المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شبهات حول الإسلام



عبد المنعم جبر عيسي
29/09/2009, 11:26 AM
من سنن الله الكونية سنة التدافع .. بين بين الخير والشر، الحق والباطل .
قال تعالى :
{ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } [البقرة251] .
{ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحج40].
هذا التدافع هو السبيل الحافز لتبليغ دعوة الحق ، و إقامة الحجة على صدقها ، و إزالة الشبهات عنها .، و في ذلك آداء للفريضة التي افترضها الله ، سبحانه و تعالى ، على مَنْ أنعم عليهم بنعمة الإسلام ، وهو السبيل لتنشيط ملكات و طاقات العقل المسلم ، كي يواكب المستجدات في ميادين هذا التدافع . . فلكل عصر شبهاته ، كما أن لكل مذهب من المذاهب الضالة سهامه التي يصوبها نحو الحق و أهله .
وقال أيضا سبحانه وتعالى :
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } (الأنعام : 112) .
ولقد بُعث النَّـبِيّ صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن على الأرض موحد لله ، إلا بقايا من أهل الكتاب على دين اندرس معظمه ، وحرفت عن جادة الحق تعاليمه .. وكانت الأرض فى ظلام الشرك الدامس ، فكان أمر الله تعالى بكشف هذه الغمة ببعثته صلى الله عليه وسلم .
قال تعالى :
{ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا } [النساء174]
{ يَا أَيُّهَا النَّـبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا } [الأحزاب45-46]
فصدع النَّـبِيّ صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى التوحيد وعبادة الله وحده ، ففتح الله له قلوب الخلق ؛ حتى أشرقت ووجوههم وقلوبهم بنور الإيمان ، وانتشروا فى الأرض ينشرون دين التوحيد وفاتحين البلاد ، حتى دانت لهم رقاب العباد من مشارق الأرض إلى مغاربها .. ولكنَّ الكفر يأبى إلا ظلمة الشرك ، فأمر أتباعه وأعوانه بمحاربة أهل الحق ، فكان التدافع من لدن ظهور الدعوة حتى يومنا هذا ، تختلف الأسلحة وتتباين الأشخاص وتتعدد الهيئات ولكنَّ الهدف واحد ، هو اسكات صوت الحق وقتل دعوته ودعاته ..
إطفاء نور الله ..
{ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [التوبة32] ..
فبدأوا ينشرون أكاذيهم وشبهاتهم حوله ، ليبثبطوا همم الرجال ويصرفوا عنه قلوب الخلق .. ولكن هيهات ..
{ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) } الأنفال ..
فقيض الله لهذا الدين علماء أجلاء ، يدفعون عنه تأويل الجاهلين وتحريف الغالين وانتحال المبطلين ، وشُبه الهالكين .. ليهلك من هلك عن بينة ويحى من حى عن بينة .
ولقد دارت بعض هذه الشبهات حول القرآن ، وبعضها حول السُنَّة أو الأنبياء أوالشرائع أو العقل والنقل ، ومن يطلع على هذه الشبهات المثارة حول الإسلام وشريعته ونبيه ؛ يظن أنه وقع فى بحر خضم لا ساحل له ، ولكنه سرعان يفتح عينيه على ردود علماء السُنَّة ، فيراهم يُجهزون على هذه الشبهات ضربًا وطعنًا وتفنيدا ، فيهدأ باله ويرتاح خاطره ويطمئن قلبه .
( وقد ينشأ الاشتباه نتيجة خفاء الدّليل لسببٍ من الأسباب ، كالإجمال في الألفاظ واحتمالها للتّأويل ، ودوران الدّليل بين الاستقلال بالحكم أوعدمه ، ودورانه بين العموم والخصوص ، واختلاف الرّواية بالنّسبة للحديث ، وكالاشتراك في اللّفظ ، أو التّخصيص في عامّه ، أو التّقييد في مطلقه ، كما ينشأ الاشتباه عند تعارض الأدلّة دون مرجّحٍ .. كما أنّ النّصوص في دلالتها ليست على وضعٍ واحدٍ ، فمنها ما دلالته على الأحكام ظنّيّةٌ ، فيجتهد الفقهاء للتّعرّف على ما يدلّ عليه النّصّ ، وقد يتشابه الأمر عليهم نتيجة ذلك ، إذ من الحقائق الثّابتة اختلاف النّاس في تفكيرهم ، وتباين وجهات نظرهم ) ( * ) .
والرد على الشبهة ؛ يختلف باختلاف مثيرها ، فالرد على المستشرقين ( ** ) من اليهود والنصارى ؛ لا يليق إلا أن يكون جنبًا إلى جنب مع التوراة والإنجيل ، والرد على أحفاد المعتزلة وأدعياء العلم والمستغربين ، وغيرهم من أهل الضلال والانحراف عن الجادة ؛ لا يكون إلا بالعقل والمنطق والأبحاث العلمية ، وكشف حقيقة ما يستندون إليه ويعتمدون عليه من حديث صحيح أو ضعيف أو موضوع ، وكذا كيفية الاستدلال ومدى صحته من عدمه .
ولسنا قلقين من أعداء الإسلام ، فما زال هذا دأبهم ؛ التشكيك فى القرآن والسُنَّة ونبي الأمة ، فهم لا ينالون ثقة الجماهير الإسلامية أبدًا ، ولا يُسمع صدى لمزاعمهم وأكاذيبهم ؛ لأن المسلم بطبعه يخشى من آراء الآخر ، ويتعامل معها بحذر وريبة ، خاصة ما كان منها متعلقًا بالدين ، ولكنَّ الخوف والقلق من هؤلاء ؛ الذين هم من بنى جلدتنا ؛ يتكلمون بألسنتنا ويشربون ماءنا ويتنفسون هواءنا ، ثم يطعنون فى ديننا وشريعتنا ونبينا ، يهرفون بما لا يعرفون ، ويفتون بما لا يعلمون .. فهم الخطر الحقيقى الداهم لديار المسلمين ، وإن لم نقف ضدهم ؛ بكشف زيفهم وعوارهم الفكرى وخبلهم العقلى لعوام المسلمين ، فقد يزيغ فريق منهم بسبب فساد هؤلاء وإفسادهم فى الأرض .
نبدء مستعينين بالله العظيم .
فإلى بعض شبهات المغرضين المشككين ، وردود العلماء عليها .
والموضوع ـ بكل تأكيد ـ مطروح لمداخلات الزملاء ، للتصويب إن أخطأتُ ,التعقيب إن قصرتُ .
والله الموفق .
يتبع .
-------------------------
( * ) ا / عماد حسن أبو العينين – ( شبهات حول السنة والسيرة النبوية ) – ص 8 .
( ** ) المستشرقون : جمع مستشرق ، يطلق على كل من يبحث في أمور الشرقيين وثقافتهم وتاريخهم وليس من أهلهم ، ولهم تيار فكرى يعرف بـ ( الاستشراق ) هدفه التشكيك فى صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والطعن فى الإسلام دينًا وشريعة وعقيدة ولغة ، منهم منصفون وأكثرهم المتعصبون .

