المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سطح



نشيد الربيع
05/02/2006, 02:59 PM
منذ أن ارتفعت أسعار تأجر الغرف في العبارة ذلك الارتفاع المضاعف الذي لا تبرره خدمة مضافة .. وعم ( كمال ) يكتفي بحجز التذكرة ( سطح ) ويقول : يا ابني كلها عشر ساعات ونوصل مصر . ولا فرق في ذلك أسافر في الصيف أم في الشتاء .. يلتف بعباءته ويتوسد حقيبته ويترك عينيه تجولان في النجوم ... أما عقله فقد سبقه إلى قريته القائمة على كتف النيل .. حيث هو أوسع ما يكون .. هناك حيث تبدأ الحياة في السريان في هذه الأرض ..

عم كمال " ترزي ايده تتلف بحرير " ، منذ أن فقد سافه أيام حرب الاستنزاف ولم يعلم له حرفة سواها .. سافر إلى العراق في النصف الثاني من السبعينيات .. كانت العراق وطننا لنا .. أرضها العطشى لعرق أبناء النيل .. لفؤوسهم .. وأحيانا لدمائهم .. سافر مع شباب من قريته ، كل منهم تمتلئ نفسه بآماله ، هذا يريد أن يبني ( داره ) بالطوب الأحمر .. وهذا يريد ان يشترى لزوجته ( راديو بروحين ) .. كانوا يحملون أحلامهم الصغيرة في حقائبهم . لم يعلموا أن هذه الحقائب ستمتلئ من آلام الغربة مثلما امتلأت بهذه الأحلام ..

عاد سريعا من العراق لأنه لم يحتمل الغربة .. كان يقول ( الغربة تنفع لغيري متنفعليش ..) ، رزق بأبناء ثلاث .. مرزوق وكنوز وغوايش .. كان يتحدى الفقر بأسمائهم .. لكن الفقر لا تقهره الأسماء ، غدا تكبر كنوز وتبقى عروسة .. وبعدها غوايش .. وهو لم يرث أرضا ، والخياطة لا تدر له ما يكفي ( علشان يحوِّش لبناته ) وجهاز البنات أولى الأمور في الأرياف ..
لم يجد أمامه إلا السفر ..

وتحمل الغربة مرة أخرى تحمله اليوم لأجل أبنائه ، أليس من حقهم أن يعيشوا عيشة كريمة ..

كان أنسه في غربته أن يتحدث عنهم ، عن نباهة مرزوق وخفة دم كنوز .. ولماضة غوايش ، عن سعدية ابنة أخيه وعزمه على أن تكون زوجة ولده .. كان يدور على المحلات بعد صلاة العشاء بساقه والعكاز يختار الأقمشة التي سيحملها معه لابنته العروس .. عندما عرفته كانت كنوز قد تزوجت و غوايش تقدم لها ابن الحلال .. كنت أذهب معه أحيانا للسوق .. وقف مرة أمام محل لفساتين الزفاف .. وقال لي : ايه رأيك .. انهو واحد من دول يكون أحلى للبت غوايش .. انت عارف أنا مبفهمش في الحاجات دي .. ويظل يصفها لأختار له ، لم يكن يصفها لي إنما يجد سعادة في كونها معها .. وهو يختار لها ..

في السنوات الأخيرة ، كانت أحواله قد بدأت تضطرب ، فالحياة هناك أصبحت تجمع مع ألم الغربة آلاما كثيرة أخرى . آلام صنعتها مقاصد ومشاعر قد يكون لها ما يبررها ، لكنها ككل المقاصد الشريفة .. عمياء عن حقوق الضعفاء أمثال عم كمال . ومع ذلك تحمل اجتماع هذه الآلام بعضها فوق الآخر .. ليعود لابنته بما اختاره لها .. وليرفع رأسها بين أترابها ..
جمع في حقائبه ذكريات سنوات الغربة ، وقرر العودة .. لم يعد يحتمل ، كل يوم قضاه هناك أطعمه قطعة من قلبه ، لم يعد في قلبه شيء يطعمه لتلك الأيام العجاف التي لا تعرف وفاء لهذا القلب ، أصبح يشعر أنها أيام عاقر لا تلد .

.. وكعادته اختار السطح ....


لأنه أوفر ..


وكانت هذه هي المرة الوحيدة التي لا فرق فيها بين السطح وبين سواه ..

محمود الحسن
05/02/2006, 04:30 PM
"قل لن يصيبنا الا ما كتبه الله لنا"

نشيد الربيع لك فائق حبي و تقديري

لا حرمنا الله يراعك الصادق

طارق شفيق حقي
06/02/2006, 12:35 AM
سلام الله عليك

وصف واقعي جميل
عرض لصورة من صور الحياة
لكنها كانت البداية لقصة الوصف الجميل لهذه الشخصة المكافحة
ينقصها روح هذه الشخصية تصرفها فكرها ألمها وحدث يلف هذه القصة
حدث متحرك
تحيتي لك نشيد وصفك جميل

نشيد الربيع
19/02/2006, 03:40 PM
محمود الحسن :

شكرا لك ..

طارق حقي :

أسعدني كثيرا ردك هذا وأفادني ..