الإعلام أيضاً .. ولا يخفى أن الكثير من صحفنا تلعب على الثالوث المثير : الدين ، الجنس ، السياسة ، باعتباره الوسيلة المؤكدة لتحقيق أفضل توزيع ..
ـ 6 ـ
ثمة عوامل قد تحول بين الصحافة الأدبية ، والدور الذى ينبغى أن تنهض به .. فهى لابد أن تراعى الغالبية من قرائها ، بالاقتصار على مقالات التعريف النقدى ، القليلة الصفحات ، أو القليلة الأسطر ، وعلى التحقيقات الساخنة وأخبار الأدب والأدباء ..
وبالنسبة للصحف المتخصصة ، فعددها أقل من أن يستوعب الحركة الثقافية فى بلادنا ، بكل ما فيها من مواهب إبداعية ونقدية ودراسات للإنسانيات المختلفة ـ بارك الله فى مسئولى النشر الذين تدين لهم حياتنا الثقافية بفضل الإيقاف المتواصل لكل المجلات المتخصصة .. وليرحم الله الفكر المعاصر وعالم الكتاب والمجلة والكاتب وتراث الإنسانية ، ومجلات أخرى كثيرة تعجز الذاكرة عن حصرها ..
ـ 7 ـ
الشللية !.. الشللية !.. الشللية !..
إنها المرض الذى استفحل فى حياتنا الأدبية فى الأعوام الأخيرة . أنت تنشر لى ، وأنا أنشر لك .. أنت تكتب عنى ، وأنا أكتب عنك .. لا يهم المستوى ، ولا الحصول على فرص فى النشر وفى التقويم النقدى ربما سواه أجدر بها منه . المهم هو تبادل المنافع والمصالح المشتركة والتربيط وجبر الخواطر . وللأسف ، فإن العدوى قد شملت مؤسسات ثقافية عديدة ، ومنها الجامعات ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية .. وليرحمنا الله !..
ـ 8 ـ
الآن ، فإنى أنظر ورائى أحياناً ـ وأسأل نفسى : كيف استطعت أن أحيا ، ولا أفقد نفسى خلال أعوام طويلة قضيتها فى تلك الغابة الجميلة القاسية المتوحشة المسمّاة : الحياة الصحفية ؟!.. كيف استطعت الحفاظ على تماسكى ومثلى العليا ؟.. كيف أفلحت فى الابتعاد عن المعارك الشريرة ، والإفلات بخسائر ـ أحمد الله أنها لم تكن فادحة ـ من " الزنب " و " المهاميز " والمؤامرات التى لا تنتهى ؟
............
2002

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:14 PM
الواقــع .. والخيال
......................

" الخيال .. ياله من شئ عجيب "
بركن فى رواية " الطريق الملكى " لمالرو

" إن أعظم مايمتلكه الإنسان هو الخيال "
بورخس

تعد مشكلة الفن والواقع قديمة متجددة ، سبق إلى تناولها ليسنج وديدرو وبيلينسكى وغيرهم ، وما تزال تجد اهتماماً لافتاً عند النقاد المعاصرين ..
يجيب جيورجى جاتشيف على السؤال : ما الفن ؟ أهو تفكير فنى ، أو معرفة ، أم هو نشاط وإنتاج ؟.. يجيب بالقول : " إن جوهر المسألة كلها يكمن فى أن الفن يحوى فى ذاته هذين الشكلين من أشكال الوجود الإنسانى فى وقت واحد ، ولكن من البديهى أن الفن ـ فى مختلف مراحل تطوره ، وفى شتى أنواعه وأجناسه ـ يعطى المقام الأول لجانبه التربوى التغييرى تارة ، ولجانبه المعرفى الانعكاسى تارة أخرى " .. الفن يقدم للناس مرآة يستطيعون بواسطتها أن يروا أنفسهم فى الآخرين ، والآخرين فى أنفسهم ( ت . نوفل نيوف ) . ويقول أرنولد كيتل : " إن لب أية رواية هو ما تقوله عن الحياة " ، أو أنه " خلاصة رؤيته لما يحاول معالجته من الحياة " ( ت . لطيفة عاشور )
مع أن الفن ـ على حد تعبير جاتشيف ـ لا يحتاج للاعتراف بمواده على أنها واقع ، فإن القارئ ـ فى العمل الإبداعى ـ يتوقع صورة للحياة ، أن يكون العمل مطابقاً للواقع ، والمبدع ـ فى المقابل ـ مطالب بأن يهب القارئ ما يمكن تسميته بالإيهام بالواقع . وكما يقول الأسبانى ثونثو نيغى فلكى تكون روائياً ، فإن عليك امتلاك القدرة على التخيل " . ويضيف كونراد إن حرية الخيال يجب أن تكون أقرب ما يملكه الفنان إلى نفسه . واللافت أن جائزة بلانتيا الأسبانية تعنى بالجانب الخيالى فى الإبداع ..
إن الصدق الفنى لا يعنى النقل من الواقع ، فالخيال يضيف ويحذف ويقتطع ويشوه ، ليهبنا فى النهاية ما وراء الحقائق الظاهرة . الإبداع يهبنا الواقع ، لكنه ـ بقدر تميزه ـ يشعرنا أن ما قرأناه هو الواقع . وبتعبير آخر ، فإن الإبداع يضاهى الواقع ، وإن لم يكن هو الواقع . عناصر الخيال ليست ـ بالتأكيد ـ عناصر الواقع ، وعالم الفن ـ مهما يسرف فى استلهام الواقع ـ ينتمى ـ فى الدرجة الأولى ـ إلى الخيال . ثمة فارق بين الحقيقى فى الحياة ، والحقيقى فى الأدب . الكتابة لا تنقل الواقع بحذافيره ، بقدر ما تنقل اختيارها ، القسمات والملامح والأماكن والشخصيات والأحداث التى تجسد العمل الإبداعى وتثريه وتضيف عليه ، واقعها الخاص بها . الواقع الحياتى تصنعه الأقدار ، أو المصادفة . أما الواقع الفنى فهو ينتقى ويختار ما يتطلبه العمل الإبداعى ، دون زيادات ولا نتوءات ولا إضافة غير مبررة ، أو حذف غير مبرر . العمل الأدبى ليس هو الواقع ، ليس تقليداً ولا محاكاة للواقع ، وإنما هو إعادة صياغة للواقع ، وبتعبير أشد تحديداً هو خلق واقع جديد . أوافق جمال الدين بن الشيخ على أن " الواقعية لا تعنى أن يحاكى أثر أدبى ما ، الواقعى ، بل تعنى أن يصيّره " ( ت : محمد برادة وآخرين ) . الفنان الفنان هو الذى يستطيع تحويل الأشياء العادية ، الأحداث اليومية التافهة ، المشاهد التى نعبرها ، الثرثرات الحياتية البسيطة .. الفنان الفنان هو الذى يستطيع أن يخلق من ذلك كله إبداعاً حقيقياً . الفنان الفنان هو الذى يعتمد على موهبته ، وليس على المادة التى يطوعّها لعمله الإبداعى ، هو الذى يحيل الواقعة التافهة عملاً ينبض بالحيوية والفنية العالية . الفنان الفنان هو الذى يلتقط أية مادة ـ مهما تكن تافهة ـ فيحيلها إبداعاً يستحق القراءة ..
مع ذلك ، فإنى أرفض أن يعتمد الفنان على موهبته ليغطى مادة تافهة . وكما يقول جوجول " كلما كان الشئ عاديا ، تطلّب من الكاتب موهبة أكبر ليستخرج منه غير العادى . أما باتوه Batteux [ 1713 ـ 1780 ] فهو يذهب إلى أن ما يجب محاكاته ليس حقيقة ما هو موجود ، بل حقيقة ما يمكن أن يوجد . أذكر أيضاً قول موريس باريس إن الفن هو " أن تنصت إلى ذاتك ، وأن تعبر بالتصوير ، أو القلم ، أو الموسيقا ، عما يضوع فى أعماقك . أما القديم والجديد فلا أدرى ماذا يعنيان " ..
***
قيمة الخيال أنه حر . يحلق ، ويهبط ، ويسير ، ويقيم العلاقات ، ويصادق الإنس والجان والحيوان والطير ومخلوقات البحر ، ويتحدى المستحيل . إن حركته بلا آفاق ، بلا سدود من أى نوع . ما يبدو مناقضاً للواقع هو فى الخيال غير ذلك . هو واقع يتقبله المتلقى ، ويتفاعل معه ، ويحاوره ، ويستكنه منه الدلالات . بل إن التكنولوجيا ـ مهما تتقدم معطياتها ـ لن تجعل من كل خيال حقيقة ، ولا جميع أشكال اليوتوبيا ممكنة الحدوث . معنى ذلك ـ كما يقول الأسبانى كونكيرو ـ أن العالم سيوصد أمام صوت الخيال ، مما يفقده إلهامه ، فيظل جاهلاً بسحر الأشياء . حتى أينشتاين يؤكد فى كلمات حاسمة إن الخيال أهم من العلم .
ظللت أحلم ـ وأتمنى ـ أن أكتب حكايات مشابهة لما كنت أستمع إليه من جدى وأمى ، ولا زلت أذكر معجزة الإسراء والمعراج كما قرأتها فى مجلة " الإسلام " التى كانت تضمها مكتبة أبى ، وأغنية أم كلثوم عن النيل ، من شعر شوقى وموسيقا السنباطى . كان الخيال يذهب بى إلى جزر بعيدة ، مأهولة بالسحر والفانتازيا والأسطورة . العفاريت والساحرات والجنيات والمعجزات والشياطين والنفوس التى تسعى لتبين عالم الغيب وطلاسم الآفاق التى تغلفها الضبابية . ولازلت أذكر حكايات جدى وأمى عن الرجل الذى " حمل " فى سمانة رجله ، والست ستنا اللى قصرها أعلى من قصرنا ، ومطالبتها بعنقود عنب لشفاء مريضنا الذى يعانى داء عضالاً ، وحكايات صندوق الدنيا المرافقة لتوالى الصور الثابتة .. ثم أطلقت العنان للخيال فى إمام آخر الزمان وما تلاها من إبداعات وظفت التراث ..
***
كان يقين أينشتين أن الخيال أهم من العلم ، ومن قبله قال فيكتور هوجو إن الخيال هو العبقرية . ويعتبر إنريكى أندرسون إمبرت الأدب " أحد أنماط الخيال الإبداعى " ( ت . على إبراهيم منوفى ) . وثمة من يعتبر الرواية " قصة خيالية ، نثرية ، ذات اتساع معين " . بل إن الأدب هو الخيال فى تقدير البعض ( القصة القصيرة ـ النظرية والتقنية 9 ) . وكما يقول المفكر الأسبانى خوسيه أورتيجا جاسيت Jose OrtegaYgasset : " إننا مهما بذلنا من جهد مضن فى معرفة الواقع بشكل موضوعى . لم نفعل شيئاً إلاّ أننا تخيلناه " . ويقول ألفونسو رييس Alfonso Reyes : " الأمر هو خيال لغوى يعبر عنه خيال عقلى ، خيال فى خيال : ذلك هو الأدب " . لكن الأعمال التى أستلهمها من الخيال يصعب إلا أن أضمّنها وقائع من سيرتى الذاتية ، ومن خبرات الآخرين ، ومن العصر الذى أحياه . العالم الإبداعى ـ قصة أو رواية أو أجناس أدبية أخرى ـ فيه الكثير من الخيال ، والكثير من الواقع أيضاً . يصعب أن يكون العمل الإبداعى خيالاً مطلقاً ، ويصعب كذلك أن يكون واقعاً مطلقاً . قد يتغلب الخيال ، أو يكتفى الفنان برصد الواقع . لكن الخيال يتدخل بصورة وبأخرى ، ربما لاعتبارات الفن فى ذاتها . ولعلى أضيف أن النظر إلى السيرة الذاتية باعتبارها كذلك ، لا يخلو من مثالية ، فالخيال قد يكون واضحاً ، أو مستتراً ، لكنه هناك ، وهو موجود فى كل الأحوال . وعلى حد تعبير همنجواى فإنه من الطبيعى أن يكون أفضل الكتاب كذابين ، جزء كبير من حرفتهم أن يكذبوا ، أن يخترعوا . إنه كثيراً ما يكذبون دون وعى ، ثم ـ فيما بعد ـ يتذكرون كذبهم بندم شديد . لكن الخطأ ـ فى تقديرى ـ فى تصور أن الخطأ هو الزيف ، أو الاختلاق ، أو انعدام الحقيقة ..
العمل الأدبى عمل محاكاة بالمعنى الموسع . إنه يحاكى فعلاً ، وأيضاً يحاكى موقعاً متخيلاً . عالم الخيال الأدبى ـ كما يقول إنريكى أندرسون ـ هو العالم الوحيد الذى يمكن أن نقول عن الراوى فيه إنه قادر على معرفة كل شئ " ( القصة القصيرة ـ النظرية والتقنية ـ 80 ) . ويقول هنرى جيمس : " إن بيت العمل الخيالى ليس له نافذة واحدة ، بل مليون نافذة ، وعدد لا حصر له من النوافذ الممكنة " ( ت . حامد أبو احمد ) .
(يتبع)

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:15 PM
يضيف كيتس : " إننى أشعر كل يوم أكثر فأكثر ، عندما يقوى خيالى ، أننى لا أعيش فى هذا العالم وحده ، وإنما فى ألوف من العوالم " . ويقول ميشيل فوكو : " إن العملية الإبداعية تولّد الخيال ، وترتبط به بطريقة مركّبة ، فهى تنتظر منه دعماً ودحضاً على السواء . إنها تفترض مسافة لا تخص العالم أو اللاشعور أو النظرة أو السريرة " ( محمد على الكردى : ألوان من النقد الفرنسى المعاصر ص 78 ) . وعلى حد تعبير مارتينيث بوناتى ، فإن الأدب يجد إمكانيته فى التخييل ..
واذا كان قدامى الإغريق مثل سوفوكليس وهوميروس قد استعاضوا عن اللجوء الى الخيال باستخدام صور الميثولوجيا المتاحة ، فإن دانتى وشكسبير وكالديرون وملتون وجوجول وغيرهم قد أفادوا من الخيال بصورة مؤكدة .
يقول بورخيس : " إن أعظم ما يمتلكه الإنسان هو الخيال " . وتصف الناقدة البريطانية هيلين جاردنر المبدعين ، الشعراء وكتاب المسرح والرواية والقصة القصيرة ، بأنهم " صانعو العوالم الخيالية من كل نوع ، ومبتدعو الصور العميقة لمعنى للحياة والتجربة البشرية " . وقد رفض جابرييل جارثيا ماركيث تحويل رواياته إلى أفلام سينمائية . فضّل أن يتخيل القارئ شخصيات القصة وأحداثها ، فلا يقتحم عليه ذلك الخيال مؤثر من أى نوع . الفيلم السينمائى يجسد الشخصيات والأحداث والمكان والزمان ، من آفاق الحركة
الراوى العليم لا يكون كذلك إلا إذا أفاد من الخيال ما وسعه . من الصعب على الراوى أن يكون عليماً بكل شىء ، لأنه لن يستطيع التعرف على ما فوق السطح وما تخفيه المياه . فهو إذن لابد أن يستعين بالخيال لتستكمل الصورة ملامحها .
إن الرواية الجيدة لا تقتصر على نقل الحياة فحسب ، لكنها تقول شيئاً عن الحياة ، فهى تكشف عن نمط أو مغزى معين فى الحياة . إن عين الفنان لا تستطيع أن ترى أكثر من واحد فى المائة من الناس والأحداث حوله ، وهو لا يعى ويفهم مما رأى أكثر من هذه النسبة ، وهو كذلك لا يستطيع أن يعبر عما وعى وفهم ، وأحس بأكثر من واحد فى المائة ..
بديهى أن الخيال يبدأ من الواقع ، أو أن الواقع هو البداية فى أى عمل فنى . أختلف مع الرأى فى أن الفن أكثر واقعية من الواقع نفسه ، وهو ما يذهب إليه وليم بليك فى قوله : " نحن نجد فى الخيال حياة حقيقية أكثر واقعية مما يسميه الناس العالم الحقيقى " العكس ـ فى تقديرى ـ صحيح . إن الواقع أشد واقعية من الفن ، مهما يخلص الفنان فى تصوير الواقع . وعلى حد تعبير أندريه موروا ، فإن أكثر شخصيات العمل الروائى تعقيداً ، هو ـ فى المحصلة النهائية ـ أقل تعقيداً من أبسط شخصية إنسانية .
الواقعية ليست نقلاً عن الواقع ، لكنها اختيار فنى من الواقع . يبدأ من الزاوية التى يلتقط منها الفنان " الكادر " ، قيمة الصورة الفوتوغرافية فى الانتخاب ، الاختيار ، انتخاب أو اختيار ما تلتقطه العدسة ، الواقع ، وليس الخيال ، هو النبع الذى يستمد منه الفنان إبداعه ، وإن كان من الصعب أن يهمل الخيال تماماً . يقول ماركيث : " ينبغى أن نعترف أن الواقع أفضل منا جميعاً ، فقدرنا ـ وربما مجدنا كذلك ـ هو أن نقلده بتواضع ، وبشكل أفضل ، فى إطار المتاح لنا " ( حامد أبو أحمد : فى الواقعية السحرية ص 145 ) . إحدى ميزات الرواية ـ والقول لروجر ب هينكل ـ إنها تتفوق على الحياة الحقيقية فى القدرة على اجتذابنا إلى أعماق وعى الناس الذين قد لا نجد سبيلاً آخر لفهمهم فهماً كاملاً . وإذا كانت مثالية ديستويفسكى ـ على حسب تعبيره ـ أشد واقعية من أعمال الأدباء الواقعيين ، فإن الواقع أشد واقعية من أعمال الواقعيين ومثالية ديستويفسكى فى آن . أذكر قول جابرييل جارثيا ماركيث : " هناك شئ غالباً ما ننساه نحن الروائيين ، وهو أن الحقيقة ما تزال حتى الآن أبرع قالب أدبى " . المعنى نفسه ـ تقريباً ـ يذهب إليه ميشيل بوتور فى قوله : " إن الرواية تقرير علمى عن شئ أهم من مجرد الأدب . إنها طريقة أساسية لمعرفة الحقيقة " ..
إن الصدق فى التاريخ ، وفى العلم ، هو الصدق فى الواقع . أما الصدق الفنى فهو الصدق فى الإمكان ، بمعنى أن الصدق فى العمل الفنى هو انعكاس لما يمكن أن يحدث فى حياة الإنسان ، والصدق فى الإمكان يتسم بالشمول والعمق لأنه يتركز فى العواطف الإنسانية ، بكل ما تحفل به من مشاعر وميول وأهواء وانفعالات . بل إنه ليس كل ما يجرى فى الواقع يحتمله العمل الفنى ، أو يبدو صادقاً فى مرآته . أذكّر بقول سومرست موم : " إن الكاتب لا ينسخ نماذجه من الحياة ، وإنما يقتبس منها ما هو بحاجة إليه . ملامح معينة استرعت انتباهه ، أو عبارة أثارت خياله ، فهو يبدأ من ثم فى تشكيل شخصيته ـ أو شخصياته ـ دون أن يشغله أن تكون صورة مطابقة ، بل إن ما يعنيه بالفعل هو أن يخلق وحدة منسجمة ، محتملة الوجود ، تتفق وأهدافه الفنية الخاصة . وكما يقول هنرى جيمس ، فإن العمل الفنى وحدة مترابطة حية ، تضم الشخصيات والأحداث والحوار والأسلوب . إنها شئ حى ، متكامل ، متصل ، مثل أى كائن حى ، وبالقدر الذى تكون حية ، بالقدر الذى نجد فى أى جزء من أجزائها شيئاً من كل الأجزاء الأخرى " .
أوافق أرسطو أن المحتمل فى الواقع يستطيع أن يكون أكثر احتمالاً فى السياق الفنى من الواقع نفسه ، لأن من المحتمل أن تحدث أشياء كثيرة منافية للاحتمال . مع ذلك فإنى أشير إلى حقيقة أن أبطال الحياة ، الواقع ، يموتون ـ أحياناً ـ فجأة ، ربما بلا تبرير ، ربما بلا مرض ولا ممهدات يصبح المرض نتيجة لها . أما أبطال الفن فإن وفاتهم لابد أن تكون خيوطاً فى نسيج العمل ككل ، فهم لا يموتون فجأة مثل أبطال الحياة ، وإلاّ تقوض العمل من أساسه ، وفقد استمراره وتواصله ، وربما لهذا السبب بدأ نجيب محفوظ رواية بداية ونهاية بوفاة العائل ، فقد يرفض الواقع الفنى وفاة الأب لو أنه مات فى تنامى الرواية . حتى بطل قصة تشيكوف العطسة القاتلة لم يمت فجأة . ولو أننا تأملنا مقولة وليم بليك : " إننا نجد فى الخيال حياة حقيقية ، أكثر واقعية مما يسميه الناس بالعالم الحقيقى " فبماذا نفسر رفض المتلقى تقبل فكرة إيقاف تنفيذ حكم الإعدام بعد أن وضع الحبل فى العنق فعلاً ، مع أن الواقعة ـ بنصها وفصها ـ حدثت فى الحياة المعاشة ؟! . أشير إلى فيلم الكاتب محمد كامل حسن حب وإعدام الذى رفع فيه حبل المشنقة من عنق البطلة فى اللحظة الأخيرة ، فأعلن جمهور السينما عدم تصديقه ورفضه ، بينما كانت الواقعة قد حدثت قبل فترة قصيرة ، وكان بطلها مواطناً من شبرا ، استشكل محاميه ـ واسمه ، فيما أذكر ، فاروق صادق ـ وحصل على موافقة النائب العام بإيقاف تنفيذ الحكم ، وهو ما أفلح فيه المحامى قبل أن يجذب عشماوى يد المشنقة !؟
الواقع فى العمل الإبداعى ليس إلاّ واقعاً افتراضياً ، واقعاً نتصور حدوثه ، دون أن نملك التأكيد على أنه قد حدث بالفعل . من هنا يأتى تحفظى على قول الأسبانى خوان مارسيه " يهمنى الواقع قليلاً ، وعلى نحو نسبى . أهدف إلى واقع متقن الصنع . إننى لا أستنكر نظرية ستندال فى الرواية ، لكننى لست مستنسخاً للحكايات . إننى أخلقها . أعشق الحقيقة المخترعة " ( الرواية الأسبانية المعاصرة ص 218 ) .
***
يقول ماركيث : " لا يوجد فى رواياتى سطر واحد ليس له أساس من الواقع " ( فى الواقعية السحرية ص 146 ) ، لكن الإبداع لا يقدم الواقع على علاته ، لا ينقله كما هو ، وإنما هو ـ على حد تعبير توفيق الحكيم ـ يقدم الحقيقة مصفاة بعد هضم الواقع . الواقع يخلو من البنية الفنية ، ولكى تتشكل تلك البنية ، فإن الواقع يجب أن يؤطر بقوانين جمالية . وكما يقول لوكاش : " العمل الإبداعى ليس الواقع نفسه ، لكنه شكل خاص من أشكال انعكاسه . الإبداع لا يقوحين قرأ جارثيا ماركيث لكافكا هذه الكلمات : " عندما استيقظ جريجور سامسا من نومه ، بعد أحلام مزعجة ، وجد نفسه وقد تحول إلى حشرة عملاقة " ، قرر ماركيث أن يصبح كاتباً .
للعمل الإبداعى منطقه الخاص الذى يختلف عن منطق الواقع . إنه منطق قد يقف على أرضية الخيال إطلاقاً . يصنع صيرورته دون اتكاء على دعائم منطقية من خارج العمل الإبداعى . ما يهمنى هو معادلة الإبداع لا معادلة الحياة ، زمن الرواية لا زمن الحياة ، شخصيات الرواية وأحداثها لا الشخصيات والأحداث التى يفرزها الواقع . الفن ـ على حد تعبير تشارلس مورجان ـ ليس دواء لشفاء عصر ما ، لكنه نبأ عن الواقع ، متمثلاً فى رموز وأفراح وترانيم ورؤى مسحورة .. والتعبير عن ذلك النبأ لا يأتى بغير منطقه ، منطق الفن نفسه . هناك شخصيات مبتكرة بشكل كامل ـ والقول لكونديرا ـ خلقها الكاتب وهو مستغرق فى تفكيره الحالم . هناك تلك الشخصيات التى يستلهمها عن طريق نماذج بشرية . فى بعض الأحيان يتم ذلك بشكل مباشر ، أو بشكل غير مباشر . هناك تلك الشخصيات التى تخلق من مجرد تفصيلة منفردة قد لوحظت فى شخصية ما ، وكلها تدين بالكثير لاستبطان الكاتب ، لمعرفته لذاته . إن العمل الناجم عن الخيال يحوّل أشكال تلك الإلهامات والملاحظات بدرجة عميقة جداً ، لدرجة أن الكاتب ينسى كل ما يتعلق بها " ( الطفل المنبوذ ص 241 ) . وبالنسبة لى فأنا لا أنقل الشخصية كما هى فى الواقع ، وإنما أحذف منها ، وأضيف إليها ، وأدمجها ـ أحياناً ـ فى شخصيات أخرى ، بحيث تتخلق الشخصية الفنية . وقد أوزع من ملامح الشخصية الواحدة على شخصيات متعددة . يغيظنى من يتصور أن الشخصية الروائية ـ أو فلنقل القصصية ـ هى شخصية المبدع نفسه . قد يكون فى الشخصية الروائية ملامح من شخصية المبدع ، لكنها تظل شخصية روائية ، شخصية فنية ، تستمد مقوماتها من شخصيات متباينة ، قد تكون من بينها شخصية الفنان نفسه . أذكر بعد أن قرأ ابن عم لى قصتى القصيرة نبوءة عراف مجنون اتصل بى محتجاً : كيف تكتب عن أبيك بهذه الصورة ؟.. والصورة التى احتج عليها ابن العم هى الأب الذى يصحب ابنه الصغير لشراء لوازم العيد وهو يؤذيه بالقول . وبالطبع ، فلم تكن شخصية الأب فى القصة تقترب من شخصية أبى فى قليل ولا كثير ، لكنها شخصية قصصية ، فنية ، تأخذ من أكثر من شخصية حقيقية ، وتأخذ من الخيال أيضاً ! من هنا ، يأتى تحفظى على قول إنريكى أندرسون بأن القصة القصيرة مجرد تخيل ، وأنها تعرض حدثاً لم يقع أبداً ، أو تعيد ترتيب أحداث فعلية ، وإن ركزت بصفة أساسية على البعد الجمالى أكثر من الحقيقة ( القصة القصيرة ـ النظرية والتقنية ـ 6 ) .
***
كان رأى العقاد أن خلق العمل الفنى من الواقع ، أصعب بكثير من صنعه من الخيال . وقد وافقه الحكيم على ذلك ( تحت المصباح الأخضر ص 82 ) . وقد كتب كافكا روايته أمريكا من خلال الصورة التى كونها خياله بتأثير قراءاته للمطبوعات الشعبية ، فهو لم يزرها إطلاقاً ، لكن عبقرية كافكا عوضت المشاهدة ومصادقة المكان . وكان أستاذنا محمد مفيد الشوباشى يفضل اللجوء إلى خياله ، بدلاً من السفر : " إن خيال الإنسان يمكن أن يتصور أماكن أجمل من الحقيقة . فلماذا أرهق نفسى ، وأتكبد مشاق السفر ومخاطره ، إذا كنت أستطيع أن أتصور بخيالى ما هو أجمل مما سأراه ؟ " . ولعلنا نذكر قول ماريو إيوسا إن الإطار المكانى لقصص همنجواى هو حلقة الملاكمة . أما بورخيس فإن إطار قصصه المكانى هو المكتبة . والدلالة ـ بالطبع ـ واضحة : همنجواى يعتمد على الموهبة ، ويعتمد كذلك على المغامرة ومحاولة التجربة والتعرف على الأشياء . أما بورخيس فإنه كان يعتمد على القراءة الغزيرة إلى جانب الموهبة ، وإن رأى فى عدم الواقعية شرطاً ضرورياً للفن ..
وقد ذهب طه حسين إلى أن الآلهة القديمة لبلاد العرب لم يكن لها أى حظ من الخيال ، فجاءت حياتها كئيبة بالفعل ، لأنها لم تلهم المؤمنين بها أياً من المظاهر الفنية التى أغدق بها على غيرهم من الشعوب ، كما يرى العقاد أن العرب أمة بلا خيال ، وهو ما يراه أيضاً أحمد أمين ، وإن قصر رأيه على البدو . ثمة رأى ـ فى المقابل ـ يرى فى رسالة الغفران وحى ابن يقظان إطلاقاً للخيال فى آماد بعيدة ، وأن " ألف ليلة وليلة عكس كل الأحكام التى قيلت عن العقلية العربية ، فهى تثبت قدرة هذه العقلية على الإبداع الفنى الكامل ، كما تثبت قدرة هذه العقلية على الخلق ، وعلى إعادة الخلق من جديد " . وكان حرص الراوى فى حكايات ألف ليلة وليلة على أن يظل مورد رزقه ـ الحكايات ـ موصولاً بسماع المتلقين ، ومتابعتهم له ، دافعاً لأن يلجأ إلى الخيال ، يضفّر منه وقائع وأحداث وأصناف من البشر والحيوان والطير والأسماك والمخلوقات المتخيلة والجماد ، عالم من الأسطورة والسحر والفانتازيا ، كان هو الأرضية التى تحركت من فوقها واقعية أمريكا اللاتينية السحرية ..
الغريب أن الإبداع عندما يلامس ـ أو يقتحم ـ مناطق الخيال ، الأسطورة ، الفانتازيا ، الخرافة ، الغرائبية ، العجائبية ، إلخ .. التسميات كثيرة ، فإننا نحيله إلى أدب الطفل ، نعتبره نصاً يقرأه الطفل . تصورنا أن الخيال مقصور على الأطفال ، حتى جعلنا حكايات ألف ليلة وليلة ـ المفعمة بالخيال والأسطورة والغرائبية ـ مجرد حكايات للأطفال ، مع أنها ليست كذلك ..
الخيال ـ خيالى وخيال كل قارئ للنص ـ هو الذى يعتق النص من ماديته وجموده ، هو الذى يجسّده . يقول ماركيث : " الخيال هو فى تهيئة الواقع ليصير فنا " . وتضيف هالى بيرت : " عندما تلتمع الفكرة فى الذهن ، فإن الخيال مهم لإثراء الصورة ، بحيث لا يبقى أمام المبدع ـ فى لحظات الكتابة ـ ألاّ أن يكتب ما يمليه عليه خياله . وكما يقول ديهاميل فإن أى منظر لا يمكن أن يصل إلى مثل ما يصل إليه الخيال فى عمله المدهش عندما يحركه قصص جميل مؤثر ( دفاع عن الأدب ص 52 ) .
أحياناً ، يشدنى عمل إبداعى بخيال جميل منطلق ، جواد فن يمضى فى طريق بلا آفاق . ثم يئد الفنان انطلاقة خياله ، حين يتذكر أنه كاتب ، وأنه يكتب إلى قارئ ، وأن هذا القارئ لابد أن يجد فى العمل الإبداعى ما يغريه بالمتابعة ، ويتجه العمل ـ بالغصب ـ إلى طرق غاب فيها الخيال ، ونعانى التكرار إلى حد الملل !..
***
يقول روجر ب . هنكل إن أتم تصوير روائى للمجتمع ، هو ذلك التصوير الذى يشعرنا أننا نوشك أن نكون جزءا ًَمن بناء ذلك المجتمع ( قراءة الرواية ص 106 ) ،
ويختلف كاتب الواقعية الطبيعية عن غيره من الكتاب ـ كما يقول سترندبرج ـ فى أنه هو الذى يبحث فى معترك الحياة عن المثيرات الكبيرة التى يعتبرها الكاتب الواقعى شذوذاً ، تلك المثيرات التى تتوارى وراء حجب كثيفة من التقاليد والقوانين والقواعد الأخلاقية ( الأدب ومذاهبه ص 131 ) . أذكر قول إيزابيل الليندى إن التصوير والكتابة هما محاولة للإمساك باللحظات قبل أن تتلاشى . لكن الواقع الفوتوغرافى ، الواقع الكربونى ، يبين عن فشل مؤكد إذا لجأ إليه المبدع فى تصوير التحول الذى يطرأ على الأشياء . إنه يحمل الواقع ، ويحيله إلى شئ ثابت لا يتحرك ، فهو يسلبه حريته ، ويعمل على قتله . وكما تقول إيزابيل الليندى فإن الصورة هى خلاصة الواقع مضافاً إليها حساسية المصور . زقاق المدق ـ مثلاً ـ تتسم بخصوصية تختلف بها عن أعمال مرحلة الواقعية الطبيعية فى أدب نجيب محفوظ . السراب تتناول مشكلة فردية ، وخان الخليلى كذلك ، وبداية ونهاية تعنى بمشكلة أسرة ، والثلاثية تهب صورة للمجتمع كله إبان فترات من تاريخه . أما الزقاق فهى لا تتناول مشكلة فردية محددة ، ولا صورة اجتماعية بانورامية ، وإنما تتناول أحد أزقة القاهرة ، تحيا فيه وعلى هامشه شخصيات تتنافر أمزجتها وطموحاتها وسرعة خطواتها فى طريق الحياة . ولم يكن تصوير الفنان لتلك الشخصيات هدفاً فى ذاته ، وإنما كان يعكس بهم واقع المجتمع المصرى : المحبط ، والشاذ ، والمعقد ، والمشوه ، والمتصوف ، والمجذوب إلخ .. كانوا صورة مختزلة ، وربما متشائمة ، للمجتمع المصرى آنذاك .. ولكن : ألم تكن هذه صورة المجتمع المصرى فعلاً ؟!
المبدع يختلف عن الآخرين ، حتى فى أوقات الصمت ، فى أوقات السكينة . فجميع أجزاء جسمه الظاهرة تكف عن الفعل ، بينما العمل الإبداعى ، أو الشخصية ، أو الحدث ، يتخلق فى داخله ، يفرض عليه حالة من التوتر قد لا تبدو على مظهره الساكن . ويقول ميلان كونديرا : " هناك شخصيات مبتكرة بشكل كامل ، خلقها الكاتب وهو مستغرق فى تفكيره الحالم . هناك تلك الشخصيات التى يستلهمها عن طريق نماذج بشرية . فى بعض الأحيان يتم ذلك بشكل مباشر ، أو بشكل غير مباشر . هناك تلك الشخصيات التى تخلق من مجرد تفصيلة منفردة لوحظت فى شخصية ما ، وكلها تدين بالكثير لاستبطان الكاتب ، ولمعرفته لذاته . إن العمل الناجم عن الخيال يحول أشكال تلك الإلهامات والملاحظات بدرجة عميقة جداً ، لدرجة أن الكاتب ينسى كل ما يتعلق بها " ( الطفل المنبوذ ) ، وكما يقول سارتر ، فإن الخيال هو الأداة السحرية التى يحقق بها الفنان مشروعه الإبداعى . انه يتجاوز كل ما هو ثابت وحتمى ، ويصنع العالم الخاص ، المتميز ، والمتفرد . إن واجبه ـ والتعبير لبرسى لبوك ـ هو أن يبدع الحياة .
أنا أخضع خيالى لخيال العمل الإبداعى . أخضع قراءاتى وخبراتى ورؤيتى للفضاء الذى تتحرك فيه القصة طولاً وعرضاً وعمقاً . الإبداع بعامة مزاوجة بين الحقيقة والخيال ، أشبه بالمزاوجة بين العلم والفن . الحقيقة ليست مطلقة ، والخيال يمكن أن يرتدى ثوب الحقيقة . العالم الذى يعتقد أنه قد وصل إلى الحقيقة ، يذكرنا بالفنان الذى كاد أن يحطم تمثاله لأنه لم ينطق ، والفنان الذى يعتقد أنه يعيش فى الخيال فحسب ، يعانى وهماً باعثه التبلد .
........................
2002

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:16 PM
الواقعية السحرية
......................