عبد المنعم جبر عيسي
29/09/2009, 11:36 AM
قال المغرضون :
( يعطي القرآن معلومات مختلفة عن خلق الإنسان :
{ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ } ( المرسلات : 20)(1)
{ مِنَ الْمَاءِ } ( الأنبياء : 30) . .
{ مِنْ نُطْفَةٍ } ( يس : 77) . .
{ مِنْ طِينٍ } ( السجدة : 7) . .
{ مِنْ عَلَقٍ } ( العلق : 2) . .
{ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ } ( الحجر : 26) . .
{ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا } ( مريم : 67) .
فكيف يكون كل ذلك صحيحاً في نفس الوقت ؟


*****

ولدحض هذه الفرية ، ولدفع شبهة التناقض عن كتاب الله العزيز الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فى مسألة خلق الإنسان ؛ أفرد الأستاذ الدكتور / محمد عمارة ـ رحمه الله تعالى ـ فصلا فى كتابه ( * ) : ( شبهات حول القرآن الكريم ) للرد على هذه الشبهة عقلا ونقلا .. فقال :
( ليس هناك أدنى تناقض - بل و لا حتى شبهة تناقض - بين ما جاء في القرآن الكريم من معلومات عن خلق الإنسان . . { وبين ما أثبته العلم الحديث } .. و حتى يتضح ذلك ، يلزم أن يكون هناك منهج علمي في رؤية هذه المعلومات ، التي جاءت في عديد من آيات القرآن الكريم . . و هذا المنهج العلمي يستلزم جمع هذه الآيات . . و النظر إليها في تكاملها . . مع التمييز بين مرحلة خلق الله للإنسان الأول - آدم عليه السلام - و مرحلة الخلق لسلالة آدم ، التي توالت و تكاثرت بعد خلق حواء ، و اقترانها بآدم ، و حدوث التناسل عن طريق هذا الاقتران و الزواج .
لقد خلق الله ، سبحانه و تعالى ، الإنسان الأول - آدم _ فأوجده بعد أن لم يكن موجوداً . . أي أنه أصبح "شيئاً" بعد ان لم يكن "شيئاً" موجوداً . . و إنما كان وجوده فقط في العلم الإلهي . . و هذا ومعنى الآية الكريمة : { أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا } (مريم : 67) .
أما مراحل خلق الله ، سبحانه و تعالى ، لآدم . . فلقد بدأت بـ ( التراب ) الذي أضيف إليه ( الماء ) فصار ( طيناً ) ثم تحول هذا الطين إلى ( حمأ ) أي أسود منتن ، لأنه تغير - و المتغير هو ( المسنون ) - فلما يبس هذا الطين - من غير أن تمسه النار - سمى ( صلصالاً ) - لأن الصلصال هو الطين اليابس - من غير ان تمسه نار - و سمى صلصالاً لأنه يصل ، أي يصوت ، من يبسه - أي له صوت و رنين .
و بعد مراحل الخلق هذه - التراب . . فالماء . فالطين . . فالحمأ المسنون . . فالصلصال . . نفخ الله ـ سبحانه و تعالى ـ في مادة الخلق هذه من روحه ، فغدا هذا المخلوق " إنساناً " هو آدم ، عليه السلام .
وعن هذه المراحل تعبر الآيات القرآنية فتصور تكامل المراحل - و ليس التعارض المتوهم و الموهوم - فتقول هذه الآيات الكريمة : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ } ( آل عمران : 59) - فبالتراب كانت البداية : { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ } (السجدة : 7) ، و ذلك عندما أضيف الماء إلى التراب { فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ } (الصافات : 11) - و ذلك عندما زالت قوة الماء عن الطين فأصبح " لازباً " ، أي جامداً .
و في مرحلة تغير الطين ، و اسوداد لونه ، و نتن رائحته ، سمي ( حمأ مسنوناً ) ، لأن الحمأ هو الطين الأسود المنتن ، و المسنون هو المتغير بينما الذي ( لم يتسنه ) هو الذي لم يتغير . . وعن هذه المرحلة عبرت الآيات : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28 ) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) } (الحجر : 26-35)(2) .
