المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة قصيرة بعنوان / سر الورقة



عبد الجبار الحمدي
23/10/2009, 10:43 AM
سر الورقة

مثل كل يوم , تجد نفسها على ذلك الرف البعيد من أرفف الدكان الصغير , والذي ورثه محمد بعد أن توفى والده وتركه إلى عاديات العصر , غادر دراسته ليعمل على جلب لقمة عيش لكوم اللحم الذي قيده بعد أن أصبح رجل البيت الأول , يحس أن شؤمه أسود لكونه كبير العائلة , لم يرث الدكان حسب بل كل الهواجس التي كان يرى والده فيها حين مرور في مساعدة , كان يبيع فيه الجرائد والمجلات , علب السجائر, المشروبات الغازية , وعلب السجائر لابد لها من قداحات وإذا لم توجد كان البديل لها علب الكبريت الحمراء اللون ذات الثلاث نجوم , والتي يقطن بداخلها أربعون عودا ترصفوا فوق بعضهم البعض كجنود في مواجهة معركة الكل قد شحذ رأسه مستعدا لنزال قدح في رؤوس سجائر أو لإشعال فتيل قنديل , إلا ذلك العود الذي توسد ارض العلبة بعد أن حلق جزءا من رأسه نتيجة حركة في زحام وأصابع تبحث عن عود ذو رأس كبير ليشحذ بأرض خشنة ذات حبيبات , تاركا فيها بصمة دلت على صلابة وقوة رأسه وان اشتعاله لن يذهب سدى , في ذات مرة شاهد محمد علبة الكبريت وتذكر حديث والده حين أمسك محمد بها وأراد أن يأخذ عودا ليوقد القنديل , فنهض مسرعا وأخذها منه وقال محذرا إياك واستخدامها مرة أخرى , إنها عزيزة علي فهذه هي تميمة الدكان التي جلبت كل الخير معها , تفاجأ ! حينها محمد ولم يعلق أو يسأل , فقد كان لوالده بعض الأمور الغريبة حتى في تصرفاته , أخذ علبة الكبريت قلبها وهزها قبل أن يفتحها فلم يجد شيئا ذو تغير حينها , فعمد إلى فتحها قليلا ورأى إنها ملئ بأعواد الكبريت فتبسم وقال في نفسه .. إنها علبة كبريت لا شيء يميزها عن العلب الأخرى , ولكن لما كان والدي يحبها ؟ لم أسأله حتى أعرف ميزتها , ولكني أتذكر انه قال .. إنها تميمة الدكان , ولكن كيف ان تكون هذه العلبة هي تميمة ما الذي يميزها ؟! لابد لي أن أسأل والدتي علها تعلم شيئا عنها , وأرجَعَها حيث كانت , كانت أعواد الكبريت قد ميزت اليد الغريبة عن صاحبها , فرَجتْ نفسها أعواد الكبريت دون ان تحدث أي تغير يذكر يجعله يشك عما في داخلها وتتذكر جيدا حين وضع أبو محمد ورقة بعد أن أطبقها عدة مرات تحت أعوادها وأمنها تلك الورقة , وأدلف بعدها عيشا في أيام وسنين إلى أن فارق الحياة دون اطلاع عائلته على سر الورقة , مرت الأيام برتابتها المعتادة , كان محمد قد سأل والدته والتي أجابته بعدم معرفتها بأي شيء عن علبة الكبريت تلك , لم يهتم للموضوع وأخذ عمله بجدية حتى أنه نسيها أو العودة إلى البحث فيها , أو حتى استخدامها فقد كانت القداحات التي يبيعها تغنيه عنها طوال الوقت , وذات مرة وبعد أن لملم النهار ثيابه البيضاء وعزم أن يرتدي حلته السوداء الحالكة والتي زادها حلكة انقطاع التيار الكهربائي إلى جانب نضوب دكانه من القداحات , أراد ساعتها أن يشعل القنديل فتذكر علبة الكبريت فعمد الى تحسسها في الظلمة لكنه أنتظر إلى أن اتسع بؤبؤ عينيه ليعتاد على ظلمة المكان التي أشاح نور عمود الكهرباء البعيد بخيوط ضوء شاحب , مد يده تلمسها أمسك بها وقال ... هاهي أنت لا عليك لن أقوم بشيء يؤذيك ولكني أحتاج الى عود ثقاب منك , أرجو المعذرة لعلني أعصي وصية أبي , لكن لا أدري ... هناك شيء ما يقول لي أن أتركك , سقطت من يده , عاد لالتقاطها , وقال .. لما تهربين .. آه لو أعلم سرك !!! مع أبي لقد أمسيت ونفسي في حيرة , ترك لنفسه الحديث معها وساد الصمت قليلا , مرت نسمة هواء بقربه أحس بقشعريرة وكأن يداَ تتلمسه , ألتفت قائلا .. بسم الله الرحمن الرحيم , ما هذا !! نظر إلى علبة الكبريت وقال : هل يمكن ذلك !! لا غير معقول أتراني أعتقد بتلك الهواجس , ولكني أحسست بيد تلمستني , قرب علبة الكبريت من فمه وهمس , أيوجد من يسكن هنا ؟ ؟ شاهده أحد الزبائن وهو يقوم بذلك دون أن يشعر به , ما بك يا محمد هل تتحدث مع نفسك أم مع علبة الكبريت , فطن له فقال مرتبكا لا .. لا .. ولكني كنت أفكر بصوت عال , فقال له حسنا أعطني علبة سجائر , فقام بمد يده من الفتحة الخارجية وناوله العلبة , وقال له أريد نارا , قال محمد لا يوجد عندي أي قداحة فقد فرغت مني قبل ساعات , لا عليك أشعل من الكبريت هذا , تطلع محمد إلى علبة الكبريت وقال : إنها فارغة أيضا , فكما ترى أريد ان أشعل القنديل , ولكني بحيرة من أمري وكنت عزمت أن أوقده بقداحتك , لا عليك وسار بعيدا , قال محمد : ما لي كذبت على الرجل , وما لي وهذه العلبة التي أخاف فتحها , مع العلم اني فتحتها قبل ذلك , جلس على كرسيه وترك القنديل , عاد لهز علبة الكبريت , كانت الأعواد قد تماسكت مع بعضها البعض فلم تصدر أي صوت , همست فيما بينها ماذا نفعل ؟ لقد عزم محمد هذا على فتح الغطاء ورؤية ما أاؤتمنا عليه , ماذا نصنع ؟ البعض قال : لما لا ندعه يبحث ليجد ما خبأ والده فله الحق أن يعلم بما كتب بها , فقد بقينا حراسا لفترة طويلة للسر ولابد ان ينكشف وعليه ان يتحمل ما يجد أو يقرأ فهذا قدره كما كان والده , والبعض قال لا .. لنحاول أن نرشده ان يبتعد عن العبث بنا وندعوه ان يرجعنا حيث كنا فقد قال له والده إننا تميمة الدكان فلا بد ان يحترم رغبة والده , وغيرهم قال : بل نحاول وأثناء إشعال أحدنا ان يرمي بنفسه ليحرق الورقة والجميع معه , وبقي الأمر سجال بينهم , أما محمد فقد عبث الخوف في نفسه , وأطبق يده على العلبة مخافة خروج الجن او العفريت , هكذا تصور حين أحس ان يدا قد مسته , قرب علبة الكبريت من فمه وهمس ... أرجوك أن كنت جنيا فأسألك بالله أن تبتعد عني وأقسم أن أرجعك مكانك فقط أخبرني هل أنت تسكن العلبة ؟ كان الظلام ونسمات الليل الباردة قد أوحت له ما خيلته هواجس نفسه وأقسم عليها باسم الله ثم عمد الى فتح غطاء العلبة بعد أن صمم على معرفة سرها , أخرج أعواد الكبريت بعد ان قلبها في حجره , فلم يجد شيئا غير عادي فيها , أنها مجرد أعواد كبريت لم يلحظ ما بداخل بطنها بسبب الظلام , ضحك على نفسه وما خيلته فقام بإعادة أعواد الكبريت إلى بطن العلبة وأخذ عودا ليشعله حتى ينير القنديل فكان حظه ذلك العود حليق الرأس والذي ما أن أشعله حتى خبا بسرعة , لكن العود قد أضاء قليلا فلاحت له الورقة المطبقة في باطن العلبة فقام بإفراغ العلبة مرة أخرى ليخرج الورقة ويفتحها ليقرأ ماذا كتب فيها , وقال يا الله !!! هذا هو السر إذن الذي تحدث عنه والدي إنها هذه الورقة , علي أن أعرف سرها , قام بأخذ عود كبريت أخر ليشعله , أمسك العود برأسه حتى لا يجر شحذا لإشعال سائلا مساعدة نسمة هواء عابرة فأطفأت رأسا مشتعل في عود كبريت , فقام بأخذ آخر , وآخر , وآخر , كلها عمدت على نفس الفعل , فلعن حظه وصاح غير معقول !! هل من الممكن أن يحدث هذا ؟ سأقوم بإشعاله في الداخل إذن .. أمسك بعلبة الكبريت وأخذها إلى الدكان , أمسك الورقة في فمه حتي يشعل عود الكبريت الذي خرج برأس كبير مستعدا للمهمة بعد أن ترامت تضحية كل أصدقائه , وما أن وضعه على تلك الجادة ساحبا إياه بقوة حتى نشر ناره مندفعا إلى الورقة القريبة فقام بحرقها بعد أن لسع محمد بيده فصاح من ألم تاركا الورقة تحترق دون أن يستطيع الإمساك بها أو بما تبقى منها ليدفن سرها مع والده الذي فارق الحياة .



عبد الجبار الحمدي

نرجس
23/10/2009, 02:47 PM
سرد متقن جدا
و عنصر التشويق جديا حاضر
أبدعت جدا
أحييك سيدي

حسن_العلوي
23/10/2009, 08:42 PM
سرد مشوق
ما بالورقة انطفات كصاحبها
الفضول قوة جاذبة
مودتي

عبد الجبار الحمدي
24/10/2009, 11:18 AM
الى الكريمة نرجس شكرا لمرورك وتعليقك مع تقديري وامتناني ... الحمدي

عبد الجبار الحمدي
24/10/2009, 11:20 AM
الاستاذ العزيز حسن العلوي مرورك بباحتي المتواضعة زادها رونقا وعرفانا ... لك السلام أخي الكريم ... الحمدي