الواقعية السحرية ؟
سبقت السوريالية اتجاهات إبداعية كثيرة ، تبدأ بالواقعية التى أفرزت العديد من الروافد المهمة . وثمة الابتداعية والمستقبلية والماورائية والدادية وغيرها . وكانت الدادية ـ تحديداً ـ هى الاتجاه السابق على السوريالية ، بل إن بعض الاجتهادات النقدية وجدت فيها وجهين لعملة واحدة . وثمة من يجد فى السوريالية والواقعية السحرية اتجاهاً واحداً ( حامد أبو أحمد : فى الواقعية السحرية ص 34 )
ظهر مصطلح الواقعية السحرية ـ للمرة الأولى ـ فى عام 1925 . أطلقه الناقد الألمانى فرانتز روه على الاتجاه الذى توضح فى أعمال جماعة من الفنانين الألمان ، اتسمت بالصور الساكنة ، الواضحة ، الحادة التفصيلات والخطوط ، لكنها ـ فى الوقت نفسه ـ تعنى بالتخييل ، الفانتازيا ، المستحيل ، بصورة تناقضية ، كأنها الواقع ، أو هى الواقع تحديداً . ثم اتسع إطلاق المصطلح بعد الحرب العالمية الثانية . أطلق على أعمال روائيى أمريكا اللاتينية ، مثل خورخى لويس بورجيس وأليخو كاربنتير وجبرييل جارثيا ماركيث . السرد فى أعمالهم يمازج بين الواقع والخيال ، بين المألوف وغير المتوقع ، بين المدرك والخارق ، بين الأنماط والنماذج والأحداث اليومية ، وما يعد من الأحلام ، أو أقرب إلى الأسطورة ، والخرافة .. ذلك كله ، فى لغة تغلب عليها الشعرية بصورة لافتة . وثمة رأى يحدد الفارق بين الواقعية السحرية والفانتازيا ، فى أن الفائق للطبيعة فى الواقعية السحرية لا يربك القارئ .
يقول ماركيث : " الخيال هو فى تهيئة الواقع ليصير فنا " . وتضيف هالى بيرت : " عندما تلتمع الفكرة فى الذهن ، فإن الخيال مهم لإثراء الصورة ، بحيث لا يبقى أمام المبدع ـ فى لحظات الكتابة ـ ألاّ أن يكتب ما يمليه عليه خياله . وكما يقول ديهاميل فإن أى منظر لا يمكن أن يصل إلى مثل ما يصل إليه الخيال فى عمله المدهش عندما يحركه قصص جميل مؤثر ( دفاع عن الأدب ـ 52 ) .
وفى ذكرياتها " بلدى المخترع " تؤكد إيزابيل الليندى أن أدوات الإدراك مثل الغريزة والخيال والأحلام والعواطف والحدس ، أدخلتها فى الواقعية السحرية قبل أن تظهر موضة ما سمى بانفجار أدب أمريكا اللاتينية بكثير ( بلدى المخترع ـ 72 ) . ويقول ماريو بينيدتى إن ظهور حركة الواقعية السحرية أو العجائبية ، ليس مرده الواقع العجائبى ، وإنما الواقع المروع . وقد عاب ماركيث على واقعية الأجيال الحالية ـ والتعبير له ـ غياب البساط الذى يمكنه أن يطير فوق المدن والجبال ، والعبد الذى يظل داخل الزجاجة مائتى عام ، قبل أن يتاح له الخروج إلى العالم .
***
كان رأى العقاد أن خلق العمل الفنى من الواقع ، أصعب بكثير من صنعه من الخيال . وقد وافقه الحكيم على ذلك ( تحت المصباح الأخضر ص 82 ) . وقد كتب كافكا روايته أمريكا من خلال الصورة التى كونها خياله بتأثير قراءاته للمطبوعات الشعبية ، فهو لم يزرها إطلاقاً ، لكن عبقرية كافكا عوضت المشاهدة ومصادقة المكان . وكان أستاذنا محمد مفيد الشوباشى يفضل اللجوء إلى خياله ، بدلاً من السفر : " إن خيال الإنسان يمكن أن يتصور أماكن أجمل من الحقيقة . فلماذا أرهق نفسى ، وأتكبد مشاق السفر ومخاطره ، إذا كنت أستطيع أن أتصور بخيالى ما هو أجمل مما سأراه ؟ " . ولعلنا نذكر قول ماريو إيوسا إن الإطار المكانى لقصص همنجواى هو حلقة الملاكمة . أما بورخيس فإن إطار قصصه المكانى هو المكتبة . والدلالة ـ بالطبع ـ واضحة : همنجواى يعتمد على الموهبة ، ويعتمد كذلك على المغامرة ومحاولة التجربة والتعرف على الأشياء . أما بورخيس فإنه كان يعتمد على القراءة الغزيرة إلى جانب الموهبة ، وإن رأى فى عدم الواقعية شرطاً ضرورياً للفن ..
حين أتحدث عن الخيال ، فأنا لا أعنى بالخيال ما يحتفى به السورياليون ، إنما أعنى الخيال الفنى فى كل مستوياته . وإذا كانت الكتابة لم تدفع بالخيال أبداً إلى حدوده القصوى ـ على حد تعبير جمال الدين بن الشيخ ـ ( ألف ليلة وليلة أو القول الأسير ـ 18 ) فإن الواقعية السحرية ـ والسوريالية كذلك ـ تفجر الخيال إلى أقصى مداه ، تأذن بتحرر اللاوعى إطلاقاً من الرقابة التى قد يمارسها العقل .
أحياناً ، يشدنى عمل إبداعى بخيال جميل منطلق ، جواد فن يمضى فى طريق بلا آفاق . ثم يئد الفنان انطلاقة خياله ، حين يتذكر أنه كاتب ، وأنه يكتب إلى قارئ ، وأن هذا القارئ لابد أن يجد فى العمل الإبداعى ما يغريه بالمتابعة ، ويتجه العمل ـ بالغصب ـ إلى طرق غاب فيها الخيال ، ونعانى التكرار إلى حد الملل !..
أستاذنا نجيب محفوظ يحرص على أن يؤطر الخيال بالمنطق . الحلم عند نجيب محفوظ بديل لمنطق الفن ، للامنطق ، للواقعية السحرية [ إقرأ " الطريق " صفحات 60 ، 63 ، 64 ، 67 ، 107 الخ .... ] . أما الواقعية السحرية ، فإن أشد تعرفنا إليها فى أعمال جابرييل جارثيا ماركيث ( كولومبيا ) وميجيل أنجل أستورياس ( جواتيمالا ) وأليجو كاربانتييه ( كوبا ) . وتختلف الواقعية السحرية فى أنها جانب فوق طبيعى للأشياء ، ضرب من الواقعية يتجاهل قوانين السبب ، تماماً مثل الحال فى الأحلام ، والتعبير لماركيث . أن الفن ـ كما يقول إرنستو ساباتو ـ لا يطالب بفصل المنطقى عن اللامنطقى ، والإحساس عن الفكر ، والحلم عن الواقع . إن الحلم والميثولوجيا والفن مصادر مشتركة فى اللاوعى ، بحيث تظهر عالماً ليس من المتاح أن تكون له أية صيغة تعبير أخرى ـ ما هذا البيان المشترك ؟ ـ 139 ) . لم يعد للواقعية الطبيعية أو التسجيلية ـ على سبيل المثال ـ وجود فى أدب الفانتازيا . إنه أدب لا يعرف المستحيل . لقد كسر مبدعو الواقعية السحرية حاجز المعقول ، لا للهروب ، ولا لمجاوزة العالم الحقيقة ، وإنما لفهم العالم بطريقة أفضل . أما الواقعية السحرية ـ فى الموروث العربى ـ فهى الأعمال التى تحيا على الأسطورة والخرافة والغرائبية . إنها لا تجعل من ذلك كله مجرد وسيلة ، ولا تجعل منه ـ على حد تعبير جمال الدين بن الشيخ ـ ملاذاً أخيراً تلجأ إليه الحكاية عندما يتم استنفاد المصادر العادية ( ألف ليلة وليلة أو القول الأسير ـ 100 ) .
الأسطورة والفانتازيا والغرائبية تتخلق من داخل العمل الإبداعى ، تشكل جزءاً فى نسيجه . وحين استطاع الرجل الغريب فى قصتى فلما صحونا أن يخضع ـ بسكين ـ أفراد الأسرة المضيفة ، أظهر بعض الأصدقاء من المبدعين والنقاد عجبهم : كيف لجماعة أن تشل إرادتها أمام شخص ، فرد ، يحمل سكيناً ؟ . وفى قصتى المستحيل تعددت الأسئلة حول إقدام الرجل على لزوم بيته لا يغادره ، وهو قد اكتفى بتكويم قطع الأثاث خلف الباب والنوافذ . أما الراوى فى قصة " هل " فهو ميت ، وأهملت السؤال : ألم يكن من الأوفق أن يجرى الحدث فى الحلم ؟ . وكانت الملاحظة التى أبداها البعض حول قصتى أبناء السيد الصافى ـ تنفيذاً لوصيته ـ يبحثون عن الأخوات ، هى الملاحظة نفسها التى أبداها البعض من خارج القصة : كيف لميت أن يعود إلى الحياة ؟
والأمثلة ـ كما تعرف ـ كثيرة . وهى قد أملت منطق الواقع ، وأهملت منطق الفن ، المنطق الذى يصدر عن الفن . ولعلك تتعرف إلى ما أريد توضيحه فى إمام آخر الزمان ومن أوراق أبى الطيب المتنبى ونجم وحيد فى الأفق و ما ذكره رواة الأخبار عن سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله ، وغيرها من الروايات التى تحركت شخصياتها وأحداثها فى إطار الفن .
***
أوافق على الرأى بأن الواقعية السحرية مجرد مسمى لاتينى أمريكى لظاهرة عالمية قديمة ( فى الواقعية السحرية ـ 43 ) . الواقعية السحرية ـ أداتها قوة الخيال ـ تكشف عن الأبعاد السحرية لواقعنا المعيش . يقول ماريو بارجاس يوسا : " لقد بدأت القصة تتحرر من محليتها ، من اهتمامها فقط بكل ما هو أمريكى لاتينى . لقد تحررت بالفعل من هذه التبعية ، فنراها تتخلى عن مهمتها كخادمة فى محراب الواقع المعيش ، وأصبحت ـ فى الوقت الراهن ـ تسلط أضواءها على الواقع لتستمد منه موضوعات معينة لعرضها على الرأى العام . وبذلك مهدت تغيير الوضع القائم "
ظاهرة الواقعية السحرية موجودة فى الأساطير والملاحم والحكايات العربية ، منذ أسطورة إيزيس ، وقصة الأخوين ، تواصلاً مع الملاحم والسير الشعبية والحكايات العربية : الهلالية وعنترة وبيبرس وحى بن يقظان ورسالة الغفران والزوابع والتوابع وبركات الأولياء ومكاشفاتهم
أنا لا أخترع عالماً غير موجود ، وإنما أقدم عالماً أحياه ، وأتذكره ، وأتفهم ما ينبض به من معتقدات وعادات وتقاليد . همى أن أنقل هذا الواقع بلغة تضيف جمالياتها إلى جماليات العمل الفنى . وكما أشرت من قبل ، فأنا أرفض أن أعتبر اللغة أداة توصيل . إنها جزء مهم فى العمل الإبداعى ، تلتحم به ، ومعه .
وإذا كان كل شىء فى أمريكا اللاتينية ـ كما يقول ماركيث ـ ممكناً ، وواقعياً ، فإن المعنى نفسه يصدق على الحياة فى بلادنا ..
عبد المحسن صالح ـ كما تعلم ـ واحد من كبار علمائنا فى مجال البكترولوجيا ، بالإضافة إلى إسهامه المتفوق فى مجال تبسيط العلم . ناقش فى كتبه قضايا مهمة ، تبدأ بالحياة اليومية ل،سان وتنتهى بالموت .
زارنى عبد المحسن صالح ذات مساء . كانت العادة أن يطول نقاشنا فيما يفد إلى خواطرنا من قضايا ، دون أن نعطى حساباً للوقت . لكنه استأذن ـ بعد أقل من نصف ساعة ـ : لماذا ؟ . سأحضر جلسة تحضير أرواح !.
شردت عن كل الحجج ، وغير العلمية ، التى ساقها عبد المحسن تبريراً للانفصام الواضح بين ثقافته العلمية وثقافته الموروثة .
وفؤاد ب . ليس طبيباً كبيراً فحسب ، لكنه ـ فى الوقت نفسه ـ مثقف كبير ، له آراؤه الموضوعية والجادة فى مختلف قضايانا السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها . وكان إيمان الرجل بالتقدم مطلقاً ، حتى أنه لم يكتف بما وصل إليه من مكانة علمية ، فهو يجلس فى المدرجات أثناء مناقشة رسائل الماجستير والدكتوراه للتعرف على الجديد فى مجالات الطب .
ما لا يعرفه إلا القلة من أصدقاء الدكتور فؤاد ب . ـ وأنا واحد منهم ـ أنه كان يغيب عن القاهرة فى بعض الأمسيات . يمضى بسيارته إلى قرية فى عمق الدلتا . يجلس فى حضرة شيخ يعمل بالسحر والتنجيم وقراءة الطالع !
هذا الانفصام ، أو التقابل ، يعنى سيادة الموروث الشعبى ، بصرف النظر عن تباين المستويات الاجتماعية والثقافية ، فهى جزء أصيل فى تكوين الإنسان المصرى . ليس ثمة ما يرفضه العقل : السحر مذكور فى القرآن الكريم . الأرواح والجن مذكورة كذلك فى القرآن الكريم . العفاريت والغيلان والمردة ، ما أكثر ما يرويه الأجداد والأبناء عنها للأبناء والحفدة
نحن ننشأ على حكايات " السماوى " و " أبو رجل مسلوخة " والعفاريت التى قد تركبنا ، أو تفعل بنا ما تفعله العفاريت . تتوالى التحذيرات والنصائح ومحاولات التخويف . تستقر فى أدمغتنا ، لا يلغيها تقدم السن ، ولا اكتشاف الحقائق ، بل إننا ـ تواصلاً مع الموروث ـ نروى ذلك كله ـ وربما نضيف إليه ـ لأولادنا .
وإذا كانت عادة المصريين هى الاحتفال بذكرى وفاة الراحلين من أحبائنا ، فإننا نحتفل بذكرى أولياء الله . مبعث المفارقة أن أولياء الله يظلون أحياء ، فنحن نلجأ إليهم فى الملمات ، نطلب النجدة والغوث والنصفة والمدد ..
نحن نلجأ إلى أولياء الله ، نقسم بهم ، نزور مقاماتهم ، نتشفع بهم ، نعدهم بالنذور ، نناجيهم ، نلتمس النصفة والمدد . نحن إذن لا نعتبرهم موتى . إنهم أولياء الله ، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . الأولياء الموتى ـ فى يقيننا ـ ليسوا كذلك . نلجأ إليهم لمساعدتنا فى تحقيق ما عجزنا عنه ، ما قد يدخل فى دائرة المستحيل .
وإذا لم يكن اللقاء المباشر بالراحلين متاحاً ، فإنه يتم فى أثناء النوم ، فى رؤى المنام .
نحن ننتظر من الأولياء الراحلين أن يؤدوا لنا ما يجدر بنا أن نؤديه . حين ندس رسالة فى صندوق النذور بمقصورة أحد الأئمة ، نضمنها شكوى ، فإننا نترقب قراءة الولى للرسالة ، واستجابته لها ، بحيث تنعكس الاستجابة فى نتائج إيجابية تعيد لنا حقوقنا المهضومة . السيدة زينب ترأس المحكمة الباطنية التى تفصل فى أمور المسلمين ، السيد البدوى هو الذى أتى لنا بأسرى الحروب الصليبية ، سيدى العدوى يستعيد الأطفال التائهين ، إلخ .
أصارحك بأنى عبرت عما شهدته ، وعشته ، فى طفولتى ، دون أن أحاول تصنيف كتاباتى ، وما إذا كانت واقعية بالمعنى الذى نعرفه ، أم واقعية سحرية كما قرأنا عنها فى الإبداعات العالمية . كتبت ما نهل من التراث ، ومن الموروث ، من المعتقدات والتقاليد والعادات وغيرها من الخصائص التى يمكن أن تشكل فى مجموعها ـ ولو من قبيل التجاوز ـ الشخصية المصرية
كانت مسامرات كل مساء ـ هل تصح هذه التسمية ؟ ـ تكاد تقتصر على الجن والعفاريت والست المزيرة والقرين ، أو الأخت التى تسكن تحت الأرض " اسم الله على أختك " والبغلة التى تزين للمرء ركوبها ، فإذا ركبها علت به وعلت ، ثم قذفت به إلى الأرض فى مصير مؤلم .
لا تشغلنى المقارنة ، ولا أوجه الاتفاق والاختلاف ، لكن السؤال الذى يفرض نفسه : ما الخصائص التى تتميز بها الواقعية السحرية ، فلا نجدها فى العجائبية العربية ، كما نجدها فى ألف ليلة وليلة ، والسير ، والحكايات القديمة ؟
الوجدان المصرى ـ والعربى بعامة ـ يتقبل كل الظواهر الميتافيزيقية ، مهما مالت ـ موضوعياً ـ إلى الخرافة . إنه يتقبل أمور المعتقد وما وراء الواقع باعتبارها أموراً حقيقية ويجب تصديقها ، وممارسة سلوكيات حياتنا فى ضوء ذلك الاعتبار . الإنسان العربى يمارس ما قد يبدو خرافة ، دون أن يضعه فى إطار معرفى محدد ، بل إن القلة القليلة من خاصة المبدعين العرب ، هم الذين يعرفون معنى الواقعية السحرية ، بل إنهم يمارسون واقعيتهم السحرية بعفوية الفعل .
أما التحذير بأن الواقعية السحرية مما يرقى عن مستوى إدراكنا ، فلسنا نملك إلا أن نكتفى بقراءة الإبداعات الأمريكية اللاتينية التى كتبت فى إطاره ، فهو تحذير يشى ـ للأسف ـ بحرص على الدونية فى النظر إلى معطيات الآخر ، حتى لو أفاض ذلك الآخر فى التحدث عن تأثر واقعيته السحرية بالتراث العربى ، وبخاصة ألف ليلة وليلة .
نحن لا نحاكى غرائبية الآخر ولا عجائبيته ، ولا حتى واقعيته السحرية ، لكننا نكتب عن الواقع الذى نحياه بكل ما ينطوى عليه من معتقدات وعلاقات إنسانية وتراث وموروث وروايات شفهية ومكتوبة . أوافق إيزابيل الليندى على أن الغموض السحرى ليس وسيلة أدبية ، ليس ملحاً ولا بهاراً ، لكنه جزء من الحياة نفسها . الواقع هو النبع الذى نحاول أن تنهل منه إبداعاتنا ، نقرأ الإبداع العالمى فى إطلاقه ، لكننا نصدر عن التجربة الشخصية والجماعة التى ننتمى إليها ، ونحاول ـ من خلال ذلك ـ أن نعبر عن وجهة النظر الشمولية ، أو فلسفة الحياة ، وهو المعنى الذى أوردته كثيراً فى العديد من مقالاتى . أنا لا أكتب ما قد أسميه الواقعية الصوفية ـ على سبيل المثال ـ لمجرد الانطلاق فى الخيال ، لكننى أحرص على تضفير ذلك بالعلاقات السياسية والاجتماعية ، سواء فى اللحظة المعاشة ، أم فى أحداث تاريخية .
بمعنى آخر ، فإننا نحاول أن نفيد من ثقافتتنا الموروثة والمكتسبة ، ونتمثل ثقافات أخرى نجد فيها تواصلاً أو امتداداً لثقافتنا الخاصة . ضرورة التواصل مع التراث والموروث لا تعنى الانكفاء على الذات ، ورفض التراث والموروث العالمى ، أو حتى الانعزال عنهما . نحن ـ كإنسانيين ـ ننتمى إلى هذا العالم باختلاف ثقافاته ، وتنوع حضاراته ، ويجدر بنا أن نفيد من ذلك فى إثراء تجاربنا الإبداعية ، بتعدد المنابع التى تنهل منها .
فى كل الأحوال ، فإننا لا نتعمد جذب انبهار القارئ ولا إدهاشه ، الفن هو البدء والمنتهى ، والفن ليس مجرد رص كلمات ولا زخرفة أو توشية ، لكنه يحاول أن يهبنا دلالة ، ما يستحق عناء المبدع فى الكتابة ، وعناء القارئ فى التلقى .
..........
2003

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:18 PM
الفن .. هل هو للتسلية ؟
.................................

" كانت الكتب العلمية فى مكتبة أبى تقف ، جنباً إلى جنب ، مع الأعمال الشعرية والروائية ، ولم يخطر ببالى مطلقاً أن أفكر أن أحدهما يقل ، فى قيمته وانسانيته ، عن الآخر "
أودين

منذ العشرينيات من القرن العشرين ، تلاحقت الثورات العلمية فى عالمنا المعاصر : ثورة المعلومات .. ثورة الاتصالات .. ثورة التكنولوجيا .. ثورة الهندسة الوراثية ، وغيرها .. وثمة اجتهاد أن المعلومات التى أضافتها الإنسانية إلى رصيدها المعرفى خلال الأعوام الخمسين الأخيرة ، يفوق ما حصلته خلال تاريخها كله . وكما يقول أستاذنا زكى نجيب محمود فإن الأمة تأخذ بنصيب من المدنية بقدر ما تأخذ بنصيب من العلم ومنهجه .
العلم ضرورة لبقاء الجنس البشرى ، لأنه هو الذى يمكّن البشر من السيطرة على الطبيعة ، واستخراج العناصر الأساسية لوجودهم ( أدب ونقد ـ أكتوبر 1985 )
من هذا المنطلق ، فإن محاولة استشراف آفاق القرن الحادى والعشرين فى مجال ما ، يبدو غاية فى الصعوبة .. لكن الإجابة عن السؤال مطلوبة ..
ولعله يجدر بنا ـ ابتداء ـ أن نشير إلى قضية العلاقة بين العلم والفن :
يناقش المازنى فى حصاد الهشيم قضية الفن ، وأنه لن يشغل إلا مكاناً ضئيلاً جداً فى الحياة العقلية للقرون البعيدة ، ذلك أن علم النفس يقول لنا إن التطور طريقة من الغريزة إلى المعرفة ، ومن العاطفة إلى الموازنة والحكم ، ومن التفكك إلى الانتظام فى اتصال الخواطر ، فيحل الالتفات محل العفو فى نشوء الفكرة ، وتأخذ الإرادة ـ يهديها العقل ـ مكان الهوى ، وحينئذ يزداد تغلب الملاحظة على الخيال والرموز الفنية ( حصاد الهشيم ص 52 ) .
ثمة مقولة إنه لولا العلم لكادت الحياة أن تكون صورة للموت . ويقول فلاديمير مايكوفسكى : " جرّار واحد من صناعة فورد أفضل من مجموعة قصائد شعرية " . وكان رأى مصطفى المنياوى فى رواية نجيب محفوظ الشحاذ أن الفن كان له معنى فى الماضى ، فلما أزاحه العلم عن موضعه ، أفقده كل المعانى . مصطفى يكتب فى اللب والفشار ، إيماناً بقضاء العلم على كل ماعداه . وهو يعترف ببساطة أن العلم لم يبق شيئاً للفن ، وأن العلم ينبض بلذة الشعر ونشوة الدين وطموح الفلسفة ، ولم يبق الفن إلاّ للتسلية ، بل إنه سينتهى ـ يوماً ـ بأن يصير حلية نسائية مما يستعمل فى شهر العسل . يقول : لقد تبوأ العلم العرش ، فوجد الفنان نفسه ضمن الحاشية المنبوذة الجاهلة . وكم ود أن يقتحم الحقائق الكبرى ، ولكن أعياه العجز والجهل ، وحز فى نفسه فقدان عرشه .. ولما استحوذ العلماء على الإعجاب بمعادلاتهم غير المفهومة ، لجأ الفنانون المنهارون إلى سرقة الإعجاب ، باستحداث آثار شاذة مبهمة غريبة ، وأنت إن لم تستطع لفت أنظار الناس بالتفكير العميق ، الطويل ، فقد تستطيعه بأن تجرى فى ميدان الأوبرا عارياً ، ولذلك اخترت أبسط الطرق وأصدقها ، وهو أن أكون مسلياً . ويقول : يجب أن أن نتخلى للعلم عن جميع الميادين ، عدا السيرك !
ولعل مبدأ فصل العلم والفن فى حد ذاته ، يحتاج إلى مراجعة شديدة ، فلا شك فى أن العالم الحديث ـ والقول لإيفور ايفانز ـ يستعمل خياله الآن كما يستعمل الفنان خياله ، لكن خيال العالم يخضع للتجارب أكثر من خيال الفنان ، وإن كانت هناك نواحى مشتركة بين كليهما ، فالعالم يشتغل بالتجربة ، ويرضى بها فى حد ذاتها . أما الفنان فهو يحاول أن يشرح هذه التجربة بطريقته الخاصة . وإذا كان العالم يحاول أن ينظر إليها كنظام متصل فإن الفنان له حرية أكثر من العالم . إنه يستطيع أن يخلط استعاراته عن طريق الخيال ، لكن العالم يجب أن يبنى من الخيال عالماً واحداً متماسكاً ، عالماً يعبر عن العلاقات بين التجارب ، وعلى سبيل المثال فإن نظريات نيوتن وفاراداى وأينشتين متصلة بعضها ببعض ، وهى ـ فى ذات الوقت ـ مخلوقات للخيال .
***
أنا أومن بالترابط الحتمى بين مختلف فروع المعرفة ، وأوافق على الرأى بأن العلم والفن متلازمان ، ولا يصح وجود أحدهما إلاّ بوجود الآخر . الأديب والعالم كلاهما حالم ، والحالم ثورى ، والثورى يسعى إلى تغيير العالم . أعجبنى القول إن " أحلام المبدعين جميعاً هى فى الواقع مرحلة بين الحقيقة والخيال ، أى بين العلم والفن . الحقيقة المتحولة والمتبدّلة أبداً ، أى ليست مطلقة ، وخيال يمكن أن يتحول إلى حقيقة كائنة . والعالم الذى يعتقد بأنه قد وصل إلى الحقيقة ، لا يمكن أن يكون إلا جاهلاً . والفنان الذى يعتقد بأنه يعيش فى رحاب الخيال فقط ، انسان متبلّد الشعور ، فالخيط جد رفيع بين الحقيقة والخيال كما هو بين العلم والفن " ( إدريس الحسن ـ العربى ابريل 1985 ) ، ومع هذا ، فأنت قد تكتفى برفض الفن الذى تحبّه ، لا تقبل عليه ـ مثلما لا يقبل عليه الآخرون ـ فتبور البضاعة . أما العلم السىء ، فهو يحقق نتائجه السلبية بالرغم منا . حتى لو رفضناه ، فإننا لا نملك أن نمنع تأثيراته !
لقد أفادت البشرية من التكنولوجيا فى استخداماتها الإيجابية ، لكنها أضيرت منها فى استخداماتها السلبية ، وهى استخدامات تحيق بالعلم دماراً محققاً ..
العلم ـ فى تقدير الكثيرين من كتاب الغرب ـ أشبه باللعنة التى صنعتها البشرية بأيدى أبنائها . انتصاراته المتوالية لها وجهان : إيجابى وسلبى . والوجهان يختلطان بحيث يصعب تحديد جوانب الخير أو الشر . وعندما خصص نوبل قسماً كبيراً من أمواله لجوائز عالمية ، أعلن ـ صراحة ـ أنه قد بادر إلى ذلك تكفيراً عن اختراعه للديناميت . أراده للسلم ، فاستخدم فى الدمار . وكانت بدايات التفكير فى انشطار الذرة لاستخدامات السلام ، ثم تحول الاختراع إلى قنابل ذرية وهيدروجينية وسلاح ذرّى مدمّر . وكان إلقاء القنبلة الذرية على المدينتين هيروشيما ونجازاكى مؤشراً بالغ الدلالة للنتائج المدمرة التى قد تتحقق من التقدم التكنولوجى ، وأن العلم إذا كانت له إفرازاته الإيجابية ، فإن له إفرازاته السلبية أيضاً ، فمن المستحيل إذن أن نضع مستقبل البشرية فى يد التقدم التكنولوجى وحده ..
إن تقدم العلم ليس مطلقاً . إنه متصل بالإنسان ، بقيمه ومثله ولحظات قوته وضعفه . التقدم العلمى فى إطلاقه لا يمكن أن يحقق للإنسان مشاعر الانتماء ، وحب الأرض ، والاستفزاز ضد العدوان ، والتعاطف مع الآخرين ، وغيرها من المشاعر التى تتصل بالنفس الإنسانية ، مايشغلها وما تنبض به وتعبّر عنه . الأدب يفهم الطبيعة ، وخبرة الحياة اليومية ، بما لا يرقى إليه فهم العلم ، أو تصويره له . والفن ـ فى مقولة ـ يتجاوز العلم فى أنه لا يفهم من خلال التحليل ، ولكن من خلال العرض . الفن يخاطب العاطفة ، وهو ما يعجز عنه العلم ، مهما يسرف فى التفوق . العلم مجاله العقل . أما الفن فإنه قد يخاطب العقل أحياناً ، ويخاطب العاطفة فى كل الأحيان ، والعاطفة التى أعنيها هى وجدان الإنسان ، مشاعره ، أحاسيسه ، فرحه وحزنه وابتسامه واكتئابه وإخفاقه وانتصاره . لقد كان هناك اعتقاد ـ والقول لأندريه مالرو ـ ان العلم حين يصل إلى أهدافه ، فإن فهم الإنسان سيصبح ميسّراً ، لكننا بدأنا نكتشف ـ مع التقدم ـ أن علاقة الإنسان بنفسه تعتمد على تكوين الإنسان نفسه ، أكثر مما تعتمد على أى تقدم علمى . وكما تقول سهير القلماوى فإن تحدى العلم للإنسان ، تحدى أن يفرض العلم على الإنسان ما يختاره هو له . الفن يحاول أن يقوّى الإنسان فى الإنسان . يحاول بطريقته أن يقوى الاختيار ، وممارسة الاختيار فى الإنسان المعاصر ( الهلال ـ مارس 1971 )
تكوين الإنسان لا دخل للعلم فيه ، فالعلم يستطيع أن يقدم للإنسان أى شئ إلاّ أن يشكّله ، فما يشكل الإنسان هو الاعتقاد فى نوع من الشخصية المثالية . ولعل مهمة الإنسانية اليوم فى إيجاد طريقة لتشكيل الإنسان . ونحن نعلم مقدماً أن العلم لن يحقق لنا ذلك . وربما هذا هو سر أزمة الشباب وثورتهم اليوم ضد الوسائل العلمية . وطالما بقيت أزمة الإنسان بلا حل ، فإن أية نهضة ثقافية تصبح مستحيلة ..
***
ثمة تعريف للفن يضعه فى موازاة العلم والأخلاق . فالفن عمل إرادى واع للإنسان ، هدفه الانفعال الجميل والكمال من أجل الانفعال ، والعلم عمل إرادى واع للإنسان هدفه صدق المعرفة من أجل المعرفة الصادقة . أما الأخلاق فهى عمل إرادى وع للإنسان هدفه الخير وسلوك الخير من أجل المعرفة الصادقة . وبتعبير آخر ، فإن الفن بعد من ثلاثة : العلم وهدفه الحقيقة ، والأخلاق وهدفها الخير ، والفن وهدفه الإحساس بالجمال والكمال ، وتلازم الأبعاد الثلاثة مهم ، من الصعب أن نتعامل مع أحدها فى معزل عن البعدين الأخيرين . وهو ما يبين ـ على سبيل المثال ـ فى الرواية النفسية التى لا يشغلها تشابك العلاقات فى المجتمع ، ولا القضايا السياسية والتاريخية والاجتماعية ، ولا حتى القضايا الأخلاقية ، بقدر ما يركز على مشكلة الفرد ، فرد واحد محدد ، له نفسيته الخاصة ، المستقلة . وهنا تتأكد الصلة بين الرواية كفن وبين علم النفس كعلم تنظيرى وتطبيقى ، ومحاولة كل منهما الإفادة من الآخر كما يتبدى فى عقدة أوديب التى صاغها سوفوكليس فى درامته ، وأفاد منها فرويد فى تشكيل نظريته فى علم النفس ، ثم أفاد نجيب محفوظ من النظرية فى روايته السراب . والواقع أن ظهور النظريات الحديثة فى علم النفس ، أواخر القرن التاسع عشر ، يعد عاملاً مؤكداً فى إفادة الرواية وعلم النفس ، كل منهما من الآخر . بسط علم النفس تعقيدات النفس الإنسانية كما صورتها الأعمال الإبداعية بدءاً بإبداعات الإغريق ، وانتهاء بروايات ديستويفسكى . كما لجأت الرواية إلى نظريات علم النفس فى رسم شخصياتها . وقد أفدت من عقدة " الفتشية " Fetishism فى روايتى النظر إلى أسفل ..
***
الفن ـ فى تعريف أستاذنا حسين فوزى ـ نشاط إنسانى عام ، تقاسمه الناس كقلة منتجة للفن فى ناحية ، وكثرة مستهلكة له فى الناحية الأخرى ( الكاتب ـ يناير 1964 ) . وقد عاب حسين فوزى على المستهترين الذين يرون أنه لا فائدة للفن أكثر من أنه نوع من الترفيه ـ لم يتصور أن ذلك هو رأى نجيب محفوظ ! ـ . وبافتراض ذلك ، فإن الترفيه ضرورة من ضرورات الحياة ، ولكن : هل الفن شئ كالرياضة البدنية ، أو لعب الطاولة ؟ وهل للباليه قرابة ـ ولو من بعيد ـ برقص الصالونات ومجتمعات السكارى ؟!.. الفنون كلها ـ فى تقدير حسين فوزى ـ ملتزمة بتأكيد العنصر الروحى فى الإنسان ( الطليعة ـ مارس 1967 ) . حتى الترفيه فى الفن الرفيع يعنى الارتقاء من عالم أرضى حسّى إلى عالم سماوى روحانى ، بلوغ درجة من الإحساس الصوفى ، يتجلى فيها للمتصوف الواصل ، اتصاله بغير الكائن الملموس ( الكاتب ـ يناير 1964 ) . أوافق أحمد عباس صالح على أن الأخلاق لا تصنع بالمخترعات ، بل بالفكر والفن ، ولعلها بالفن قبل كل شئ ( الكاتب ـ مارس 1966 ) . وأشير إلى رأى الشاعر الأمريكى وايتمان : " إن مشكلة الإنسانية فى العالم المتمدن ، هى مشكلة اجتماعية ودينية لابد أن تعالج فى النهاية من طريق الأدب ، من وجهة نظر مكتفية بذاتها " . إن أول عمل فنى ـ على حد تعبير مالرو ـ كان أول انتصار للإنسان على لا معقولية الكون ، وأول تحد للموت . ويقول نيدو شيفين : " من الخطأ أن نحصر الفن فى دائرة الإحساس ، أو أن نزعم أن الإدراك الحسى البدائى للعالم ، هو المنبع الوحيد للفن ، والتفرقة بين الفن والعلم على أساس أن محتوى الأول هو الإحساس وحده ، ومحتوى الثانى هو الفكر وحده ، تفرقة خاطئة ، والنقد الصورى الرجعى لا يكف عن ادعاء أن الفن لا يحتاج بحال إلى المحتوى الفكرى ، والهدف من ذلك واضح ، وهو حرمان الإبداع من قوة المعرفة الفعالة ، وجعله مجرد تسجيل للإحساس الذاتى " ( محمد مفيد الشوباشى : الأدب الثورى عبر التاريخ ـ كتاب الهلال ص 31 )
والحق أن نجيب محفوظ قد خفف ـ فيما بعد ـ من غلواء مناصرة العلم إلى حد كبير ، فهو لم يعد يجد الفن فشاراً فى عصر العلم ، وإنما هو عصر العلم فعلاً ، وعصر التكنولوجيا والروبوت . أما دور الفن اليوم ، فهو ـ والقول لمحفوظ ـ الدفاع عن ذاتية الإنسان وحريته الشخصية والقيم الإنسانية . إن المجتمع العلمى لا يبلغ كماله من الوجهة الإنسانية إلاّ بالفن . " الرسالة التى ينقلها إلينا الفن أعمق من أن تكون مجرد انفعال نتعاطف به مع الانفعال الأصلى للفنان . الفن يتيح لنا آفاق عالم من المعانى التى يعبر عنها بطريقته الرمزية على نحو فريد ، لا تشاركه إيّاه وسيلة أخرى من وسائل التعبير " ( فؤاد زكريا ـ الفكر المعاصر ـ العدد الأول )
وإذا كانت التجربة العلمية التطبيقية الناجحة تجبر الجميع على احترامها ، فإن الإنسانيات ـ بصرف النظر عن تفوقها ـ يصعب أن تجد إجماعاً فى تقبّلها أو الموافقة عليها . وكما يقول أستاذنا سيد عويس ، فإن الناس فى محيط العلوم المادية ، على اختلاف أيديولوجياتهم وعقائدهم ، على وفاق ، ولا يكون الفراغ الفكرى إلاّ فى محيط العلوم الإنسانية ( التاريخ الذى أحمله على ظهرى جـ2 ص 64 ) . وبالإضافة إلى ذلك فإن الفن يختلف عن العلم فى أن الجديد لا يلغى القديم ، لا يلغى ما سبق ، لكنه يضيف إلى الفن فى عمومه إذا كان متميزاً . أذكر قول الناقد الكبير أحمد عباس صالح " إن عشرات الكشوف العلمية لا تستطيع أن تحرك شعباً لعمل ثورة ، لكنها قد تكون سبباً فى ظهور حالة اجتماعية غير متوازنة ينيغى التنبيه إليها بواسطة الفن ، واستفزاز الشعور بها لعمل الثورة وإعادة التوازن " ( الكاتب ـ مارس 1966 ) .
***
فإذا حاولنا التعرف إلى صورة إبداعاتنا الأدبية ، فى ضوء بديهية أن العالم قد تحول بالفعل إلى قرية صغيرة ، وأن العقلية العالمية الرحبة هى ما نحتاجه فى مواجهة القرن القادم بدلائله التى تشى بتطورات مذهلة ، فإن اللافت أن البنيوية ـ على سبيل المثال ـ قد ظهرت فى العشرينيات من القرن العشرين ، والواقعية السحرية ظهرت فى الثلاثينيات من القرن نفسه .. لكننا ـ للأسف ـ ظللنا لأعوام طويلة ، قريبة ، نناقش أعمالنا الإبداعية فى ضوء البنيوية باعتبارها النموذج النقدى الأكثر تطوراً . وللأسف أيضاً ، فقد شدتنا أعمال جابرييل جارثيا ماركيث التى تحلق فى أجواء الواقعية السحرية ، وحاول البعض احتذاءها باعتبارها الأحدث ، مع أن مصادر الواقعية السحرية ـ كما قال ماركيث ـ نفسه ، وكما قال سواه من أدباء أمريكا اللاتينية ـ توجد فى الأعمال الإبداعية العربية القديمة ، وفى مقدمتها ألف ليلة وليلة ..
نحن مجتمعات استهلاكية وغير منتجة فى عمومها ، بمعنى أننا نعتمد على ما يبدعه الغرب المتقدم ، فنتقبله بالصورة التى أتى بها ، أو نحاول المحاكاة والتقليد ، دون أن ننشغل كثيراً بظروفنا الخاصة ، ووجوب اتصال الموروث بالمعاصر ، فضلاً عن افتقاد الجدية فى التعامل مع المعطيات الإبداعية والثقافية العالمية ..
يقول عالم الاجتماع ريتشارد باكمينستر فوللر : " ليس هناك من فارق عميق بين الفنان ورجل العلم ، إذ كلاهما فى القوة سواء . إن سرعة الإدراك هى فى صميم الإبداع ، علمياً وفنياً " . ويضيف البروفسور جيليو أرجان : " بما أن الفن تعبير عن مستلزمات سنن الجمال لعصرنا . وبما أن ثقافة عصرنا متميزة بالتكنولوجيا ، ومرهونة بها ، فقد تحولت اليوم مشكلة العلاقة بين الفن والمجتمع ، إلى مشكلة العلاقة بين الفن والتكنولوجيا ، فالصلة القائمة بينهما قد قامت مقام الصلة ـ التى مضى عهدها ـ بين الفن والمذاهب الأيديولوجية " ( الأدب المعاصر ـ فبراير 1988 ) .
***
إن أدب الخيال العلمى هو الأكثر ازدهاراً ـ الآن ـ فى الغرب ، يرتكز فى ذلك إلى منجزات علمية حقيقية ، فهو يحاول أن يستشرف آفاقا أخرى لمستقبل الإنسان . وهذا هو السر ـ فى تقديرى ـ لقلة الإصدارات العربية من أدب الخيال العلمى . إن من يحاولون كتابة أدب الخيال العلمى قليلون للغاية ـ وفى مقدمتهم ـ بالطبع ـ صديقى نهاد شريف ـ لأن المجتمعات التى ينتمون إليها مجتمعات مستهلكة لا منتجة ، مجتمعات لم تحيا العلم فى تطوره المذهل بصورة حقيقية . بالإضافة إلى ذلك ، وربما اتساقاً معه ـ فإن البعض يدخلون أدب الخيال العلمى فى دائرة أدب الطفل ، وهى نظرة قاصرة لابد أن تزول بالضرورة فى قرن ستكون للعلم فيه كلمته الحاسمة ..
وكما يقول نور ثروب فراى ، فإنه من السخف الاعتقاد أن العالم عقلانى ، لاتحركه عاطفة ، وأن الفنان ملقى فى دوامة العواطف الهائجة . إن العلم والفن يستخدمان مزيجاً من الحس العام والحس الداخلى . العلم المتطور والفن المتطور يلتقيان معاً التقاء حميماً من الناحية النفسية وغير النفسية .
إن العالم الحديث ـ والقول لإيفور ايفانز ـ يستعمل خياله الآن كما يستعمل الفنان خياله ، لكن خيال العالم يخضع للتجارب أكثر من خيال الفنان ، وإن كانت هناك نواحى مشتركة بين كليهما ، فالعالم يشتغل بالتجربة ، ويرضها بها فى حد ذاتها . أما الفنان فهو يحاول أن يشرح هذه التجربة بطريقته الخاصة . وإذا كان العالم يحاول أن ينظر إليها كنظام متصل فإن الفنان له حرية أكثر من العالم . إنه يستطيع أن يخلط استعاراته عن طريق الخيال ، لكن العالم يجب أن يبنى من الخيال عالماً واحداً متماسكاً ، عالماً يعبر عن العلاقات بين التجارب ، وعلى سبيل المثال فإن نظريات نيوتن وفاراواى وأينشتين متصلة بعضها ببعض ، وهى ـ فى ذات الوقت ـ مخلوقات للخيال .
انطلاقات الخيال تحدها تطبيقات العلم . أما الفن فهو لا يفرض على الخيال قيوداً من أى نوع .
الفن نشاط إنسانى عام ، تقاسمه الناس كقلة منتجة للفن فى ناحية ، وكثرة مستهلكة له فى الناحية الأخرى . وقد عاب حسين فوزى على المستهترين الذين يرون أنه لا فائدة للفن أكثر من أنه نوع من الترفيه ـ لم يتصور أن ذلك هو رأى نجيب محفوظ ! ـ . وبافتراض ذلك ، فإن الترفيه ضرورة من ضرورات الحياة ، ولكن : هل الفن شئ كالرياضة البدنية ، أو لعب الطاولة ؟ وهل للباليه قرابة ـ ولو من بعيد ـ برقص الصالونات ومجتمعات السكارى ؟!.. الفنون كلها ملتزمة بتأكيد العنصر الروحى فى الإنسان . حتى الترفيه فى الفن الرفيع يعنى الارتقاء من عالم أرضى حسّى إلى عالم سماوى روحانى ، بلوغ درجة من الإحساس الصوفى ، يتجلى فيها للمتصوف الواصل ، اتصاله بغير الكائن الملموس . أوافق أحمد عباس صالح على أن الأخلاق لا تصنع بالمخترعات ، بل بالفكر والفن ، ولعلها بالفن قبل كل شئ . وأشير إلى رأى الشاعر الأمريكى وايتمان : " إن مشكلة الإنسانية فى العالم المتمدن ، هى مشكلة اجتماعية ودينية لابد أن تعالج فى النهاية من طريق الأدب ، من وجهة نظر مكتفية بذاتها " ..
***
إذا كان الترابط حتمياً بين مختلف فروع المعرفة ، فإن العلم والفن متلازمان ، ولا يصح وجود أحدهما إلاّ بوجود الآخر . المطلوب فى العلم أن يهبنا المعرفة ، وهو ما ليس مطلوباً فى الفن ، أو أنه ليس من أولوياته ، والمعرفة ، أو الفائدة ، التى تتحقق فى النتيجة العلمية ، تختلف ـ بالتأكيد ـ عن الدلالة ـ أو المتعة بالطبع ـ التى يهبها لنا العمل الإبداعى . وتقول راشيل كارسن R.Carsen " هدف العلم اكتشاف الحقيقة وجلوها ، وأنا أسلم بأن هذا هو هدف الأدب ، سواء كان سيرة ذاتية أو تاريخاً أو قصصاً وروايات . لذا يبدو لى أنه لا يمكن فصل الأدب عن العالم " ( ت . يمنى طريف الخولى )
الأديب والعالم كلاهما حالم ، والحالم ثورى ، والثورى يسعى إلى تغيير العالم . ولعل أحلام المبدعين جميعاً مرحلة بين الحقيقة والخيال ، أى بين العلم والفن . الحقيقة المتحولة والمتبدّلة أبداً ، أى ليست مطلقة ، وخيال يمكن أن يتحول إلى حقيقة كائنة . والعالم الذى يعتقد بأنه قد وصل إلى الحقيقة ، لا يمكن أن يكون إلا جاهلاً . والفنان الذى يعتقد بأنه يعيش فى رحاب الخيال فقط ، إنسان متبلّد الشعور ، فالخيط جد رفيع بين الحقيقة والخيال كما هو بين العلم والفن ، ومع هذا ، فأنت قد تكتفى برفض الفن الذى تحبّه ، لا تقبل عليه ـ مثلما لا يقبل عليه الآخرون ـ فتبور البضاعة . أما العلم السيئ ، فهو يحقق نتائجه السلبية بالرغم منا . حتى لو رفضناه ، فإننا لا نملك أن نمنع تأثيراته !
..................
الهلال ـ 1992

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:19 PM
دلالة الحكاية بين شهرزاد وزهرة الصباح
.................................................. .