تلك هي مراحل خلق الإنسان الأول ، توالت فيها و تتابعت و تكاملت المصطلحات : التراب . . و الماء . . و الطين . . و الحمأ المسنون . . و الصلصال . . دونما أي شبهة للتعارض أو التناقض ، وكذلك الحال و المنهاج مع المصطلحات التي وردت بالآيات القرآنية التي تحدثت عن خلق سلالة آدم عليه السلام .
فكما تدرج خلق الإنسان الأول - آدم - من التراب . . إلى الطين . . إلى الحمأ المسنون . . إلى الصلصال . . حتى نفخ الله فيه من روحه . . كذلك تدرج خلق السلالة و الذرية . . بدءاً من (النطفة) - التي هي الماء الصافي - و يعبر بها عن ماء الرجل - ( المني ) - . . إلى ( العلقة ) - التي هي الدم الجامد ، الذي يكون منه الولد ، لأنه يعلق و يتعلق بجدار الرحم . . إلى ( المضغة ) - و هي قطعة اللحم التي لم تنضح ، و المماثلة لما يمضغ بالفم - . . إلى ( العظام ) . . إلى ( اللحم ) الذي يكسو العظام . . إلى ( الخلق الاخر ) الذي اصبح - بقدرة الله - في أحسن تقويم (3) .
و من الآيات التي تحدثت عن توالي و تكامل هذه المراحل في خلق و تكوين نسل الإنسان الأول و سلالته ، قول الله ، سبحانه و تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا } ( الحج : 5 ) ، وقوله سبحانه : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } (المؤمنون : 12-14) .
و إذا كانت ( النطفة ) هي ماء الرجل ، فإنها عندما تختلط بماء المرأة ، توصف بأنها ( أمشاج ) - أي مختلطة - كما جاء في قوله تعالى : { إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } (الإنسان : 2) .
كما توصف هذه ( النطفة ) بأنها ( ماء مهين ) لقلته و ضعفه . . و إلى ذلك تشير الآيات الكريمة : { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ } ( السجدة : 7-8 ) ، { أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ } ( المرسلات : 20- 23) .
و كذلك ، وصفت ( النطفة ) - أي ماء الرجل - بأنه ( دافق ) لتدفقه و اندفاعه . . كما جاء في الآية الكريمة : { فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) } ( الطارق : 5-7 ) .
هكذا عبر القرآن الكريم عن مراحل الخلق . . خلق الإنسان الأول . . و خلق سلالات و ذرية هذا الإنسان . . و هكذا قامت مراحل الخلق ، و مصطلحات هذه المراحل ، شواهد على الإعجاز العلمي للقرآن الكريم . . عندما جاء العلم الحديث ليصدق على هذه المراحل و مصطلحاتها ، حتى لقد انبهر بذلك علماء عظام فاهتدوا إلى الإسلام . . فكيف يجوز - بعد ذلك و معه - أن يتحدث إنسان عن وجود تناقضات بين هذه المصطلحات . . ؟!
لقد صدق الله العظيم : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } (النساء : 82) .
--------------------------------
( * ) شبهات حول القرآن الكريم ـ د / محمد عمارة ، بتصرف يسير .
(1) الآيات التي تحدثت عن "الماء المهين" هي في سورتى ( السجدة : 8 و ( المرسلات : 20) .
(2) انظر معاني المصطلحات الواردة في هذه الآيات في : الراغب الأصفهاني ، أبو القاسم الحسين بن محمد ( المفردات في غريب القرآن ) طبعة دار التحرير - القاهرة - سنة 1991م . و ( لسان العرب ) - لابن منظور - طبعة دار المعارف - القاهرة .
(3) انظر في معاني هذه المصطلحات ( المفردات في غريب القرآن ) - مصدر سابق .