" احترموا التراث ، وتعلموا استخلاص مايحويه من خصب خالد "
أوجست رودان
" السرد يعادل الحياة ، وغياب القصص يساوى الموت . ولو أن شهرزاد لم تجد المزيد من القصص لترويها ، لكان عليها أن تفقد رأسها "
تودوروف

" قيمتنا الوحيدة هى أننا أصيلون ، نعرض ذواتنا كما هى ، لا كما يرغب الآخرون أن نكون "
جارثيا ماركيث بعد تسلمه جائزة نوبل

ـ 1 ـ
يعرف أريك أريكسون Erik Eriksson الهوية بأنها " إدراك الفرد بذاته ككيان فى صيرورة دائمة " .
وبداية ، فإن التراث ليس مطلقاً ، ليس بعداً واحداً ، إنما هو تراثات متعددة . ثمة التراث الدينى ، والتراث التاريخى ، والتراث الشعبى ، والتراث اللغوى ، إلخ . من الخطأ العلمى حصر التراث فى علوم الدين ، مع أهميتها الملحة ، وضرورتها ، وقداستها ( لعلنا نذكر ما دعا إليه أدونيس فى كتابه " الثابت والمتحول " إلى إهدار التراث مرة واحدة ، باعتباره سلباً مطلقاً ، هدم الدين ـ فى تقديره ـ شرط أول لنهوض الإنسان العربى . علوم الدين تراث ، والتاريخ أيضاً تراث ، وإبداعات السلف فى الإنسانيات المختلفة .. ذلك كله ينتمى إلى التراث ، فلا معنى ـ على أى مستوى ـ لقصر التراث على علوم الدين ، رغم اتفاقنا مع الاجتهادات التى ترى أن الدين هو الدعامة الأساسية للتراث العربى ) . التراث يختلف عن ذلك تماماً . إنه يعنى المحافظة على التواصل مع الماضى ، وليس الانقطاع عنه ، فهو جماع خبرة الشعب فى توالى عصوره وأجياله ، بكل ما تحمله من قيم وعادات وتقاليد وسلوكيات . إنه كل الموروث ، سواء أكان دينياً أم غير دينى ، سواء أكان ثابتاً أم قابلاً للتغير والتطور بتوالى العصور . من الصعب أن نستعيد الماضى ، ومن الصعب كذلك أن نضيف ونطور ونثرى ، ما لم يكن ذلك كله مستنداً إلى تراث يأخذ منه ويتصل به . وبالتأكيد ، فلن تتحقق الهوية الثقافية العربية فى ظل الانقطاع عن التراث العربى ، والاقتصار على الثقافات الغربية . التراث فى حياتنا ، نقطة انتهى إليها القدامى ، وينطلق منها ـ أو هذا هو المفروض ـ المعاصرون . قد يطيلون الوقوف أمامها ، وتأملها ، وقد يبادرون بمجاوزتها إلى ما هو أشد تعبيراً عن العصر . وكما يقول ريموند جابمان ، فإن الأدب يأتينا بشكل رئيس من الماضى . وهناك مبررات أكاديمية قوية لعدم جواز دراسة أدب الحاضر دون امتلاك بعض المعلومات عما سبقه " ( 1 ) . أما القول بأن " ما يهم ليس الماضى بل المستقبل ، ولا خلاف حول هذا ( من ادّعى ؟! ) وما ينبغى علينا هو أن نبحث الحاضر لنتجاوزه إلى المستقبل ، فإن ما واجه الأسلاف من مشكلات ليست مشكلاتنا ، وحلولهم ليست بالتالى حلولاً لمشكلاتنا " ( 2 ) ـ هذا القول يحتاج إلى مراجعة شديدة ..
***
ثمة تعريف للتراث بأنه " تعبير غامض يشير إلى النتاج الحضارى للأمة ، منذ اكتملت لها مقوماتها " . مع ذلك ، فإنى أرفض التعريف المجرد للتراث ، المعنى الواسع الذى ينقصه التحديد ، وتنقصه الدقة بالتالى . التراث ـ كما أشرنا ـ ليس مقصوراً على الدين وحده . الدين بعد أساسى فى التراث ، ولعله العنصر الأساس ، لكنه جزء من التراث . والدين ـ فى الوقت نفسه ـ ليس كله تراثاً ، فهو ككل القيم والثقافات والظواهر ، لابد أن يفيد من التطورات المجتمعية . إن عناصر التراث تتعدد ما بين تاريخية ودينية وأدبية وأسطورية وصوفية وفلسفية وفلكلورية وأسطورية ، وتراثنا موجود فى كتب الأخبار والتاريخ والحكايات والسير الشعبية والملاحم والعمارة والموسيقا والتراجم والطبقات والأدب والشعر والزجل والبلاليق والأغنيات والنوادر والسمر والحكايات والأمثال والنوادر والمُلح والمقامات . وكما يقول زكريا ابراهيم ـ بحق ـ فإن الأصالة مبدأ سيكولوجى هام ، لأنها تعبير عن ضرورة الانطلاق من الذات ، والعمل على تحقيق الذات ، بحيث يصبح المرء عين ذاته من خلال أفعاله الحرة وإنجازاته الإبداعية " ( 3 )
***
إن أم المشكلات فى حياتنا الثقافية الراهنة ـ على حد تعبير أستاذنا زكى نجيب محمود ـ هى محاولة الكشف عن صيغة لحياتنا الفكرية والعملية ، تجمع لنا فى طيّها طرفين ، إذ تحافظ لنا على خصائصها العربية الأصيلة ، وفى الوقت نفسه تفتح لنا الأبواب على مصاريعها ، لنستقبل ـ فى رحابة صدر ـ أسس الحياة العصرية ، كما يحياها اليوم روادها ( 4 )
من هنا جاءت دعوة زكى نجيب محمود إلى المزاوجة بين التراث والواقع ، بين الأصالة والمعاصرة . ليست دعوة توفيقية كما يرى البعض ، لكنها نظرة علمية موضوعية متفهمة ، تحيط بالماضى والحاضر وتستشرف المستقبل فى آن . وكما يقول ادوار كار فإن المجتمع الذى يفقد يقينه فى القدرة على التقدم فى المستقبل ، لابد أن يتوقف عن العناية بالتقدم فى الماضى ..
إن الجديد يتخلق من القديم ، والمعاصر يستمد أصوله من التراث . والتراث ـ من ناحية ثانية ـ يصلنا بالأصالة ، يجعل الحلقات متتالية ، يجنبنا المبالغة فى التأثر والمحاكاة . وبتعبير محدد ، فإن التراث تعبير عن الأصالة ، وتحقيق لوحدة الشخصية العربية . أذكّر بقول أندريه مالرو " الثقافة هى الدفاع عن التراث وإبرازه " ..
***
واللافت أننا نتحدث عن التراث ، ونناقشه ، ونصدر فيه أحكاماً ، بينما المكتبات العامة والخاصة تزخر بآلاف المخطوطات التى تغيب فيها ابداعات ودراسات وحقائق كثيرة . الأحكام الكلية تشوبها ظلال ما لم يسبقها تعرف كلى كذلك إلى ما تناولته تلك الأحكام . ولعل أهم فائدة يمكن أن يهبها لنا " الكومبيوتر " ـ أو الحاسوب ـ هى احصاء ـ وتوثيق ـ ما فى مكتبات العالم من مخطوطات تحتاج إلى العناية والفهرسة والتصنيف والتحقيق ، فالنشر . وقد أورد معهد المخطوطات العربية إحصائية ، تؤكد أن عدد المخطوطات العربية فى العالم يبلغ أكثر من ثلاثة ملايين مخطوط ، بينما لم يتجاوز ما طبع منها حتى الآن نصف مليون مخطوط !..
لذلك جاء القول إن التراث العربى لم يكتشف بعد ، ومازالت تقف فى سبيل اكتشافه ، وغربلته ، ونقده ، بما يحرك الحاضر ، ويصبح جزءاً منه ، عقبات كثيرة ، يصل بعضها إلى درجة الإرهاب المادى والمعنوى . وإذا كان البعض يرى فى الهروب إلى الماضى حنيناً رومانسياً نواجه به غربة واقعنا ، أو غربتناعن الواقع الذى نحياه ، فهو يفصلنا عن عصرنا ، ويعود بنا إلى أزمنة مضت دون تلامس مع الحاضر ، إذا كان ذلك كذلك ، فإن عوالم خيالية ـ كما يقول أستاذنا فؤاد زكريا بحق ـ ينتمى إليها هؤلاء التنويريون الذين يرفضون الماضى كله ، ويتنكرون للتراث بأسره ( 5 ) . نحن ـ لكى نناقش التراث ـ فلابد أن نقرأه ، نقرأ أعمال الجاحظ وأبى تمام والتوحيدى والمعرى والمتنبى وابن سينا والجرجانى والغزالى وابن رشد وعشرات غيرهم ، تمثل إسهاماتهم كم التراث وكيفه ، وتبين عن أهمية اتصال التراث بالمعاصر لأنه المرتكز الفعلى ، نقطة البداية ، الدعامات التى يستند إليها إبداعنا المعاصر ، وثقافتنا المعاصرة عموماً .
التراث الثقافى بعد أهم فى شخصية الأمة . وهو السبيل إلى ثقافة موحدة ، متسقة ، يعيشها مثقف حى فى عصرنا هذا ، بحيث يندمج فيها المنقول والأصيل فى نظرة واحدة ( 6 ) . وثمة اجتهادات تهب التراث دلالة سياسية . وكما يقول بلند الحيدرى فإن " التركيز على العصر ـ الحداثة ـ يضعف من شأن التراث ، ومن ثم تصبح قدرتنا على المواجهة مرتبطة بقوانين العصر الحديث التى صنعها ويصنعها الوافد ، فتدخل إلى الصراع بقوانين ليست قوانيننا ، وبالتالى قد نهزم " ( 7 ) ، بل إننا لا نستطيع أن نتحول إلى منتجين فى ضوء رفض التراث ، لأن التراث تواصل ، والتخلى عنه يعنى إخضاع الثقافة العربية ، الهوية العربية ، للثقافة الغربية ، تفرض سيطرتها وهيمنتها ، تتحول إلى سلع استهلاكية وافدة لا تقابلها سلع منتجة !
***
إن السؤال الذى طالما أثير إلى حد الإملال هو : هل ينتمى فن القصة ـ الرواية والقصة القصيرة ـ إلى التراث العربى ، أو إلى التراث العالمى ؟ ، وبتعبير آخر : هل القصة والرواية وليدتا تأثر بالقصة والرواية فى الغرب ، وإفادة منهما ، أو أنهما استمرار لمعطيات هذين الجنسين الأدبيين فى تراثنا القديم ، سواء الفرعونى ، أو القبطى ، أو الإسلامى العربى ، إلى الإرهاصات المعاصرة متمثلة فى أعمال على مبارك والنديم وغيرهما ؟..
ثمة اجتهاد مهم يرى أن الدراسات التى تتناول الأدب العربى أو أحد عصوره ، تجهل لغات عرب الجزيرة قبل الإسلام فيما عدا لهجة قريش . لذلك فإن القصص العربى الذى تتصل حوادثه بأدبنا فى الجاهلية إلى اليوم قليل جداً ( 8 )
وقد تأتى الإفادة من التراث فى محاولة تصوير الواقع تواصلاً بالتحامه بالأساطير الكونية . وعلى سبيل المثال ، فأنت تحيا عالماً من الخيال والسحر والأسطورة ، إذا قرأت جامع كرامات الأولياء " للنبهانى ، أو " بهجة الأسرار ومعدن الأسرار ومعدن الأنوار " للشطنوفى ، أو " طبقات الأولياء " لابن الملقن ، أو " طبقات الخواص " للشرجى الزبيدى إلخ . والملاحظ أن القصة القصيرة جداً تنتسب بوشائج قوية إلى النوادر العربية الطريفة . القصة التى تشغل أسطراً قليلة تهبنا دلالة ما ، هى ـ مع فارق المقولة والتكنيك ـ النادرة التى تشغل أسطراً قليلة ، وتهبنا حكمة ، أو موعظة ..
***
يواجه التراث العربى اتهامات بمعايب كثيرة ، كالغيبية ، والتواكلية ، والقصور فى الخيال ، والافتقار إلى الحاسة النقدية ، وإلى فلسفة الحياة المتكاملة ، وغياب الحس الأسطورى والقصصى والدرامى إلخ .. وهى معايب تعانى التباين أحياناً ، والتجنى أحياناً أخرى . التراث ليس ـ كما يتصور البعض ـ سلباً مطلقاً " تكتنفه الغيبية وضيق الأفق والتعصب والأسطورية " ( 9 ) ، والعمل الإبداعى الذى يوظف التراث لا يصدر عن رغبة فى " دغدغة حواس أبناء العالم المتقدم ، وإلهاب خيالاتهم الموروثة نحو كل ما كان قائماً ، أو ما هو قائم ، فى العالم القديم " ( 10 ) ، وإن كنت أعيب على بعض المبدعين لجوئهم إلى التراث إلى حد الاقتباس ، أو التقليد المغلف بدعوى " التناص " ، فنجد ملامح مؤكدة لطواسين الحلاج ، ومخاطبات النفرى ، ومواقفه ، ورسائل الجنيد ، ونصوص ابن عربى ، وشرح النابلسى ، وغوثية الجيلانى ، وتأريخ المقريزى وابن إياس وابن تغرى بردى ، وغيرها ..
***
ليست أوروبا وحدها ـ كما يقول ميلان كونديرا ـ مجتمع الرواية ، فالعرب أيضاً ـ والأدلة موجودة ـ مجتمع الرواية . أرفض قول كونديرا إن " الرواية التى كتبت تحت الخط 35 ، على الرغم من كونها غريبة نوعاً ما بالنسبة للمذاق الأوربى ، تعد امتداداً لتاريخ الرواية الأوروبية لصيغتها ، وروحها ، ولقربها إلى حد يثير الدهشة لبدايات الرواية الأوروبية المبكرة " ( 11 ) ، هذه الرواية ليست امتداداً لتاريخ الرواية الأوروبية ، للتراث الروائى الأوروبى ، إنما هى امتداد للتراث الروائى العربى ، لبدايات الرواية العربية المبكرة . ليس فى قولى ادعاء ولا مغالاة ، لكنها الحقيقة التى تستند إلى أسس علمية ، موضوعية . ولا يخلو من دلالة قول الكاتب الراحل إبراهيم المصرى : " إذا كان الأوروبيون قد بدءوا بقصص بوكاشيو ، فإننا بدأنا بقصص ألف ليلة ( 12 ) . ويقول الأرجنتينى جورج لويس بورخيس : " لولا ألف ليلة لما وجد معظم أدب الغرب " . ويحدد البعض تأثير ألف ليلة وليلة على الأدب العالمى بأنها كانت السبب المباشر لنشوء فن القصة القصيرة . ويضيف جبرا إبراهيم جبرا ان الرواية الأوروبية كانت فى شبه حكايات ألف ليلة وليلة حتى أواخر القرن الثامن عشر ، فهى روايات حوادث أو مواقف ، لا روايات شخصيات يبغى الكاتب عرض ما فى دخائلها من مشاكل نفسية ، فسواء أخذنا قصص بوكاتشيو أو روايات فولتير أو روايات الإنجليز فى القرن الثامن عشر ، نجدها جميعاً مثل قصص ألف ليلة وليلة ، تعنى المخاطر والأهوال ، أو النكات الغرامية ، أو العبر الحكيمة " ( 13 ) . وثمة اجتهادات ـ أوروبية ـ أن الأدب الواقعى بدأ بترجمة ألف ليلة وليلة للمرة الأولى مع أنها فانتازيا خالصة ..
لقد كانت القصة فى أوروبا ـ والقول لفؤاد حسنين على ـ كماً مهملاً " لم يعن بها أديب ، ولم يلتفت اليها مؤرخ ، لذلك ظلت الآداب الأوروبية قروناً عديدة محرومة من سماتها ، وأوجد فيها المجاميع الكثيرة ، كمجموعة بنتشتنترا فى الهند ، وألف ليلة وليلة فى العالم الإسلامى ، الى جانب تلك المجاميع التى تركها البابليون والأشوريون وقدماء المصريين " ( 14 )
نحن نتعرف ـ مثلاً ـ فى سندريلا بطلة الحكاية العالمية الشهيرة إلى رودوبيس الفتاة المصرية الجميلة التى كانت تستحم فى الخلاء ، فخطف نسر حذاءها ، وأسقطه فى حجر الفرعون . وأعلن الفرعون أنه سيتزوج صاحبة الحذاء ، واهتدى إليها أعوانه ـ بعد طول عناء ـ وتزوجها الفرعون بالفعل . الحكاية لابد أن تذكرك بحكاية سندريلا . حدثت تبديلات وتحويرات حتى انتهت الحكاية الى صورة سندريلا الحالية . من هنا فإن القول بأن " أصول وحكايات وخرافات كل العالم مصدرها الهند " ( 15 ) هو اجتهاد يعانى الشحوب مقابلاً لريادة الحكايات والأساطير والخرافات المصرية
إن أصل الواقعية السحرية هو قصص السندباد البحرى ، وعلاء الدين ، والصعاليك الثلاثة ، وقمر الزمان ، وحسن البصرى ، وغيرها من قصص ألف ليلة . ذلك ما يؤكده جابرييل جارثيا ماركيث فى قوله إن الواقعية السحرية هى ما يشبه العودة إلى الليالى العربية ، وأنها أثر خالد أيقظ الرواية الأوروبية منذ فولتير حتى زماننا الحالى ..
ولصديقى يوسف زيدان ملاحظة ذكية : ان الكثير من النصوص الأدبية المعاصرة هى أقل معاصرة مما يظن وأكثر تراثية . ويقارن زيدان بين مشهد التحليق فى رواية ماركيث " مائة عام من العزلة " وبين مشهد فى نص عربى مكتوب يعود إلى القرن الثامن الهجرى : " وقد ناظر جماعة من الكفار البراهمة ، جماعة من مشايخ الصوفية .. من ذلك قضية الشيخ الكبير العارف بالله بهاء الدين السندى مع البرهمى الذى جاء إليه ، وارتفع فى هواء مجلسه ، فارتفع الشيخ حينئذ فى الهواء ، ودار فى جوانب المجلس ، فأسلم ذلك البرهمى لعجزه عن ذلك ، لكونهم لا يقدرون على الدوران فى الهواء ، بل يرتفع الواحد منهم مستوياً لا غير ، وقضية الشيخ الكبير فريد الدين مع البرهمى الذى ارتفع فى الهواء ، فارتفعت إليه نَعْلُ الشيخ ، ولم تزل تضرب رأسه وتصفعه ، حتى وقع على الأرض " ( 16 ) .
ويقول إدوارد سعيد : إن فى الأدب العربى ـ فيما قبل القرن العشرين ـ أشكالاً غنية مختلفة للقصص ، تحمل أسماء كالقصة والسيرة والحديث والخرافة والأسطورة والخبر والنادرة والمقامة .. لكن أياً من هذه الأسماء لم يتطور ـ كما تطورت الرواية الأوروبية ـ ليغدو نموذجاً رئيساً .. وهو رأى يحمل الكثير من الصحة ، لكن اللافت ـ فى محاولاتنا لاستدعاء التراث ـ أننا نلجأ إلى كل تلك الأشكال الفنية التى أشار إليها إدوارد سعيد ، ربما بمحاكاة تصل إلى درجة التقليد ، إلى درجة الحافر على الحافر كما يقول العروضيون . فما الذى اختلف حين أصبحت تلك الأشكال قصصاً معاصرة ، فى حين لم تكتسب ـ من قبل ـ تلك الصفة ؟..
***
(يتبع)

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:21 PM
نحن نخلط كثيراً بين المدنية والحضارة ، فالمدنية هى المكتسبات العلمية والتكنولوجية . أما الحضارة فهى نحن : موروثاتنا وقيمنا وجذورنا الثقافية ، وارتكازاً إلى هذا المعنى ، فإن مجرد التساؤل عن دور التراث فى صياغة ثقافة ما ، أمر غير وارد ، ومستبعد ، لأن التراث هو معطيات الأمس ، ومعطيات اليوم هى تراث الغد ، والحلقات متصلة ..
وإذا كان البعض يحرص على ربط التراث بالتخلف ، فإن ذلك الرأى ـ الذى يصعب أن نفترض فيه حسن النية ـ يجد الرد عليه فى أن التراث لا يستعاد ، بل إنه من المستحيل أن يحدث ذلك ، لأن الآتى حتى فيما قد يرين إليه من استاتيكية ، يحمل الإضافة والجديد دوماً . ولكن المطلوب هو تمثل التراث ، وإدراجه فى جدلية التجربة المعاصرة ، الثقافة المعاصرة ، بحيث يصبح هذا التمثل تطويراً للتراث ، موقفاً نقدياً وتجاوزاً فى آن معاً ، وبحيث يصبح دور التراث فى صناعة ثقافتنا المعاصرة قضية غير مطروحة ولا واردة ، لأن التراث أصل أصيل فى أية ثقافة قائمة أو مرجوة . بل إن الأدب العربى المعاصر لم يكتسب ملامحه إلاّ بتوثيق صلاته بالتراث منذ عصر النهضة ، والأدبين الإغريقى والرومانى تحديداً . إن الثقافة الجديدة التى يمكن التحدث فيها ، هى تلك التى تصل بين الأصالة والمعاصرة ، بين القديم والجديد ، بين الموروث والآنى ، فيصبح المستقبل بكل زخمه هو اتجاهنا الأوحد ..
أوافق ألان روب جرييه فى أن عظمة الروائى تكمن فى أنه يبحث ويخترع دون أن يتقيد بنموذج ثابت ( 17 ) ، ولكن من الصعب ـ فى تقديرى ـ أن ينفصل المبدع تماماً عن تاريخه الروائى ، خاصة إذا مثّل هذا التاريخ ارهاصات تمتد بمئات الأعوام ، كما فى التراث العربى القديم ، مثل ألف ليلة وليلة ، وكتابات الجاحظ ، وابن طفيل ، وأغانى الأصفهانى ، ومقامات الهمذانى ، وحكايات أشعب ، ورسالة أبى العلاء ، وكتب التصوف الإسلامى ، وتمتد بعشرات الأعوام ، كما فى الأعمال التى ربما تجد بدايتها فى " علم الدين " أو " حديث عيسى بن هشام " أو " عذراء دنشواى " أو " زينب " إلى آخر القائمة . وعلى حد تعبير بول فاليرى فإن الأسد عبارة عن خراف مهضومة ! .
إن المبدع العربى لن يستطيع تطوير أشكال فنية عربية معبرة عن الواقع العربى ، دون تلمّس لجوهر التراث لا حرفيته ، ودون محاولة جادة للإدراك النوعى للحساسية العربية فى عمقها واكتمالها ( 18 ) . الهوية القومية لا تقتصر على المضمون ، على الأحداث والشخصيات ، لكنها تشمل الشكل ، أو التقنية . إن لم يكن لها اختلافها وتميزها ، فإنها لن تكون سوى مسخ مشوه لإبداعات الآخرين . أشير ـ بتعجب ـ إلى إفادة جارثيا ماركيث من ألف ليلة وليلة ، حين جعل المرأة تطير فى رائعته " مائة عام من العزلة " . وطارت ـ فور ترجمة الرواية إلى العربية ـ نساء كثيرات ، فى إبداعات عربية ، بصرف النظر إن كانت تحتاج إلى ذلك بالفعل . إن مبدعى أمريكا اللاتينية يتمايزون فى أعمالهم بصورة لافتة ، لكنهم يعبّرون عن بانورامية لها خصوصيتها وتفردها ، عنوانها : الرواية فى أمريكا اللاتينية . وأذكّر بقول إدوارد سعيد " نحن ـ فى الوطن العربى ـ نقوم بالنسخ المباشر . ما إن يقرأ الواحد كتاباً من تأليف فوكو أو جرامشو حتى يرغب فى التحول إلى فوكوى أو جرامشى
***
مع محاولاتى فى توظيف التراث ، فإنى كنت أحاول ـ فى المقابل ـ أن أتمثل الثقافات الجديدة . إن رواية اليوم ـ والقول لروب جرييه ـ " هى ما سنضعه هذا اليوم ، وإن علينا ألاّ ننحى التشابه بينها وبين ماكانت عليه الرواية بالأمس . علينا أن نتقدم إلى أبعد " . وفى رأيى أن الإضافات التى قدمها الإبداع الغربى إلى فن القصة والرواية بما يجاوز معطيات الإبداع العربى القديم ، لا يعنى اعتبار الفن الروئى والقصصى فى الغرب بداية مطلقة لهما ، وإلاّ فإنه بوسعنا أن نعتبر كل إضافة فى كل زمان ومكان بداية غير مسبوقة للفن الذى تنتمى اليه ، أى أننا نلغى ماسبق ، ونعتبر البداية فى الإضافة والتطوير ..
والسؤال : هل نعتبر التراث العربى بداية القصة الأوروبية ـ على سبيل المثال ـ فى ضوء اعتراف المستشرق الإنجليزى ا . ر . جب H . A . R . Gibb بأن أوروبا قد تأثرت ـ أواخر القرون الوسطى وأوائل عصر النهضة ـ بالمأثورات الشعبية العربية ، وهى التى منحتها السمات القومية فى الأدب ، وأن القصة الإيطالية فى عصر النهضة انما هى وليدة القصص الشعبى العربى ، وأن شوسر ـ أبا الأدب الإنجليزى ـ قد تأثر ـ بدرجة وبأخرى ـ بالنهج العربى فى السرد والوصف والتصوير .. ومع ذلك فإن الكثير مما نظنه من تراثنا ـ على حد تعبير رانيلا ـ لا نكاد نقبل أنه أتى إلينا من الشرق " ( 19 )
***
من الخطأ أن نرتمى فى حضن التراث اطلاقاً ، كما أنه من الخطأ أن نرتمى فى حضن الثقافة الغربية اطلاقاً . واللافت أن الدعوة إلى الانكفاء على الماضى ، والتعامل معه باعتباره " المنقذ من الضلال " ، الحل لمشكلات العصر والأزمات التى نواجهها ، تلك الدعوة تقابلها دعوة إلى ملاحقة المنجزات الإبداعية والعلمية التى حققها الغرب . توظيف التراث لا يعنى الانكفاء على الماضى ، لكننا نفيد منه فى الإضافة ، أن يكون فاعلاً فى المستقبل . نحن نفيد من التراث فى تحقيق التواصل ، ونفيد من الثقافة الغربية فى تحقيق المعاصرة . الصواب أن نفيد من التراث ، ومن الثقافة الغربية المعاصرة فى تحقيق شخصيتنا المتفردة ، فى صياغة ملامح متميزة لإبداعنا وفكرنا وثقافتنا الخاصة عموماً . أكرر : من الخطأ أن نكتفى بإحياء تراثنا القديم ، أو النقل عن الغرب . الأصوب أن نقدم معطياتنا نحن ، لا نكتفى بالتلقى ، بالنقل أو التلخيص ، أو حتى الاستلهام ، وانما يجب أن نضيف إبداعنا الآنى ، وفكرنا الآنى ، وتعبيرنا الآنى عن صوت حياتنا المعاصرة . إن التجديد موصول بالتراث . إنه الجذور التى تحفظ عليها الحياة والاستمرار . ثمة تفاعل خلاق يجب أن ينشأ بين الآنى والتراث ، ليس بمجرد التقليد أو المحاكاة أو الاستلهام ، وإنما الإفادة من عناصره لتكوين رؤية إبداعية جديدة ، قد تسمى توظيف التراث ، أو استلهامه ، أو استيحائه إلخ .. لكنها تظل ـ فى المحصلة النهائية ـ إفادة من التراث ، اتصالاً به ، تفاعلاًً خلاقاً معه . والعمل الذى يوظف التراث قد يهب المتلقى تفسيرات ومدلولات ورؤى جديدة ..
***
إذا كان لكل شعب بيئته المغايرة التى تتوضح ـ بدرجة أوبأخرى ـ فى إبداعاته ، فإن ذلك ما يجدر بإبداعاتنا أن تحرص عليه ..
إن الكثير من أعمالنا الإبداعية مجرد تقليد لإبداعات غربية ، فهى قد فقدت هويتها ، وما ينبغى أن تكون عليه من تفرد . إن المذاهب الأدبية والفنية المختلفة فى الغرب ، تعبر عن واقع معاش . إنها مدارس وليدة البيئات التى أثمرتها لأنها بيئات مثقفة فى عمومها ، ومتأملة ، ومنتجة ، ومستشرفة . أما نحن ، فنبدع ، لكن هوية إبداعنا قد تأخذ عن مدارس الغرب ، دون أن تكون لنا هويتنا الإبداعية الخاصة التى تتواصل بالتراث ، وتلاحق العصر ، وتستشرف المستقبل فى آن . إن محاولة الإفادة من تجارب الآخرين ، لا يعنى أننا نحاكيها ، وإنما نذيبها فى تجاربنا الإبداعية ، تصبح نحن ، ولا نصبح الآخرين . ولعلنا نجد مثلاً متفوقاً فى التكنيك ، أو البناء الفنى ، فى سيرة عنترة ، عندما قسم الراوى سيرة عنترة إلى ماسماه اثنين وسبعين كتاباً ، وحرص فى نهاية كل كتاب أن يقطع الكلام بما يثير شوق القارئ الى المتابعة ، حتى يظل على إنصاته أو قراءته . وكما يقول الموسيقار الألمانى يوهانس برامز ( 1833 ـ 1897 ) فإن " الثورة على القوالب الفنية لمجرد الثورة ، لا يمكنها أبداً أن تخلق فناً جديداً " . والأصوب ـ كما يقول فردريك شليجل ، أن يوحد الفنانون ـ عبر عصورهم ـ العالم الماضى مع العالم القادم .
***
فى كتابه " تجديد الفكر العربى " تحدث زكى نجيب محمود عن التراث وثقافة الغرب ، فوجد أن البعض ـ مثل العقاد ـ وجد أن الجمع بينهما ممكن ، بينما قبل طه حسين وآخرون التراث كله وبعض الغرب دون بعض ، وثمة آخرون ـ مثل أحمد أمين والحكيم ـ أجروا تعديلاً فى التراث وفى الغرب معاً . أما الأجيال التالية فهى لا تعرف شيئاً من التراث العربى ، ولا ترضى ـ فى الوقت نفسه ـ بقبول الثقافة الغربية " خشية أن يقال عنه إنه من توابع المستعمرين " ( 20 ) . ويزيد زكى نجيب محمود فيتهم معطيات الأدباء بأنها سطحية ( 21 )
وفيما يتصل بالملاحظة الأخيرة تحديداً ـ وهى غلبة السطحية على إبداعات أدباء الأجيال الحالية ـ فإنها تحتاج إلى مراجعة ..
لقد بدأت حركة احياء التراث العربى منذ أواسط القرن التاسع عشر ، انسلاخاً من السكونية التى فرضها الحكم العثمانى . كان توظيف التراث بداية المسرح المصرى كما يتبدى فى أعمال مارون النقاش ( 1817 ـ 1855 ) وأبو خليل القبانى ( 1833 ـ 1903 ) ثم فى الأعمال المسرحية التالية ، وصولاً إلى زماننا الحالى فى أعمال أحمد شوقى وتوفيق الحكيم وعلى أحمد باكثير وعبد الرحمن الشرقاوى وصلاح عبد الصبور والفريد فرج وسعد الله ونوس وزكريا تامر وعز الدين المدنى . أما توظيف التراث فى الرواية فيجد بدايته فى روايات جورجى زيدان التى عرض فيها لتاريخ العرب ومصر منذ عهد الخلفاء الراشدين إلى أخريات القرن الثامن عشر . ثم توالت الروايات التى تحاول توظيف التراث ، مثل أعمال فريد أبو حديد وسعيد العريان وسعد مكاوى ونجيب محفوظ وعبد الحميد السحار وعادل كامل وأحمد شمس الدين الحجاجى ومجيد طوبيا وجمال الغيطانى وخيرى عبد الجواد ومنير عتيبة وغيرهم .. وثمة رموز وشخصيات يحفل بها تراثنا ـ وموروثنا ـ الشعبى المصرى ، تصلح قواماً لأعمال أدبية معاصرة : الخضر وأبو زيد والسيد البدوى وأشعب والشاطر حسن وعلى الزيبق وأحمد الدنف وشيحة والسفيرة عزيزة وأبو الريش وحسن المغنواتى وهبنقة وجحا وسيبويه المصرى وذو النون وأبو الحسن الشاذلى وشحادى أبو حطب وحسن الذوق والسيدة أم الأنوار حارسة مصر إلخ ..
***
يعجبنى التعبير : " إن ولادة اليوم الإبداعية هى حصاد إخصاب تم فى فترات سابقة " ..
وقد حاولت أن أفيد مما تزخر به الملاحم والسير والحكايات الشعبية العربية من إمكانات ، مضمونية وشكلية ، فكتبت الأسوار وإمام آخر الزمان ومن أوراق أبى الطيب المتنبى وقلعة الجبل واعترافات سيد القرية ، وغيرها ..
لم ألجأ الى التراث مثلما يفعل علماء الآثار فى حفرياتهم . بل ان تلك الحفريات تصل الماضى بالحاضر على نحو ما ، تجعل السلسلة متصلة الحلقات . التراث اشتباك فنى ـ ودلالى ـ بين موتيفات الماضى والواقع المعاش . توظيف التراث لا يعنى ابتعاد المبدع عن الواقع المعاش ، عن الأوضاع الآنية لمجتمعه . أذكّرك بقول نجيب محفوظ إن موقفه فى ألف ليلة وليلة كمن يستوحى عملاً قديماً لاستغلاله عصرياً ، أى أن عينه كانت دائماً على الحاضر ( 22 )
إن توظيف التراث يجد قيمته فى التفسير المعاصر ، وليس مجرد إعادة تقديم ما كان فى صورة الماضى ، فهى خالية من الروح . وبتعبير آخر ، فإن توظيف التراث وسيلة فنية للتعامل مع الواقع الذى نحياه [ أرفض كلمة " الإسقاط " ، وأرفض تسمية الأدب السياحى ] ( 23 ) ، وعادة ، فإن التراث ـ الشفاهى بخاصة ـ يتعرض لعمليات انتقاء ، قد تكون إلى الأفضل أو الى الأسوأ ، لكنها عمليات اختيار يعبّر عن العصر ، والفترة ، ومايستهدف الراوى توصيله . بل إن الرواية المعاصرة لم تقتصر على توظيف الأحداث التاريخية ، والأبطال التاريخيين ، وإنما تجاوزت ذلك الى توظيف لغة التراث التاريخى نفسه ، لغة المقريزى وابن اياس والسيوطى وغيرهم ، وان كنت أتحفظ على ذلك لسبب مهم هو أن لغة هؤلاء المؤرخين أقرب الى لغة الصحافة فى زماننا الحالى . أوافق على أن اللغة التراثية تعيدنا إلى الوراء ، على الرغم من كل ما يشاع ويقال ويكتب من أن ذلك يتم باسم الخصوصية والأصالة " إذ لاشئ من هذا فيها " ( 24 ) . على المبدع العربى أن يستخلص البنيات التراثية ويستوعبها ، ثم يعيد صياغتها فى قالب جديد ، بحيث يصبح التراث مصدراً للاستعارات والرموز والنماذج العليا التى تعبر عن الحساسية العربية الحديثة ، وتشكلها فى آن واحد ( 25 ) . وفى تقديرى أن الحرافيش لأستاذنا نجيب محفوظ هى أهم الروايات العربية إطلاقاً ، لأنها رواية عربية بالفعل . لم تحاول المحاكاة ولا التقليد فى أى من مقوماتها . أفاد نجيب محفوظ فى روايته من الفنون العربية فى الزخرفة والعمارة ، ومن الحكايات الشعبية والنوادر وسير الأبطال ، ومن التاريخ . " الحرافيش " توظيف للتراث بمستوياته الدينية والتاريخية والشعبية ، ولكن اللغة التى صيغت بها عصرية تنتمى إلى زماننا الحالى ، لغة صوفية ، أو أفادت من الشعر ..
أنا لا أحاكى النص التاريخى ، لا أحاكى مفرداته ولا جمله ولا تركيباته اللغوية عموماً . لا أنتقل بنصى الإبداعى الخاص إلى عصور سابقة ، وإنما أحاول ـ ما أتاحت لى موهبتى ـ أن أصوغ الوقائع ، وأصور الشخصيات فى لغة العصر الذى أنتمى إليه ..
من المهم أن تعبّر اللغة عن العصر الذى كتبت فيه ، وليس العصر الذى صورته ..
ـ 2 ـ
إذا كنت أرفض محاولة الاستعلاء من خلال استعادة الماضى ، والتشبث به ، فإنى أرفض ـ فى الوقت نفسه ـ شعور النقص أو الدونية . أشير إلى تأثر الأدباء الأوروبيين بالإبداع العربى من سيرة وحكاية ورواية وغيرها ، مثل سير عنترة وسيف بن ذى يزن والهلالية وحكايات ألف ليلة وقصص الحب العذرى وروايات المعرى وابن طفيل وابن شهيد وابن المقفع إلخ . أذكرك بقول كرتشكوتسكى " إن القرآن وألف ليلة وليلة كانا بمثابة الآثار العظيمة للأدب العربى التى استطاع أجدادنا التعرف عليها فى القرن الثامن عشر " ( 26 ) . وقد تحولت قصة ابن طفيل " حى بن يقظان " إلى قصة أوروبية كتبها دانييل ديفو ، وإن حذف منها كل الدلالات الفلسفية ، وسماّها " روبنسون كروزو " ، فصارت من كلاسيكيات الرواية الأوروبية ، وأفاد منها الفلاسفة وعلماء النفس الأوروبيون ـ وفى مكتبتى مؤلف عن التاريخ الجنسى لروبنسون كروزو ـ وأنتج الغرب العديد من الأفلام التى تتناول قصة روبنسون كروزو فى قالب المغامرة ، وتناست الأقلام ـ وبعضها ، للأسف ، تكتب بالعربية ـ الأصل العربى لقصة ديفو ، وهو نص ينبض بدلالات عميقة ، وليس مجرد تعبير عن أزمات جنسية ونفسية مبعثها الشعور بالوحدة !
***
(يتبع)

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:22 PM
راج عن ألف ليلة وليلة معتقد مشابه لمعتقد لعنة الفراعنة . إنه لعنة ألف ليلة وليلة . من يقرأ الكتاب يحل عليه ـ فى نهاية عام القراءة ـ مصيبة تدمر حياته . وربما لهذا السبب ظل الكتاب مخطوطاً لمئات السنين ..
لم يعرف لحكايات ألف ليلة مؤلف محدد ، ولا جامع للحكايات ، ولا مترجم ، أو مترجمون ، إلى اللغة العربية . إنها أشبه بمجموعة من الحكايات الشعبية مجهولة المصدر . تقول مقدمة الطبعة الرابعة التى صدرت عن المطبعة الكاثوليكية ببيروت إنه " ليس لهذا الكتاب من كاتب " . وثمة من أكد أن المؤلف سورى " وضعه بلغة مبسطة سهلة ، متوخياً تعليم اللغة العربية إلى الراغبين فيها أكثر من توخى الاقتراب إلى أفهام الناس " ( 27 ) ، ورأى بأن أصل الكتاب هندى ( 28 ) ، ورأى ثالث بأن الكتاب هندى مطعّم بقصص فارسية وللعرب فيه بعض الفضل ( 29 ) . وجمع البعض بين اختلاف تلك الآراء جميعها ، فقال إن واضع الكتاب أكثر من مؤلف واحد ( 30 ) . إنها لم تتجمد فى صيغة ثابتة ، لأنه لم يكتبها شخص واحد . تعاقب على الإضافة فيها ، وعلى الحذف والتعديل والتبديل ، رواة متعددون بالشفاهة والكتابة . ويرجح أستاذنا أحمد حسن الزيات أن حكايات ألف ليلة وليلة قد جمعت ما بين عامى 1517 ـ 1526 م . ويستند فى اجتهاده إلى أنه قد ورد فى الكتاب ذكر القهوة والباب العالى ودواوين الحكومة فى الدولة العثمانية وغيرها مما لم يكن معروفاً قبل تلك الفترة ، فضلاً عن أن القهوة لم تكن قد عرفت فى الشرق قبل ذلك التاريخ . ولعله يمكن القول إن ألف ليلة وليلة أصبحت ـ فى الأعوام التالية لترجمتها ـ جزءاً أساسياً من الثقافات الغربية ، وأضافت إلى الإبداع الأوروبى ما لم يحققه عمل آخر ، فيما عدا التوراة والأساطير الإغريقية . أقدر قول فاروق خورشيد : " إذا كان العالم قد ظل ـ منذ ترجمة جالان لألف ليلة وحتى الآن ، يعيش فى أحلام الإنسان وأشواقه ومخاوفه من خلال قصصها وخيالها وحبكتها الفنية ، فهذا دين كبير على هذا العالم الجديد ، ولهذه الحضارة العربية الحديثة ، يجب أن يؤديه حباً واحتراماً لأصحاب الفضل فيه " . لقد أثرت ألف ليلة على الأدب الأوروبى تأثيرات متنوعة وكثيرة فى المسرحيات والقصص ، والشعر الغنائى والمسرحيات الغنائية . وقد ربطت الدراسات بين ترجمة ألف ليلة وليلة إلى الإنجليزية ، وبين ظهور الرواية الأوروبية الحديثة ، واعتبرت حكاية " التفاحات الثلاث " ـ ألف ليلة ـ هى الأصل فى نشأة الرواية البوليسية . وعظم تأثير ألف ليلة وليلة فى أواخر القرن الثامن عشر ، ثم طوال العهد الرومانتيكى [ دعك من الصور المشوهة التى حاول الغرب استيحائها ، أو الصاقها ، بحياة العرب من خلال الأعمال المأخوذة عن حكايات ألف ليلة ] فثمة مسرحيتان ليوجين سكريب هما " على بابا " و " المصباح الصغير العجيب " ، وثمة التأثير المؤكد على روايتى بلزاك الجلد المسحور وزنبقة الوادى " ومسرحية فونتين ألف مسرح ومسرح . كما قدم شارل ايتين مسرحية علاء الدين والمصباح العجيب ، وقدم موران دى بومبينى المصباح الرائع ، وكتب بيير كارموش المصباح العجيب ، وألف تيودور كونيار مسرحية على بابا ومسرحية ألف ليلة . وهناك ألف ساعة وربع ساعة و قصص صينية لجيوليت ، وقصص شرقية " لكايلوس ، وحب أنس الوجود لكلود ايتين سافارى .. ونحن نجد ظلاً لحكاية العبد الدميم ، القذر ، القاسى ، فى حكايات ألف ليلة وليلة ، فى رواية إميل زولا نانا . وفى تقدير جبرا ابراهيم جبرا أن " استخدام التكنيك المتعدد الطبقات ، وتفتيت الزمن ، والاهتمام بحياة الفرد فى المجتمع ـ وهى كلها من الاهتمامات الرئيسة للرواية المعاصرة ـ كل هذه موجودة فى ألف ليلة وليلة " ( 31 ) . أما السينما العالمية ، فقد قدمت العديد من الأفلام علاء الدين والفانوس السحرى ، على بابا ، السندباد البحرى المأخوذة عن حكايات ألف ليلة : لص بغداد ، حكايات ، إلخ
***
كم يؤلم النفس أن نجد الإعجاب بتراثنا فى مرايا الآخرين ، فتنقل إلينا عدوى الإعجاب . وكانت ألف ليلة وليلة مهملة فى حياتنا ، لا نكاد نجد فيها أكثر من كتاب للتسلية . فلما تعددت استلهامات الأدب الأوروبى منها ، حاكيناه فى استلهاماته ، وأعلنا نفس الإعجاب الذى خص به كتاب الغرب " ألف ليلة وليلة " ..
ولعلى أوافق على القول بإنه إذا كنا لا نعرف ـ تحديداً ـ من هو مؤلف ألف ليلة وليلة ، ومن حوّرها وأضاف إليها ، فإن المهم هو أنها كتبت بالعربية ، عن المجتمع العربى ، والمواطن العربى . حتى لو استقت أصولها من مصادر أمم أخرى . والمثل شكسبير الذى استقى خطوط معظم مسرحياته من مصادر غير انجليزية ، وإن ظل فنه ـ فى النهاية ـ إنجليزياً صرفاً ، بقدر ما كان الفن فى ألف ليلة عربياً صرفاً ..
لقد أكد بايرون أنه قرأ ألف ليلة قبل أن يبلغ العاشرة من عمره . وأعلن فولتير أنه لم يبدأ فى كتابة القصة إلاّ بعد أن قرأ ألف ليلة وليلة أربع عشرة مرة ، وتمنى استندال أن يفقد الذاكرة ليستعيد ـ ثانية ـ لذة قراءة ألف ليلة . واعترف أناتول فرانس أن حكايات ألف ليلة كانت فى مقدمة ما قرأه قبل أن يكتب الأدب . كما اعترف هيرمين ميلفيل ان ألف ليلة وليلة هى التى أطلقت خياله ، وأصدرت العالمة الألمانية كاترينا مومزن كتاباً بعنوان " جوتة وألف ليلة وليلة " أكدت فيه تأثر جوتة بألف ليلة وليلة فى أعماله المختلفة ، ومن بينها فاوست . ويقول " لى هانت " : " تعد الليالى العربية بالنسبة لنا واحدة من أجمل الكتب فى العالم ، لا لسبب أن المتعة فيها فقط ، ولكن لأن الألم فيها يمتلك فرص تغيّر وتقلّب لا نهاية لها ، ولأن المتعة فى متناول كل من لديه الجسد والروح والخيال " . ويعترف والتر سكوت : " إنى أعرف القليل عن الشرق إذا لم أضع فى الحسبان ذكريات طفولتى عن قصص ألف ليلة وليلة . أما بورخيس فيعزو تأثره بألف ليلة وتوظيفه لحكاياته فى أعماله إلى أنه قرأهامن أولها إلى آخرها " احتشدت بالسحر . كنت مأخوذاً به " . ( 32 ) . أما جابرييل جارثيا ماركيث فهو يجيب عن السؤال : ما أهم الكتب التى قرأها ؟. يقول : ألف ليلة وليلة ، الملك أوديب لسوفلوكليس ، موبى ديك لملفيل . هكذا بالترتيب . ألف ليلة وليلة ـ القول لماركيث ـ هى الكتاب الأول الذى قرأه فى حياته ، وقد أثر ـ فيما بعد ـ تأثيراً مباشراً على كل كتاباته " " أنا بدأت من الأدب العربى ، من ألف ليلة وليلة بالذات . لقد بدأت من هناك ، ولم أنته بعد . ألف ليلة وليلة أول كتاب قرأته فى حياتى . وجدته فى البيت الذى نشأت فيه ، ولا أعرف أية ترجمة كانت تلك ، لكنى أذكر أنها حوت الأحداث فقط دون تعليقات أو قصائد . وقد كانت أحداثها مثيرة لدرجة ربطتنى بالأدب منذ ذلك الحين " ( 33 ) . لقد وقفت مذهولاً أمام تلك القدرة العربية الهائلة على مقاربة الخيال الأوروبى بكثير من الحس الطبيعى المطلق الذى ربما لا يوجد ـ فى تقديرى ـ من يملك أسراره غير العرب ( 34 ) . ويقول اليوغوسلافى رادى يوجوفتش إن " أهمية قصص ألف ليلة وليلة بالنسبة إلى الآداب الفولكورية اليوغوسلافية قد دفعت بعض العلماء اليوغوسلاف إلى أن يوجهوا أنظارهم بدقة علمية إلى إمكان تأثير هذه المجموعة القصصية فى آدابنا الشعبية قبل كل شئ " ( 35 ) . وهو ما توصلت إليه اليوغوسلافية " نيفنا كرستيتش " فى دراسة مطولة لها عن الموتيفات المشتركة فى ألف ليلة وليلة ومجموعة الملاحم والقصص الشعبية اليوغوسلافية : وجود 57 موتيفاً مشتركاً تعكس تأثير القصص العربى على القصص الشعبى اليوغوسلافى . وإذا كانت الموسوعة الإسلامية ترى فى العلاقة بالعجائب إحدى الإضافات المهمة التى قدمتها العبقرية الإسلامية للأدب الكونى فى شكل قصص وحكايات ألف ليلة وليلة ( 36 ) . فلعلى أذكر ـ أخيراً ـ قول شوفان : " من المستحيل إعداد قائمة كاملة بالآداب التى تأثرت قليلاً أو كثيراً بألف ليلة وليلة "
***
من البديهى أن نعيد إلى ألف ليلة وليلة ما تستحقه من مكانة . إنها معلم مهم ومؤثر فى فننا الروائى والقصصى ، فضلاً عن تأثيرها المؤكد فى فن القصة فى العالم جميعاً [ يشير جبرا ابراهيم جبرا إلى أن أسلافنا ـ رحمهم الله ! ـ لم يعدوا ألف ليلة أدباً ـ مجلة " الأديب ـ يناير 1954 ، ويضيف ا . ل . رانيلا أن العرب لم يحتفلوا بألف ليلة وليلة ، باعتبارها نمطاً من الكتابة يشذ عن الكتابة العربية ، وغير جديرة بالاحترام ، لأنها عامية وسوقية ، وليست أدباً بأى حال من الأحوال ، إنما هى خليط من فولكلور الشارع صيغ بلغة سوقية ] ( 37 ) . وحسب اجتهادى الشخصى ، فإن ما سمّى بمحاولات تهذيب ألف ليلة وليلة ، أساء إليها ، أفقدها الكثير من المقومات الفنية والجمالية ، ومن عفوية الفن وبساطته . تحول الكثير من حكاياتها إلى حكايات تعليمية ، وعظية . وقد ظلت الحكايات موضعاً للرقابة والحذف والتبديل ، بدعوى المراعاة الأخلاقية ، وحورت فأصبحت غالبية حكاياتها أدباً للأطفال ـ مع إنها ليست كذلك ! ـ وظلت النظرة إلى النص الأصلى عموماً تنطوى على عدم الاحترام . وكما يرى جمال الدين بن الشيخ ، فإنه حتى فى زمننا الحالى ، فإن نصوص الليالى الألف لا ينظر إليها فى الجامعات العربية على أنها جديرة بالتحليل والدراسة ( 38 ) . بل إن موريس بلانشو يجد فى الليالى الألف ما يخاطب القارئ الأوروبى ابتداء . فهو يتساءل : كيف أمكن لليالى أن تتحدث إلى العرب ؟.. فى باله ـ بالطبع ـ آلاف المحظورات والنواهى ومحاولات وأد التخيل . يضيف بلانشو " إنها تتحدث إلينا " ( 39 )
والحق أن تأكيدى على وجوب احتفائنا بألف ليلة وليلة ، لا يعنى أن نظرتنا إليها قاصرة فى إطلاقها . ثمة من يجدون فيها أثراً أدبياً يستحق الكثير من الدرس والاهتمام . أستاذتنا سهير القلماوى فى رسالتها للدكتوراه عن ألف ليلة ، تذهب إلى أن الكتاب كان حافزاً مهماً لعناية الغرب بالشرق ، عناية تتعدى النواحى الاستعمارية والتجارية والسياسية " بل لسنا نغالى إذا أرجعنا كثيراً من قوة حركة الاستشراق وانتشارها إلى ما ترك هذا الأثر قليلاً ومن بعده كثيراً إلى زيارة هذه البلاد الشرقية " . وأشير إلى أن الروائى ودارس التراث الشعبى فاروق خورشيد يخصص فى مكتبه ـ منذ فترة طويلة ـ جلسة أسبوعية لإعادة قراءة ألف ليلة وليلة ، يحضرها مجموعة ممتازة من الأساتذة والدارسين ، يناقشون الحكايات ، ويحللونها ، ويعرضون لجوانب الإبداع الفنى فيها ، والقراءة الواعية الفاهمة لألف ليلة وليلة فى اجتهاد جبرا إبراهيم جبرا أنها " مزيج غنى من الواقع والرمز ، فهى تصور حضارة عصر معين ، وفى الوقت نفسه تكشف عن النزعات البشرية إطلاقاً ، فالكتاب بجملته بحث عن السعادة ، والكثير مما فيه ضرب من الحوادث الحلمية ، تتحقق فيها الرغبات كما تتحقق فى أحلام اليقظة . ومع ذلك ، فإن ذلك المجهول الذى جمع الحكايات بين دفتى كتاب واحد ، أدرك العلاقة الخفية بين ما هو من خلق الخيال وبين ما هو من مقومات الشخصية ، فجعل من شهريار ـ بعد أن فرغت شهرزاد من أحاديثها إليه ـ ملكاً أحكم وأعدل من ذى قبل ، وبذلك دلل على حقيقة رددها فى الغرب نقاد كثيرون ، وهى أن الأدب ينشط المخيلة ، والمخيلة النشيطة تيسّر على المرء إدراك حالات الغير ، وبالتالى فهمهم وحبهم " ( 40 ) .
***
يقول ليتمان : إن النواة الأصلية لكتاب " ألف ليلة وليلة " مأخوذة عن كتاب قصصى فارسى يعرف بكتاب هزاز أفسانه [ ألف خرافة ] ربما نقل إلى العربية فى القرن الثالث الهجرى ، وإن مادة هذه القصص معظمها من أصل هندى . ويضيف : " على هذا فإن هذه القصص التى أخذت من كتاب هزاز أفسانه هى التى تكونت منها نواة كتاب ألف ليلة وليلة ، ثم تجمعت حول هذه النواة فى أرض عربية ، طبقات مختلفة من الحكايات " . أما الألمانى فالتر فيبكه فيذهب إلى أن " حواديت ألف ليلة وليلة " لم يكن مهبطها فقط بلاد فارس ، إنما هى أساطير جالت وصالت فى دول المشرق العربى والشرق الأقصى " . ويتساءل ماكدونالد : " من هو ذلك الفنان ، أو الفنانون المصريون ـ حدد الرجل الجنسية ! ـ الذين كتبوا قصص معروف وجودر وأبو قير ؟ ومن الذى ابتكر حكايات الأحدب ، وحكاية مزين بغداد ؟ ومن هو الذى كتب قصة علاء الدين بالعربية ؟ . إن هذه الحكايات جميعاً فيها من الواقعية المباشرة الإنسانية ما يرى القراء الغربيون أنه يباين كل المباينة ما فى القصص الفارسى أو الهندى من بعد عن الواقع " ( 41 )
وتخلصاً من مشكلة مؤلف الحكايات : هل هو كاتب واحد أو مجموعة كتاب ، وهل الحكايات ذات أصل فارسى أو هندى عربى أو مصرى .. فقد ذهب العديد من الدارسين إلى أنها ذات أصل فارسى ـ هندى ـ بغدادى ـ مصرى . ربما لأن أحداث الحكايات دارت فى هذه البلدان . لذلك فإنه من الصعب نسبة الحكايات إلى مؤلف واحد ، لكنها جهد مجموعة من المؤلفين ، أضافوا إليها الكثير من الوقائع والأحداث . وبصرف النظر عن الاجتهادات التى تختلففى أصول ألف ليلة : هل هى مقتبسة من الهندية أو الفارسية أو الرومية ، أم هى مؤلف عربى مجهول ، فإن الليالى ـ بالصورة التى تطالع بها قارئها منذ استكملت ملامحها النهائية ـ عربية المكان والزمان والقسمات ، فيما عدا بعض الهوامش التى لا تبدّل من الملامح الأساسية . إن للثقافات العالمية دورها الذى يصعب إغفاله فى رواية الليالى الألف ، ولكن يظل للثقافة العربية دورها الأول والأساس فى " إبداع " ذلك الإنجاز العالمى المهم . وكما يقول الباحث العراقى عبد الغنى الملاح فإن كتاب ألف ليلة وليلة ، بالإضافة إلى كونه نابعاً من مخيلة الشعوب الشرقية بصورة خاصة ، والحضارات العالمية القديمة بصورة عامة ، فإن للعرب الدور الأكبر فى تسجيله ، وإخراجه بشكله النهائى ، وإيصاله إلينا بصيغته الأخيرة ( 42 )
والحق أن ألف ليلة وليلة تحمل ـ بالفعل ـ بصمات هندية وفارسية ويونانية وفرعونية وعربية قديمة ، فضلاً عن المجتمعات العربية التى تخلقت بعد ظهور الإسلام ، وهو ما سمى بالأجزاء البغدادية ، أو المصرية . لكن ألف ليلة تظل أثراً اسلامياً ، ينتصر للدين الإسلامى ، وللشخصيات الإسلامية ، ويحفل بالكثير من قيم الدين الإسلامى : المعتقدات والعادات والتقاليد والأمثال والألغاز ، وانطلاقات المكان فى بلاد ومدن اسلامية ، هى القاهرة والبصرة والبغداد والشام وغيرها ، وشخصيات تحيا فى تلك البلاد والمدن ، فثمة السلطان والوزير وعالم الدين والقاضى والصياد والحمّال والحشاش واللص والجندى والصيرفى والنخاس والجندى والدلاّلة والصانع ، وثمة الأسواق وساحات بيع الرقيق والخانات والمساجد والصحراء إلخ . فضلاً عن الكثير من الأمثال والنوادر وقصص الرحلات المنقولة من كتب العرب . لقد وضعت ألف ليلة ـ للمرة الأولى ـ فى مدينة إسلامية ، ثم انتقلت إلى مدينة اسلامية أخرى ، فجرى فيها تبديل وتحوير وحذف واضافة ، ثم انتقلت إلى مدن إسلامية أخرى ، فى عصور تالية ، وأدخلت عليها حكايات جديدة ، فجاءت الليالى الألف تعبيراً عن الحياة فى امتداد العالم الإسلامى . ويلاحظ قاسم عبده قاسم ان فارس وأجزاء كبيرة من الهند ، كانت ـ ولا تزال ـ ضمن دار الإسلام . وكانت الثقافة العربية هى ثقافة المسلمين فى تلك المناطق ( 43 )
لذلك فإنه من الصعب أن تنسلخ ألف ليلة من صفتها العربية ، أو تنسلخ صفتها العربية منها . " إن ألف ليلة " حكايات عربية ، كانت تلبى حاجة ثقافية اجتماعية لجماهير الناس فى العالم العربى آنذاك ، كما كانت تعبيراً عن جوانب هامة من حياة الفرد العربى فى تلك الفترة " ( 44 ) . ويقول فانس رادولف إن ألف ليلة وليلة " تشكلت وصقلت من خلال المصادفة وطبيعة الانتقال الشفاهى . فقد أضيفت مواد ، إما عن طريق المصادفة ، أو توافق الظروف ، ولكن لكى تعيش الحكاية لابد أن تلقى قبولاً من المستمعين الذين يحفظونها ويصبحون من بعد رواتها . وبهذا يكون الملايين من المستمعين عبر السنين قد ساهموا فى تشكيل الحكايات ، فى حين صقلها الرواة " ( 45 ) [ ثمة قصتان أصليتان من قصص ألف ليلة وليلة كانتا معروفتين من القرن الثانى الهجرى ـ هلال ناجى ـ المورد جـ45 العدد 2 المجلد 2 ]
(يتبع)

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:24 PM
لقد جمعت ألف ليلة موروثاُ هائلاً من الحكايات والخرافات والحواديت . وقد جاء ذلك إما من العصر الجاهلى ، وما سبق ، وإما من الشعوب التى عرفها العرب ، واحتكوا بها ، مثل فارس والهند واليونان وغيرها . لكن الموهبة العربية ـ والمصرية بخاصة ـ تظل غالبة ، ذلك " لأن الهندى يحكى ويبالغ ويكدس مايرويه ، أما العربى فإنه يرسم ويتأنى ، ولا يستطيع أن ينفصل بنفسه عن حكايته الخرافية " . ويقول حسين فوزى : " أنا واحد من الناس أعتقد أن كتاب ألف ليلة وليلة أدب مصرى فى الكثير من قصصه " ( 46 ) . ويذهب المستشرق " نولد كافه " إلى أن حكايات الصعاليك فى ألف ليلة وليلة فيها عنصر مصرى خالص . بل إن الكاتب الراحل محمد فهمى عبد اللطيف ـ وإسهاماته فى دراسة الأدب الشعبى رائدة ومتفردة وثرية ، وإن تجاهلتها دراسات تالية لأسباب غير مفهومة ! ـ يؤكد أن القاهرة هى موطن ألف ليلة وليلة ، وفيها صنعت قصص هذا الكتاب وصيغت فى سردها القصصى المعروف . ويقول " جالان " فى مقدمة الجزء الأول من ترجمته لألف ليلة ، إن " ألف ليلة وليلة هى الشرق بعاداته وأخلاقه وأديانه وشعوبه من الخاصة إلى العامة ، وانها الصورة الصادقة له ، فمن قرأها فكأنه رحل إلى الشرق ، ورآه ، ولمسه لمس اليد " . ويقول فون ديرلاين : " هذه المجموعة من الحكايات الخرافية ترسم صورة للحياة العربية خلال قرون ستة " ، فهى حكايات عربية إذن .
ـ 3 ـ
استلهم الكثير من أدبائنا ألف ليلة وليلة . أذكّرك بأحلام شهرزاد لطه حسين ، وشهرزاد للحكيم ، وشهرزاد لباكثير ، والقصر المسحور لطه حسين والحكيم ، ورحلات السندباد لخليل حاوى ، وشهريار لعمر النص ، ورحلات السندباد السبع لأحمد هاشم الشريف وغيرها . ومع إن توظيف نجيب محفوظ لليالى الألف لم يظفر بالحفاوة النقدية التى ظفر بها معظم أعمال محفوظ ، فإن الفنان يعتبرها من أفضل ما كتب ( 47 ) . يقول : " ألف ليلة تحولت معى ، فيما يتعلق بالمضمون والاهتمامات ، إلى الحاضر . ويشبه ذلك ما فعله بعض الكتاب حين تناولوا أسطورة أوديب ، وعالجوا عن طريقها المشكلات المعاصرة " ( 48 )
وإذا كانت معظم الإبداعات التى حاولت توظيف ألف ليلة وليلة قد اختارت ـ بداية لأحداثها ـ الليلة الثانية بعد الألف ، فإن روايتى زهرة الصباح تبدأ فى الليلة الأولى بعد الألف ، ثم تمضى أحداث زهرة الصباح فى موازاة أحداث ألف ليلة وليلة . تروى الأولى حكاية زهرة الصباح وسعد الداخلى ، مثلما تروى الثانية حكاية شهرزاد وشهريار ..
رواية زهرة الصباح محاولة لتوظيف تراث ألف ليلة وليلة فى عمل معاصر ، وإن ظلت ليالى ألف ليلة إطاراً له . زهرة الصباح ابنة أحد الوزراء المقربين من شهريار ، اختيرت لتكون التالية بعد شهرزاد ، تنتظر دورها ، إما أن يمل شهريار الحكى ، أو تخفق شهرزاد . وتسعى زهرة الصباح بواسطة أبيها إلى الإفادة من كل مايقرأه ويستمع اليه من الحكايات والحواديت والأساطير والسير الشعبية المصرية ، تحفظها حتى تبقى على حياتها لو حل عليها الدور . وأثناء ذلك أيضاً ينبض قلب زهرة الصباح بحب سعد الداخلى الملوانى ، الشاب المقيم فى البيت المقابل . ويرضخ الأب لإرادة ابنته بالزواج من الشاب ، ويتم زواجهما فى السر ، ويحيا الشاب فى قصر أبيها باعتباره خادماً ، وتظل زهرة الصباح تنهل مما ينقله أبوها ، مما يقرأه ويسمعه ، فى الوقت الذى تنشط فيه حركات التذمر ضد شهريار ، مقابلاً لإصراره على قتل بنات الناس . ويواجه شهريار ـ فى النهاية ـ بغضبة الناس المعلنة ، كما يفاجأ بأن شهرزاد قد أنجبت منه ثلاثة أبناء . وهو ماحدث فى ألف ليلة وليلة بالفعل . ويعود شهريار عن غيه ، ويعفو عن شهرزاد ممثلة لكل النساء ، والسؤال يشغل الجميع : هل جرى ما جرى خوفاً من غضبة الناس ، أو أن الكلمة قد أثرت فيه من خلال حكايات الليالى الألف ، فتبدلت أحواله . أما زهرة الصباح فإنها تكون قد عاشت الخوف وتجاوزته . وبينما كان شهريار يعفو عن شهرزاد ، ويعترف بأبنائه الثلاثة ، تكون هى حاملاً من زوجها سعد الداخلى
***
كانت دنيا زاد هى الفتاة التالية لشهرزاد فى ألف ليلة . أما زهرة الصباح فقد كانت الفتاة هى التالية لشهرزاد فى روايتى . ليس ثمة دنيا زاد فى الرواية ، وهذا ـ كما تعرف ـ حق الفنان . الفن اختيار ومخيّلة . وقد حاول كل من والد شهرزاد ووالد زهرة الصباح أن يمنع التضحية بابنته ، أو يرجئ ـ فى الأقل ـ وصولها إلى بقعة الدم ، ولكن الوسائل اختلفت ، فقد حاول الوزير أن يثبّط عزيمة ابنته فلا توافق على الذهاب إلى قصر الملك . وهى ـ كما ترى ـ كانت محاولة يائسة ، وإن يفسّرها أنها صادرة من أب يخشى على حياة ابنته . أما عبد النبى المتبولى فقد لجأ إلى المتاح ، وهو أن تحفظ زهرة الصباح الكثير الكثير من الحكايات لتواصل الحكى ، فتطيل حياتها إن سيقت شهرزاد إلى بقعة الدم ، فى الليلة التى لا تجد فيه ما ترويه ، أو يشعر شهريار بالملل . وفى الليالى الألف تتداخل الحكايات : شهرزاد هى الراوية لحكايات متوالية ، ننسى بعضها ، ونتذكر بعضها . أما رواية زهرة الصباح فهى تروى لنا حكاية واحدة ، هى التى تهمنا ، وليست الحكايات التى ترافق أيامها ، سواء نسبت إلى شهرزاد ، أو إلى قضايا الناس ، أو سير الرواة [ بالنسبة للشكل ، فإنى أتأمل ملاحظة صديقى أحمد درويش ، وأوافق عليها ، بامتزاج الحاكى والراوى فى " زهرة الصباح " ، وباستفادة التقنيات الحديثة من الموروث القديم ـ تقنيات الفن القصصى عبر الحاكى والراوى ص 258 ]
***
ثمة وصف لشهرزاد بأنها " فتاة فدائية ، لأنها تعرضت لسيف شهريار الذى فتك ببنات المدينة ، أرادت أن تغويهن ، فوضعت نفسها أمام النطع والسيف ، متحدية بعزيمة صادقة وقلب شجاع " ( 49 ) . أما توفيق الحكيم فيجد فى شهرزاد استمراراً لإيزيس . بعثت زوجها شهريار بعد موت نفسه ، وأعادت الحياة إلى انسانيته ، تعلم من أحاديثها وقصصها ، وعادت إليه نفسه ( 50 ) . ولعل ذلك بعض ماعبرت عنه زهرة الصباح ، لكنه لم يكن كل ما حملته .
ألحت حكايات شهرزاد على طبيعة النساء المنحرفة ، اتساقاً مع الثقافة العربية التى يرى جمال الدين بن شيخ انها تحمل مسئولية التعاسة للمرأة ( 51 ) . أما حكايات زهرة الصباح ، فقد قدمت المرأة فى صورة مغايرة ، همها البيت والأسرة والحياة التى تخلو من المعايب ، ومن الخوف ..
إن زهرة الصباح تحيا فى الرواية . تسأل ، وتجيب ، وتنظر من الشرفة ، وتخرج إلى السوق ، وإلى الحمام ، وتحب ، وتتزوج . وشهرزاد فى روايتى لها كذلك ملامحها الواضحة التى يتعرف القارئ اليها ، بعكس شهرزاد فى الليالى ، فإنها مجرد صوت يروى . حتى تنتهى الليلة الواحدة بعد الألف ، وان تخفَّت شهرزاد وراء الأقنعة التى كانت ترتديها فى كل ليلة لنماذج النساء اللائى كانت تقدمهن فى كل ليلة ( 52 )
أفادت شهرزاد من الحكايات التى جمعتها من الكتب ، وهى كتب فى التاريخ والشعر والطب وأقوال الحكماء والملوك ، أفادت من الذاكرة المكتوبة . أما زهرة الصباح فقد تنوعت عناصر الإفادة ـ والفضل لأبيها عبد النبى المتبولى ـ فبالإضافة إلى حكايات شهرزاد لشهريار ، والتى كانت تنقلها له القهرمانة نجوى لينقلها إلى زهرة الصباح ، فإنه نقل حكايات الرواية فى الأسواق والطريف من القضايا التى عرضت عليه ..
جعل عبد النبى المتبولى نفسه فى موضع ابنته زهرة الصباح ، فأدرك أن الراوى الماهر ـ ترقباً لما سيحدث ، أو قد يحدث ـ " من يعرف أكبر عدد ممكن من الحكايات ، ويعرف كيف يرويها . الراوى الماهر كذلك هو الذى يعرف من أين يتزود بالحكايات ، ويعرف بالتالى من يقصده فى حالة الخصاصة بغية الحصول على حكايات جديدة " ( 53 ) . وكما يقول رولان بارت فإن " حكايات العالم لا حصر لها . تلك حقيقة أولى مدهشة حول جنس الحكاية ذاته ، الذى يتفرق فى كيانات مختلفة ، كما لو أن كل مادة فى الكون صالحة لأن يودع الإنسان فيها حكاياته . فالحكاية يمكن أن تحملها اللغة المحدودة ، شفوية أو كتابية ، أو تحمله الإشارة ، أو يحملها الخليط الممزوج من كل هذه الكيانات ( 54 )
***
شفى شهريار من مرض الحقد والرغبة فى الانتقام ، وشفى المتبولى من أمراض كثيرة كانت هى التى تسيّر حياته ، وتملى عليه أقواله وتصرفاته . وكانت الحكايات ، الكلمات ، هى الدواء الناجع لكلا الرجلين . وتبين أهمية الكلمة فى حياة كل من شهرزاد وشهريار ، عندما روت الحكاية عن الملك الذى أراد أن يضاجع جارية وزيره ، فقالت له الجارية : هذا الأمر لا يفوتنا ، ولكن صبراً أيها الملك ، وأقم عندى هذا اليوم كله ، حتى أصنع لك شيئاً تأكله . وأتت الجارية للملك بكتاب نبضه المواعظ والحكم التى تنهى عن الزنا ، وتكسر الهمة عن ارتكاب المعاصى . لذلك كان حرص شهريار على الكتاب ، فهو يعنى بالكتب ، ويسرف فى اقتنائها واقتناء المخطوطات ، ويمضى نهاره فى المكتبة ، يختلى بنفسه ، يطلب دواة وأوراقاً ، وينشغل فى الكتابة والتأليف فى نظم الشعر والزجل والموشحات والبلاليق وتدوين الحوادث . وصار يعقد الكثير من جلساته فى قاعة المكتبة ، بعد إعادة تأثيثها ، يجالسه العلماء والأدباء والشعراء ، يطرحون الموضوعات كيفما اتفق ، ينصت كثيراً ، ولا يتكلم إلاّ قليلاً ، يزيل الرهبة من نفوس المحيطين بتواضع ظاهر ، يبين عن حبه للعلم والعلماء فى هداياه الوفيرة وخلعه وعطاياه . ورجا شهرزاد أن تعيد رواية حكاياتها على النساخين ، ينقلونها وهم جلوس وراء ستار ، ويكتبونها بماء الذهب ، فتحفظ فى خزائن الدولة ..
إن معجزة الإسلام هى القرآن الكريم . لكل نبى معجزاته التى أقنعت المؤمنين به أنه نبى من الله . أما رسول الإسلام ( ص ) فقد كان القرآن الكريم هو المعجزة التى تحدت من يستطيع أن يأتى بمثلها . والقرآن الكريم قوامه الكلمة ، ففى الكلمة إذن تكمن هذه المعجزة السماوية الخالدة ، وفى الكلمة أيضاً تكمن رسالات وأفكار ومبادئ وحكم وعبر وعظات " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً " ..
لم تكن شهرزاد قد ضمنت حياتها بما ترويه من حكايات ، لكنها كانت تحاول ـ بتلك الحكايات ـ أن تضيف إلى كل يوم فى حياتها يوماً جديداً ، ولعلها كانت تثق فى داخلها أنها ستموت ، وأن كل ما كانت تحاوله هو تأجيل اللحظة الحتمية . وقد فقدت شهرزاد فى الليلة الأولى بعد الألف قدرتها على الحكى ، أو الرغبة فيه ، أو لأنها لم تعتد تحتمل أن تعيش يوماً بيوم ، وترغب فى أن تتعرف على مصيرها نهائياً ، وخلال ليلة تكون هى الليلة الحاسمة ( 56 ) . وإذا كانت الطبعة التى قال فيها شهريار لشهرزاد فى الليلة الحادية بعد الألف : كفى ، بمعنى أن حكاية تلك الليلة أحدثت ما كانت شهرزاد تحاول إلغاءه ، وتتوقعه فى الوقت نفسه ، وهو تسرب الملل إلى نفس شهريار .. إذا كانت تلك الطبعة هى الصحيحة ، فإن زهرة الصباح كانت ستحل بدلاً من شهرزاد ، لولا أنه عفا عن شهرزاد لأنها كانت قد أنجبت أطفالها الذكور الثلاثة .
كان الهدف من حكاية القصص فى ألف ليلة وليلة ـ كما يقول يوسف الشارونى ـ هو التغلب على الوقت والزمن . وقد أتاحت الحكايات / الكلمات لشهرزاد أن تطيل حياتها بالفعل ، حتى كسبتها فى النهاية ، نتيجة لانشغال شهريار بالاستماع إلى الحكايات والاستمتاع بها . أما الهدف من حكاية القصص فى زهرة الصباح فهو تأجيل الموت . لقد تغلب الإنسان على الخوف ، وتغلبت الحياة على الموت . أتذكر قول رامان سلدن : " إن بقاء الراوى ـ شهرزاد ـ فى ألف ليلة كان يعتمد على الانتباه المستمر للمروى عليه ـ شهريار ـ ذلك لأنه كان سيقتلها إذا فقد اهتمامه بما ترويه ( 57 )
أفلحت شهرزاد فى تخليص شهريار من جنونه ، بروايتها لحكايات ذات قوة علاجية لا جدال فيها ، بحيث وضعته فى حالة تنبّه طيلة ثلاث سنوات تقريباً حتى تمكنت من شفاء حقده وضغينته ، وتمكنت بالتالى من إنقاذ البشرية ( 58 ) . أما زهرة الصباح فقد أعطت المعنى للحياة فى ظل الخوف . تأجل ـ بحكايات شهرزاد ـ ما كان ينتظر زهرة الصباح من مصير ، لكن الحكايات ـ فى الحقيقة ـ لم تستطع أن تزيل الخوف الذى ظل فى نفس زهرة الصباح حتى أعلن شهريار عفوه عن شهرزاد ..
واللافت أننا نفاجأ بأن شهرزاد قد أنجبت من شهريار أبناءها الثلاثة . أما زهرة الصباح ، فنحن نتابع تطورات حياتها منذ أحبت وتزوجت ، واستعدت للإنجاب ..
***
أما شخصيات ألف ليلة وليلة بعامة ، فهى تختلف ـ فى مجموعها ـ عن شخصيات التاريخ العربى المكتوب . إنها شخصيات تنتسب إلى الناس العاديين ، هؤلاء الذين نلتقى بهم فى البيوت والأسواق والشوارع والوكايل والخانات . من يشقيهم البحث عن قوت أيامهم . ثمة الشيالون والإسكافية والصيادون والحلاقون والمزارعون الصغار والحرافيش والذين بلا مهنة . إنهم التعبير عن التاريخ الحقيقى للفترات التى عاشوا فيها ، وليس الخلفاء والسلاطين والملوك والأمراء والوزراء والولاة والقضاة والمحتسبين إلخ ..
إن الناس العاديين هم الأبطال الحقيقيون لرواية زهرة الصباح " ، وكانوا ـ من قبل ـ الأبطال الحقيقيين لروايات الأسوار وإمام آخر الزمان ومن أوراق أبى الطيب المتنبى وقلعة الجبل ، تخفت ـ أمام جهارة أصواتهم ـ أصوات المقيمين فى القصور .
الكاتب العربى أغسطس 1999 ـ فكر وإبداع مارس 2000
ــــــــــ
الهوامش :
1 ـ ت . عاصم إسماعيل ـ آفاق عربية مارس 1985
2 ـ الهوية والتراث ص 103
3 ـ العربى مارس 1975
4 ـ ثقافتنا فى مواجهة العصر ص 54
5 ـ الأهرام 3/3/1994
6 ـ زكى نجيب محمود : تجديد الفكر العربى ص 6
7 ـ المجلة 2/3/1988
8 ـ فؤاد حسنين على : قصصنا الشعبى ص 65
9 ـ رفعت سلام : بحثاً عن التراث العربى ص 20
10 ـ صبرى العسكرى ـ الأهرام 29/5/1988
11 ـ ميلان كونديرا : الطفل المنبوذ ـ ت . رانيا خلاف ص 400
12 ـ البلاغ اليومى 12 يناير 1932
13 ـ مجلة " الأديب " فبراير 1950
14 ـ قصصنا الشعبى ص 31
15 ـ الأعمال الكاملة لشوقى عبد الحكيم ـ جـ 2 ص 65
16 ـ المتواليات ص 72
17 ـ ألان روب جرييه : لقطات ـ ت . عبد الحميد إبراهيم ص 65
18 ـ سامية محرز : روايات عربية ، قراءة مقارنة ص 65
19 ـ أ . ل . رانيلا : الماضى المشترك بين العرب والغرب ص 258
20 ـ تجديد الفكر العربى ـ ص 292
21 ـ المرجع السابق ص 292
22 ـ الرأى الأردنية 22/3/1983
23 ـ الأهرام 29/5/1988
24 ـ عبد الرحمن مجيد الربيعى : الخروج من بيت الطاعة ص 105
25 ـ روايات عربية ص 17
26 ـ لعل ألف ليلة وليلة أكثر الكتابات الأدبية الشعبية ذيوعاً ، منذ نشر أنطوان جالان Galland ترجمته لها عام 1704 . كما ترجمت حى بن يقظان إلى الإنجليزية أثناء القرنين السابع عشر والثامن عشر ، ثم ظهرت إحدى عشرة طبعة بلغات مختلفة بين عامى 1671 : 1783
27 ـ الشيراوى ـ مقدمة الطبعة الفارسية
28 ـ هوم وشيكل ـ الطبعة الكاثوليكية عن النسخة الإنجليزية
29 ـ المصدر السابق
30 ـ المسعودى : مروج الذهب جـ 4 ص 90
31 ـ العربى مايو 1984
32 ـ حوار مع بورخيس ـ الثقافة الأجنبية 2/1984
33 ـ الوطن العربى العدد 277
34 ـ المرجع السابق
35 ـ آفاق عربية مارس 1985
36 ـ الموسوعة الإسلامية طـ 2 جـ 1 ص 209 : 210
37 ـ الماضى المشترك بين العرب والغرب ص 302
38 ـ جمال الدين بن الشيخ : ألف ليلة وليلة ، أو القول الأسير ـ ت . محمد برادة ـ المجلس الأعلى للثقافة ص 28
39 ـ المرجع السابق ص 20
40 ـ مجلة " الأديب " يناير 1954
41 ـ تقنيات الفن القصصى بين الراوى والحاكى ص 94
42 ـ رحلة فى ألف ليلة وليلة ص 8
43 ـ قاسم عبده قاسم : الرؤية الشعبية للحروب الصليبية ـ المأثورات الشعبية إبريل 1987
44 ـ المرجع السابق
45 ـ الماضى المشترك بين العرب والغرب ص 315
46 ـ سندباد مصرى ص 269
47 ـ الأهرام 20/10/1988
48 ـ الرأى الأردنية 22/3/1982
49 ـ الدوحة نوفمبر 1985
50 ـ تحت المصباح الأخضر ص 131
51 ـ ألف ليلة وليلة أو القول الأسير ص 34
52 ـ نبيلة إبراهيم : المرأة ذات الألف وجه فى ألف ليلة وليلة ـ أدب ونقد مايو 1966
53 ـ عبد الفتاح كيليطو : العين والإبرة ـ ت . مصطفى النحال ص 32
54 ـ تقنيات الفن القصصى بين الراوى والحاكى ص 21
55 ـ الإسراء ـ 88
56 ـ العين والإبرة ص 31
57 ـ رامان سلدن : النظرية الأدبية المعاصرة ـ ت جابر عصفور ص 204
58 ـ العين والإبرة ص 16

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:25 PM
ماذا يريد الكاتب ؟
..............

" الفن .. مقلق أبداً ، ثورى دوماً "
هربرت ريد
" الأدب عالم مغاير "
الفيلسوف بومجارتن
" لا توجد وظيفة أكثر نبلاً من وظيفة الكاتب . إنه الكائن الذى يقود ، يعمل بريشته ، وريشته تصنع الفرق بينه وبين من يمسك بالمجداف "
مقولة فرعونية
" إن الكلمات هى غدارات محشوة "
الكاتب الفرنسى بريسباران
" لست إلا أديباً ، ولا أستطيع ، ولا أريد أن أكون شيئاً آخر "
فرانز كافكا
لماذا أكتب ؟
لم أعن بتوجيه السؤال إلى نفسى أو مناقشته . نشأت فى بيئة تدفع إلى القراءة والكتابة ، مكتبة زاخرة بمئات الكتب ، وأب جعل القراءة حرفته وهوايته ، ومناقشات لا تنتهى فى السياسة والاقتصاد والثقافة بين أبى وأصدقائه . أشارك فيها ـ أحياناً ـ بما يدفع الأصدقاء إلى هز رءوسهم بالإعجاب ، أو بما يدفع أبى إلى إسكاتى ، لسذاجة آرائى .
نشأت وأنا أقرأ وأكتب ، فغاب السؤال ، لأن الفعل سبق تقصى البواعث . وحين واجهنى السؤال ، بدأت التفكير فى إجابة لم أكن فكرت فيها من قبل ، ولا تدبرتها ، لأنى حين بدأت القراءة الأدبية ، فالكتابة ، لم أكن طرحت على نفسى أسئلة من أى نوع .
والحق أنى لا أذكر متى حاولت الكتابة للمرة الأولى . كانت أيام طه حسين هى أول ما قرأت من أعمال أدبية . أذكر اليوم والظروف وتأثيرات القراءة . أما بدايتى الأدبية ، أول ما كتبت ، فإنى لا أذكر متى ولا كيف ، وهل عرضت محاولتى على آخرين ، أو أنى لجأت ـ عقب الكتابة ـ إلى تمزيقها .
***
كانت القصيدة الشعرية هى أول ما كتبت . لم أكن تعلمت الأوزان ، فلجأت إلى المحاكاة . قصيدة الرثاء التى كتبها شوقى ـ مثلاً ـ تتحول إلى قصيدة مناجاة للحبيبة ، القصيدة البرمكية الشهيرة : قل للخليفة ذى الصنيعة والعطايا الفاشية .. وابن الخلائف من قريش والملوك العالية .. إن البرامكة الذين رموا إليك بداهية .. صفر الوجوه عليهموا حلل المذلة بادية .. إلخ ، كتبت على منوالها : قل للحبيبة ، وكلمات أخرى باعثها التقليد ، فبديهى أن ابن الثامنة ، أو التاسعة ، لن يكون قد تعرف إلى حب الجنس الآخر بالمعنى الفرويدى ، أو حتى الأفلاطونى .
ثم كتبت العديد من القصص وأنا فى المرحلة الأولية ، وهو ما أتصور أن الكثير من الأطفال ـ فى المرحلة السنية نفسها ـ يفعلونه ، لا شبهة نبوغ ، أو تفرد ، القضية هى فيما يلى هلاميات البداية .
كنت أكتب قصصاً مما يبعث به الصغار إلى مجلات الأطفال ، فتنشرها بعد أن تهذبها ، أو تعيد كتابتها ، وقرأت محاولاتى لتلاميذ ـ وأحياناً : أساتذة ـ مدرسة البوصيرى الأولية . وعجل زميلى فى الدرج المجاور باحترافى ، حين أصر أن أكتب له قصة ، فلا يقرأها سواه ، ودفع المقابل مليمين ، كنت أسعد الناس بهما ، لا للقيمة المادية ، بل لأنى تقاضيت أجراً عما كتبته !
***
كانت الملاك روايتى الأولى ، المطبوعة . توليفة مقلدة للمنفلوطى وطه حسين والمازنى والسباعى وعبد الحليم عبد الله وغيرهم ، تلتها رواية ظلال الغروب . توهمت ـ دون وعى حقيقى ـ أن الجنس مهم فى العمل الفنى، فحشوتها بمواقف جنسية زاعقة ، وغير مبررة ، فى حين كان قوام الرواية قصة حب ساذجة بين شاب وفتاة ، انتهت بموت الفتاة إثر مرض لم يمهلها . قصة أتيح لى معايشتها ، وكانت الفتاة الراحلة هى طرف العلاقة الآخر . ثم كتبت رواية باسم أين الطريق ؟ ، لا أذكر شيئاً من أحداثها ولا شخصياتها ، وإن كنت أذكر ـ بحب ـ محاولة صديقى المهندس صلاح شاهين ـ أحد قيادات الإخوان المسلمين بالإسكندرية ـ طباعتها على نفقته .
إرهاصات ، أحتفظ بها فى مكتبى ، من قبيل الذكرى ، ولتلمس خطوات البداية . أما القصة التى أعتبرها بدايتى الحقيقية ، فهى " يا سلام " ، كتبتها فى 1956 ، ونشرتها ضمن مجموعتى " تلك اللحظة " .
حاولت ـ بالطبع ـ أن أنشر محاولاتى الباكرة فى صحف الإسكندرية . قدمت الفصلين الأولين من روايتى " أين الطريق " إلى رئيس تحرير جريدة " العهد الجديد " ، وكانت تصدر كلما توافر لها من الإعلان ما يحقق الربح سلفاً ، ونشر الفصل الأول من الرواية فى الجريدة ، لكن رئيس التحرير دفع بالفصل الثانى إلى جريدة أخرى اسمها " الاتحاد المصرى " ، فنشرته . وعرفت أن الجريدتين تتبادلان النشر بما يسوّد بياض الصفحات ، ولأن القارئ الذى يتابع كان غائباً ، فقد كانت تكملة نشر مواد إحدى الجريدتين فى الأخرى مسألة واردة ، المهم أن تصدر الجريدة فور أن تتوافر لها الإعلانات التى تحقق لها الربح المسبق .
بالمناسبة : لقد ضاعت مسودات تلك الرواية الباكرة . ومع أن صديقى صلاح شاهين قد تكفل بطباعة الجزء الأكبر من الرواية على نفقته ، ولم يطبع الجزء الباقى لتكاسل منى ، لا لتقصير منه .. مع ذلك ، فإن كل ما يتعلق بتلك الرواية الباكرة يبدو فى ذاكرتى الآن كالأصداء البعيدة ، الاسم وحده هو ما أذكره الآن منها !
***
الفن ـ الرواية والقصة على وجه التحديد ـ عالمى الذى أوثره بكل المودة ، أتمنى أن أخلص لهما ـ تجربة وقراءة ومحاولات للإبداع ـ دون أن تشغلنى اهتمامات مغايرة ، لكن الإبداع الروائى والقصصى فى بلادنا لا يؤكل عيشاً . ربما أتاحت رواية وحيدة فى الغرب لكاتبها أن يقضى بقية حياته بلا عوز مادى ، فيسافر ، ويتأمل ، ويقرأ ، ويخلو إلى قلمه وأوراقه ، دون خشية من الفقر ، وما يضمره من احتياجات .. لكن المقابل المحدد ، والمحدود ، الذى يتقاضاه المبدع فى بلادنا ثمناً لعمله ، يجعل التفرغ فنياً أمنية مستحيلة .
لقد اعترف الروائى الإنجليزى فرانسيس كنج ـ فى بساطة وصراحة ـ أن السبب الحقيقى فى اتجاهه للنقد ، هو أنه من الصعب ـ فى بريطانيا ـ أن يحيا المرء على كتابة الروايات فحسب ، ومن ثم فقد اتجه ـ وعدد آخر من الروائيين البريطانيين ـ إلى كتابة النقد والدراسات الأدبية . فإذا كان ذلك هو ما يقدم عليه الروائيون فى الغرب ـ لظروف اقتصادية كما ترى ـ فماذا تتوقع من الروائيين العرب الذين يتقاضون ـ مقابلاً لأعمالهم ـ بما لا يكاد يصل إلى قيمة نقلها على الآلة الكاتبة ؟! [ هذه الكلمات ، قبل أن يستبدل الحاسوب بالآلة الكاتبة ، بالإضافة إلى تفشى جريمة الحصول من الأدباء على تكاليف النشر بدلاً من مكافأتهم ، ولو ببضع نسخ ! ]
من هنا ، كان اختيارى ـ أو لجوئى ـ للصحافة ، فهى الأقرب إلى قدرات الأديب واهتماماته ، وهمومه أيضاً . وكنت أتذكر المازنى وهو يجد فى كل ما يصادفه مادة صحفية ، بينما الفن وحده شاغله وهواه ، وكتبت فيما أعرفه ، واستعنت ـ بالقراءة ومحاولة الفهم والاقتراب المباشر ـ فيما لم أكن أعرفه . ووجدت فى حياتى الصحفية ـ أحياناً ـ ما يغرى بكتابة عمل أدبى : رواية النظر إلى أسفل مثلاً ، ورواية الأسوار ، ورواية الخليج " ، ورواية صيد العصارى " ، ورواية كوب شاى بالحليب وغيرها ، لكن الأدب ظل ـ بالرغم منى ـ تزجية فراغ . أحاول الكتابة إن وجدت فى أسوار الصحافة منفذاً . لذلك كان ترحيبى ـ متحسراً ـ بالسفر إلى سلطنة عمان ، للإشراف على إصدار جريدة " الوطن " . وكنت أمنى النفس بأن أدخر فى الغربة ما يعيننى على الإخلاص للفن وحده ، لكن الأمنية ظلت فى إطارها لا تجاوزه . وكان لابد أن أكتب فى موضوعات تقترب من الفن ، أو تبعد عنه . وحتى لا أفقد ذاتى فى سراديب مجهولة النهاية ، فقد فضلت أن تكون محاولاتى أقرب إلى ما يشغلنى بالفعل ، فى الفن ، وفى الحياة عموماً . وبصوت هامس ـ ما أمكن ـ فإن " مصر " ، الموطن واللحظة والماضى والمستقبل ، هى الشخصية الأهم فى كل إبداعاتى . ذلك ما أحرص عليه ، وما لاحظه حتى القارئ العادى . تعمدت أن تكون مصر : تاريخها وطبيعتها وناسها ومعاناتها وطموحها ، نبض كتاباتى جميعاً ، ما اتصل منها بالصحافة وما لم يتصل ، ما اقترب من الأدب وما لم يقترب ، وكانت حصيلة ذلك ـ كما تعرف ـ عشرات المقالات التى تتناول شؤوناً وشجوناً مصرية ، بدءاً بكتابى " مصر فى قصص كتابها المعاصرين " إلى كتاب " مصر المكان " ، وربما إلى كتب أخرى تالية .
لم تكن الصحافة إذن مدخلى إلى الأدب ، لكن الأدب كان مدخلى إلى الصحافة . أحببت الأدب ـ كما قلت لك ـ فى سن باكرة ، لا أستطيع تحديدها تماماً . ولما حاولت اختيار وظيفة أحيا من راتبها ، كانت الصحافة هى المهنة الأقرب إلى اهتماماتى الأدبية . أذكر قول أرسكين كالدويل : " لم يكن لدى طموح فى أن أجعل الصحافة مهنتى فى الحياة ، لكن عمل الصحافة هو الكتابة ، وكانت الكتابة هى الشيء الذى كنت أريد أن أتعلمه " ( ت سيد جاد ) . أقدمت على العمل فى الصحافة وفى خاطرى قول همنجواى " إن العمل الصحفى لن يؤذى الكاتب الناشئ إذا استطاع أن يتخلص منه فى الوقت المناسب . وكنت أدرك ـ كما أدرك تولستوى دوماً ـ أن أية مهنة لا يمكن أن تنتزعنى من الأدب . عاهدت نفسى ـ مثلما فعل كالدويل من قبل ـ على أن أى عمل أشتغل به غير الكتابة ، سوف يكون مؤقتاً ، لا لشيء إلا من أجل الاستمرار فى العيش ، والاحتفاظ بسقف فوق رأسى ، وبكساء فوق جسدى .
قد تقتل الصحافة موهبة الأديب إن نسى نفسه ، وارتمى فى أمواجها . اخترت الصحافة لأنها أقرب المهن إلى طبيعة الأديب ، وإلى اهتماماته ، وحتى لا أصبح مثل جوليان سورل ـ بطل ستندال ـ فأواجه دائماً تلك المشكلة الأليمة التى تتمثل فى الوجبة التالية ، ومن أين آتى بها . إذا كنت قد حاولت الإجادة ، فلأنى أحاول الإجادة فى أى عمل أوافق على أدائه ، حتى لو لم أكن أحبه . مع ذلك ، فإنى أحاول أن أجعل معظم وقتى للأدب ، وأقله للصحافة . علمتنى ذلك تجربة السنوات التسع التى قضيتها مسئولاً عن تحرير " الوطن " . وحتى الآن ، فإن حلم كافكا يراودنى فى أن أستطيع الحصول من عمل أكتبه على ما يسد احتياجاتى ، لكى أفرغ لكتابة عمل آخر . حينذاك تكون كل آمالى فى الحياة قد تحققت .
***
أستعيد ـ فى لحظات انشغالى ـ قول همنجواى " كلما ازداد الكاتب انغماساً فى عمله ، بعد عن أصدقائه ، وأصبح وحيداً " . ومع أن جابرييل جارثيا ماركيث يؤكد أن لحظات السعادة المطلقة ، والوحيدة ، لم يعشها إلا أثناء الكتابة ، فإن الكتابة ـ فى تقديره ـ أكثر المهن عزلة فى العالم " فلا أحد بإمكانه مساعدة المرء فى كتابة ما يكتب " .
من ناحيتى ، فأنا لا أعتزل الناس حتى فى لحظات الكتابة . إنهم شاغل ما أكتبه ، وسدى كلماته . وإذا كان بوريس بورسوف يؤكد أن أى فنان حقيقى ينطلق فى أعماله من تجربته الروحية الذاتية ، فالواقع أنى لا أكتب لنفسى ، لا أكتب لأودع ما أكتبه أحد الأدراج ، أو أمزقه بعد أن أنتهى منه ، وإنما أدفع به إلى الناشر ، سواء فى صحيفة أو كتاب . يشغلنى أن يرى النور ، أن يقرأه الناس ، ويفيدون ، أو يستمتعون به ، أو يناقشونه ، أو حتى لا يجدون فيه ما يستحق القراءة . نصحت بيرل باك كتاب الرواية ، أو من يريدون كتابة الرواية ، بألا يصبحوا ذلك إذا استطاعوا تجنبه . إن تأليف الروايات يستنفد حياة الروائى كلها ووجوده " وإذا لم يضح بحياته ووجوده وهو جذلان ، فعليه ألا يقدم على التضحية إطلاقاً " .. " لا توطن نفسك أبداً على أنك ستجنى مالاً من تأليفك رواية ، إنها أكبر مغامرة فى العالم ، إذا كنت عجوزاً أو قلقاً ، بل وإذا كنت قلقاً فقط ، أكتب الرواية إذا أحسست بأنه لابد أن تكتب رواية ، لكن اعتبر الأجر مصادفة سعيدة قد لا تحدث . احصل على جزائك من مجرد كتابتك لهذه الرواية ، وحاول أن تقنع بهذا " ( ملحق " المساء " الثقافى 30/12/1964 )
***
(يتبع)

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:26 PM
الكاتب لا يخترع شخصياته . من الصعب أن تكون الشخصيات منبتة عن الواقع تماماً . بل إن كاتب نفسه ربما تصور أنه اخترع الشخصية ، والحقيقة ليست كذلك . إنه لو حلل الشخصية إلى عناصرها الأولى ، فلابد أن يجد فيها ملامح وقسمات من شخصيات عرفها بصورة مقيمة ، أو طارئة ، وربما قرأ عنها ، أو سمع بها ، دون أن يتاح له التعرف إليها مباشرة . وكما يقول ألبير كامى ، فلا يمكن أن تكون إحدى شخصيات العمل الفنى هى الفنان نفسه ، وإن ظل هناك احتمال بأن يكون الفنان فى آن واحد ، جميع الشخصيات التى خلقها . إن العمل الأدبى ـ على نحو ما ـ يحمل طابع السيرة الذاتية ، وعلى حد تعبير الناقد الروسى بوريس بورسوف ، فإن " الذى يكتب بشكل حقيقى ، هو من يفكر بنفسه ، وبكل شيء آخر فى آن معاً " .
" أنا مدام بوفارى " ، عبارة لفلوبير . وفيما عدا استثناءات قليلة ، فإن رواياتى وقصصى ـ بدرجة أو أخرى ـ حياتى . لست أزعم ـ كما قال ألان روب جرييه عن نفسه ـ إن مذكراتى الحقيقية موجودة فى رواياتى ، لكن معظم أعمالى ـ إن لم يكن جميعها ـ تنطلق من تجربتى الشخصية ، وإن صعب القول إنه يمكن اعتبارها سيرة ذاتية حقاً . ولعلى أوافق نجيب محفوظ على أن تجربة الفنان ليس من الضرورى أن تحدث له شخصياً ، لكنها قد تحدث لآخرين ممن أتيح له أن يعايشهم عن قرب [ ونتذكر كامل رؤبة لاظ بطل روايته السراب ] . معظم ما كتبته ، وأكتبه ، يتناول أحداثاً عشتها ، أو تعرفت إليها ، بصورة صحيحة . وعلى حد تعبير همنجواى فأنا لا أعرف إلا ما رأيته . أوافق يحيى حقى فى أن التصوير الفنى لوردة فى حديقة ، يختلف عنه لوردة فى صورة كتاب ، تلمس خشونة الأوراق والساق وقطر الندى يختلف عن التعرف إليها فى الصورة المسطحة . حتى أعمالى التى حاولت توظيف التراث ، أفدت فيها من ملامح وتصرفات شخصيات تعرفت إليها ، وعايشتها . وكما وصف كونراد بطل روايته " لورد جيم " بأنه " واحد منا " ، فلعلى أزعم أن الوصف نفسه ينطبق على معظم الشخصيات التى تناولتها فى أعمالى . ولا يخلو من دلالة أن العديد من أبطال رواياتى كانت القراءة شاغلاً أساسياً لهم : منصور سطوحى فى الصهبة ، حاتم رضوان فى الشاطئ الآخر ، عادل مهدى فى " المينا الشرقية ، المؤرخ فى قلعة الجبل ، شاكر المغربى فى النظر إلى أسفل ، محمد إبراهيم مصطفى العطار فى قاضى البهار ينزل البحر ، رفعت القبانى فى حكايات الفصول الأربعة ، وغيرهم .
وإذا كان فوكنر قد اخترع مدينة هى " جيفرسون " تدور فيها أحداث رواياته ، فى حين اخترع ماركيث مدينة هى " ماكوندو " تعبيراً عن خصوصية البيئة فى أمريكا اللاتينية ، فإنى حرصت على الكتابة عن " بحرى " باعتباره كذلك . لم أحذف ، ولم أضف ، إلا بقدر الاختلاف بين الواقع والفن ، وكما أشرت قبلاً ، فإن الفن ليس نقلاً فوتوغرافياً للواقع ، لكنه إيهام بذلك الواقع . بحرى ليس ماكوندو ماركيث ، ليس فردوساً أرضياً وفرصة رائعة أمام الإنسان ، ليحقق ما عجز عن تحقيقه من أمنيات . أهل بحرى يعانون ويقاسون ويعملون ويمرضون ويفرحون ويموتون ويألمون ويأملون ، لا أضيف جديداً لو قلت إن المحلية هى البيئة الحقيقية التى يجدر بأعمالنا الفنية أن تتحرك فى إطارها ، توصلاً للإنسانية . وإذا كانت المحلية ـ فى اتفاق الجميع ـ شرطاً أساسياً لتحقيق العالمية ، فإن المحلية ليست فى تلك الحكايات الساذجة ، أو الهلاميات ، أو الصور التى تفتقد الترابط ، بحيث يصعب نسبتها إلى العمل الفنى فى إطلاقه . وعندما ترجمت ـ بمبادرات طيبة من لجاننا المختلفة ـ نماذج من تلك الأعمال التى يمكن القول ـ بكثير من التجاوز ـ إنها جيدة فنياً ، فإن القارئ الأجنبى وضعها فى الإطار الذى ينبغى ألا تتجاوزه . المحلية العالمية هدف من الصعب بلوغه . ترجمنا العديد من أعمال كبار أدبائنا إلى لغات أجنبية ، فلم تجاوز اهتمامات المستشرقين والمعنيين بالثقافة العربية . صارحنى أستاذنا حسين فوزى ـ وقد طالت إقامته فى أوروبا ـ عن " نهر الجنون " لأستاذنا الحكيم ، بأن ترجمتها إلى الفرنسية حققت أثراً سلبياً ، لأن قيمتها الفنية تهبط عما يمكن لطالب فرنسى فى المرحلة الثانوية إبداعه . لم يجد حسين فوزى فى تلك الملاحظة انتقاصاً لأعمال الحكيم ، فالإعجاب بيوميات نائب فى الأرياف وعودة الروح ـ على سبيل المثال ـ يبين عن نفسه ـ فى المقابل ـ فى آراء النقاد الأجانب ، وإن تحفظت تلك الآراء فى نسبتها كذلك إلى الإبداع العالمى ، بكل ما تنطوى عليه الصفة من مواصفات محددة ، وصارمة . مع ذلك ، فإن الإبداعات العربية الحديثة قد أفرزت ـ فى فهمها الواعى لمعنى المحلية ـ معطيات يصح انتسابها ـ بدرجات متفاوتة إلى الأدب العالمى فى إطلاقه . العمل الفنى الحقيقى هو الذى يلتحم ببيئته بصدق ، ويعبر عن تلك البيئة بالصدق نفسه ، شريطة أن يعى الفنان مقومات الإبداع الفنى بعامة ، وأن تكون الهموم التى يتناولها ـ رغم محليتها ـ هى هموم الإنسان فى كل مكان . المثل الذى يحضرنى قصة تشيخوف الرائعة " لمن أسرد أحزانى " . لا يجد الحوذى من يسرد له أحزانه ، فيتجه بالحديث إلى حصانه ، يبثه ما يعانيه ، شخصية روسية تنتمى إلى أواخر القرن الماضى ، لكنه ـ فى الوقت نفسه ـ شخصية إنسانية ، بكل ما تنطوى عليه هذه الصفة من دلالات .
***
الملاحظة التى ربما أبداها البعض ، واكتفى البعض الآخر بإيرادها تساؤلاً فى عينيه ، هى أن حياتى خاصة ، فلا أغادر بيتى إلا نادراً ، ولا ألتقى الآخرين إلا لضرورة ، ولا أتردد على الندوات أو المقاهى أو أماكن التجمعات بعامة ، بما يعجل بنفاد مخزون " التجارب " التى تصلح نبضاً لأعمالى . والملاحظة ـ فى ظاهرها صحيحة ـ بل إنى أقدرها تماماً ، وإن كنت أجد فيما قدمت من أعمال جواباً مقنعاً . وبصراحة ، فليس ثمة فجوات فى حصيلتى المعرفية والاجتماعية والنفسية . ولعلى أحرص ـ فى كل لحظة ـ على أن أحتفظ بقدرتى على الدهشة . إذا زايلتنى هذه القدرة ، فإن الخطوة التالية ـ كما أتصور ـ هى أن أهجر الإبداع مطلقاً . إن عين الفنان تختلف فى نظرتها إلى من حولها ، وما حولها ، عن عين الإنسان العادى . عين الفنان شديدة الحساسية ، بارعة الالتقاط ، دقيقة الملاحظة . قد يغادر الإنسان العادى حياة كاملة لها خصوصيتها وتفردها ، فلا يستقر فى داخله منها شيئ. أما الفنان ، فقد تهبه جلسة عادية مع أناس عاديين ، حياة خصبة ، بما يضيف إليها من تجاربه ورؤاه وخياله . من خصائص العمل الجيد أن صاحبه يلفت نظرى إلى أشياء طالما شاهدتها من قبل ، لكننى لم ألتفت إليها ، بل ولم أفطن إلى وجودها .
مع تأكيدى على أهمية التجربة ، فليس إلى حد تذوق الزرنيخ مثلما فعل فلوبير ، حين أراد التعبير عن انتحار مدام بوفارى ، ليرى مدى تأثير الزرنيخ فى النفس والجسد . الشخصية الروائية لا تبدو غريبة عن الواقع ، أو هذا ما ينبغى أن يكون . الفن ـ كما أشرت ـ إيهام بالواقع ، والفنان لا يأتى بشخصياته من فراغ . إنها محصلة الواقع والخيال فى آن . من هنا ، أتفهم قول برتولت بريخت إن " شخصيات العمل الفنى ليست مجرد أشباه للناس الأحياء ، بل صور حددت ملامحها بما يتناسب والمنهج الفكرى للمؤلف " . على سبيل المثال ، فإن السلطان خليل بن الحاج أحمد وعائشة بنت عبد الرحمن القفاص وخالد عمار والمعلم شيحة ومختار الرمادى وتغريد وخيرات ، هؤلاء وغيرهم ليسوا شخصيات تاريخية حقيقية ، لكنها شخصيات اخترعها خيال الفنان ، وإن أفاد فى ملامحها الظاهرة والنفسية من شخصيات معاصرة تعرف إليها . أكد لى الصديق الراحل فاروق خورشيد أنه قرأ قلعة الجبل باعتبار أن السلطان خليل شخصية حقيقية فى التاريخ المملوكى ، وتوافق اسم سلطان التاريخ مع سلطان الرواية لا يجاوز المصادفة البحتة . أما الصديق الأستاذ الجامعى حسن البندارى فقد عرض مساعيه لبيع ما تصور أنه يوميات المتنبى لجامعات أجنبية . وأما الصديق الشاعر كامل أيوب ، فقد دفع برواية من أوراق أبى الطيب المتنبى إلى سلسلة المكتبة الثقافية ، بتصور أنها تحقيق وتقديم ليوميات المتنبى . فلما صارحته بأن الرواية من تأليفى ، أصر أن أكتب ورقة تتضمن ذلك المعنى .
حين ألح فى وجود المصدر الواقعى للشخصيات التى تضمها أعمالى ، لا أعنى أنى أنقل الشخصية كما هى فى الواقع . ألتقط لها صورة فوتوغرافية ، أو أرسم " بورتريه " يحاول الإجادة فى النقل ما أمكن . المصدر الواحد ، المحدد ، فى الشخصية ، أولى به أن يبعد عن الفن ، إنه يصبح أقرب إلى الكتابة الببليوجرافية ، أو التقارير . ثمة نمط إنسانى معين ، شخصية محددة ، لكن تلك الشخصية تهجّن ، تطعّم بقسمات وملامح من شخصيات أخرى ، تتداخل معها ، فتشكل شخصية أخرى ، هى شخصيات العمل الأدبى ، الشخصية الأصل ، الشخصيات المتداخلة ، موروثات الكاتب وقراءاته وتجاربه . ليست كل الشخصيات مما يصلح لأن يتوقف الكاتب أمامها ، يتأملها ، يعلن بينه وبين نفسه : هذه شخصية روائية . مع ذلك ، فإن الكاتب لا ينقل ملامح الشخصية وقسماتها كما هى فى الواقع . إنه يضيف إليها ، ويحذف منها ، فتنتهى إلى شخصية روائية حقيقية ، فيها من الواقع ، ومن الكاتب نفسه . قد يختار الفنان شخصية من الواقع ، ثم يضفرها بتجاربه ـ وتجارب الآخرين ـ ورؤاه وخبراته وقراءاته وخياله ، فتتشكل من ذلك كله شخصية جديدة ، هى الشخصية الروائية . والذهن ـ وحده ـ ليس مصدر استلهام الشخصية الروائية ، إنها عملية معقدة ، يشارك فيها الذهن والوجدان والعين والأذن ، لتبين الشخصية الروائية عن ملامحها . وبافتراض أن الفنان قد استطاع أن يخترع شخصيته الروائية تماماً ، فلا ظل وجود لها فى الواقع ، فإنها ستأتى ـ بالضرورة ـ شخصية آلية ، بلا حياة . وأغلب الظن أنها لن تكون شخصية مقنعة .
لقد كتب جارثيا ماركيث وقائع موت معلن بعد حادثة قتل شاهدها فى أحد شوارع مدينة أرتاكا " أطلقت الرصاصات على الضحية وهو عائد إلى منزله ، أغلقت أمه الباب ، ذلك شيء يفوق التصور : رجل ثرى له أهميته يضرب من جهتين . طلبت منى أمى ـ فى ذلك الحين ـ ألا أكتب شيئاً ، لأن هذا سوف يقاضى أم الضحية بتهمة إغلاق الباب على نفسها . وعدت أمى ألا أكتب شيئاً طيلة حياة هذه المرأة . وقد سمعت أنها ماتت منذ خمس سنوات ، وبدأت أفكر فى كتابة الرواية " ( الهلال ديسمبر 1982 ) . أما أستاذنا نجيب محفوظ ، فقد كانت روايته الشهيرة اللص والكلاب تأثراً مباشراً بسيرة السفاح محمود أمين سليمان ، الذى أراد أن ينتقم من زوجته الخائنة ، فأصابت رصاصاته أبرياء كثيرين . ويصف لنا يحيى حقى فى كتابه " عطر الأحباب " تلك الأيام التى كانت فكرة " اللص والكلاب " قد شغلت فيها نجيب محفوظ ، سيطرت على أفكاره ومشاعره ، تحاول التخلق كعمل فنى .
***
يقول أرسكين كالدويل : " إنى أعتقد أن الكتابة الخلاقة تحركها حالة ذهنية معينة ، وأن أولئك فقط الذين ولدوا بهذه الموهبة ، ويسعون بجهد متواصل ليعبروا عن أنفسهم كتابة ، يمكن أن يحققوا النجاح الذى يريدون " ( كيف أصبحت روائيا ـ 266 ) . وفى تقديرى ، أن كاتب الرواية أو القصة القصيرة ينبغى أن يكون دارساً لعلم الاجتماع وعلم النفس والتربية والتاريخ والأنثربولوجيا ، وملماً ـ إن لم يكن منغمساً ـ بالتطورات السياسية فى بلاده ، وفى العالم ، فضلاً عن وجوب أن يكون ذا نفس مناضلة ، تحيا واقع الجماعة ، وتحس به ، وتخلص فى التعبير عنه . وباختصار ، فإن الروائى ، والمبدع بعامة ، ينبغى أن يكون متسلحاً بثقافة موسوعية . نحن إذا هدمنا شيئاً ما ، بناية مثلاً ، فإن الهدم ليس غاية فى ذاته ، إنما الهدف ـ أو هذا هو ما ينبغى ـ أن يكون الهدم للبناء ، للإضافة ، للتطوير . الهدم لمجرد الهدم مرفوض ، والتعرف إلى البدايات والقواعد والركائز والأصول هو ما يجدر بالأديب أن يحصل عليه ، مثلما أنه على الفنان التشكيلى أن يتعرف إلى المذاهب والاتجاهات الفنية المختلفة . الأمر نفسه بالنسبة للمبدع فى كل المجالات ، أن يحيط بالخصائص الفنية ، التقليدية ، للفن الذى اختاره . بوسعه ـ بعد ذلك ـ أن يهدمه ، ليضيف ، ويطور ، بقدر ما تمنحه قدراته الفنية وموهبته . أشير إلى قول هنرى جيمس : لا يمكن لقصة جيدة أن تنبثق عن ذهن سطحى " .
أنا حين أتحدث عن ثقافة الكاتب ، عن خبراته وقراءاته وتجاربه وتأملاته وإفادته من كل الفنون فى إثراء فنه ، وتوضح البعد الثقافى بعامة فيما يكتب .. حين أتحدث عن ذلك ، فإن الأرضية التى يقف عليها ذلك كله هى الموهبة . لا فن بلا موهبة . مهما حصّل الكاتب من ثقافة ، فإنها لا شيء بلا موهبة . حتى الفلسفة بمعناها الأكاديمى المتخصص يجب أن يحصل المبدع على المتاح من التثقف فيها . وفى المقابل ، فلعل أهم ما يجدر بالفنان أن يحرص عليه ، هو أن يحترم ثقافة قارئه ، وأن يحترم ذكاءه أيضاً . وقد طالما حرص الرومانتيكيون على تضمين أعمالهم خطباً وشعارات ، بينما يكتفى الفنان المعاصر ـ أو هذا هو المطلوب ـ بالإضمار التصويرى . يثق فى ذكاء قارئه ، وأن من حق القارئ ـ وواجبه ـ أن يتأمل العمل الفنى ، ويمعن النظر فيه ، بل ويملأ الفجوات التى يتركها الفنان فى ثنايا العمل بما يحمله من ثقافة وذكاء . كانت تلك محاولتى ـ على سبيل المثال ـ عقب إضراب النزلاء فى الأسوار ، ملأت الفجوات بفقرات تروى نتفاً من وقائع التاريخ القديم، والمعاصر، واعتبرتها نسيجاً فى العمل الفنى ، يصل ما بين بدء الإضراب ، والرضوخ لمطالب النزلاء ، وتركت لذكاء القارئ تبين ذلك .
والأمثلة كثيرة .
***
(يتبع)

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:26 PM
لست أذكر القائل : إن على الكاتب مهمتين : الأولى أن يقول شيئاً ، والثانية أن يروى شيئاً ، لكنه قول صحيح تماماً . ورغم احترامى لقول بيكيت " ليس لدى شيء أقوله ، فأنا الوحيد الذى يستطيع أن يقول إلى أى حد أننى ليس لدى شيء أقوله ، أو مضطر لأن أقوله " فإن المقولة / الدلالة واضحة فى أعمال بيكيت . قد تتعدد التفسيرات ، والتعرف إلى ما يحمله العمل من دلالات مضمونية ، لكنها موجودة [ أذكرك بتفسير نجيب محفوظ لمسرحية بيكيت لعبة النهاية فى كتابى نجيب محفوظ : صداقة جيلين ] . فى رسالة من تولستوى إلى مواطنه الروائى الروسى ليونيد أندرييف ، يشير إلى أنه على الكاتب ألا يكتب " إلا إذا استحوذت عليه الفكرة التى يود التعبير عنها بأحسن ما فى طاقته ، وألا يفكر حينئذ فى شيء آخر غير إجادة التعبير ، فلا ينظر إلى ما تضفى عليه الكتابة من شهرة أو مال " , وكتب تشيخوف فى إحدى رسائله : " دعنى أذكرك بأن الكتاب الخالدين ، أو فى الأقل ذوى الموهبة ، الذين يهزون نفوسنا ، لديهم سمة مشتركة بالغة الأهمية ، هى أنهم يتجهون إلى شيء ، وأنهم يدعونك إليه أيضاً ، وإنك تحس ، لا بعقلك وإنما بكيانك كله . إن لديهم هدفاً ، بعضهم لديه أهداف مباشرة ، كالقضاء على الإقطاع وتحرير البلاد ، وكالسياسة أو الجمال ، أو مجرد الفودكا ، وآخرون لديهم أهداف بعيدة كالله ، وكالحياة بعد الموت ، وكسعادة البشرية ، وهكذا، وإن أفضلهم كتاب واقعيون يصورون الحياة كما هى ، ولكن على الرغم من أن كلاً منهم يستغرقه هدف واحد ، فإنك تحس فى أعمالهم ، لا مجرد الحياة كما هى ، بل تحس الحياة كما ينبغى أن تكون ، وإن هذا ليأسرك " . إن للعمل الأدبى استقلاليته ، لكن وجود العمل مستمد من المبدع الذى كتبه ، من تمايز خبراته وتجاربه وقراءاته وتأملاته ورؤاه . أفترض أن العمل كتب نفسه ، أو هذا ـ فى الأقل ـ ما أتحمس له ، لكننى لا أتصور أن يصدر العمل عن فراغ ، حتى الثمرة المعينة هى ـ فى الأساس ـ بذرة معينة ، وضعت فى تربة معينة ، ومناخ معين .. وإلا ، فما سر زراعة محصول بذاته فى بلد ما ، ولا يمكن زراعته فى بلدان أخرى ؟!. وإذا كان رأى بوشكين أن " الفنان الحقيقى يهب نفسه كلها للفن " ، فإنى أجد أن القضايا التى يناقشها الفن ويطرحها ، وليس الفن كغاية ترفيه ، هى ما ينبغى على الفنان أن يخلص لها . ولعلى أذكر قول بيرل باك " الفنان اليوم لم يعد يكفيه أن يملك أداة رائعة من الصنعة المكتملة ، بل لابد أن يكون لديه شيء جدير بهذه الأداة يعبر عنه " ، بل إن دعاة الفن للفن يشيرون إلى أنه " على الكاتب أن يتحدث عن شيء من الأشياء " ( ما الأدب ص 25 ) . وقد أبدى سارتر أسفه على لا مبالاة بلزاك تجاه أحداث عصره ، وعلى عدم الفهم ، وعلى الخوف أيضاً الذى أبداه فلوبير تجاه حكومة الكوميونة ، فضلاً عن أنه اعتبر فلوبير والأخوين جونكور مسئولين عن القمع الذى أعقب حكومة الكوميونة، لأنهما لم يكتبا حرفاً واحداً.
المسألة ـ فى تقدير بريخت ـ ليست مجرد تفسير العالم ، بل تغييره ، وعلى حد تعبير كافكا فإن رسالة الكاتب هى أن يحول كل ما هو معزول ومحكوم عليه بالموت ، إلى حياة لا نهائية ، أن يحول ما هو مجرد مصادفة إلى ما هو متفق عليه مع القانون العام " إن رسالة الكاتب نبوية " .
بالنسبة لى ، فإن الكتابة قضية حياة ، وليست مهنة . وكما أشرت سلفاً ، فقد بدأت الكتابة دون أن أفكر : لماذا أكتب ؟. العقاد يؤكد أن الأديب يكتب لأن له رسالة ، ورسالة الأديب هى رسالة الحرية والجمال ، قلمه يجب أن يصبح سلاحاً ضد الديكتاتورية والاستبداد . ذلك مجمل ما يجيب به العقاد عن السؤال : لماذا يكتب الأديب ؟ ، يذكرنى بأول ما أصدرته من كتب مطبوعة ، اسمه " الملاك " ، من الصعب تصنيفه ككتاب ، فعدد صفحاته ستة عشر بالتمام والكمال ، فهو إذن أقرب إلى الكراسة أو الكتيب فى أفضل الأحوال ، محاولة غلبت عليها السذاجة ، وارتكزت إلى التقليد ، مهدت لها بكلمات مشابهة لكلمات العقاد ، وإن لم أكن وقتذاك قد صادفت كلمات العقاد فيما أتيح لى قراءته من كتب . أما الكلمات فهى : الحق ، الحرية ، الحب . ومع أنى لا أذكر الظروف التى كتبت فيها هذه الكلمات ، ولا بواعث كتابتها ، فضلاً عن أنى لم أكن أفهم دلالاتها جيداً ، وإن أمليتها على قلمى .. مع ذلك ، فإنى حين أتدبر هذه الكلمات الآن ، أجدها واضحة فى إطار اهتماماتى الفكرية .
الرواية ـ فى تقدير دوبريه ـ " ذلك الشكل الأدبى الذى يؤدى دور المرآة للمجتمع ، مادتها الإنسان ، أحداثها مبعثها صراع الفرد ضد الآخرين ، للملاءمة بينه وبين مجتمعه ، وينتج عن ذلك الصراع خروج القارئ بفلسفة ما ، أو رؤيا شمولية للروائى " . أرفض دعوة ناتالى ساروت بأن تتحرر الرواية من كل هدف أخلاقى أو اجتماعى ، وأعتبر الكاتب ـ بدرجة وبأخرى ـ موقفاً فى عصره . أستعير من د . هـ . لورنس قوله " بما أن الإنسان يصور العالم من منطلق نظرى ، فمن المطلوب أن يكون لكل رواية خلفية أو مخطط لنظرية عن الوجود ، شيء ميتافيزيقى ، لكن ذلك الشيء الميتافيزيقى عليه أن يخدم الهدف الفنى دوماً، ويختفى وراء وعى الفنان ، وإلا تحولت الرواية إلى دراسة " . وأذكر أن دعوت ـ فى سن باكرة ـ نسبياً ـ إلى ضرورة أن يتضمن مجموع أعمال كل أديب فلسفة حياة ، نظرة شاملة مجتمعية وسياسية وثقافية وميتافيزيقية . كتبت فى " المساء ( 8/9/1960 ) بعنوان " فلسفة القصة " : لو نظرنا إلى أعمال أعظم روائى فى الشرق العربى الآن ـ نجيب محفوظ ـ لأخذتنا الروح الشعبية الصميمة ، واللمسات الإنسانية التى تنبض فى كل سطورها . لكن هذه الأعمال جميعاً لا تريد أن تقول شيئاً محدداً ، فالثلاثية ـ مثلاً ـ اعتبرها بعض النقاد تخطيطاً جغرافياً وتاريخياً ناجحاً للإقليم المصرى [ اسم مصر حينذاك ] إبان ثورة 1919 ، هى صورة اجتماعية صادقة لحياة العصر ، لكنها تفتقر إلى الفلسفة الواضحة التى تعكس نظرة الكاتب إلى الحياة [ راجعت هذا الرأى فيما بعد ، وتوصلت إلى قناعات مغايرة ، أثبتها فى كتابى نجيب محفوظ ـ صداقة جيلين ] والواقع أن كل قصاصينا ، الكبار والصغار [ التعميم مبعثه حماسة الشباب ] ليست لديهم فلسفة معينة ، يمكن أن نحس بها فى كتاباتهم ، كل ما نلاحظه ونحن نخرج من قراءة أية قصة ، أن قاصنا يريد أن يحكى حكاية ، يريد أن يفض عن نفسه تجربة عاشها وعاناها ، أما ما هو الذى يريد أن يقوله من خلال هذه الحكاية ، فلا شيء على الإطلاق " .
أعمال أى مبدع يجب أن تشكل وحدة متكاملة " يوضح كل مؤلف منها مؤلفاته الأخرى، وكل منها يرى وجهه فى الآخر " . أزيد فأزعم أنى حاولت منذ تلك اللحظة ـ مجموعتى القصصية الأولى ـ والأسوار ـ روايتى الأولى ـ أن أحقق ـ بتوالى ما أكتبه ـ تلك الوحدة المتكاملة . ما أنشده فى مجموع كتاباتى ـ ومجموع كتابات الآخرين أيضاً ـ أن ينطوى على فلسفة حياة متكاملة . أن يعبر مجموع أعمال فنان ما عن صورة العالم لديه بما يختلف عن صورته فى نظر الآخرين . الأدب غير الفلسفة ، لكنه ـ فى الوقت نفسه ـ تصور للعالم ، يرتكز إلى درجة من الوعى ، وإن صدر عن العقل والخيال والعاطفة والحواس . طريقة الفيلسوف هى التنظير والتحليل والإقناع ، والصدور عن العقل ، والاتجاه كذلك إلى العقل . أما طريقة الأديب فهى العاطفة والخيال والحواس ، والصدور عن ذلك كله إلى المقابل فى الآخرين ، من خلال أدوات يملكها الأديب ، وتتعدد مسمياتها ، كالتكنيك والتطور الدرامى والحوار واللغة الموحية وإثارة الخيال إلخ . وإذا كنت أومن بوحدة الفنون ، وأن على كاتب الرواية ـ مثلاً ـ أن يضم إلى معارفه وأدوات ثقافته : القصة القصيرة والمسرحية والفن التشكيلى والموسيقا والسينما وغيرها من الفنون ، فإنى أومن ـ بالدرجة نفسها ـ بضرورة أن يقرأ الأديب فى الفلسفة ، يتأمل معطياتها ، يناقشها ، يحاول أن تكون له فى ذلك وجهات نظر . بعض كتاب القصة يعنون بالشكل السوريالى فى أعمالهم ، فإن شاهدوا لوحة سوريالية ، وقفوا أمامها فى تحير ، وربما أعرضوا عن مشاهدتها ، وثمة شعراء لا يجدون فى الأعمال الروائية ما يستحق عناء القراءة ، وسماع الموسيقا الكلاسيكية همّ ينأى عنه غالبية المبدعين [ أذكرك بمقدمة يحيى حقى البديعة لكتابه : تعال معى إلى الكونسير ] . ولعله يمكن التأكيد كذلك على أن نظرة الغالبية من أدبائنا إلى الفلسفة تحتاج إلى مناقشة ، وإلى تقويم ، والزعم بأن الفلسفة ـ وربما الثقافة بعامة ـ تفسد الموهبة ، وتسئ إلى التلقائية والبساطة والشاعرية التى ينبغى أن ينهض عليها العمل الفنى .. ذلك الزعم غير صحيح ، لأن مجرد استقراء تاريخ المشاعل فى حياتنا الأدبية يؤكد أن الحصيلة المعرفية ، والتأمل ، ومحاولات التوصل إلى صورة خاصة للعالم ، كانت هى الدعامات التى استندت إليها أعمال هؤلاء الأدباء . بل لقد أفادت الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرها من العلوم النظرية والتطبيقية ، من أعمال أدبية لسوفوكليس وشكسبير وديستويفسكى وعشرات غيرهم ، أثروا الحياة الإنسانية بمعطياتهم . وفى المقابل ، فإن المذاهب الفلسفية كانت هى النبع الذى ارتوت منه المراحل الأدبية المختلفة . وضع الفلاسفة وعلماء النفس نظرياتهم ، فبدت أعمال هؤلاء الأدباء ـ أحياناً ـ كأنها تطبيقات لتلك المذاهب [ السراب وعقدة أوديب مثلاً ] . وأفادت الأعمال الأدبية كذلك من قوانين الوراثة [ ثلاثية نجيب محفوظ مثلاً ] ، ونظرية التطور ، ونظريات علم الاجتماع ، وعلوم البيئة . وباختصار ، فإن دراسة الفلسفة ـ كجزء من عملية التحصيل الثقافى ، ينبغى أن تكون هماً لكل أديب ، يحاول أن يشكل ـ من خلالها ـ آراءه ونظرته وتصوراته للعالم الذى يعيش فيه . إنها ـ بالقطع ـ ليست ترفاً قد تستغنى عنه موهبة الأديب ، لكنها ضرورة .
لم يعد دور الأدب فى المجتمع من القضايا المطروحة فى حياتنا الثقافية . وإذا كنا قد شغلنا ـ زمناً ـ بقضية : هل الفن للفن ، أو الفن الحياة ، ودارت فى ذلك مناقشات عقيمة منذ مطالع الخمسينيات إلى مطالع السبعينيات ، فإن دور الأدب فى المجتمع الآن ، ودور الأديب بالتالى ، مما يصعب إغفاله ، أو التهوين منه ، بل ومما يصعب مناقشته ، لأنه دور قائم ومؤكد . الأديب لا يكتب لنفسه ، ولا تنطلق إبداعاته من فراغ ، ولا تنطلق إلى فراغ كذلك ، لكنه يعبر ـ على نحو ما ـ عن هموم قد تكون مجتمعية أو سياسية ، أو حتى ميتافيزيقية ، لكنها هموم تشغله ، وتلح عليه ، وتعبر عن نفسها فى أعماله الإبداعية . وتحديداً ، فإن لى موقفاً ـ أتصوره واضحاً ـ من القضايا الإنسانية والاجتماعية . هذا الموقف يبين عن نفسه فى مجموع ما صدر لى من كتابات . ثمة وشيجة تربط روايتى " الأسوار " مثلاً ، بقصة " التحقيق " برواية " قاضى البهار ينزل البحر " ، ورواية " المينا الشرقية " إلخ . وثمة وشيجة أخرى تربط روايات الشاطئ الآخر ، وزمان الوصل ، وصيد العصارى ، وزوينة " إلخ . ووشيجة بين من أوراق أبى الطيب المتنبى ، و " الأسوار ، وإمام آخر الزمان ، والنظر إلى أسفل ، والخليج ، واعترافات سيد القرية ، وحكايات الفصول الأربعة ، ورجال الظل ، وكوب شاى بالحليب . ووشيجة تربط بين زوينة ، وصيد العصارى ، و زمان الوصل ، وذاكرة الأشجار . وثمة وشيجة تربط بين رباعية بحرى ، وأهل البحر ، ونجم وحيد فى الأفق ، ومواسم للحنين ، ومجموعة ما لا نراه ، والكثير من القصص القصيرة ، إلخ . ربما تناولت الفكرة نفسها ، الموضوع ذاته ، فى أكثر من عمل . يختلف الحدث والتناول ، لكن الفكرة تتردد فى محاولة ـ غير متعمدة ـ لتأكيد نظرة بانورامية شاملة . ولعلى أفضل أن يتناول النقد أعمالى بصورة كلية ، كل عمل يشرح ويفسر ما قد يكون غامضاً فى أعمال أخرى ، من المهم أن نتنبه إلى الفرق بين السؤال : ماذا يريد الفنان فى هذا العمل ، وبين السؤال : ماذا يريد الفنان فى مجموع أعماله ؟ . مجموع الأعمال يعكس نظرة شاملة ، فلسفة حياة ، تحول الجزئيات إلى بانورامية تزخر بالتفصيلات.
إن غاية ما تطمح إليه أعمالى ألا يظل قارئها كما هو بعد قراءتها ، وإنما يشعر بالحصار ، بالاستفزاز ، بالتحدى ، وأنه يواجه فقدان الحرية مثلما واجهه بطل القصة ، أو يواجه القهر كما واجهه بطل القصة ، أو الظلم والكبت والتهديد ، ويعانى المطاردة [ الإحساس بالمطاردة يعاودنى طول الحياة . تختلف بواعثه ، لكنه قائم ، متجدد ، أعانى تأثيراته ، أحاول التخلص منها ] ، ومن ثم ، فإنه يشعر بوجوب التحرك ، وأن يفعل شيئاً لمجابهة الخطر القائم ، أو المحدق . ثمة وحدة ما ـ موجودة ، أو أتوق لتحقيقها ـ يشكّلها مجموع أعمالى . ولعل العنوان الرئيس الذى يعلو مفردات نظرتى الشمولية هو المقاومة ، المقاومة ضد كل قبيح وزائف ومتسلط وعدمى وقاهر للإرادة الإنسانية . قد أكون مخطئاً فى هذا المعنى ، لكنه المعنى الذى ناقشته ـ بينى وبين نفسى ـ واطمأننت إليه ، ساعد على ذلك قراءاتى الشخصية ، المتأملة ، لأعمالى ، وملاحظات النقاد حول تلك الأعمال . وكما أشرت ، فربما تناولت الفكرة نفسها ، الموضوع ذاته ، فى أكثر من عمل ، رواية ، أو قصة قصيرة . وإذا كان فيتزجرالد يرى أن على الكتاب أن يكرروا أنفسهم على الدوام ، فإن هذه ـ فى تقديرى ـ هى الحقيقة . ثمة فى حياتنا تجربتان أو ثلاث ، كبيرة ومثيرة ، نحن نرويها فى كل مرة ، بقناع جديد ، عشر مرات ، وربما مائة مرة ، وبقدر ما نجد أناساً يصغون إلينا . ولعلى أنفى عن ماركيث ما يبدو مبالغة فى قوله إن الروائى لا يؤلف غير رواية واحدة فى حياته ، ويصدر له العديد من الروايات تحت الفكرة نفسها ، وإن حملت عناوين أخرى مختلفة . ومنذ أصدر سارتر عمله الأول " الغثيان " ( 1938 ) فإن كل ما كتبه كان يلح فى اكتشاف حرية الإنسان ، وعدم جدواها : " لماذا أنا حر ؟ " . أذكر أنى أشرت فى حوار مع ناقد صديق إلى تشابه " القضية " فى العديد من كتاباتى ، فلما أعاد الناقد ملاحظتى فى إحدى الندوات ، ثار عليه معظم الحضور ، رأوا فى كلماته قسوة متجنية ، وتغلب الشعور بالامتنان للأصدقاء الأدباء ، على تفهمى للورطة التى أوقعت فيها ـ بحسن نية طبعاً ـ صديقى الناقد ، فلو أنى احتفظت بملاحظتى لنفسى ، ربما غابت عن كلماته ، ولم يواجه ثورة الحضور . مع ذلك ، فإنى أطمئن إلى ملاحظتى ، وأجد أنها سليمة فيما يتصل بالكثير مما كتبت ، وبالكثير مما كتبه أدباء آخرون أدين لهم بالأستاذية ، مثل إبسن الذى ركز فى معظم مسرحياته على موقف الفرد من المجتمع ، وتشيخوف فى تفرد غالبية إبداعاته بمناقشة " العمل " كضرورة حياة ، فراراً من خواء النفس ، وخواء الأيام ، وبرنارد شو وتحدد معظم كتاباته فى مناقشة الفوارق بين المثالية التى لا تجاوز إطار الأحلام ، والبرجماتية التى قد تهمل المبادئ والمثل ، فالنجاح ـ بكل السبل ـ هو ما تسعى إليه ، وأدباء آخرون ، أشرت إليهم فى مواضع سابقة ، أو تالية .
وإذا كان أوجست رودان يؤكد أن " الحياة هى العمل ، وكائنة ما كانت العبقرية الموهوبة ، فلا شيء ينمّيها ويصقلها غير مواصلة العمل " ، فإن قيمة العمل تتبدى بعداً أساسياً فى العديد من أعمالى . فى " الأسوار " بادرت سلطات المعتقل إلى منع التعذيب وطوابير العمل ، وتواصلت الأيام بالنزلاء متشابهة ، يؤرخ لتواليها أحداث تافهة ، حتى أعلن النزلاء ـ فى محاولة لطرد الملل ـ رغبتهم فى الخروج إلى الوادى ، زراعة الأرض أهون ملايين المرات من الثرثرة فى اللاشيء ، والتحديق فى اللاشيء ، وترقب اللاشيء . وفى نجم وحيد فى الأفق يرفض البطل حياة الدعة والنعيم ، ويتوق للعودة إلى مهنته التى طالما ضايقته . ومن الأقوال التى أستحضرها ـ دوما ـ ما كتبه تشيخوف " لو أن كل إنسان فى العالم صنع كل ما فى استطاعته ، فى أرضه الخاصة ، لغدا العالم رائعاً " .
ولعل أهم " القضايا " التى حاولت مناقشتها فى أعمالى ، ذلك السؤال عن صلة المثقف بمجتمعه : هل يؤدى ما عليه ، باعتباره واجباً لا يرجو فيه مقابلاً ، أو أنه من المفروض أن يشعر مواطنوه ، ويشعر هو أنهم شعروا ، بهذا الدور ؟. كما تناولت ـ فى بعد آخر لصلة المثقف بمجتمعه ، دور الأعوان فى صناعة الطاغية ، بداية من رواية " من أوراق أبى الطيب المتنبى ، إلى رواية رجال الظل ، مروراً بقلعة الجبل ، وزهرة الصباح ، وإمام آخر الزمان ، واعترافات سيد القرية ، وما ذكره رواة الأخبار عن سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله ، وغيرها .
(يتبع)

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:27 PM
والوقوف على أرضية الصفر ، بمعنى مواجهة الخطر ، وتحديه ، هو ما يلجأ إليه أبطال رواياتى ، عندما تحاصرهم الأزمة تماماً . يترددون فى البداية ، تنهكهم المطاردة ، يحاولون الاختباء أو الفرار أو التجاهل ، لكن الخطر يدفعهم ـ فى النهاية ـ إلى تحديه ، إلى مواجهته ، ومقاومته . فى روايتى الصهبة يقول الهاجس لمنصور سطوحى : لكى تفر مما يشغلك ، اقذف بنفسك داخله . وكان الوقوف على أرضية الصفر هو سر صمود بكر رضوان فى " الأسوار ، وسر حفاوة " الأستاذ " بالمصير المحتوم . وقد أذهل محمد قاضى البهار مطارديه ، وهو يصفّر ، ويغنى ، فى طريقه إلى البحر ، ليقذف بنفسه فيه . ومثلت مواجهة عائشة للسلطان خليل بن الحاج أحمد لحظات الحسم فى إصرار السلطان على أن ينتزع عائشة من المدينة ، لتقيم معه فى قلعة الجبل . واستطاعت زهرة الصباح أن تحيا فى ظل الخوف ، وتحب ، وتنجب . وفى " الجودرية " تأكد دور المهمشين فى صناعة الثورة ضد حملة بونابرت . وصارت الشقة المطلة على البحر فى البحر أمامها وطناً أعدت السيدة نجاة نفسها للدفاع عنه . وقد أراد بطل قصتى القصيرة المستحيل بإغلاق الأبواب والنوافذ ، وتكويم قطع الأثاث وراء الأبواب والنوافذ المغلقة ، أن ينأى عن الخطر فى خارج البيت ـ فعل مشابه لمد الأيدى أو إغماض العينين ـ اتقاء مواجهة ما يهدد الحياة . تناسى الرجل أن الخطر الذى يتحرك فى الخارج ، يهدد ، ويدمر ، إنما يستهدفه هو فى الدرجة الأولى . وفى قصة فى الشتاء يعانى البطل الفرار من المجهول ، فإذا تحتمت المواجهة ، بدا المجهول لا شيء لقاء إصرار البطل على المقاومة . وفى حدث استثنائى فى أيام الأنفوشى بدا السكوت عن مقاومة أسراب السمان ـ التى قاسمت أهل بحرى حياتهم ـ طريقاً إلى الجنون .
وبالطبع ، فإن هذه الأعمال مجرد أمثلة .
***
أذكر لأستاذنا زكى نجيب محمود قوله : " إنه ليكفى الكاتب العربى أن تكون أحداث العصر قد ألقت فى وجهه شيئاً اسمه إسرائيل ، لتكون وجهة نظره إلى مشكلات العصر وحوادثه ، مختلفة أشد اختلاف مع زملائه الكتاب من الجماعات التى اقترفت فى حقه هذا الجرم ، حين ينظر معهم إلى مسائل العصر وحلولها " ( العربى ـ يناير 1971 ) . كانت يا سلام أولى قصصى المنشورة ( 1958 ) هى التعبير عن انعكاس تجربة الحرب [ حرب 1956 تحديداً ـ على حياة البسطاء ، كما سجلها شاب فى حوالى الثامنة عشرة . ثم أصبحت مصر هى " القضية " فى كل ما كتبت ، مصر الماضى ، والحاضر ، واستشرافات المستقبل ، ما يعجز الفن عن تسجيله ، فإنى أحاول أن أناقشه فى دراسات . وقد أشرت فى مقدمة كتابى " مصر فى قصص كتابها المعاصرين " إلى أن من بين الأسباب التى دفعتنى لتأليفه ، والابتعاد ـ لسنوات ـ عن الكتابة الإبداعية ، تأكيد الصداقة بين الكاتب وبلاده ، بالتعرف المباشر ، وبالقراءة التى تشمل جوانب الحياة المصرية ، بكل اتساعها وخصبها وثرائها . العجوز فى يا سلام تأثرت حياته بنتائج الحرب ، لكن السلام الزائف أخطر ـ فى تقديرى ـ من الحرب ، عندما يوهمك عدوك أن المعارك بينك وبينه قد انتهت إلى الأبد ، وتعانق الوهم ، فى حين يصرف العدو جهده إلى الإعداد للحرب الحتمية ، القادمة . ثمة قول فى سفر التثنية ( الإصحاح العشرون ـ الفقرة العاشرة ) " حين تقترب من مدينة لكى تحاربها ، استدعها إلى الصلح " . الصلح غير العادل ـ كما يقول القانونى فاتيل ـ ظلم لا تتحمله أية أمة إلا لافتقارها لوسائل نقضه ، وإحقاق حقها بالسيف . القضية المحور التى تشغلنى منذ سنوات ، هى مستقبل الصراع العربى الإسرائيلى : الحياة والبقاء والموت ، الكينونة وانعدامها ، الاستمرار والانقطاع . تلك هى القضية التى تسبق فى اهتماماتى ما عداها من قضايا ، لأنها قضية المصير العربى فى إطلاقه . ألح فى أن أدب المقاومة ليس وقفاً على التحريض ضد المستعمر الذى يسعى إلى احتلال أرضى , وتشويه حضارتى وقيمى وموروثاتى وملامح شخصيتى بواسطة أدوات قد يكون من بينها معاهدة سلام . السلام مطمح ، لكنه ـ بالتأكيد ـ ليس ذلك السلام الذى يدفع أحد طرفى النزاع إلى الاطمئنان للغد والمستقبل ، والاطمئنان كذلك إلى النيات المقابلة ، بينما الطرف الآخر يدبر ويخطط ، بل وينفذ ـ علناً وسراً ـ تدبيراته . الحذر إذن مطلوب ، والتنبه إلى الغزو السلمى ، بأبعاده الاجتماعية والثقافية ، يستوجب التعرف إلى الشراك الخداعية فى حقول السلام . أشير إلى رواياتى : النظر إلى أسفل ، ومن أوراق أبى الطيب المتنبى ، والمينا الشرقية ، وصيد العصارى ، ومجموعات : هل ، وحارة اليهود ، وموت قارع الأجراس ، ورسالة السهم الذى لا يخطئ ، وغيرها .
***
ثمة قضايا أخرى ، آنية ، مثل قضايا التخلف : غلبة الاستهلاك على الإنتاج ، محدودية المسار الديمقراطى ، زيادة أعداد الأميين ، انعدام الوعى السياسى والبيئى ، الزيادة غير المسئولة فى النسل ، وغيرها من المشكلات التى قد لا تكون فى صميم مسئوليات المبدع ، لكنها ـ فى الدرجة الأولى ـ قضايا المجتمع الذى يعيش فيه ، ولابد أن ينشغل بها على المستويين الشخصى والعام ، و تتوضح فى أعماله ، بصورة وبأخرى ، على أن تنتسب هذه الأعمال إلى الفن ، وترفض الجهارة والمباشرة . فى قصتى " الرائحة " يقول الطبيب : غلطتان كفيلتان بتقويض أية ثورة .. زيادة أعداد الأميين وغياب الديمقراطية . المثل الشعبى يقول " السجن سجن ولو فى جنينة " ، وغياب الديمقراطية معناه تحول المجتمع إلى سجن ، قد يكون مزوداً بكل الضروريات ، وقد يوفر لنزلائه وسائل الراحة ، لكنه يظل ـ فى النهاية ـ سجناً . الديمقراطية تعنى الرأى والرأى الأخر ، مناقشة المحكوم للحاكم ، التعبير عن وجهة النظر دون خشية من مصادرة أو اعتقال .
***
هنا يفرض السؤال نفسه : كيف تدعو إلى فلسفة الحياة فى العمل الفنى ، وتناقش ـ فى الوقت نفسه ـ صورة المجتمع فى القصة والرواية ؟
ظنى أن انشغالى بضع سنوات فى إعداد الأجزاء الثلاثة من كتابى " مصر فى قصص كتابها المعاصرين " ـ كأول محاولة تطبيقية فى علم الاجتماع الأدبى ـ يؤكد أهمية أن تعبر القصة عن المجتمع الذى صدرت عنه ، وصدرت فيه . لكن العمل الفنى الحقيقى هو الذى يتناول مشكلات آنية فلا يفقد جوهره ولا جودته بغياب تلك المشكلات ، ولا يموت بموتها . ثمة أعمال إسخيلوس وسوفوكليس وشكسبير وموليير وبلزاك وزولا وفلوبير وديكنز وإبسن ونجيب محفوظ وغيرهم ، كانت تعبيراً ملحاً عن قضايا مجتمعها ، لكنها ـ من بعد ـ تجاوزت " الآنية " لتعنى باهتمامات الإنسان الباقية ، وتجيب عن أسئلته المهمة . لذلك فإن المبدع الذى يدرك قيمة الفن ، يتحفظ على الإبداعات التى انشغلت باللحظة الآنية ، فتجردت من الديمومة التى تهب العمل الفنى استمرار الحياة . صارحت أستاذنا نجيب محفوظ ـ عقب نكسة 1967 ـ بإشفاقى من أنه يعنى بالتعبير ـ فيما سماه مسرحيات ذات فصل واحد ـ عن التطورات السياسية والاجتماعية ، التى ربما تتصل بالطارئ والمؤقت ، بحيث تنتسب ـ فى المستقبل ـ إلى التاريخ بأكثر من أن تنتسب إلى الفن . قال لى محفوظ : إن لدى استعداداً لأن أكتب عملاً من هذا النوع ، ولظروف سياسية أحب أن أمارس دورى فيها ، حتى لو قدر لهذه المسرحية أن تموت فور انتهاء المناسبة التى كتبت فيها . لقد عنى ـ على حد قوله ـ بالتوصيل قدر اهتمامه بالتعبير . وكان لذلك بواعثه الملحة ، وهى أن مصر كانت تحيا فى ظل نكسة ، ومع تفهمى لقول سارتر " إننى أكتب لزمنى ، لا يهمنى من يأتون بعدى " ، فإن العمل الإبداعى يختلف ـ بعامة ـ عن الوثيقة التى تخاطب اللحظة المعاشة .
***
صلتى بعملى الأدبى ، وفهمى له ـ بعد أن يجد سبيله إلى النشر ـ يجب ألا تجاوز صلة الآخرين به ، وفهمهم له ، بمعنى أنه ينبغى ألا أتصور فى نفسى قدرة على تفسير العمل ، وفهم دلالاته ، أكثر من الآخرين . وبالتأكيد ، فإن الفنان ليس أقدر الناس على الإحاطة بعمله ، بل إنه قد يكون أبعد الناس عن ذلك . ولأن المتنبى كان ذكياً وفاهماً ، فقد كان جوابه على السائلين عن شعره : عليك بابن جنى ، فإنه أعرف بشعرى منى !. وكان أبو الفتح عثمان بن جنى هو شارح ديوان المتنبى وناقد شعره . على الفنان أن يطرح الأسئلة طرحاً صحيحاً ، لكنه ليس مطالباً بأن يجيب على ما يطرحه من أسئلة . وكما يقول تشيخوف ، فإنه ما من سؤال واحد قد أجيب عليه ، أو وجد حلاً ، فى رائعة تولستوى " أنا كارنينا " ، لكن الرواية ترضينا تماماً لأن كل الأسئلة قد طرحت طرحاً صحيحاً . مهمة المبدع أن يطرح القضية طرحاً جيداً ، وإن كان عليه ـ فى الوقت نفسه ـ أن يظل الطرح بلا حل ، تظل النهاية مفتوحة . فإيجاد الحل هو مهمة المتلقى . إن عليه ـ فى المقابل ـ أن يبذل جهده , ويفكر فيما طرحه المبدع . إنى أكتفى ـ فى نهاية كل قصة ـ وأحياناً فى ثنايا القصة ـ باللمحة الدالة التى تخاطب ذكاء القارئ , وعيه ، تراثه الروائى والقصصى ، لا تفرض عليه استنتاجاً أو رأياً . الكثير من سردى الفنى ينتهى بصيغة السؤال ، أو التساؤل . أذكر قول أندريه جيد " إن واجب الكاتب أن يوجه الأسئلة للقارئ ، ويحاصره ، ويدفعه إلى الإجابة " . كذلك فإنه من حق المتلقى ـ بصرف النظر ما إذا كان ناقداً متمرساً أم قارئاً عادياً ـ أن يستنبط من العمل ما يشاء من القيم والمعانى والدلالات مادامت طبيعة العمل تحتم ذلك ، وليس المطلوب من كل غواص أن يستخرج من البحر ما استخرجه الآخرون .
الفعل الإبداعى لحظة ناقصة ، لا تستكمل إلا بالمتلقى الذى تستكمل اللحظة بتلقيه . قراءة النص إعادة خلق له . بل إن النص المتفوق هو ما يجاوز الدلالة المغلقة ، ليطرح العديد من الدلالات . من حق قارئ العمل الأدبى ـ ومن واجبه أيضاً ـ بصرف النظر عن مدى ثقافته ، أو تخصصه ـ أن يستنبط من العمل ما يشاء من المدلولات ، التى يجد أن العمل يحتمل التعبير عنها . بل إن تصور التفسير الواحد لعمل ما ، ينزع عن ذلك العمل صفة الديناميكية التى تعد سمة أساسية فى العمل الفنى . وكما يقول رينيه ويلك فإنه لو قدر لنا أن نسأل شكسبير عن المعنى الذى قصد إليه من كتابة " هاملت " لما كان فى جوابه ما يشفى الغليل ، مع ذلك فنحن نجد فى هاملت ما قد يكون ـ فى الأرجح ـ بعيداً عن ذهن شكسبير ".
العمل الفنى الجيد هو الذى يحتمل العديد من التفسيرات ، تعدد التفسيرات دليل على خصوبة العمل ، وعمقه ، بشرط أن تصدر كل التفسيرات من داخل العمل ، ولا تفرض عليه من الخارج ، أو تستنطقه بغير ما يقول .
***
يقول أرسكين كالدويل : " إن واجب الكاتب والتزامه يجب أن يكون أمام نفسه ، وأمام قارئه " .
الالتزام لا أرفضه ، ولعلى أوافق عليه . أما الإلزام ، فإنه يعنى القضاء على ملكة الإبداع ، وهى ملكة " فردية " لا تستطيع أن تتحقق ، وتنطلق ، إلا فى جو من الحرية . الإلزام فى الفن يعنى ـ بأبسط عبارة ـ القضاء على موهبة الفنان ، فهى لا تحيا وتزدهر إلا فى الحرية المطلقة . التزام الفنان ينبع من داخله ، من ذاته ، من نظرته إلى الأمور ، وفهمه لها ، وإيمانه بالقضية التى يعالجها ، وفى كل الأحوال ، فإن ذلك الالتزام ينبغى أن يتحرك فى دائرة الفن . وقد أعلن كامى ـ يوماً ـ أنه ضد الالتزام ، إن كان الالتزام يعنى ارتباط الفنان بصانعى التاريخ الذين يغنون على مؤخرة السفينة للقمر والنجوم ، بينما سياط جلاديهم تسلخ شعوبهم فى قلب السفينة نفسها . بل إن الكاتب ـ إذا كان قد اختار مهنته عن اقتناع ، وبجدية ووعى ـ لا يستطيع أن يصمت ، إلا إذا اعتبر الصمت مظهراً من مظاهر الكلام . الأدق : مظهراً من مظاهر رفض الكلام ، لأن الضغوط لا تتيح له أن يتكلم بصورة طبيعية ، وبما يمليه عليه ضميره . وكما يقول سارتر فإذا " تناولت هذا العالم ، بما يحتوى عليه من مظالم ، فليس ذلك لكى أتأمل هذه المظالم فى برودة طبع ، بل لكى أراها حية بسخطى ، أكشف عنها، أبعثها مظالم على طبيعتها ، أى مساوئ يجب أن تمحى " .
وبالنسبة لأوضاع مجتمعاتنا العربية ـ التى لا تجاوز الديمقراطية فيها دائرة التمنى ! ـ فلعلى أزعم أنى أتفهم قول تورجنيف : " يجب على الكاتب ألا يفقد شجاعته ، وإنما عليه أن يمضى فى بسالة إلى النهاية ، فلنرفع رءوسنا إذن فوق الأمواج ، حتى تجتذبنا الأعماق تماماً " . بوسع الكاتب ـ كما يقول الفرنسي بريسباران ـ أن يصمت ، " ومادام قد اختار أن يطلق رصاصاته ، فإن عليه أن يتصرف كرجل ، يصوب إلى الأهداف الحقيقية ، ولا يفعل كطفل يطلق رصاصاته عشوائياً ، وهو مغمض العينين ، لا ينشد سوى سماع صوت انطلاق الرصاصات " .
ليس المهم أن أردد الشعارات الباهرة عن الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وغيرها ، المهم أن أومن بذلك ، أن تتطابق تصرفاتى مع أومن به . الكتابة الحقيقية فى عصرنا نوع من الشهادة ، والكاتب الحقيقى يصرعه رصاص كلماته ، وإن كنت أومن بأن المستقبل للإنسان .
..............
1985

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:28 PM
القصة تكتب نفسها
...........................

" إن الفنان الحقيقى يهب نفسه كلها للفن "
بوشكين
" للفنان عالم خاص يملك مفتاحه هو وحده "
أندريه جيد
إن الفن يزلزلنى ، عبارة لفلوبير ، أتذكرها كلما أنهيت عملاً ما . كانت الكتابة ـ فى تقدير فورستر ـ أمراً مريحاً ، وأعلن دهشته لعبارة " آلام الخلق " . وأكد مورافيا أنه يكتب ليسلى نفسه . والكتابة ـ عند الكثيرين ـ هى مجرد تسلية . يغيظنى قول أحدهم ، رداً على اعتذارى عن موعد بأنى مشغول : يعنى مشغول فى ايه ؟. والكتابة : أليست مشغولية ؟ أليست هما يجب حشد النفس له ؟. أذكر عجب جون برين من افتراض الناس أن الكتابة لا تعدو ضرباً من السحر ، وأنها تخلو من الجدية . عذر الفتاة مقبول إذا تحدثت عن انشغالها بغسل شعرها ، أما عذر الانشغال بالكتابة فهو غير مقبول . وحين سئل وليم ستايرن : هل يستمتع بالكتابة ؟. أجاب : كلا بالقطع !. نعم ، إنى أشعر شعوراً طيباً عندما أجيد ، لكن ذلك الشعور يتخللهالألم الذى أعانيه كلما شرعت ـ كل يوم ـ فى الكتابة . بصراحة ، إن الكتابة جحيم !
اللغة تقول إن الإبداع هو " إحداث شيء على غير مثال سابق " . وإذا كان أندريه جيد قد كتب إبداعاته على أمل أن يجد قارئاً لم يقرأ الأعمال السابقة عليه ، فإن ناتالى ساروت تعلن " يجب ألا نكتب إلا إذا أحسسنا بشيء لم يسبق أن أحس به ، أو عبر عنه ، كتاب آخرون " . ويقول سيزان : " إننى أريد أن أرسم ، وكأن رساماً واحداً من قبلى لم يقم بهذه المهمة " . ولعلى أوافق فلوبير بأن مهمة الرواية الأهم هى أن تبين دائماً عن الجديد . الخطأ الأكبر الذى يقع فيه الروائى هو أن يكون سلفياً ، فيكرر ما اكتشفه ـ من قبله ـ الآخرون . القول بانه لا جديد تحت الشمس يحتاج إلى مراجعة . ثمة الجديد دائماً تحت الشمس ، وكل يوم هو إضافة ـ سلبية أو إيجابية ـ فى حياة الفرد والجماعة ، وفى حياة الكون جميعاً ، وإلا فماذا تعنى آلاف المنجزات التى تقدمها البشرية ، فى توالى الأيام : الكتب والاختراعات والاكتشافات وطرائق التربية والإبداعات الفنية وغيرها ؟. يعجبنى قول جارثيا ماركيث " الكاتب الذى لا يعرف ماذا يعمل ، يسعى دائماً ألا يكون شبيهاً بالآخرين ، لكنه يصبح فى الحال غير متجاهل للكتاب الذين يحبهم ، أفضل من هجرهم نهائياً " . ودلالة قول هيراقليطس " أنت لا تستطيع أن تستحم فى مياه النهر مرتين " واضحة ، فمياه النهر فى جريان دائم ، بحيث يغتسل المرء دائماً فى مياه جديدة .
والحق أنى لا أذكر متى كان تعرفى إلى الإبداع السردى ، كقارئ فى البداية ، ثم كواحد من الذين يطمحون لتقديم إضافة فى هذا المجال . كانت أيام طه حسين هى أول ما أذكره من قراءات مؤثرة ، قرأتها فى حوالى الثامنة من عمرى ، أحببت لغتها فى القراءة الأولى ، ثم ألممت بضمونها فى القراءة الثالثة ، وأفدت ـ بعد ذلك ـ كثيراً من مكتبة أبى . كانت تضم عدداً هائلاً من المؤلفات التى تعنى بألوان المعرفة الإنسانية ، والقصة والرواية ـ بالطبع ـ من بينها . وحين جرى القلم بالمحاولات الأولى ، فإنها لم تكن أكثر من تقليد ساذج لكتابات المنفلوطى والمازنى وهيكل وحقى وعبد الحليم عبد الله ومكاوى وغيرهم من أدباء جيل الرواد ، وجيل الوسط الذين أتاحت لى مكتبة أبى قراءة مؤلفاتهم [ تعرفت إلى نجيب محفوظ فى مرحلة تالية ] . وقد أقدمت فى سن باكرة على إصدار كتابين [ التسمية لا تخلو من تجاوز ] يتبدى فيهما ذلك التأثر بصورة مؤكدة ، وهما الملاك وظلال الغروب . أنت تجد فى كل فقرة ، وكل تعبير ، إفادة من كتابات هؤلاء الكبار . كنت أنفذ ـ دون أن أدرى ! ـ نصيحة د . جونسون " انقل كتابات أدبائك المفضلين حتى تستطيع ـ ذات يوم ـ أن تكتب مثلهم " . كنت فى مرحلة الصبا ، لم أستقر على أسلوب ، وإن تعجلت ـ فى الوقت نفسه ـ أن أكون كاتباً . كانت " الملاك " أشبه بمقال رثائى لأمى التى اختطفها الموت قبل سنوات . أما ظلال الغروب فقد عرضت لقصة حب بين شاب وفتاة . وبالطبع ، فإنى أعتبر هذين النصين من ذكريات الصبا ، بل إنى أتردد كثيراً فى وضعهما تحت تصرف الدارسين ، حتى لا يصدموا فى سذاجات البداية . أما قصة البداية التى أعترف بها ، فهى يا سلام من مجموعة تلك اللحظة . كنت أسير فى شارع شريف ، بالقرب من ميدان محطة الإسكندرية ، عندما استمعت إلى شيخ يبيع الكيزان الصفيح ، يخاطب نفسه بأنه يريد النوم فى أى مكان . ولأن مصر ـ أيامها ـ كانت تواجه عدوان 1956 ، فقد تناولت مأساة الرجل باعتباره ضحية للحرب . ثم كتبت العديد من القصص القصيرة ، قرأها أستاذى أحمد عباس صالح ، فنصحنى بأن أمزق معظمها ، وأنشر أقلها ، وبعضها لم أنشره فى مجموعتى الأولى .
***
يقول نورمان بوردور فى سيرته الذاتية : " الكتابة من أشد الأنشطة الإنسانية غموضاً ، ولا أحد ، حتى المحللين النفسيين ، يعرف القوانين التى تحكم حركتها أو توقفها . فالقصيدة والقصة والرواية والمسرحية والمقالة ، وحتى الدراسة النقدية ، هى هناك ، حتى قبل أن يخط الكاتب كلمة واحدة على الورق . وفعل الكتابة أشبه بالمفتاح السحرى الذى يفتح الباب المغلق ، فيبدأ الإبداع فى التدفق " . وبالنسبة لى فإنى أخشى العمل الفنى قبل أن أبدأ فى كتابته ، يشغلنى ، ويلح على . أقرر ـ مرات كثيرة ـ أن أخلو إليه لأكتبه ، لكننى أتذرع بحجة ما ، فأتشاغل عنه ، وإن ظل يشغلنى إلى حد بعيد . ثم أبدأ فى الكتابة عندما أشعر أن هناك إلحاحاً داخلياً يدفعنى إلى ذلك . ربما انشغلت ، أو تشاغلت ، فتفلت اللحظة الماسبة . وحين أتوهم ثانية أنها قد عادت ، تأتى الكلمات باهتة ، باردة ، كالوجبة التى لم تقدم وهى ساخنة . وفى معظم الأحيان ، فإن البدء والختام فى قصة قصيرة ـ أحرص أن يكون ذلك فى جلسة واحدة ـ تأتى أقرب إلى المفاجأة . ربما تطاردنى الفكرة شهوراً ، فأتناساها وأهملها ، وأنصرف عنها إلى قراءات وكتابات أخرى ، ثم يجرى القلم على الورق دون تعمد . ولعلى أتذكر ملاحظة صامويل باتلر عن أعماله الروائية " إننى لا أضعها أبداً ، إنما هى تنمو ، فهى تقبل على ملحة فى أن أكتبها ، ولولا أننى أحببت موضوعاتها لحزنت ، وما كان لشيء أن يحملنى على كتابتها إطلاقاً . أما وقد أحببت هذه الموضوعات فعلاً ، وأما وقد جاءت الكتابة قائلة إنها تريدنى أن أكتبها ، فقد تململت قليلاً ، ثم كتبتها " ( ت نبيل راغب ) . ويعرّف جورج مور الرواية بأنها " تتابع منظم للحوادث فى أسلوب إيقاعى منظم للعبارات " . ولعلى أعترف أنى أبدأ فى كتابة العمل ، وأواصل الكتابة ، وقد أهملت كل ما قرأته وتعلمته عن الشخصية والحدث والبيئة والصراع والعقدة والذروة والحل ، وغير ذلك من التعريفات التى أعتبرها مخزوناً معرفياً ، أفيد منه بالضرورة ، ودون تعمد ، شأنه شأن الذكريات والتجارب والخبرات والقراءات إلخ ، عفوية الإبداع لا تلغى ثقافة المبدع ، بل إن الثقافة لازمة للمبدع إطلاقاً .
أحياناً ، أهم بكتابة رسالة أو مقال صحفى ، فيتحول ـ منذ البداية ـ إلى القصة التى كانت تشغلنى وتشاغلنى . وعندما أنتهى من كتابة القصة ، فإنى أعيد النظر فيها بين حين وآخر ، حتى أطمئن ـ فى النهاية ـ إلى إمكانية نشرها . فإذا نشرت ، لم يعد لى بها بعد ذلك صلة . ولأن الفكرة حين تختار لحظة تسجيلها تكون أشبه بالمولود الذى لابد أن يغادر بأكمله رحم أمه ، فإنى أكتب بسرعة ، دون توقف . ما يشغلنى هو التدوين فحسب . ربما أتوقف أمام كلمة ، أو جملة ، أو موقف كامله ، فأتجاوز ذلك كله ، وأترك السطور مكانه خالية وأواصل الكتابة ، على أن أعود إلى السطور الخالية بعد ذلك ، فأحاول أن أسود بياضها . بعض أعمالى واتتنى [ هل ، على سبيل المثال ] وأنا فى حلم يقظة ، وحين قرأتها ، لم أضف إليها ـ ولا حذفت ـ حرفاً ، نقلتها على الآلة الكاتبة بصورة الكتابة الأولى [ لم أكن قد تعرفت إلى الكومبيوتر بإمكاناته المذهلة ! ] . كنت أتردد فى البوح بذلك الأمر ، حتى عرفت أنه يحدث للكثير من الأدباء . أذكر قول همنجواى " يحدث لى أحيانا أن أحلم بالسطور نفسها ، وفى هذه الحالة ، فإنى أستيقظ وأكتبها ، وإلا ربما نسيت الحلم تماماً " . كانت كوليت تقضى الصباح كله فى كتابة جملة واحدة . وأنا أفضل أن أترك لهذه الجملة موضعها فى السياق ، ثم أتأملها ، أضعها فى بالى ، أحاول صياغتها فى حياتى العادية : فى البيت ، فى المكتب ، فى الطريق ، حتى إن تشكلت على النحو الذى أطمئن إليه ، ملأت بها الموضع الخالى من السياق . تعمد وصل الجمل بالمعانى الغائبة يضر بالعمل الإبداعى ، فأنت قد تقبل ـ لتكامل النص ـ كتابة ما ، قد يكون فى وعيك أفضل منها . أنا أكتب القصة القصيرة ، أو الفصل فى رواية ، فى جلسة واحدة . لا أترك القلم والورق قبل أن أنهى ما بيدى ، يملى النص ما يحمله . ربما اتجهت الأحداث إلى عكس ما كنت أفكر فيه قبل البدء فى الكتابة ، وربما أبانت الشخصيات عن نقيض ما كنت أتصوره فيها . لا أحاول التدخل ، إنما أترك المسألة برمتها إلى موروثات وقراءات وتأملات ورؤى وخبرات وتجارب . وعلى حد تعبير همنجواى ، فإن همى الأول ـ وأنا أبدأ فى كتابة الرواية ـ هو أن أنجزها . إذا صادفت قلقاً فى بعض المواقف أو التعبيرات ، أو حتى الكلمات التى تهب المعنى ، فإنى أتجاوزها ليظل الخيط متصلاً إلى نقطة الختام ، ثم أبدأ فى رتق [ وأعتذر لردءاة التشبيه ! ] ما أهملته من قبل ، أو يبدو لى غير منسجم مع النص . لا أترك القلم ، أعتبر النص منتهياً إلاّ إذا بدا النص جسماً مكتمل الملامح والقسمات والتكوين ، لوحة فنية متكاملة الأبعاد والألوان والظلال ، قطعة نسيج خلت من العيوب التى تقلل من قيمتها . لا أقصد من ذلك أنى أكتفى بمجرد وضع السواد على البياض ، أو على حد تعبير موباسان " اكتب أى هراء ، ولا يهمنى ماذا يكون ، ثم أنظر فيه بعد حين " . أنا أكتب بالفعل ، أحاول أن أعبر بقدر ما تواتينى الموهبة ، وحضور اللغة ، فإذا استعصى التعبير تركت الجملة ، أو الفقرة ، حتى لا أفقد المواصلة ، ثم أعود إلى النص ، أطيل قراءته ، أعاودها ، أتأمل وأفكر وأضيف وأحذف وأبدل ، حتى أطمئن إلى أنى لم أخطئ فى صياغة جملة ، ولا إلى موضع كلمة ولا حرف . وربما أقدمت على تمزيق النص ، لأن صورة المولود شوهاء ، فلن تجدى إعادة نظر . عموماً ، فإنه يجب أن تكون أمام الفنان فترات للتأمل ، وهذه الفترات عندى حين أقود سيارتى ، أو عند ركوبى المواصلات العامة ، أو لحظات القراءة . تثيرنى معلومة ، فأسرح فيها ، وربما بعيداً عن المعلومة نفسها . قد تأتى لحظات التأمل تحت " الدوش " ، أو فى دورة المياه ، أو حتى أثناء تناول الطعام . إنها تأتى فى اللحظات التى أنعزل فيها ـ دون وعى دائماً ـ عن الآخرين ، أذهب إلى جزر قريبة ، وبعيدة ، أتنقل بين عوالم واضحة وضبابية وهلامية ، فى هذه اللحظات ، تواتينى فكرة الرواية ، أو القصة ، أستكمل الجملة الناقصة ، أحذف الكلمة الزائدة ، وربما الحرف الزائد . قرأت لفيلكس ألكرن إن قلمه كان يجرى على الورق بقدر ما تواتيه السرعة ، فهو يجعل بعض الكلمات إشارات وخطوطاً ، ويملأ الصفحات بما يصعب قراءته . ربما كان خط ألكرن جيداً ، فهو يكتب ـ بسرعة ـ كلمات وجملاً واضحة . أما خطى فهو سيء فى الكتابة العادية ، ويصعب على قراءته ـ أحياناً ـ بعد أن أكتب بسرعة ، ولولا أن عمل زوجتى بالتدريس لأعوام طويلة ، فخبرتها فى الخطوط طيبة ، ولولا أنى أفلح فى القراءة بالتذكر ، فلعلى كنت سأتخلص من الكثير الذى قرأته ، يأساً من قراءته .
***
يعرف بعض الأدباء " الإلهام " بأنه القدرة على أن يخلق المرء فى نفسه أنسب الحالات للعمل . ويقول أوستروفسكى : إننى مقتنع بشيء واحد ، هو أن الإلهام يأتى أثناء العمل ، والكاتب يجب أن يكون كالبناء فى هذا البلد ، أى أن يعمل فى جميع الأجواء ، سواء كانت سيئة أم حسنة " . أنا أتفق مع هذا الرأى تماماً ، فالقضية ليست فى " أنسب الحالات للعمل " ، ولكن فى مدى قدرتناعلى إيجاد تلك الحالة فى النفس . كذلك فإنى أتفق مع الرأى بأنه ينبغى على الكاتب ألا ينتظر حتى يأتيه الإلهام ـ وقد لا يأتيه ! ـ وإنما عليه أن يذهب فيحصل عليه . من الخطأ ـ على حد تعبير جون برين ـ أن ننتظر الوحى قبل الكتابة ، لا لأن الوحى لا وجود له ، بل إنه لا يأتى إلا مع الكتابة . يكفى أن تكون لديك الصورة ، ليس من الحتم أن تكون عالماً بأصل الصورة ، المهم أن تكون لديك الصورة ، وهى لن تكون موجودة ، ومتبلورة إلى حد ما ، ما لم تكن قد اتخذت قراراً بكتابة القصة ـ أو الرواية ـ وهممت بكتابتها . ولعلى أشير إلى قول همنجواى : " فى روايتى العجوز والبحر كنت على علم بأمرين أو ثلاثة من الموقف كله ، لكن لم أعرف القصة ، كما لم أكن أعرف على وجه الدقة ما سيقع من أحداث فى لمن تدق الأجراس ، أو وداعاً للسلاح .
والحق أنى حين أبدأ فى كتابة عمل ما ، فإن صورته فى ذهنى لا تكون واضحة تماماً . إنى أكتفى بالفكرة دون تفصيلات ، وإن توضحت بعض التفصيلات الصغيرة ، لكننى أفضل أن يكتب العمل نفسه ، بمعنى أنى أرفض التحديد الصارم لصورة العمل منذ بداية الكتابة ، حتى لحظة ترك القلم ، ذلك تعسف لا أتصور أنى أقدم عليه . وكما قلت ، فإنى أبدأ الكتابة وصورة العمل غير واضحة الملامح ، فتتوضح معالمها أثناء الكتابة ، لأنها هى التى تهب تلك الملامح ، بإسهام من المخزون الذى أمتلكه من الخبرات والتجارب والرؤى والتصورات . عندما أبدأ الكتابة ، فإنى أعتمد كثيراً على الخبرات ـ خبراتى وخبرات الآخرين ـ الكامنة والمترسبة فى أعماقى . لا أجهد نفسى فى البحث ، ولا أحاول انتزاعها ، إنما أترك للعملية الإبداعية سبيل استدعائها على الورق ، تظهر فى الوقت الذى تريده ، وعلى النحو الذى تريده ، دون تعمد ولا قسر من ناحيتى . وربما تكون الشخصية ، أو الحادثة ، غائبة تماماً ، فلا أتذكرها إلا أثناء عملية الكتابة .
***
(يتبع)

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:29 PM
لفلوبير عبارة شهيرة هى " أنا مدام بوفارى " ، بمعنى أنه عندما نتحدث عن مدام بوفارى ، فإنه كان يتحدث عن نفسه . والمؤكد أنى لست موجوداً خارج أعمالى . ما أكتبه يتضمن وجهاً من وجوه حياتى : قراءة ، مشاهدة ، تجربة ، إلخ . من الصعب أن أجد ذلك فى كل ما كتبت ، مع أنى أجد نفسى فى الكثير مما كتبت . أجد ناساً عرفتهم ، التقيتهم ، صادقتهم ، عايشت خبراتهم وتجاربهم ، ولحظاتهم الهانئة والمأساوية ، أجد العديد من الأماكن والأزمنة التى اتصلت بحياتى ، بصورة وبأخرى . لاحظ الناقد " لاكان " فى دراسة له عن الكاتب الفرنسى الشهير أندريه جيد أن تفصيلات السيرة الذاتية لحياة الكاتب ومنمنماتها ، تشكل بعداً أساسياً فى أعماله الفنية [ لا يخلو من دلالة قول همنجواى ، أنا لا أعرف إلا ما رأيته ] . وأتصور أن هذا هو الدور نفسه الذى تشكله سيرتى الذاتية فيما كتبته ، وأكتبه ، من أعمال . أذكر حين أنهيت قصتى " القرار " مفاجاة القصة لى بأن الشقة التى اختارها الراوى للإقامة بعيداً عن مشكلات أخوته ، هى الشقة نفسها التى أمضيت فيها طفولتى وصبلى إلى بداية العقد الثالث ، فى الطابق الثالث ، البيت رقم 54 شارع إسماعيل صبرى بالإسكندرية . وأتذكر قول باشلار : " إن البيت الذى ولدنا فيه بيت مأهول ، وقيم الألفة موزعة فيه، وليس من السهل إقامة توازن بينها ، إذ هى تخضع للجدل ، فالبيت الذى ولدنا فيه محفور بشكل عادى ، وفى داخلنا ، إنه يصبح مجموعة من العادات العضوية " , ولعلك لاحظت شبهاً واضحاً بين الكثير من الشخصيات التى قدمتها فى أعمالى ، ذلك لأن معظم هذه الشخصيات تعبير ـ بدرجة وأخرى ـ عن شخصية الكاتب نفسه .
القصة يجب أن تكتب نفسها . فعل الكتابة اكتشاف . أرفض التصور بأن الكاتب يبدأ قصته وهو يعرف تماماً صورتها النهائية . القصة تكتسب ملامحها وقسماتها أثناء ولادتها . قد يأتى المولود فى صورة غير التى كان يتوقعها الفنان . قد تبين القصة ، أو الأحداث ، عن ملامح ربما لم تخطر فى باله . كاتب القصة يختلف عن كاتب السيناريو ، فى أن الثانى عنده قصة جاهزة ، فهو يحول القصة إلى مشاهد . وفى كل الأحوال ، فإن كتابة القصة ينبغى ألا تخضع للمنطق الصارم ، للعقلانية التى قد تفقدها تلقائيتها . الفنان مطالب بأن يخفض صوته إلى حد الهمس ، حتى يتحقق الإيهام بالواقع ، ولا يتحدث الفنان نيابة عن شخصياته .
أحياناً ، أبدأ فى تصوير الشخصية ، ولها فى مخيلتى ملامح محددة ، ثم تذوى الملامح التى تصورتها أثناء عملية الكتابة ، لتحل ـ بدلاً منها ـ ملامح أخرى ، فتأتى الشخصية مغايرة ـ سلباً أو إيجاباً ـ لكل ما تصورته . وربما بدأت فى كتابة عمل ما وفى داخلى وهم أنى أمتلكه ، أعرف البداية والنهاية . فإذا بدأت فى الكتابة ، أسطر قليلة أو كثيرة ، لم أعد سوى أداة للتسجيل . القصة تكتب نفسها ، كأنها الأمواج التى تذهب بالقارئ إلى شواطئ لم يكن يتوقع ربانه الوصول إليها . وكما يقول سيمينون : " أنا لا أعرف فى البداية ماذا سيحدث لأبطالى بعد قليل ، فإذا عرفت ذلك ، انتابنى السأم والملل . أنا لا أكتشف الوقائع دفعة واحدة ، بل أقع عليها وأنا أنتقل من فصل إلى آخر ، وكأنى أحكى قصتى لنفسى لا للآخرين " . وبالتأكيد ، فإن ما أريده بعد أن أتم كتابة عمل ما ، يختلف عن الصورة التى كتبته بها فعلاً ، تغيب شخصيات وأحداث وأماكن كنت أتصور أنها أساسية ، لتحل بدلاً منها شخصيات وأحداث وأماكن كانت مختفية فى تلافيف الذاكرة ، ثم ظهرت فى وقت لم أحدده . انطلاقات الشعور لا تعرف الترتيب ولا المنطق ، ولا يحدها زمان ولا مكان ، فهى أشمل من كل زمان ومكان ، يختلط فيها الماضى والحاضر واستشرافات المستقبل . لم يبدأ همنجواى أياً من رواياته على أنها رواية ، لم يجلس إلى الورق ـ ذات يوم ـ ليكتب رواية ، لكنه كان يبدأ كل ما كتب على أنه قصة قصيرة ، قد تنتهى بالصورة التى أرادها ، وقد تطول فتصبح رواية . وقد بدأت روايتى من أوراق أبى الطيب المتنبى باعتبارها قصة قصيرة ، لكن اتساع القراءة فى الفترة التاريخية وسع كذلك من بانورامية الصورة التى يجدر بى تناولها ، فتضاعفت الصفحات القليلة ـ كما كنت أعد نفسى ـ إلى ما يزيد عن المائة والخمسين صفحة . وكانت تلك اللحظة ـ مجموعتى القصصية الأولى ـ كتاباً أولياً ، يتكون من ثمانى قصص ، هى أقرب إلى الاسكتشات ، أو الرسوم التخطيطية ، لأعمال أشد اقتراباً من فن القصة القصيرة ، أشد اقتراباً من النضج . باختصار ، فقد وشت تلك اللحظة بطموحاتى بأكثر مما رسخت تلك الطموحات . وكان على بعدها أن أعطى لنفسى إجازة ، أعيد خلالها تثقيف نفسى ، وأعيد النظر فى أوراقى ، وأناقش إعجابى بالأساتذة الذين قرأت لهم : هل يقف عند حد الإعجاب ، أو أنه يمتد ـ أحياناً ـ إلى التأثر والتقليد ؟ وهل الكتابة الروائية والقصصية هى الفن الذى ينبغى أن أخلص له بالفعل ؟ وإذا كانت الصرامة القاسية التى ألزم بها أستاذنا نجيب محفوظ نفسه فى مجال الكتابة الإبداعية ، هى المثل الأوضح ، والأقرب ، بين أساـذتى من الأدباء العرب ، فإن الصرامة القاسية نفسها كانت مثلاً لى فى السيرة الذاتية لأديب فرنسا الأشهر جوستاف فلوبير [ 1821 : 1880 ] . رفض فلوبير تكرار التجربة الأدبية ، أو التأثر برؤى وتجارب الأخرين ، جعل همه أن يفرز أسلوباً مميزاً ، طابعاً أدبياً يسم أعماله ، وشغله ـ فى الوقت نفسه ـ وجوب الانطلاق فى كل إبداعاته من تجربة حسية عميقة ، فلا يكتفى بالقراءة أو الإنصات ، إنما هو يعانق الناس والأشياء ، يتعرف فيهم وفيها ـ بصورة مباشرة ـ إلى شخصيات وأحداث عمله الأدبى ، أياً تكن طبيعة ذلك العمل ، وبصرف النظر عن المكان الذى ينتسب إليه ، وينطلق منه . وبالقدر نفسه الذى تمنيت أن أكتب عملاً ملحمياً ، رواية أجيال ، أو نهر ، مثل ثلاثية نجيب محفوظ ، فقد تمنيت أن أكتب عملاً عبقرياً مثل مدام بوفارى التى أنفق فلوبير فى كتابتها لأكثر من عشر سنوات . ألتزم بالصرامة التى تبلغ حد " الرهبنة " ، أشاهد ، أتعرف ، أقرأ ، أحاول الاستيعاب والهضم والفهم والتفهم ، وتقديم محصلة ذلك كله فى أعمال فنية . وحتى الآن ، فإن العمل ـ أى عمل ـ يشغلنى ، وأفكر فيه ، حتى يدفعنى ـ فى لحظة يختارها ـ إلى كتابته . جاوزت هذه الفترة فى الأسوار ثمانى سنوات ، واقتربت فى أعمال أخرى من الفترة نفسها ، فى حين أن " المتنبى " ألحت كفكرة ، ثم ألحت فى الميلاد ، بما لا يجاوز بضعة أيام ، لكن الأحداث امتدت ، وتشابكت ، فصارت القصة القصيرة قصة مطولة ، أو رواية .
كانت المتنبى روايتى الثالثة . شدنى فى سيرة الرجل ما كان يتناوب حياته من أمل ويأس ، حتى لقى مصرعه ـ بصورة مأساوية ـ فى دير العاقول ، لكننى اخترت من حياة المتنبى ما يجعله شاهداً على الحياة فى مصر أعوام إقامته فيها ، وإن ارتكزت إلى مقولة كروتشى " التاريخ كله تاريخ معاصر " ، بمعنى أن التاريخ هو رؤية للماضى بمنظار الحاضر ، وفى ضوء مشكلاته ، وكان ذلك هو الباعث أيضاً لكتابتى روايات أخرى : إمام آخر الزمان ، اعترافات سيد القرية ، زهرة الصباح ، قلعة الجبل ، ما ذكره رواة الأخبار من سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله . وجدت فى استعادة التاريخ إضاءة لأحداث معاصرة .
***
أعترف أنى أحاول ـ ما أمكن ـ أثناء كتابة العمل ، ألاّ أسيطر على الفكرة بصورة مطلقة . تخف قبضتى على العمل ، أترك له تلقائيته . أختلف فى باعث تقدير برسى لوبوك لرواية تولستوى " الحرب والسلام " ، وأنه كان " يعرف تماماً أين يذهب ، ولماذا ، وليس أى شيء فى أية لحظة يشير إلى أنه لا يمتلك السيطرة الكاملة المحكمة على فكرته ( صنعة الرواية ص 37 ) . ثمة قول " لا وجود فى الحلم لشيء اسمه الضمير ، فالقاتل قد يقدم فى الحلم على السرقة أو القتل أو الاغتصاب ، وهو لا يبالى أو يستشعر ندماً . ويقول فولكت : " لا تعرف الغرائز الجنسية فى الحلم أى نوع من الكبح ، فلا حياء ولا رادع ولا منطق ، بل إن الأشخاص الآخرين أيضاً الذين يراهم فى الحلم ، كثيراً ما يكونون فى صورة أخلاقية مريعة " . وفى قصة " رحلة بورين " لأندريه جيد لا يدرى بورين : هل ما يحياه هو رحلة حقاً أم لا ؟ . يقول : نحن ربما نعيش حلماً ، إنه خداع ، فليست هنا رحلة أصلاً " . وفى روايتى الصهبة لم أعن بتدبر السؤال : هل كان ما جرى حقيقة أم حلماً ؟.. وفى البحر أمامها تطمئن نجاة إلى تردد زوجها الراحل على البيت ، وتستغنى به عن الآخرين ، أما نجم وحيد فى الأفق فهى تنطلق من اختلاط المشاعر والرؤى والتصورات . الإحساس بالحياة والحلم يكاد يكون واحداً ، ثمة رابط كبير بينهما ، بحيث ينتفى الخلاف ، أو عدم التشابه . وكما يقول بورخيس فإن الحياة وسيلة للحلم ، أو وسيلة للحياة . مع ذلك فإنى حين أدعو لأن يكتب العمل الأدبى نفسه ، لا أقصد أن تنطلق القصة ، أو الرواية ، فى تهويمات ، أو تفقد المعنى ، أو تلجأ إلى الغموض والتلغيز ، ذلك لأن تسلح الفنان بثقافة موسوعية سيفيده ـ ولو فى النظرة النقدية المتأملة الأخيرة ـ فى تبين قيمة ما كتبه ، سلباً وإيجاباً .
***
الكثير من أعمالى يبدو فيها البطل واضحاً ، مسيطراً ، لا يفارقنا منذ بداية العمل إلى نهايته ، نتعرف إلى ملامحه النفسية ـ والجسمية أحياناً ـ وظروفه الاجتماعية والثقافية ، ونوازعه ، وأفكاره ، وآرائه . وعلى العكس من ذلك ، فإن بقية الشخصيات تعانى الشحوب ، لأنها تؤدى أدواراً مساعدة تعمق من دور البطل ، توضحه ، تجسده ، تثريه . والحق أنى لم أكن أعرف أن هذا هو ما تعتمده ـ فى الأغلب ـ الحكايات الشعبية ، فقد حاكيت إذن تكنيك الحكاية الشعبية ، دون تعمد !. وعموماً ، فإنى أفضل أن أقدم من ملامح الشخصية ما يساعد على التعرف إليها ، على فهمها . أحترم الميراث الإبداعى الروائى الذى يمتد عشرات الأعوام ، أتفهم قول همنجواى إن الرواية مثل كتلة جليدية عائمة فى البحر ، ثلثاها مغمور فى الماء ، فأنا أكتفى برسم الملامح التى تهب الشخصية بلا ثرثرة ، ولا زيادات مقحمة ، ولا كلام مرسل ، أو سرد ممل . أصور الشخصية لأضيف إلى الرواية وليس لمجرد تصوير الشخصية فى ذاته . وأحياناً ، فإن وصف الكائنات قد يقتصر على تقديم الدلالة الاجتماعية ، أو النفسية ، أو يصبح رمزاً ، أو معادلاً لما يمور به داخل الشخصية من انفعالات .
ولعل فى مقدمة ما أعنى به أثناء الكتابة : تلك اللحظة التى يبدو فيها العمل قد انتهى ، فهو فى غير حاجة إلى حذف أو إضافة ، أو تدخل من أى نوع . أستطيع نقله على الآلة الكاتبة [ الكومبيوتر ] باعتباره مسودة نهائية ، أدفع بها إلى المطبعة ، وأنتظر ـ مطمئناً ـ آراء القراء والنقاد . أتذكر قول جراهام جرين : " هنالك لحظة فى الكتابة ، عندما يصل المرء إليها يشعر بأن الطائرة ، بعد أن قطعت ممراً طويلاً ، معبداً ، قد أقلعت ، وخرجت قليلاً عن السيطرة . عانيت طويلاً من تلك المشاعر التى لم تكن ـ بالتأكيد ـ مقصورة على ، لعلها المشاعر نفسها التى عاناها العديد من الأدباء ، والتى تدفعه إلى الهمس لنفسه : فلننتظر قليلاً ، أو : أنا لست على استعداد ، أو : إن تصورى لم ينضج بعد ، أو : إننى لم أجد بعد النغمة المطلوبة ، إلخ .. وكل التعبيرات للشاعرة الوسية الشهيرة " فيرا أنبر " ، فهى قد عانت تلك المشاعر إذن . وذات يوم ـ لا أذكر إن كانت قد سبقته إرهاصات ، أم أنه كان وليد اللحظة ـ قررت أن أتخلى عن التردد والوسوسة ، أن أنهى الإضافة والحذف والتعديل ، وأبدأ فى " تبييض " كومات الأوراق التى كتبت فى مدى سنوات وسنوات ، بخط ردئ للغاية ـ هو خطى ! ـ فهى لا تزيد عن مسودات يصعب أن تفتح مغاليقها إلا لكاتبها . المشكلة التى عبّرت عنها الشاعرة الروسية ، لما بلغت السن التى كان على الزمن أن يراعى فيها بكل عناية " فى هذه المرحلة من الحياة ، ينبغى على المرء ألا يقول : سأفعل كذا أو كذا يوماً ما ، بل عليه أن يفعل ما يجب عمله فوراً ، وإلا أصبحت عبارة " يوما ما " ، مطلقة وأبدية . وكان نقل " المسودات " على الآلة الكاتبة / الكومبيوتر هو الفعل الآنى الذى كان علىّ أن أحرص عليه . لم يكن ثمة سبيل آخر لمواجهة كومات الأوراق التى تكاثرت ، وتضخمت ، حتى أنى كنت أبذل جهداً فى تذكر بعضها .
***
يقول ألان روب جرييه : " إن القصة هى التى تبتدع أسسها الخاصة " . التكنيك وسيلة لنقل معنى العمل الفنى إلى القارئ ، كلما أجاد الفنان اختياره ، كان ذلك فرصة لتقديم أقصى قدر من المضمون ، أوالتكنيك الذى أكتب به عملاً ما ، هو سر يستغلق حتى علىّ شخصياً . العمل يفرض صورته وأسلوبه وطريقة تناوله . من الصعب تفسير ذلك فى ضوء رؤى فنية أو نقدية محددة . ثمة العديد من الاعتبارات التى ربما غاب بعضها عن الكاتب نفسه . أحياناً ، يغيب الوجود المستقل للزمان أو المكان ، فهما وحدة متكاملة ، ليس ثمة عقدة ولا حبكة ، وربما لا تتخلق رواية ـ بالمعنى التقليدى ـ على الإطلاق . لا أعنى إهمال الشكل ، فالشكل مهم جداً ، ذلك لأن الفرق كبير ـ ذكرت هذا المثل فى مقدمة كتابى مصر فى قصص كتابها المعاصرين ـ بين شكوى فى رسالة ، وقصة فى رسالة ، مقابلاً لوعى الفنان الحاد بقضايا مجتمعه وعصره ، والتزامه بالتعبير عنها . ومع أن حقيقة وجود القاص تبدو واضحة لنا ، فإنه يميل إلى البقاء فى الظل كما لو أنه أطل من نافذة ، يشاهد العالم من تحته ، فجاءت شخصيته مجسدة فى ساحة مضاءة ، دون أن يتبين القارئ ملامحه بدقة . وكما يقول كيتس ، فإن " الفنان الأصيل هو الذى لا يفرض شخصيته عليك ، لأنه هو نفسه بلا شخصية " . ويذهب هنرى باير إلى أن من نقاط الضعف فى الرواية الفرنسية تلك المراقبة الشديدة للذات ، والتى تصل إلى حد تسلط الروائى على شخصياته ، لكن الفرنسيين أصبحوا يضيقون بتلك الشخصيات التى يكبلها الفنان بأفكاره ، دون أن يترك لهم حرية التصرف والمغامرة الذاتية . أزعم أنى كنت مؤمناً بذلك الرأى قبل أن أقرأه ، وقبل أن أقرأ لهنرى جيمس الرأى نفسه ، وإن زاد فدعا إلى اختفاء الفنان من عمله . الفنان مطالب بأن يخفض صوته إلى حد الهمس ، حتى يتحقق الإيهام بالواقع ، ولا يتحدث الفنان نيابة عن شخصياته ، وعلى حد تعبير فلوبير ، فإن الفنان فى عالمه الروائى صاحب القدرة على كل شيء ، رغم أنه لا يكشف عن ذاته . لعلى أتفق كذلك مع الرأى الذى يؤكد أن " كل القواعد التى توضع لفن ما ، إنما توضع لتخرق .. إن الشكل ينبثق من التجربة انبثاقاً طبيعياً . وعلى العكس ، يكون مقلداً بقدر ما يحاول أن يصب التجربة فى قالب جاهز مصنوع مسبقاً " ( الحياة ـ 28/11/1989 ) .
(يتبع)

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:30 PM
النثر ـ فى تقدير همنجواى ـ ليس مجرد زخارف على الهامش ، لكنه بناء معمارى فنى شديد الحيوية ، العمل الفنى يتألف من عناصر فنية ، لكل منها وظيفته المحددة ، والمرتبطة عضوياً بوظائف العناصر الأخرى ، بما يحقق التفاعل بين كل العناصر ، تحقيقاً لعمل فنى يسعى إلى التفوق . ومن ناحيتى ، فقد كنت أريد أن أمتلك صوتاً خاصاً بى فلا أقلد أحداً ، أحاول ـ فى كل ما أكتب ـ أن أرتاد آفاقاً ربما تكون مجهولة لى فى الأقل ، إن لم تكن مجهولة للكثيرين ، وكما يقول فرانسوا مورياك ، فإن على كل روائى أن يخترع أسلوبه الخاص ، وتكنيكه الخاص ، وإن كل رواية هى مثل كوكب آخر ، له قوانينه مثلما أن له نباتاته وحيواناته الخاصة . كل رواية مثل كوكب آخر ، لكننى أتصور ـ فى الوقت نفسه ـ أن الفنان لا يخترع أسلوبه الخاص ، وتكنيكه الخاص . أرفض كلمة " يخترع " ، فبالإضافة إلى الموهبة ، فإن الأسلوب والتكنيك ينبعان من داخل العمل نفسه ، هو الذى يفرضهما ، والأسلوب ـ والتكنيك ـ الذى قد يكتب به الفنان رواية ما ، قد يبدو مجافياً لرواية أخرى . تعجبنى النصيحة التى وجهتها شاعرة أمريكية إلى همنجواى : دع الناس فى حياتهم ، لا تقل شيئاً عنهم ، بل دعهم هم وحدهم يتكلمون . ويقول همنجواى : " فى روايتى العجوز والبحر كنت على علم بأمرين أو ثلاثة من الموقف كله ، لكننى لم أكن أعرف القصة " . وكان مشهد فتاة صغيرة فوق شجرة دافعاً لأن يكتب فوكنر مئات الصفحات ، هى روايته الرائعة الصخب والعنف . وكنت حين بدأت كتابة روايتى الصهبة أعلم بأمر واحد فقط ، هو طقس الهبة نفسها ، عملية نزع النقاب . وفيما عدا ذلك ، فلم أكن أعرف شيئاً ، اخترت للرواية أن تكتب نفسها ، كلما أضفت صفحات توضحت شخصيات ، وظهرت شخصيات لم تكن موجودة ، وتخلقت أحداث ربما غابت عن تصورى ، بحيث اكتملت فى النهاية رواية لم أكن أعرف من شخوصها سوى الفتاة المنقبة فى الصهبة ، والشاب الذى نزع نقابها ، أما بقية الشخصيات والأحداث فقد تخلقت أثناء كتابة العمل نفسه ، لم تشغلنى الحبكة ، ولا العقدة ، ولا اختلاط الواقع والخيال ، ولا تداخل سيرتى الذاتية بالسير الذاتية للآخرين ، ولا الأحداث القديمة بالأحداث المعاصرة ، والتفكير بالسرد .. كل ما تريد الرواية أن تكتبه ، كتبته حالاً .
مع ذلك ، فإن " الحدوتة " هى النطفة التى يتخلق منها العمل الفنى . وعلى الرغم من اختلافى مع أرنولد بينيت بأن أساس الرواية الجيدة هو خلق الشخصيات ، ولا شيء سوى ذلك ، فلعلى أتفق تماماً أن خلق الشخصيات دعامة أساسية فى البناء الروائى ، الذى يستند ـ بالضرورة ـ إلى دعامات أخرى ، أولاها ـ أو هذا هو المفروض ـ الحدوتة ، وإن تصور بعض الروائيين والنقاد أن الرواية ليست فى حاجة إليها ، وأن ما يستعين به الفنان من أدوات يضع الحدوتة فى مرتبة تالية ، أو أنه يمكن الاستغناء عنها . وكانت الحدوتة ، الحكاية ، الفكرة ، إلى غير ذلك من المسميات ، هى الباعث الحقيقى لأن تتحول روايتى الأسوار فى ذهنى ـ قبل كتابتها بأعوام ـ إلى أحداث وشخصيات ، ثم تخلقت فى أشكال هلامية عدة ، قبل أن تأخذ ـ أثناء عملية الكتابة ـ سماتها النهائية . الحدوتة هى الدعامة الأولى فى بناء أى عمل روائى ، ثم تأتى بقية الدعامات ، وتشمل عندى الإفادة من العناصر والمقومات فى الفنون الأخرى . أتصور أن ذلك يتبدى ـ بدرجة وبأخرى ـ فى كل رواياتى بدءاً بالأسوار ، وانتهاء بأهل البحر . إن على الفنان أن يثرى إبداعه السردى بإسهامات الفنون الأخرى ، بما تملكه تلك الفنون من خصائص جمالية وتقنية ، فيتحقق للنص الأدبى أبعاد جديدة ، وتتحقق كذلك أبعاد جديدة للفنون الأخرى . ثمة التحقيق المطول [ إمام آخر الزمان ] والتقارير البوليسية [ قاضى البهار ينزل البحر ] والرواية التاريخية التى تدعى الاجتهاد [ قلعة الجبل ] وتقنية القص واللصق [ الأسوار ] ومخاطبة الآخر [ النظر إلى أسفل ] واليوميات [ من أوراق أبى الطيب المتنبى ] وتداخل الزمان والمكان [ الخليج ] واختلاط الواقع بالحلم [ الصهبة ] والتبقيعات النثرية [ مد الموج ] والاعترافات [ اعترافات سيد القرية ] والواقعية التسجيلية [ الحياة ثانية ] وتعدد الرواة [ بوح الأسرار ] والحكى السردى [ صيد العصارى ] وتوظيف التاريخ [ الجودرية ، ما ذكره رواة الأخبار عن سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله ] وتوظيف التراث الشعبى [ زهرة الصباح ] واللوحات المنفصلة ، المتصلة [ رباعية بحرى ] وتقنية الموسوعة [ أهل البحر ] .
وأحياناً ، فإن ضمير المتكلم ـ كما تقول ناتالى ساروت ـ أفضل وسيلة لإرضاء الكاتب والقارئ سواء بسواء ، إنه يهب إحساساً ـ ولو ظاهرياً ـ بالتجربة الحية والأصالة ، مما يقلل من شك القارئ ، ولكى يجذب الكاتب قارئه إليه ، فقد " جعل البطل يتحدث بضمير المتكلم ، واتضح بالفعل أن هذه الوسيلة أفضل الوسائل وأكثرها فاعلية فى هذا الصدد ـ لذا لجأ إليها الكثيرون ، ولازالوا يلجأون ( عالم الفكر ـ المجلد السابع ـ العدد الأول ص 235 ) . سبقنى إلى فنية تعدد الرواة ، أو تعدد الأصوات [ قصتى متتابعات لا تعرف الانسجام ، حولتها ـ فيما بعد ـ إلى رواية باسم بوح الأسرار ] أدباء كثر : فوكنر فى الصخب والعنف ، فتحى غانم فى الرجل الذى فقد ظله ، نجيب محفوظ فى ميرامار ، جبرا إبراهيم جبرا فى السفينة ، لورنس داريل فى رباعية الإسكندرية ، وغيرهم .. لكن حاجتى لتعدد الأصوات فى بوح الأسرار لم تكن لمجرد رواية ما حدث ، أو التعليق عليه ، الاتفاق أو الاختلاف ، وإنما لإعادة اكتشاف الحدث ، إعادة تفسيره ، تعميقه بالأضواء والظلال ، بما يهب القارئ فرصة حقيقية للتعرف إلى سيرة بطل الرواية محمد أبو عبده .
***
الفن ـ مهما يخلص فى تصوير الواقع ـ فإنه يظل أقل واقعية من الواقع نفسه . الواقعية التامة مستحيلة فى الفن ، فالفن انتقاء يخضع لموهبة الفنان ورؤيته . يشير ديهاميل إلى أن بلزاك قد خلق نماذجه بنفسه ، فهو لا يصور الأشخاص الواقعيين ، إنما يعيد خلق هؤلاء الأشخاص . العناية بتفصيلات الزمان والمكان ، وإجادة رسم الجو والشخصيات .. ذلك كله يشكل ما يسمى الإيهام بالواقع ، شريطة أن يحتاجه العمل الفنى فعلاً ، فلا يأتى مجرد تزيدات ، أو نتوءات ، أو حواشى قد لا يحتاج العمل إليها . ومع ملاحظة أن نتاج الفن ـ كما يقول جوتة ـ يختلف عن نتاج الطبيعة ، فهو لا يكررها صورة طبق الأصل " النتاج الفنى هو طبيعة ثانية " . المتلقى حين يعلن ـ بينه وبين نفسه ـ : هذه الشخصية الروائية تشبه شخصية فلان الذى أعرفه ، يؤكد ـ ضمناً ـ أن الشخصية الروائية ليست من الخيال تماماً ، حتى لو تصور الفنان نفسه ذلك .
***
اللغة ـ فى تعريف نقدى ـ هى أداة التعبير فى فن الأدب ، فهو إذن فن لغوى . الكلمات أهم أدوات الكاتب ، ومن هنا تأتى عنايته باللغة ، أو هذا المفروض . يقول العماد الأصفهانى : " لا يكتب إنسان كتاباً فى يومه إلا قال فى غده : لو غير هذا لكان أحسن ، ولو زيد لكان يستحسن ، ولو قدم هذا لكان أفضل ، ولو ترك هذا لكان أجمل ، وهذا من أعظم العبر ، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر " . لقد حاولت أن أعمل بالنصيحة نفسها التى تلقاها همنجواى من أحد نقاده ، فأتخلص من كل الألفاظ " القنبلية " ، وأصف الأشياء ببساطة أشد ، وأضع الكلمة المناسبة فى الموضع المناسب .
معانى الكلمات مهمة جداً ، لكن إيقاعاتها وإمكاناتها الصوتية مهمة أيضاً ، وربما أرجأت نقل قصة لى على الآلة الكاتبة / الكومبيوتر ، لأن إحدى كلماتها تبدو نشازاً ، أو غير متسقة ، مع بقية الكلمات . وكما يقول فلوبير فإن " جملة نثر جيدة حقاً ، تساوى فى جودتها بيتاً من الشعر ، وبالدرجة نفسها من الإيقاع والجزالة " .
أذكر أنى بدأت حياتى الأدبية شاعراً ، مثلما بدأ الكثير من الأدباء . الأدق أنى أحببت الشعر ، وحاولت أن أسبح فى بحوره ، وكتبت بالفعل بضع قصائد تحاكى محاولات شعراء قدامى ومعاصرين ، لكنها لم تكن تعبيراً بأية حال عن موهبتى الخاصة . فلما أدركت أنه من الصعب أن تكون لى موهبة حقيقية فى مجال الشعر ، عنيت بالكتابة القصصية والروائية ، وإن ظل حبى للشعر ، أحاول الإفادة من خصائصه اللغوية تحديداً فى كتاباتى النثرية . ولعلى أستعير قول لورنس ديرل بأنى شاعر تعثر فكتب نثراً ، أو أنى روائى شاعر ، يشغلنى التوتر فى الجملة ، الصورة ، التداعيات الداخلية ، إلخ .
والحوار مهم أيضاً فى الرواية . إن حواراً قصيراً ، مكثفاً ، بين شخصيات الرواية قد يغنى عن سرد مطول يفتقد المعنى . وفى العديد من رواياتى إفادة مؤكدة من درامية الحوار ، فهو جزء من البنية الدرامية للرواية ، لا تستقيم بدونه ، جسر يستحيل إلا أن تمضى عليه بين فقرات السرد . لقد طالما حذر موباسان روائيى عصره أن يحكوا كل شيء " فذلك أمر غير ممكن ، لأنه يلزمك مجلد كامل كى تروى ما حدث لشخص واحد ، فى يوم واحد " . وكان رأى شوبنهاور أن على الكاتب أن يكتب ما يستحق ذلك بالفعل ، ويتحاشى التفصيل الممل عن أشياء يستطيع كل امرئ أن يعرفها ، أن يفرق بين ما هو لازم ، وما هو من قبيل التزيد الذى لا لزوم له . ويقول تشيخوف " الإيجاز توءم الموهبة " ، ويكتب فى إحدى رسائله : " قد يبدو غريباً أننى أحب ـ لدرجة الجنون ـ كل ما أتى مختصراً ، بل إنى لم أقرأ بعد ـ فيما كتبته ، أو ما كتبه غيرى ـ ما أطلبه من الإيجاز . وبالطبع ، فإن الإيجاز لا يتصل بطول العمل . ثمة فرق بين الإيجاز والتركيز . من المستحيل ـ على سبيل المثال ـ أن نتصور ثلاثية نجيب محفوظ فى غير الحجم الذى صدرت به ، مثلما أنه من المستحيل تصور الحرب والسلام ، والأبله ، والجريمة والعقاب ، فى صفحات أقل مما صدرت فيها . باختصار ، فإنه إذا كان التكثيف مطلوباً ، فإن الاختصار المخل غير مطلوب . وعلى حد تعبير بيرسى لبوك فإنه مما يدمر القصة هو الإفراط فى معالجتها ، أو التقصير فى هذه المعالجة " .
وإذا كنت أشدد على أهمية اللغة ، فإنى أشدد كذلك على أهمية الجوانب الأخرى للعمل ، أن يكون العمل فناً له وهج الفن ، وخصائصه ، وقيمته ، وجدواه . " الموهبة اللغوية وحدها لا تكفى ، وكما يقول أرسكين كالدويل " هناك العديد من الكتاب الذين يملكون سيطرة كاملة على الشكل والتكنيك ، لكن ينقص قصصهم الإحساس ، أعتقد أن ذلك مهم " ( كيف أصبحت روائيا ص 85 ) .
***
إذا كان تولستوى يذهب إلى ضرورة أن يتقمص الأديب شخصان ، هما الكاتب ذاته والناقد ، فإنى أفضل أن يبدأ دور الناقد بعد انتهاء الكتابة الإبداعية . القول بأن الناقد أديب فاشل دعابة سخيفة ، فالنقد الحقيقى ، المطلوب ، هو ما يمارسه الأديب على فنه ، وما يرتفع بمستوى أديب عن سواه ـ بالإضافة إلى الموهبة ـ هو ارتفاع حسه النقدى . المبدع الذى يفتقر إلى ملكة النقد ـ والرأى للروائية الإنجليزية إليزابيث بوين ـ لا وجود له ، بل إن مهنته كروائى لا تتحمل مثل هذا النقص . طبيعى أن الفنان لا يرضى تماماً عن نفسه ، ولا عن عالمه ، لأن الحدود بين الواقع والمثال هو المسافة التى تنطلق فيها جياد إبداعاته .
مع ذلك ، فأن يكون الفنان صاحب عمل ما ، فذلك لا يعنى أنه هو أجدر الناس بفهم عمله . ربما كان الناقد أكثر فهماً للعمل من الفنان نفسه ، أكثر استنباطاً لمعانيه ودلالاته . استمعت فى البرنامج الثقافى الإذاعى إلى حوار بين نعمان عاشور ومحمد مندور . بدأ نعمان فى تلخيص مسرحيته عيلة الدوغرى . قاطعه مندور ـ بعد لحظات ـ فى بساطة : أخشى أنك لن تحسن تلخيص عملك ، أنت لم تفهم العمل بالصورة الممتازة التى فهمتها . ولخص مندور المسرحية ، وأذكر أنه كان أكثر قدرة على تسليط الضوء على مسرحية نعمان عاشور بأكثر مما حاول الفنان . وكان أبو الطيب المتنبى يحيل السائلين عن شعره إلى شارح ديوانه وناقد شعره ، أبى الفتح عثمان بن جنى ، ويقول : عليك بابن جنى فإنه أعرف بشعرى منى .
***
تقول بيرل باك : " لكى تكون كاتباً جيداً ، فعليك أن تكد ، بمعنى أن تنهض فى الصباح ، وتبدأ فى الكتابة مبكراً ، والذهن صاف ورائق ، فضلاً عن أن تبدأ الكتابة حتى لو لم يكن الذهن رائقاً وصافياً . عادات العمل ضرورية للكاتب مثلما هى ضرورية للعامل ، وربما أكثر ، لأنه ليس ثمة من يجبر الكاتب على العمل ، وليس هناك من يساعده فى أداء عمله ، إنه رئيس نفسه ، وهذا الرئيس هو عامل فى الوقت نفسه . وتقديرى أنه على الفنان ألا يرجئ عمل اليوم إلى الغد ، بحجة أنه مشغول ، فالوقت لن يكون فى حوزته ـ ذات يوم ـ بصورة مطلقة . وعلى الرغم من حرصى على عادة الكتابة اليومية ، فإنى أتذكر ـ دوماً ـ قول روبرت هنرى " إن كل شخص يحترم الرسم يشعر بالخوف كلما بدأ لوحة " ، وأثق أن هذا الشعور يحياه كل مبدع بصرف النظر عن طبيعة إبداعه . ولعلى أتذكر كذلك قول أوراثيو كيروجا : " لا تكتب وأنت تحت تأثير الانفعال . اتركه يزول . استدعه مرة أخرى " .
على الفنان ـ إن اعتبر الإبداع قضية حياة ـ أن يحاول الإفادة من كل ما يسمح به الوقت ، حتى لو كان مجرد دقائق قليلة ، أنا أطمئن إلى ما كتبته فى تلك الأوقات العابرة ـ إن جاز التعبير ـ ، أوقات ما بين عملين ، أوقات الانشغال فى عمل لا يتصل بالإبداع ، وأوقات الفراغ والضيق واللاجدوى . أجرى بالقلم على الأوراق لمجرد الاقتراب من الفن ، وربما وضعت نقطة الختام لعمل كنت قد أهملت إلحاحه منذ فترة طويلة . كانت روايتى مد الموج إبداع ما بين أوقات العمل الإدارى نائباً لرئيس اتحاد الكتاب لمدة عامين . وكانت قصتى القصيرة نبوءة عراف مجنون محصلة ضيق نفسى فى أيام الغربة ، حاولت رفضه فى استقالة ، فعبرت عنه فى قصة قصيرة . وكانت قصة أحاديث النفس المتداعية امتداد يوم صحفى كامل ، بدأ فى السابعة صباحاً ، إلى الثانية من صباح اليوم التالى . انصرف الجميع ، وخلوت إلى نفسى . أغرانى الورق الأبيض بأن أخط عليه كلمات ، كتبت جملة وشطبتها ، كتبت جملة ثانية ، استدعيت بقية الجمل ،حتى فرغت من كتابة القصة فى الصباح نفسه .
حاولت ـ منذ تعرفت إلى الكتابة الأدبية ـ أن أكتسب عادة الكتابة اليومية ، بصرف النظر عن كل شيء ، حتى الأيام التى كان الإجهاد يلفنى فيها تماماً ، بعد تواصل عمل شاق ، كنت أحرص أن أكتب ، ولو بضعة أسطر . أتذكر قول جوجول : " لابد للكاتب أن يسيطر على قلمه ، كما يسيطر الرسام على فرشاته ، يجب أن يكتب شيئاً كل يوم ، فاليد ينبغى أن تألف الطاعة العمياء للأفكار . وكان استندال يرغم نفسه على العمل كل يوم ، وحاول كازنتزاكس ـ لما اشتد عليه المرض ـ أن يملى إبداعاته ، لكنه أخفق : مستحيل !.. لا أجيد الإملاء !.. عندما أمسك بالقلم فقط تأتينى الأفكار . والواقع أن الإملاء ـ بالنسبة للكاتب الذى تعود الكتابة ـ مسألة مستحيلة ، ذلك الاتصال العجيب بين الأفكار فى الذهن ، والقلم الذى يجرى على الورق . عملية الكتابة باليد ـ بالنسبة لى ـ مهمة للغاية . قد أملى موضوعاً صحفياً ، لكن العمل الإبداعى لابد أن ينطلق من الذهن إلى الورق ، عبر الوجه، والرقبة ، والكتف ، والذراع ، والأصابع . وكان الشعور الأقوى عند همنجواى أن أصابعه تقوم بالجزء الأكبر من تفكيره .
أعترف أنى حاولت أن تكون لى عاداتى المصاحبة للكتابة ، مثل شرب القهوة والسجائر ، وسماع الموسيقا ، والتحكم فى مساحات الضوء ، فلم أوفق . تكفينى المعادلة السهلة : فكرة + مكان للكتابة + أوراق + قلم ، لا يشغلنى ـ بعد ذلك ـ أى شيء ، حتى الشاى تعرفت إليه متأخراً . كنت قد حاولت ـ قبلاً ـ أن تكون لى ـ مثل بقية الناس ـ هوايات أمارسها ، لكن الفشل كان هو الجدار الذى اصطدمت به كل محاولاتى . أوافق جون برين على أن إرادة الكتابة تخلق لك جو العزلة الذى تريده ، ليس بوسعك الانتظار حتى تتوافر لك الظروف المناسبة للكتابة : الجو الهادئ ، والضوء المناسب ، والموسيقا الخافتة التى تساعد على الكتابة ، والتخفف ـ ما أمكن ـ من الهموم الحياتية الخاصة . لن أنسى قعدة بيرم التونسى فى قهوة شعبية بشارع السد ، منشغلاً بإبداعاته عن الزحام الصاخب حوله ، كأنه يحيا فى جزيرة منفصلة عن الأمواج المتلاطمة من النداءات والدعوات والابتهالات والشتائم والصرخات . الكاتب يجب أن يعمل فى كل الأجواء ، بصرف النظر إن كانت حسنة أم رديئة ، وكما يقول نيكولاى استروفسكى ، فإن " الإلهام يأتى فى أثناء العمل " . كان مكتبى فى الجريدة ضمن ثلاثة عشر مكتباً ، فى مساحة حجرة متوسطة الحجم ، ومخزن لأوراق رئيس التحرير ، وبضعة دواليب للصحف ، وما يبيعه السعاة من سجاير وبسكويت وأقلام إلخ [ تغيرت الظروف ـ بعد عناء سنوات طويلة ـ إلى الأفضل ] مقولة . وكنت أتذكر فى ذلك اللغط مقولة همنجواى : إن المرء يستطيع أن يكتب فى أى وقت يتركه الناس وشأنه ، ولا يشوشون عليه ويقاطعونه . كانت الشوشرة فضل الزملاء المقيمين فى الحجرة ، والمترددين عليها لتناول فطورهم ، بعيداً عن الأعين فى الصالة الواسعة ، فضلاً عن السعاة الذين تتعالى أصواتهم ـ بلا انقطاع ـ فى طلب احتياجات الزملاء فى الصالة.
الإخلاص للفن قد يدفع الفنان " إلى التضحية بنفسه ـ القول لبوريس بوريسوف ـ والابتعاد عن أى شيء يعرقل عملية الإبداع لديه ، بل إن الظروف قد تضطره لأن يتجاهل مصالح المقربين له ، والتصرف معهم بقسوة " . الفن يحتاج إلى ضحايا ، تلك مقولة شهيرة ، لكنها لا تتجه إلى الفنان وحده ، وإنما تشمل القريبين منه أيضاً . وإذا كنت ـ فى أحيان كثيرة ـ قد أهملت البعد الاجتماعى ، من حيث المشاركة فى الحياة العامة ، والخروج إلى المجتمعات ، فإن ذلك قد انسحب بالضرورة على القريبين منى ، زوجتى وابنىّ ، وأصدقائى الذين أحبهم ، لكننى لا أستطيع أن أبذل لهم وقتى على النحو الذى يريدونه ، وأريده أنا أيضاً .
.............................
نشرت فى "فصول" بعنوان " كتبت ما تريده الرواية " ـ العدد الأول صيف 1998

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:31 PM
كلام عن الحرية
.............

لم تتعدد تفسيرات أحد المعانى ، مثلما تعددت تفسيرات معنى الحرية . إنها ـ كما يقول التعبير الفلسفى ـ هى التى تجعل منا أشخاصاً ، لأننا بالحرية نهب أنفسنا الوجود ، بعد أن كنا مجرد أشياء . وقد عرّف ابن رشد الحرية بأنها لقاء بين ضرورتين ، ضرورة إنسانية وضرورة طبيعية . ويقول جون ستيوارت مل : الحرية حق طبعى يملكه الإنسان بحكم الطبيعة . أما برياديف فيعرّف الحرية بأنها القوة الداخلية المحركة للروح ، وهى السير غير العاقل للوجود والحياة والمصير . وفى تقدير هارولد لاسكى أن الحرية هى الأحوال الاجتماعية التى تنعدم فيها القيود التى تنعدم فيها القيود التى تقيّد قدرة الإنسان على تحقيق سعادته . أما ديفيد هيوم فيعرّف الحرية بأنها " القدرة على التصرف طبقاً لما تحدده الإرادة " ، ولكامى مقولة أتذكرها " إن الذى يغفر للإنسان كل شيء هو الحرية ، الإنسان حرية قبل كل شيء " .
الاستبداد والديكتاتورية والطغيان مترادفات لنقيض الحرة ، للاحرية . يقينى أن الحرية فى حياة الإنسان لها نفس أهمية النوم والطعام والجنس وترددات الأنفاس . قيمة الحرية أنها ليست مطلقة ، ليست مشكلة نظرية ، قد تعنينا ، وقد لا تعنينا ، لكنها تتصل بوجودنا ، وبحياتنا اليومية . إنها ذات صلة وثيقة بالعلم والأخلاق والاجتماع والسياسة ، ذات صلة بالوجود الإنسانى فى مجمله .
ولأن ما أكتبه هو شهادة مبدع مهموم سياسياً ، وليس مقالاً فلسفياً يفترض فيه الإحاطة بالأبعاد المختلفة لكلمة " الحرية " ، فإن كلماتى ستقتصر على الحرية السياسية ، إنها سدى اهتماماتى الشخصية ، والإبداعية فى الوقت نفسه . لن أحدثك عن الجبر والاختيار والميتافيزيقا والضرورة والإمكان والمصادفة والقضاء والقدر والحتمية ، ولا عن مشكلات الزمان ، والصلة بين العقل والإرادة ، إلخ .. ذلك كله أجدر به مقال فلسفى ، وليس شهادة مبدع يتحدث عن الحرية فى إبداعه ، وفضلاً عن أن الحرية تعنى ـ كتعبير مجرد ـ مفهوماً سياسياًَ ، فإن الحرية السياسية هى المعنى الذى تنطوى عليه كلمة " الحرية " فى الأعمال التى سأعرض لها فى هذه الكلمات .
***
أوافق أستاذنا زكى نجيب محمود أن مشكلة الحرية السياسية هى على رأس مشكلاتنا المعاصرة ، وقد نشأت أساساً بسبب الفجوة الفسيحة العميقة التى تباعد بين أنظمة الحكم فى العصر الحديث ( تجديد الفكر العربى ص 76 ) . وأذكر أن أكثر من سبعين مفكراً عربياً شاركوا فى مؤتمر لمناقشة أزمة الدميقراطية فى الوطن العربى ، اختلف المشاركون ـ كعادة المثقفين العرب ـ فى الكثير من قضايا المؤتمر ، لكنهم أجمعوا على أن الحرية السياسية هى الهم العربى الأول ، وأنها البداية الحقيقية لحل مشكلات المجتمع العربى .
الحرية السياسية ـ بالتعبير العلمى ـ هى " حق المواطنين فى المساهمة فى حكم الدولة ، وكذلك حقهم فى أن يكونوا حكاماً " .. وهى حكم الشعب لنفسه بنفسه ، هو الذى يختار الحاكم ، فإن رضى عنه أبقى عليه ، وإن سخط على تصرفاته عمل على إزالته ، والأسلوب ـ فى كل الأحوال ـ يعتمد الديمقراطية ، فلا مواجهات حادة من أى نوع ، لا تمرد ولا اعتقال ولا مصادرة ، إنما الرأى الحر ، رأى غالبية المواطنين ، هو الذى يقرر ما ينبغى ، وما لا ينبغى ، قبوله ، والاختيار ـ بالطبع ـ لا يقتصر على الحاكم ، الرأس ، وحده ، لكنه يختار قيادات تنوب عنه فى مجالات الحكم المختلفة ، بدءاً بالتشريع وانتهاء بالإرادة . والواقع أن الحرية الفردية لا تنفصل عن الحرية السياسية ، والعكس صحيح ، وفقدان الحرية السياسية يتزامن ـ بالضرورة ـ مع ضياع الحقوق المدنية ، والحريات الأساسية ، للجماعات والأفراد ، وضياع العدل الاجتماعى .
***
من الناحية الشخصية كمبدع ، فإن حرصى على أن تكتب القصة نفسها ، يجعل من الصعب ـ إن لم يكن من المستحيل ـ وجود رقابة ، أو مؤثر ، على العمل من أى نوع . القلم يجرى على الورق ، نهاية لتلك الحركة ما بين الذهن والأصابع ، لا تشغلنى المحاذير ولا التوقعات ولا ردود الأفعال . وحين أنتهى من الكتابة ، فإن عنايتى تتجه إلى حذف كل ما لا ضرورة فنية له، جملة أو كلمة أو حرف ، وربما إضافة ما قد يبدو العمل ناقصاً بدونه . أيضاً ، فإنه قد يبدو متناقضاً حرصى أن يكتب العمل الأدبى نفسه ، مقابلاً للإيمان بأن مجموع أعمال الفنان يجب أن يشتمل على فلسفة حياة واضحة ، ومتكاملة . لكن ذلك كذلك بالفعل ، فأنا لا أتعمد الجهارة بوجهة النظر أو الموقف أو الرأى ، إنما أترك للعفوية ـ فى اللحظة التى تحددها ـ اختيار " الرف " الذى يحتاج إليه النص الأدبى .
والحق أنى أحاول الإفادة من تلقائية الكتابة فى التحرر من الرقيب الكامن داخلى ، هو رقيب شكلته أعوام عملى فى الصحافة ، ورفض ما قد يغضب السلطة ، أو علماء الدين ، أو حتى القارئ العادى . إنه رقيب تسلل إلى داخلى من خلال عشرات القراءات والأحداث والخبرات الشخصية ،أو التى تلقيتها عن آخرين . واكتسى الرقيب المستقر داخلى لحماً وشحماً ، حين عملت ـ لسنوات ـ مشرفاً على تحرير جريدة " الوطن " العمانية ، مجتمع له عاداته وتقاليده وأوضاعه البالغة الهشاشة ، ثمة جاليات كثيرة ، ومذاهب دينية تنتمى إلى الإسلام ، لكنها تتباين فى اجتهاداتها ، وسلطة أبوية ، أو قبلية ، وظاهر متمدن ، أو متقدم ، يخفى واقعاً شديد السلفية ، ومحظورات رقابية لا حصر لها ، بحيث اقترحت ـ ذات يوم ـ أن تقدم لى قائمة بالمسموح ، فأعرف أن ما عداه من الممنوعات !. استقر ذلك كله فى داخلى ، كأنه عين تبصر ، وأذن تسمع ، وأنف يتشمم . ومع أن كتاباتى اقتصرت على الموضوعات الأدبية ، فإنى عانيت ـ فى عملى الصحفى اليومى ـ مشكلات كبيرة وصغيرة ، تناولت بعضها فى روايتى " الخليج " ، لعل أخطرها عندما استبدلت الخمور بالتمور فى تحقيق عن مصنع للتمور بمدينة نزوى العمانية . تهدد وزير الزراعة فى منصبه بمئات الرسائل والبرقيات التى تلقاها السلطان ، تحتج على إنشاء مصنع للخمور ، فأصر أن يبلغ الشرطة ، لم يرجع عن عزمه إلا بعد أن تأكد له عدم مسئوليتى ، لأن الرقابة ـ أولاً ـ هى المسئولة عن السماح للجريدة بالتوزيع ، ولأن الجريدة ـ ثانياً ـ كانت تطبع فى الكويت ، فلا حيلة لى فى مراجعتها . وكانت ألقاب الجلالة والسمو والسيادة والمعالى والسعادة تسبب لى ارتباكاً شديداً ، فلم أعتدها إلا بعد ممارسة طويلة.
الأهم من أن أكتب عن الحرية ـ فى تقديرى ـ هو أن أكتب فى حرية ، أن يغيب ذلك الرقيب الخارجى الذى يحذف ويصادر ويعتقل ، إن لاحظ أن الكاتب قد شط فى رأيه ، أو أعلن المعاداة ، أو أن يغيب ذلك الرقيب الداخلى الكامن فى أعماقى ، خلقه توالى التجارب والخبرات.
أزعم أنى حاولت ، ما وسعنى ـ أن أتخلص من كل العوامل التى تحول دون أن أكتب فى جريدة . كنت مضطراً ـ لظروف مادية ـ بحتة ـ أن أقبل العمل الوظيفى ، وإن اخترت العمل الأقرب إمكانية للتعبير عن الرأى فى حرية ، وهى الصحافة . أقسى الأمور على المبدع ، حين يتصور السلطة وهى تقرأ وتحلل وتستنبط الدلالات ، وتفرض سوء الظن . إنه يسقط العفوية ، ويعانى صياغة كلماته ، بحيث تؤدى المعنى الذى يريده هو ، أو يريده العمل الفنى ، ولا تؤدى المعانى التى قد تتصورها السلطة . أومن جداً وجيداً أنه لا فن حقيقياً بدون حرية حقيقية . يظل الفن فى إطار التمنى ما لم يرتكز إلى الحرية التى تحفز الفنان لأن يكتب عمله بعيداً عن أية مؤثرات أو ضغوط ، سواء كانت خارجية أم داخلية . حرية الفن هى التى تهبه الفرصة لأن يكون فناً ، إنه ـ بغير الحرية ـ قد يكون أى شيء ، لكنه ـ بالتأكيد ـ لا يكون فناً . أعنى بالفن الحر هنا ، ذلك الفن الذى يقول الحقيقة ، أو يحاول قول الحقيقة . قد يبدع الفنان عمله فى زمن استبدادى ، أو تسيطر عليه قوى شريرة ، لكنه يتجاوز ذلك الزمن ـ وإن كتب عنه ـ إما باللجوء إلى الرمز ، أو إلى أحداث التاريخ ، بما يسهل تبين الواقع فى ضوئها ، أو بالكتابة السرية ، أى تلك الكتابة التى تكتفى بالنسخ المحدودة ، والتوزيع غير المعلن .
***
كان أبى ـ فى شبابه الباكر ـ عضواً بالحزب الوطنى القديم . ثم تحول انتماؤه ـ فى أحداث ثورة 1919 وما تلاها ـ إلى حزب الوفد . وكانت معظم ملاحظات أبى ـ فى مناقشاته مع أصدقائه ـ تتناول غياب الديمقراطية فى ممارسات حكومات الأقلية . وبالإضافة إلى قراءاتى فى مكتبة أبى ـ وكانت عامرة بمئات الكتب ـ فإنى أدين بفضل كبير لتلك المناقشات ، الهادئة أحياناً ، الصاخبة أحياناً أخرى ، فى جلستهم شبه اليومية عقب صلاة العشاء ، فى حجرة القعاد المطلة على المينا الشرقية .
وحين أصدرت كتابى الأول ، المطبوع ـ وكنت فى حوالى الخامسة عشرة ـ صدرته بعبارة تقول : أشياء ثلاثة ، كرست حياتى للدفاع عنها : الحق والخير والحرية . ورغم تقضى أعوام كثيرة على صدور ذلك الكتاب / الكتيب الأول ، القديم ، ومع يقينى ـ فى الوقت نفسه ـ بأهمية أن يكون للأديب المبدع فلسفة حياة . أقول : رغم ذلك ، ومعه ، فإن القضايا التى تشتمل عليها أعمالى ، تتوضح فيها ملامح ذلك الشعار ـ هل تصح التسمية ؟! ـ بصورة واضحة .
الحرية عند كامى هى أن يقول الإنسان لا . وقد تعددت مستويات الـ " لا " فى أعمالى ، ما بين الكلمات الطيبة اتى تحدث فى النفوس تأثيراً إيجابياً ، ينتهى بطلب الحرية [ الأسوار ] والتخلى عن فكرة انتظار الإمام المخلص ، أو الحاكم الذى ينشر العدل، وأن يصنع الشعب غده بنفسه [ إمام آخر الزمان ] والإعداد للثورة مقابلاً لتردى الحاكم فى هوة الديكتاتورية التى صنعها له أعوانه [ من أوراق أبى الطيب المتنبى ] والفرار بالذات من قسوة القهر الذى تمتد تأثيراته إلى الآخرين [ قاضى البهار ينزل البحر ] والإيمان بأن الفعل الأخلاقى لا يكون كذلك ، ما لم يصدر عن إرادة حرة [ الصهبة ] والحرص على القيم الجميلة ، فلا يسطو عليها الحاكم [ قلعة الجبل ] واستغلال حرية القللة فى تحقيق الثراء غير المشروع على حساب الجماعة [ النظر إلى أسفل ] . ولعلى أصارحك بأن الشخصيات الأقرب إلى نفسى فى أعمالى ، الأقرب إلى وجدانى وأفكارى ونظرتى إلى شمولية الحياة ، هى عماد عبد الحميد فى النظر إلى أسفل ، وبكر رضوان فى الأسوار ، ورءوف العشرى فى الخليج ، حُمّلوا بآراء وأفكار من آراء الكاتب نفسه ، لم يفرضها ـ فيما أتصور ـ وإنما جاءت فى عفوية الكتابة ، ووفق التزامى بأن يكتب العمل الأدبى نفسه . أبدأ فى كتابته وليس فى الذهن سوى أفكار غير محددة ، أو هلامية ، ثم ما يلبث العمل أن يبين عن قسماته وملامحه ، ليكتسب صورته الكلية فى النهاية .
فى قصتى " تلك اللحظة " تصادر حرية المرء بتهمة غير محددة . الموقف نفسه يواجهه الأستاذ فى رواية الأسوار ، وبطل قصة التحقيق [ مجموعة " هل " ] ، ويضطر محمد يوسف المصرى إلى الاعتراف تحت قسوة التعذيب ، بأنه عضو فى تنظيم يخطط لقلب نظام الحكم . ثم يعانى محمد قاضى البهار [ قاضى البهار ينزل البحر ] تأثيرات سلسلة متوالية من التقارير البوليسية ، تصر أن تدينه بتهم محددة ، رغم خلو حياته مما يدين ، أو يبعث على الريبة ، انصياعاً لتوجيهات الجهة الأعلى بأن محمد قاضى البهار يمارس نشاطاً مشبوهاً ، ولا يجد قاضى البهار ـ فراراً من الضغوط القاسية ـ إلا أن ينزل البحر !. وتواجه الحرية ، حرية المواطن والوطن ، مأزقاً ، عندما ينتشر الفساد والمحسوبية والرشوة وغيرها من القيم السلبية [ أذكرك بروايتىّ من أوراق أبى الطيب المتنبى ، والنظر إلى أسفل [ ويصبح تغيير الأوضاع مسألة مهمة ، مطلوبة ، سواء بالاغتيال الفردى ، كما فى النظر إلى أسفل ، أو بالثورة الشعبية كما فى من أوراق أبى الطيب المتنبى .
البطل المطارد ـ كما تكاد تجمع الكتابات النقدية ـ شخصية رئيسة فى معظم أعمالى ، سواء كانت قصصاً أم روايات ، وهؤلاء الأبطال لم يرتكبوا جريمة من أى نوع ، فيفرون منها . إنهم يفرون بحريتهم من مطاردة السلطة ، من قهرها ، حتى لو لم يمارسوا نشاطاً من أى نوع [ قاضى البهار ] أو لضمان الاستكانة وعدم التفكير فى الثورة [ المتنبى ] أو لأن الحاكم يحرص على أن يصادر كل ما فى حياة الناس ، حتى القيم الجميلة [ قلعة الجبل ] أو لمحاولة الخروج من أسوار المعتقل إلى حياة أكثر رحابة وإنسانية [ الأسوار ] . حتى مطاردة ناس الصهبة لمنصور سطوحى ، لا تخلو ـ فى ضوء الرغبة فى الفرار من سطوة الأب وقيود المجتمع ـ من دلالات يصعب إهمالها [ الصهبة ] إلخ .
***
كانت الحرية ـ فيما أتصور ـ نبض روايتى الأولى الأسوار . صرخ نزلاء المعتقل فى نفس واحد : الإفراج .. الإفراج ، وأجروا القرعة التى دفعوا بها أحدهم ليكون فدية عن الآخرين . القضية هى صلة المثقف بمجتمعه . التخلف الذى يرسف الناس فى إساره يحول بينها وبين التحرك الإيجابى ، سعياً للخلاص من واقعها ، ويأتى دور المثقف مهماً ، ومطلوباً ، لرفض الواقع ، ومقاومته . ذلك هو الدور الذى تؤهله له ثقافته ، بل إن ما حصل عليه من ثقافة ـ متميزاً بذلك عن غالبية مواطنيه ـ يدفعه لأداء دوره ، ويفرضه عليه . لكن قضية الحرية هى الشريان الرئيس فى جسد الرواية ، فالمثقف يشغله غياب الديمقراطية فى حياة الوطن البلاد ، ثم يشغله غياب الحرية فى حياة الوطن المعتقل . وكانت مشكلة بكر رضوان الأولى هى أن فقدان الحرية لم يكن يمثل شاغلاً لهؤلاء الذين بذل حريته دفاعاً عنهم ، بدوا راضين بحياتهم ، ولا يعنيهم التغيير ، ويتساءل الأستاذ : أليس الأجدى أن نناقش مأساة موتنا البطئ داخل هذه الأسوار ؟ , وكلمة الإفراج التى لم تكن تجاوز جدران العنابر ، فى همس متردد ، تكاد تكون سراً ، يحرص الجميع عليه ، أصبحت محور النقاش المستفيض " ويعتق أولئك الذين ـ خوفاً من الموت ـ كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية ( عبرانيين 2 : 14 ) " وأفتى فقهاء ذلك العصر ببطلان الحبس " ( المقريزى ) . كانت الكلمة سلاح الأستاذ فى حربه من أجل الحرية لنزلاء المعتقل " كنت أقول كلاماً أتصوره طيباً " . لم يحمل سلاحاً ، ولا دعا إلى التدمير ، لكن كلماته الطيبة المؤثرة ذات الجدوى ، هى التى دفعت نزلاء المعتقل إلى التحول فيما يشبه كائن واحد ، يصرخ بآخر ما عنده : الإفراج .. الإفراج ! " ولم يدر أحد كيف ولا أين بدأت الفوضى تكسر الطوق البشرى فجأة ، ليتوزع بلا رابط فى الساحة الواسعة ، اختلطت البنادق والشتائم والصراخ والكرابيج والسيور الجلدية ونفير البروجى وطلقات الرصاص ، تحول الوجود كله إلى معركة ضارية بين النزلاء والحراس ، وامتد الزئير الوحشى إلى ما بعد الصحراء والأودية والجبال : الإفراج .. الإفراج .
(يتبع)

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:32 PM
ولعل الأستاذ يذكرنا بالشاعر الروسى بوشكين الذى أيقظ بقيثارته ـ فى نفوس الناس ـ مشاعر طيبة ، ولأنه ـ على حد تعبيره ـ بارك الحرية فى زمن قاس . أما على مستوى الهدف فإن الأستاذ هو كل المشاعل فى تاريخ البشرية ، بذلوا حياتهم ـ بإرادة واعية ـ فدية عن الآخرين ، عن حرية الآخرين . إنه سقراط والمسيح وجان دارك وتشى جيفارا وسلفادور الليندى وإبراهيم ناصف الوردانى وعبد الحميد عنايت وشفيق منصور . والقائمة طويلة ، تبين ـ بمجرد القراءة المتصفحة ـ أننا قد نلقى جزاء سلبياً على أفعالنا التى استهدفت صالح الجماعة ، لكن الجزاء الإيجابى ، التقدير والإنصاف ، لابد أن يبين عن قسماته فى أفق قادم ، قريب أو بعيد .
***
منذ زمان بعيد ، ربما فى أوائل الستينيات ، كنت أناقش السياسى اليمنى رشيد الحريرى فى بعض القضايا العربية ، وتطرق النقاش إلى ظاهرة الانقلابات التى عاشها العالم العربى منذ انقلاب حسنى الزعيم فى سوريا ، ثم تكشّف ممارسات قادة كل انقلاب عن الحاجة إلى تغيير ، وقال لى رشيد الحريرى : أخشى لو أنه استمرت هذه الظاهرة ، فسيرفض الناس البيان رقم واحد ، حتى لو كان صاحبه معنياً بمشكلات الناس ، وبالتغيير .
مرت الأعوام ، ثم تذكرت ـ فى توالى الأحداث على عالمنا العربى ـ مقولة السياسى اليمنى . توالت القيادات ، أو توالى الأئمة ، انتظر الناس قدوم الإمام ليغير واقع الديكتاتورية الذى يرسفون فى أغلاله ، لكن الممارسات ماتلبث أن تبين عن ملامح شوهاء يتمنى الناس زوالها ، وربما عملوا على زوالها بالفعل ، وكلمت صديقى سامى خشبة فى الفكرة التى تشغلنى ، تناولت فكرة المخلّص فى الأسوار ، وهأنتذا تفكر فى عمل آخر يتناول الفكرة نفسها ؟! . لم أجد رداً على ملاحظته إلا أن الفكرة تشغلنى ، وتلح فى أن أكتبها على أى نحو ، ثم سافرت إلى سلطنة عمان ، وحرضنى الجو الأسطورى الذى يشمل مظاهر الحياة فى مسقط القديمة على البدء فى كتابة إمام آخر الزمان ، الإمام المهدى الذى ينتظر الناس قدومه ، وتبين الممارسة عن نقيض ما كانوا ينشدونه ، أعجب لقول أحد النقاد إن الرواية تعريب لروايةجارثيا ماركيث " خريف البطريرك " ، فلم أكن قد تعرفت إلى أدب ماركيث ، فترة انشغالى بإمام آخر الزمان منذ أواسط الستينيات إلى أواسط السبعينيات ، حتى بدأت كتابة الرواية فى فبراير 1976 .
ولعلى أعترف أنى أحاول ـ فى كتاباتى بعامة ـ أن أهمل المحظورات ، وأكتب فى حرية ، لكننى أتوقف طويلاً أمام المحظورات الدينية ، أحرص فلا أحاول اجتيازها ، مناقشة الدين من وجهة نظر غير مسنيرة ، تنتهى ـ فى الأغلب ـ بالتكفير ، تكفير صاحب وجهة النظر المستنيرة ، والخوض فى بحر الدين ينتهى كذلك ـ فى الأغلب ـ بغرق صاحبه ، أذكرك بمعاناة أستاذنا نجيب محفوظ منذ نشر روايته الرائعة " أولاد حارتنا " فى 1959 ، من هنا كانت تلك الكلمات التى قدمت بها إمام آخر الزمان " هذه الرواية نسج خيال ، وإذا كان إطارها يبدو دينياً ، فإن مضمونها أبعد ما يكون عن تناول القضايا الدينية ، إن الذى ينشد أمور دينه عليه أن يفتش عنها فى كتب الدين ، وما أكثرها ، وإذا توالت الأسماء ـ خلال الأحداث ـ لأماكن وبشر ، فى هذا القطر العربى أو ذاك ، فمرد ذلك إلى الواقع الفنى ، وليس إلى الواقع التاريخى ، وأكرر : هذه الرواية نسج خيال " .
***
إن هدف الثورة هو إقامة شرعية جديدة ، تتواصل فى ظل الاستقرار الذى يقره الشعب ، فإذا لم يكن ذلك كذلك فهو انقلاب ، اغتصب السلطة ، وحقق استمراره بالعنف والقهر ، وليس بالشرعية ، والشعب الذى يمارس ضده هذا الحكم سلطته ، يعانى الغربة وعدم الانتماء ، وانقطاع الصلة بينه وبين من فرضوا أنفسهم أوصياء عليه .
لقد رفع كل إمام شعارات زاهية براقة ، تصور الناس فى تنفيذها ـ إن نفذت ـ خلاصاً من كل المظالم التى عانوها فى حكم الأئمة السابقين ، لكن الممارسة ـ تطول أو تقصر ـ ما تلبث أن تكشف عن زيف الشعارات المعلنة ، وأنها لم تكن سوى واجهة تخفى وراءها عالماً من الديكتاتورية السافرة ، أملى كل إمام على الناس ـ بقوة السيف ـ أنه هو وحده الصواب ، ومن عداه على خطأ ، وبتعبير آخر ، فقد كان يواجه شعبه ورأيه فى رأسه ، وسيفه فى يده ، فلا يملك الناس إلا الموافقة صاغرين !. انغلقت السلطة على نفسها ، تصور الإمام نفسه مرجعاً وحيداً ، يخطط للناس أمور حياتهم ، يدفعهم إلى الالتزام بالسير فى طريق محددة ، فإذا حاول البعض أن يجاوز تلك الطريق ، أو أفلح فى ذلك بالفعل ، واجه عقوبات قاسية ، تبدأ بفقدان الحرية ، وتنتهى بفقدان الحياة .
ثار الناس على الأئمة فى تعدد ممارساتهم ، أو تمنوا زوالهم فى أقل تقدير ، وبالذات فى الآونة التى يكون فيها الحكم مسيطراً ومباشراً ، لا يأذن بمعارضة أو تمرد ، فضلاً عن إمكانية الثورة .
الغريب أن الكثير من هؤلاء الأئمة كانوا يدركون بشاعة حكمهم ، فهم يلجأون إلى إصدار القوانين التى تلزمهم بالرضا عن الوضع القائم ، أو يدفعون الرواة إلى المقاهى والساحات والأماكن العامة ، يذيعون الحكايات المختلفة عن ميل الإمام إلى نشر العدل والمساواة والحرية ، ويتهمون المعارضين بالمروق والفساد والإلحاد والإعداد لقلب نظام الحكم ، بل إن بعض الأئمة استند إلى فكرة الحق الإلهى ، الله هو مصدر السلطات وليس الشعب ، وبالتالى فإن الأفراد لا حقوق لهم تجاه الحاكم ، وليس لهم أن يطالبوه بحريات من أى نوع ، سواء كانت فردية أم سياسية .
والحق أن مقتل حسن الحفناوى ـ آخر من قال الكلمات الجميلة ـ لم يكن تعبيراً عن رفض الناس للثورة ، لكنه كان تعبيراً عن إصرار الناس ـ إزاء المعاناة التى واجهوها فى توالى حكم الأئمة ـ على أن يتولوا قيادة أمورهم بأنفسهم ، القائد يظهر من الشعب ، لا يتحول المخلّص إلى جودو الذى طال انتظاره فى مسرحية بيكيت ، ولا إلى المهدى الذى ينتظره الشيعة ، ليزيل القهر عن أعناق الجماهير ، ويملأ الأرض عدلاً ومساواة . أخذ النقاد على نهاية الرواية ما توضح فيها من جهارة .
قال الرويعى : لا يخرج الإمام إلا للعدل ، ومن سبق ظهورهم كانوا ظلمة .
قال ياقوت نافع : إذا جاء فلن يختلف عمن سبقوه .د
قال الكرديسى : ظهور الإمام حقيقة .
قاطعه ياقوت نافع : مصيبتنا أننا لا نبحث عن إمام يحكمنا ، بل نصطنع إماماً يقودنا !
قال الرويعى : الإمام يستمد وجوده من مبايعة الناس له !
قال ياقوت نافع : فماذا لو اختار الناس أن يحكموا أنفسهم .. هل لابد من وصى ؟
قال الرويعى : الزعامة مطلوبة فى كل الأحوال .
قال ياقوت نافع : سيكون كل شيء على ما يرام حين يسقط النظام على أيدى الجماهير ، وليس عن طريق فرد ، أو أفراد ، أيا كان ، أو كانوا !
أصارحك أنى أزمعت أن أكتفى بمقتل حسن الحفناوى ، ذلك الرجل الطيب الذى كان يقول كلاماً طيباً فى مقهى السيالة . تظل النهاية مفتوحة ، وتطرح الأسئلة نفسها : هل كان الرجل إماماً بالفعل ؟ وهل يظهر أئمة جدد ؟ وهل قرار الجماهير رفض البيان رقم واحد ، وما يتلوه من عكس ما يعلنه ، فلا حرية ولا ديمقراطية ولا عدالة ، إنما هو تسيد لفرد ، أو لطبقة ، على الجماعة . وعلى الرغم من نصيحة صديقى الدكتور طاهر مكى : دع نهاية الرواية كما هى ، حتى لو اتسمت بالجهارة ، فالجهارة مطلوبة !، فإنى أضفت فصلاً أخيراً ، كنت قد ضمنته مجموعتى " هل " ، يتحدث عن تطلع الناس إلى إمام حقيقى يقود الناس إلى الحرية والعدل .
***
يقول لوناتشاركسكى : " إذا كانت الثورة تستطيع أن تعطى الفن روحاً ، فإن الفن يستطيع أن يعطى الثورة لساناً " .
وقد انشغل أبو الطيب المتنبى ـ بتطلعاته وطموحاته وذاتيته ـ عن هموم المصريين عاش بينهم فترة طويلة من الزمن ، فلما غادر مصر ، وتبادل الرسائل مع عبد الرحمن السكندرى ، راجع موقفه ، وأزمع أن يغادر مصر ليكون صوتاً لثورتها المرتقبة .
السلطة المطلقة طريق مؤكدة إلى الاستبداد . والثابت ـ تاريخياً ـ أن الحكام الذين مارسوا السلطة المطلقة ، جاءت بعض قراراتهم ةتصرفاتهم مشوبة بجنون العظمة حسب التعبير العلمى المعاصر ، والمثل الأوضح فى شخصيتى الإسكندر ونابليون بونابرت ، والنظام السياسى الذى يكرّس الديكتاتورية ، يمتد خطره إلى كل من يتصور معاداتهم له ، حتى لو لم يكونوا كذلك ، فالحرية الشخصية لا تعنيه فى قليل ولا كثير . كان كافور هو كل شيء فى الدولة ، هو الذى يفكر ، وهو الذى يأخذ القرار ، وهو الذى يعين أشخاص المنفذين . أما النتائج ، فإن الشعب ـ بالتأكيد ـ هو الذى يتأثر بها . كافور هو صاحب الحكم فى الرواية ، وهو صاحب الرأى ، ورأيه هو الذى ينفذ ، مهما تعددت الآراء المخالفة ، واتسعت مساحتها ، لا راد لرأيه فى مشكلات السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة وكل ما يتصل بأمور الدين والدنيا . من يفكر فى التنبيه إلى الخطأ ، أو يعترض ، فإنه يعرَض نفسه للمساءلة والتحقيق بما يفضى ـ فى الأعم ـ إلى فقدان الحرية ، وربما فقدان الحياة نفسها . حتى المتنبى ـ وهو شاعر ، ومن أصحاب الرأى ـ وجد من يحذره من الجهارة ، أو حتى التلميح ، برأيه ، فلا يواجه غضب الإخشيد .
ولأن الاستبداد السياسى لابد أن يفرز ـ بحكم طبيعته ـ فئات صغيرة مستغلة ، تعين المستبد ، وتؤيده ، وتزين له تصرفاته ، فقد تخلقت مجموعات قليلة ، تتمتع بالكثير من الامتيازات ، وتستأثر بمزايا الاقتراب من الحاكم ، وتفرض تسلطها على مجموع الموطنين . كانت الحرية تعنى ـ فى نظر أعوان كافور ، وعلى حد تعبير الرئيس الأمريكى لنكولن ـ " حرية بعض الرجال أن يصنعوا ما يشاءون بالرجال الآخرين " . بدا المخالفون لتصرفات الحاشية " من حشو الرعية ، وسفلة العامة ، ممن لا نظر لهم ولا روية ، ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته ، أهل جهالة بالله ، وعمى عنهم ، وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده والإيمان به ، لضعف آرائهم ونقص عقولهم " إلخ ( الطبرى 2/631 ) . ولا يخلو من دلالة هذا الحوار بين المتنبى ومعاون المحتسب إبان اشتداد الضائقة الاقتصادية . قال أبو الطيب : الجوع فى الشوارع ، مع ذلك فإن الطعام يصل لى فى موعده . قال الرجل وهو يطمئن إلى ترتيب الصناديق والأوعية : أنتم من أعوان أبى المسك ، لا يجرى عليكم ما يجرى على العامة !. أما الجماعات الوافدة ، فقد كانت مشكلة أهل مصر الأولى فى مواجهتهم هى " إحاسهم بالخضوع لهذه الجماعات التى أتت من مناطق بعيدة ، تنشر الدمار والموت الأسود " ( المتنبى 44 ) فهو إحساس بفقدان الحرية .
والملاحظ أنه حين قامت مظاهرات المصريين ضد الجوع ثاروا ضده ، وأوشك كافور أن يتبنى حقيقة الدوافع التى خرجت بالمظاهرات ، لكن ابن حنزابة صور له الأمر على غير حقيقته : كل الأسباب واجهة زائفة لهدف خبيث ، هو الخروج على حكم سيدى أبى المسك !.
ومع أن ابن رشدين فسر ما جرى بأنه كان تعبيراً عن غضبة الجياع على الظروف الصعبة ، فإن الإخشيد مالبث أن هز رأسه فى اقتناع لملاحظة ابن حنزابة : من يهاجمون أعوان الأستاذ اليوم ، قد تسول لهم نفوسهم بأن يهاجموا قصر الأستاذ فى الأيام المقبلة . وأمر كافور بأن تثبت الأحكام التى صدرت على متزعمى المظاهرات . من هنا ، جاءت ثورة الجماهير على الحاكم إفرازاً طبيعياً لإهمال حقوق الأفراد وحرياتهم ، فليس ثمة إلا هو وأعوانه وحاشيته ، ولم يعد أمام الناس إلا الخروج عن طاعته ، ومقاومته ، ومقاومة السلام الزائف الذى وافق عليه فى الوقت نفسه ، وهذه الثورة المرتقبة تأكيد بأنه على الإنسان أن ينتزع حريته بيده ، وبتعبير آخر ، فإن الإنسان لا يكون حراً إلا إذا استحق ـ بالفعل ـ أن يكون حراً . الحرية عادة ، الحرية اعتياد وممارسة وفعل . وكما يقول برناردشو فإن الطائر لابد أن يطير مغادراً إذا تركت القفص مفتوحاً . والحقيقة أن استمرار الحبس دون فعل مقاومة من أى نوع ، يوطن النفس على أن تألف نقيض الحرية ، تألف الخنوع والاستكانة ، واعتبار ذلك قضاء وقدراً .
***
(يتبع)

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:32 PM
ثمة تعريف اشتقاقى للحرية بأنها " انعدام القسر الخارجى " . وكان القسر الخارجى ـ تحديداً ـ هو ما واجهه محمد قاضى البهار . كانت التهمة التى طاردت جهات البحث محمد قاضى البهار من أجلها ، أنه يمارس نشاطاً ضد الجماعة ، ضد الحكومة ممثلة الجماعة . ومع أن محمد قاضى البهار لم يكن مهموماً سياسياً ، ولا هو صاحب رأى ، فإنه وجد نفسه مدافعاً عن حريته فى ألا يكون مهموماً سياسياً ، وألا يكون له رأى !. وجد قاضى البهار نفسه معرضاً لفقد حريته الشخصية ، وهى الحرية الأهم . وكما يقول برجسون فإن الإنسان لا يكون حراً إلا عندما تصدر أفعاله عن شخصيته كلها .
وفراراً بحريته ، نزل محمد قاضى البهار إلى البحر . توالت التقارير تؤكد خلو تصرفاته من كل ما يدعو إلى مصادرة حريته ، إلى اعتقاله ، لكن جهة الأمر أكدت النشاط المريب لقاضى البهار ، وأن إدانته ثابتة ، وأن احتاجت إلى الأدلة التى تدعمها ، ومارس كتبة التقارير ضغوطاً على قاضى البهار بلغت حد الإيذاء البدنى ، لتحصل على الأدلة التى تثق فيها جهة الأمر ، لفقت لقاضى البهار عدة تهم ، من بينها أنه شارك فى مناقشات قهوة البورى ، وزملاء العمل ، فعاب على النظام فساده وقسوته ، وأنه كان يحمل متفجرات فى حقيبته عندما زار ملهى " زهرة البنفسج " . أما تردده على زاوية الأعرج لأداء صلاة العصر ـ قبل توجهه إلى قهوة البورى ـ فلتدبير اغتيال بعض القيادات السياسية ، بعيداً عن أعين الأمن . أذكرك بمسرحية " حالة حصار " لألبير كامى " إن اقتناعنا هو أنكم مذنبون ، ولن تجدوا أنكم مذنبون ما دمتم تشعرون بأنكم متعبون ، إنهم يتعقبونكم ، وعندما يرهقكم التعب ، سيسير الباقى وحده " .
لم تثبت التهم فى مواجهة صمت الشهود ، وإنكار رواد قهوة البورى مناقشات السياسة ، وتأكيد بائع الصحف سيد النن أن ما رآه فى طفولة قاضى البهار لم يعد يتكرر فى شبابه ، وأضاف أنه ربما اختلط عليه الأمر ، فشهد بما لم يشهده ، ونفى رواد القهوة أنهم يعرفون قاضى البهار أصلاً . وحين نزل محمد قاضى البهار مياه الأنفوشى ، واختفى ، فإنه ربما فعل ذلك فراراً من القوى الضاغطة ، لكنه مارس ـ بفعله ـ فى الوقت نفسه ـ حريته . وكما يقول سارتر ، فإن حريتنا هى الشيء الوحيد الذى ليس لنا الحرية فى أن نتخلى عنه .
الحرية ـ فى أحد تعريفاتها ـ هى " اختيار الفعل عن روية ، مع استطاعة عدم اختياره ، واستطاعة اختيار ضده " . ولم يكن النزول إلى البحر هو اختيار محمد قاضى البهار الوحيد ، بل إنه الحل الذى لم يطالبه أحد ، لكنه لجأ إلى ذلك الحل دفاعاً عن حريات الآخرين ، فضلاً عن فراره هو نفسه بحريته ، فلن تعاود الشرطة حملاتها ضد سكان بيت الموازينى ، أو رواد قهوة البورى ، ولن تلجأ إلى اختطاف أحد أقاربه ، ولن تضرب أباه فى شارع خلفى . وكما يقول باكونين " أنا لا أكون حراً بمعنى الكلمة ، إلا إذا كانت كل الموجودات الإنسانية المحيطة بى ـ رجالاً ونساء ـ حرة هى الأخرى . أجل ، فإننى لا أصبح حراً إلا بحرية الآخرين " .
ومع تأكيدى على أن تعدد مستويات الدلالة فى العمل الفنى هى اجتهاد الناقد ، وربما المتلقى العادى ، فلعلى أثق أن محمد قاضى البهار لم يمت . لقد نزل البحر واختفى . ذلك ما رأته الأعين التى رافقت رحلته الأخيرة من البيت إلى داخل البحر ، لا يلغى ما حدث إخفاق الشرطة فى العثور على جثة قاضى البهار ، أو ما يدل على غرقه ، ولا تلك الابتسامة الغامضة التى واجه بها تحريات الشرطة فى ظروف موته : أبواه والجيران وزملاء العمل ورواد القهوة . حتى أبناء الموازينى ، الذين لم يكونوا على صداقة بقاضى البهار " إذا جاءت سيرته ، وظروف اختفائه ، تسللت إلى شفاههم تلك الابتسامة الغريبة ، المحيرة ، كأنها العدوى " . هذه هى الكلمات التى انتهت بها رواية قاضى البهار ، وهى ـ كما ترى ـ نهاية مفتوحة ، ولعلها أقرب إلى نفى موت قاضى البهار ، وإلاّ : ماذا تعنى تلك الابتسامة الغريبة المحيرة ؟!
***
يقول ألدوس هكسلى : " من الأفضل أن نخطئ فى الحرية ، على أن نصيب فى القيود " . وقد حاول منصور سطوحى أن يتحرر من السلطة التقليدية ممثلة فى القائد التقليدى ـ الأب ـ الذى كان يصدر أوامره معتمداً على مكانته ، وهى أوامر اتسمت ـ فى الأغلب ـ بالطابع التحكمى .
كان منصور يريد أداء الفرائض الدينية عن اقتناع ، وليس لمجرد أن يتبع خطوات أبيه . كان يريد دخول الكلية التى يريدها ، ويتطلع إلى أصدقاء يطمئن إلى صداقتهم ، وإن رفضهم أبوه ، وإلى تعامل مغاير لما كان يعامله به أبوه ، بدت تصرفات منصور ـ عقب رحيل الأب ـ كأنها تعبير عن مقولة سارتر " إن حريتى هى الدعامة الوحيدة للقيم ، فليس ثمة شيء يمكن أن يلزمنى بأن أتخذ هذه القيمة أو تلك " . شك منصور فى حقيقة حريته ، فى حقيقة وجودها ، بعد وفاة أبيه ، وجد نفسه وحيداً ، بعيداً عن سياج الأسرة والوالدين والعادات والتقاليد والمجتمعات ، نفض عن نفسه ذلك كله ، أو أنه وجد نفسه خارجه ، واهتزت فى داخله قيم كثيرة ، وتبدلت نظرته إلى الكثير من الأمور ، ولم يعد المستقبل بمثل الاستواء الذى كان قديماً .
الحرية ـ فى التعريف الفلسفى ـ تجربة روحية ، يحاول فيها الموجود الإنسانى ـ الذى هو مزيج من دم ونور ـ أن يستخرج من حياته المادية نفسها وسائط نموه ، ووسائل تحريره ، وأسس سورته الروحية " ( مشكلة الحرية 259 ) . إرادة الإنسان تتجه ـ دائماً ـ نحو الأفضل ، أو ما يبدو لها أنه كذلك ، وهى لحظة مسبوقة ، أو متزامنة ، مع تحقق الاختيار ، ولو لم يكن الإنسان ـ فى تلك اللحظة ـ سيد انتباهه ، لما أحس بحريته بصورة حقيقية . وكانت الدوافع المحركة لمنصور سطوحى بحثاً عن الحرية ، تعبيراً ـ فى واقعها ـ عن الحرية . وإذا كان ماكس جاكوب قد وصف ميرسو بطل " الغريب " لكامى بأنه " إنسان فاقد الوعى بما حوله " فإن منصور سطوحى يكاد يعبر عن الحالة المناقضة ، فهو مدرك تماماً لما حوله ، ويرفضه ، ويحاول التغلب عليه .
جابرييل مارسيل يذهب إلى أن حرية الاختيار تتجلى فى لحظات الإشراق ، التى يتجلى فيها الوجود الإنسانى بسره وغموضه ونفحاته القدسية أمام الإنسان ، فينقاد له إطلاقاً ، ويفوض أمره إليه . فهل تكون النهاية التى اختارها منصور سطوحى هى مرفأ البحث عن الذات ، وعن تواصله مع الآخرين ، وعن الحرية الغائبة ، والسعى نحو الأفضل . تذكرنا هذه النهاية ، المرفأ ، بقول جان جينيه " إن الوسيلة الوحيدة لتجنب هول الهول هى أن تلقى بنفسك فيه " .
***
إن ديكتاتورية السلطان خليل بن الحاج أحمد هى المقابل لتطلع الناس إلى الحرية . كان القهر صورة حكمه ، أحكم قبضته فلا يأذن حتى للهواء بأن يتخللها ، أو ينفذ منها ، له الكلمة النافذة ، والرءوس ـ مهما استطالت ـ تخشع إلى حد الركوع ، وربما السجود ، فى مجلسه . نشأ السلطان فى كنف أب يبيع الرقيق ، أهم ما يرويه معاصرو طفولته أنه كان يحبس مجموعة من القطط فى قفص حديدى ، ويعمل فيها سيخاً حديدياً . ولما نقل الطواشى شعوان ما رآه إلى والد خليل ، ظهر عليه ارتياح ، وقال : لو أنه ضعيف القلب ، فكيف يبيع الرقيق ؟!.. ثم مارس هو نفسه تجارة الرقيق . لذلك فإن نظرته إلى حرية الإنسان ـ حتى هؤلاء الذين باعدت الظروف بينهم وبين العمل كرقيق ـ على أنها تخضع لإرادة الحاكم ، هو الذى يهب ويمنع ، أوامره قضاء ، وعلى الجميع أن يخضعوا لها .
لقد تبدى اختيار عائشة فى سؤال السلطان لعائشة : هل تريدين الإقامة معنا ؟، وفى ردها عليه : لو أعطيتنى الملك ما أخذته دون زوجى . حددت اختيارها ، وهو أن تكون حرة مع زوجها ، وأهل حدرة الحنة ، رغم الظروف القاسية التى كانوا يحيونها ، ولا تصعد إلى قلعة الجبل ، فتتحول إلى سجينة فى قصر السلطان .
كان اختيار خالد عمار هو اختيار زوجه عائشة ، قال له مقدم الجند : هل تريد أن تعمل فى خدمة مولانا السلطان ؟
قال خالد : من الصعب أن أجيد مهنة غير التى تعلمتها [ نسّاخ ]
قال المقدم : الجندية لمماليك السلطان وحدهم ، وإن أمكننى الحصول على موافقة مولانا ، نلحقك بزمرة المماليك السلطانية .
ـ أخشى أنى لن أستطيع .
ـ للجندى المملوكى مرتبة جليلة ، فكيف ترفضها ؟
ـ أنا من عامة الناس ، والعمل فى خدمة مولانا السلطان مما لا أقوى عليه .
ـ الجندية تميزك عن موظفى دواوين السلطان .
ـ لا أتخيل نفسى فى غير هذا المكان .
اختار خالد الحرية ، مألوف أيامه بعيداً عن الحياة التى لا صلة له بها فى قلعة الجبل .
حتى عبد الرحمن القفاص ـ والد عائشة ـ حاول أن يعتذر عن الخدمة فى قلعة الجبل . قال للسلطان خليل : أنا رجل سوقى ، لا أعرف غير صنع الأقفاص !.. لكن السلطان ـ كى يستدرج الرجل إلى حتفه ـ أصر أن يعمل فى القلعة ، بدعوى أن أمره لا يرد !
ومع أن السلطان جعل من عائشة ضيفة على قلعة الجبل ، تقيم فى واحد من قصوره الثلاثة ، لا تغادرها ، بوسعها أن تخرج إلى القلعة ، قصورها وأبراجها ودورها، كل من فى القلعة يعلم بأمرها ، وأنها ضيفة السلطان . وبرغم أن خصياً قادها إلى حجرة بها كنوز هائلة من المجوهرات والذهب والفضة ، فإنها ظلت على حنينها إلى ناسها ، وظلت حزينة ، وقالت عن الكنوز التى عرضها عليها : الحق أنلا لا أفهم منها أى شيء ، ولا أعرف قيمتها !
وكانت الجريمة التى عوقب بسببها والد عائشة وخالها وإمام مسجد شيخون وقاضى الشافعية والخليفة وزوج السلطان ، أنهم تفهموا اختيار عائشة ، وأنه لا شيء يعدل حياتها فى حدرة الحنة .
أخيراً ، فإن الحرية هى اختيار عائشة ، فى مقابل عرض السلطان خليل بن الحاج أحمد عليها ، وإصراره ، أن تقيم فى قلعة الجبل ، طاردها وقتل كل من حولها حتى تغادر حدرة الحنة ، واختار الناس أن يناصروا حرية عائشة فى الاختيار ، وهو اختيار أفضى ـ فى النهاية ـ إلى زوال السلطان نفسه .
***
إن عزلة الإنسان تنفى حريته ، فالحرية مسئولية اجتماعية ، وارتباط بالآخرين ، ووعى متنام بما يحيط به . لقد عاش سر شاكر المغربى فى داخله ، وكما يقول كودويل ، فإن الرجل الوحيد فى الصحراء ليس حراً ، إن حى بن يقظان وروبنسون كروزو لم يشعرا بحريتهما الحقيقية ، لم يصبحا أكثر حرية إلا بعد أن التقيا بسلامان وابسال وجمعة وغيرهم ، من نقلوا إليهما الشعور بالجمعية . وقد آثر شاكر المغربى أن يظل فى جزيرته المنعزلة ، حتى فى حراكه الاجتماعى للصعود إلى الطبقة الأعلى ، يخلو إلى أحلام عشقه المجنون ، يتخيل ويتصور ويمارس العزلة الكاملة ، فلا يبوح بسره لأحد " الإحساس بمخالفة الآخرين يضعنى فى جزيرة منعزلة ، أعانى الوحدة ، والسر الذى يصعب ـ إن لم يكن من المستحيل ـ أن أعلنه ، لم تصرفنى المعاملات المادية ، أو الصفقات ، عن الخلو إلى نفسى ، ولو فى حضور الآخرين ، واحتضان حلمى الغالى ، وبقيت على صلتى بالخيالات ، لا أفارقها ، وإن ظل السر داخلى ، أتحدث وأناقش وأسأل وأبيع وأشترى وأعقد الصفقات ، فلا صلة بين عملى وذلك المارد الذى يعلو صراخه ، فأضرب قبضتى ـ بلا مناسبة ـ فى حافة المكتب . لم تكن تؤلمنى أو تضايقنى تصرفات الآخرين ، مهما تمادت فى الإيلام ، إن أذنوا لى ـ ربما دون أن يدروا ـ باحتضان كنزى الجميل ، نتمرغ فى رمال الشاطئ ، نسبح فى بحار عميقة ، غامضة ، نعانق النجوم فى سماوات لا نهائية " إلخ . وعندما أصبح سره فى وعى غيره ـ نادية حمدى ـ حاول أن يسترده ، فأخفق ، فلجأ إلى تصرف مجنون ، وإن كان منطقياً ، ليفقد حريته ، وربما وجوده .
بالطبع ، فإن " اعتراف المرء بذنوبه لا يكفى لتبرئة ساحته " .. ذلك ما تبينه كليماس بطل " السقطة " لكامى ، وإن لم يتبينه شاكر المغربى . تصور المغربى أن عليه أن يروى ما حدث دون أن يندبر العواقب ، وأن الحفاظ على حريتى مرتهن بالحفاظ على حرية الآخرين ، المرء لا يكون حراً بالفعل فى أفكاره وتصرفاته ، إلا إذا كان على معرفة حقيقية بما ينتويه ، وبالحرص المؤكد ـ فى الوقت نفسه ـ على أن يعثر " على المفتاح الوحيد لكل حرية كائنة ما كانت " ، والتعبير لجون ديوى .
ثمة مقولة ترى أنه " بدون الحرية لن يكون ثمة فارق بين الخير والشر ، لأن الحرية هى التى تدخل القيمة فى العالم ، ومن ثم فهى لابد أن تظل وراء القيمة نفسها " ( مشكلة الحرية ص 263 ) ، فليس من شيء يعلو على الخير والشر معاً سوى الحرية ، وأتذكر كذلك قول البولندى شاينا " إن ما سيبقى من فنى ، هو حريتى التى تحيا فى الإنسان الآخر .. المتلقى " !
فصول ـ 1988


(انتهى الكتاب)

د. حسين علي محمد
30/05/2010, 10:33 PM
مؤلفات محمد جبريل
...........................

1 ـ تلك اللحظة ( مجموعة قصصية ) 1970 ـ نفد
2 ـ الأسوار ( رواية ) 1972 هيئة الكتاب ـ الطبعة الثانية 1999 مكتبة مصر
3 ـ مصر فى قصص كتابها المعاصرين ( دراسة ) الكتاب الحائز على جائزة الدولة ـ 1973 هيئة الكتاب
4 ـ انعكاسات الأيام العصيبة ( مجموعة قصصية ) 1981 مكتبة مصر ـ ترجمت بعض قصصها إلى الفرنسية
5 ـ إمام آخر الزمان ( رواية ) الطبعة الأولى 1984 مكتبة مصر ـ الطبعة الثانية 1999 دار الوفاء لدنيا الطباعة بالإسكندرية
6 ـ مصر .. من يريدها بسوء ( مقالات ) 1986 دار الحرية
7 ـ هل ( مجموعة قصصية ) 1987 هيئة الكتاب ـ ترجمت بعض قصصها إلى الإنجليزية والماليزية
8 ـ من أوراق أبى الطيب المتنبى ( رواية ) الطبعة الأولى 1988 هيئة الكتاب ـ الطبعة الثانية 1995 مكتبة مصر
9 ـ قاضى البهار ينزل البحر ( رواية ) 1989 هيئة الكتاب
10 ـ الصهبة ( رواية ) 1990 هيئة الكتاب
11 ـ قلعة الجبل ( رواية ) 1991 روايات الهلال ـ الطبعة الثانية .......... مكتبة الأسرة
12 ـ النظر إلى أسفل ( رواية ) 1992 ـ هيئة الكتاب
13 ـ الخليج ( رواية ) 1993 هيئة الكتاب
14 ـ نجيب محفوظ .. صداقة جيلين ( دراسة ) 1993 هيئة قصور الثقافة
15 ـ اعترافات سيد القرية ( رواية ) 1994 روايات الهلال
16 ـ السحار .. رحلة إلى السيرة النبوية ( دراسة ) 1995 مكتبة مصر
17 ـ آباء الستينيات .. جيل لجنة النشر للجامعيين ( دراسة ) 1995 مكتبة مصر
18 ـ قراءة فى شخصيات مصرية ( مقالات ) 1995 هيئة قصور الثقافة
19 ـ زهرة الصباح ( رواية ) 1995 هيئة الكتاب
20 ـ الشاطئ الآخر ( رواية ) 1996 مكتبة مصر ـ ترجمت إلى الإنجليزية ـ الطبعة الثالثة 2002 مكتبة الأسرة
21 ـ حكايات وهوامش من حياة المبتلى ( مجموعة قصصية ) 1996 هيئة قصور الثقافة
22 ـ سوق العيد ( مجموعة قصصية ) 1997 هيئة الكتاب
23 ـ انفراجة الباب ( مجموعة قصصية ) 1997 هيئة الكتاب ـ ترجمت بعض قصصها إلى الماليزية
24 ـ أبو العباس ـ رباعية بحرى ( رواية ) 1997 مكتبة مصر
25 ـ ياقوت العرش ـ رباعية بحرى ( رواية ) 1997 مكتبة مصر
26 ـ البوصيرى ـ رباعية بحرى ( رواية ) 1998 مكتبة مصر
27 ـ على تمراز ـ رباعية بحرى ( رواية ) 1998 مكتبة مصر
28 ـ بوح الأسرار ( رواية ) 1999 روايات الهلال
29 ـ مصر المكان ( دراسة فى القصة والرواية ) 1998 هيئة قصور الثقافة ـ الطبعة الثانية 2000 ـ المجلس الأعلى للثقافة
30 ـ حكايات عن جزيرة فاروس ( سيرة ذاتية ) 1998 دار الوفاء لدنيا الطباعة بالإسكندرية
31 ـ الحياة ثانية ( رواية تسجيلية ) 1999 ـ دار الوفاء لدنيا الطباعة بالإسكندرية
32 ـ حارة اليهود ( مختارات قصصية ) 1999 ـ هيئة قصور الثقافة
33 ـ رسالة السهم الذى لا يخطئ ( مجموعة قصصية ) 2000 ـ مكتبة مصر
34 ـ المينا الشرقية ( رواية ) 2000 ـ مركز الحضارة العربية
35 ـ مد الموج ـ تبقيعات نثرية ( رواية ) 2000 ـ مركز الحضارة العربية
36 ـ البطل فى الوجدان الشعبى المصرى ( دراسة ) 2000ـ هيئة قصور الثقافة
37 ـ نجم وحيد فى الأفق ( رواية ) 2001 ـ مكتبة مصر
38 ـ زمان الوصل ( رواية ) 2002 ـ مكتبة مصر
39 ـ موت قارع الأجراس ( مجموعة قصصية ) 2002 ـ هيئة قصور الثقافة
40 ـ ما ذكره رواة الأخبار عن سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله ( رواية ) 2003 ـ روايات الهلال
41 ـ حكايات الفصول الأربعة ( رواية ) 2004 ـ دار البستانى للنشر والتوزيع
42 ـ زوينة ( رواية ) 2004 ـ الكتاب الفضى
43 ـ صيد العصاري ( رواية ) 2004 ـ دار البستانى للنشر والتوزيع
44 ـ غواية الإسكندر ( رواية ) 2005 ـ روايات الهلال
45 ـ الجودرية ( رواية ) 2005 ـ المجلس الأعلى للثقافة ـ الطبعة الثانية 2006 ـ مكتبة الأسرة
46 ـ رجال الظل ( رواية ) 2005 ـ دار البستانى للنشر والتوزيع
47 ـ ما لا نراه ( مجموعة قصصية ) 2006 ـ هيئة قصور الثقافة
48 ـ مواسم للحنين ( رواية ) 2006 ـ دار البستانى للنشر والتوزيع
49 ـ كوب شاى بالحليب ( رواية ) 2007 ـ دار البستانى للنشر والتوزيع
50 ـ سقوط دولة الرجل ( دراسة فى القصة والرواية ) 2007 ـ دار البستانى للنشر والتوزيع
51 ـ المدينة المحرمة ( رواية ) 2007 ـ دار مجدلاوى بالأردن
52 ـ أهل البحر ( رواية ) 2007 ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب 2007


كتب عن المؤلف
.....................

1 ـ الفن القصصى عند محمد جبريل ـ مجموعة من الباحثين ـ 1985 مكتب منيرفا بالزقازيق
2 ـ دراسات فى أدب محمد جبريل ـ مجموعة من الباحثين ـ 1986 مكتب منيرفا بالزقازيق
3 ـ البطل المطارد فى أدب محمد جبريل ـ د. حسين على محمد ـ 1999 دار الوفاء بالإسكندرية
4 ـ فسيفساء نقدية : تأملات فى العالم الروائى لمحمد جبريل ـ د . ماهر شفيق فريد ـ 1999 دار الوفاء بالإسكندرية .
5 ـ محمد جبريل .. موال سكندرى ـ فريد معوض وآخرين ـ 1999 كتاب سمول
6 ـ استلهام التراث فى روايات محمد جبريل ـ سعيد الطواب ( دكتور ) 1999 دار السندباد للنشر
7 ـ تجربة القصة القصيرة فى أدب محمد جبريل ـ د . حسين على محمد ـ 2001 كلية اللغة العربية بالمنصورة ـ الطبعة الثانية ـ 2004 أصوات معاصرة
8 ـ فلسفة الحياة والموت فى رواية الحياة ثانية ـ نعيمة فرطاس ـ 2001 أصوات معاصرة
9 ـ روائى من بحرى ـ حسنى سيد لبيب ـ 2001 هيئة قصور الثقافة
10 ـ محمد جبريل ـ مصر التى فى خاطره ـ حسن حامد ـ 2002 أصوات معاصرة
11 ـ سيميائية العقد فى رواية النظر إلى أسفل ـ د .عبد الرحمان تبرماسين ، العطرة بن دادة ـ 2004 أصوات معاصرة
12 ـ التراث والبناء الفنى فى أعمال محمد جبريل الروائية ـ د . سمية الشوابكة ـ 2005 هيئة قصور الثقافة
13 ـ المنظور الحكائى فى روايات محمد جبريل ـ د . محمد زيدان ـ 2005 أصوات معاصرة
14 ـ بنية الخطاب الروائى فى أدب محمد جبريل: جدل الواقع والذات ـ آمال منصور ( جامعة بسكرة بالجزائر ) 2006 ـ أصوات معاصرة