طارق شفيق حقي
29/09/2009, 02:57 PM
سلام الله عليك

أبارك هذا التوجه المحمود للمشرف الكريم الأستاذ عبد المنعم جبر عيسى

وما أحوج القراء ليعرفوا تفاصيل هذه الشبهات ليحصنوا أنفسهم من أباطيلها

وأذكر هنا أن كثيراً من المستشرقين ومن لف لفيفهم
يعتمدون إثارة البلبلة والضوضاء في مواضيع شتى متشابهة
وأداتهم فيها التأويل
والتأويل علم مستقر في تراثنا
ولا بد من اقتفاء هذ العلوم والوقوف عند الشبهات و الرد عليها بأحسن ما يكون

و الصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

زرقـــاء اليمامة
29/09/2009, 05:43 PM
سلام الله عليك ..
الأستاذ الفاضل عبدالمنعم جبر عيسى
نعم هو موضوع مهم وخطير..فقد تعرضوا للقرآن الكريم بما ليس لهم به علم فألقوا الشبه من تشكيك بأنه كلام أعجمي وكلام مكرر ومتناقض وما يزعمونه من أن فيه أخطاء تاريخية بل إن المنصرين الغربيين والمستشرقيين وجهلة اللغة العربية تهجموا على بعض الصور النحوية والبلاغية التى لا يفهمونها فى القرآن الكريم ، سواء أكان هذا عن عمد أم عن جهل،والمصيبة الكبرى أن المغرضين والمشككين عملوا على إضلال عوام المسلمين بإثارة الشبهات حول القرآن،ولتتصور عظم هذا الخطب يُنقل أن المنصرين الغربيين يقومون بتأليف آلاف الكتب سنويا ضد الإسلام وتضليل المسلمين حول القرآن الكريم..والأدهى والأمرّ أن من يعينهم هم أبناء الإسلام أو من يحسبون على الاسلام فكم من كتاب ألفوه ضد دينهم وأغووا به عوام المسلمين ..وأصبحوا منتشرين بكثرة في المنابر الإعلامية يفصلون ويفسرون ساعين إلى تضليل الأمة..لكن الحقيقة واضحة والشمس لاتغطى بغربال.
ولاريب أن جهود علمائنا إزاء هذا الإضلال و التضليل مباركة، غير أننا بحق نحتاج إلى المزيد من الدراسة و البحث بما يتناسب مع
خطورة هذا الموضوع.
وجزيت خير أستاذي الفاضل على هذا الموضوع القيم
أسأل الله ألا يحرمك أجره..
دمت بخير

د.ألق الماضي
30/09/2009, 08:24 PM
جزيت الجنان أخي عبدالمنعم،،،
موضوع رائع يستحق التقييم،،،
متابعة لك،،،

عبد المنعم جبر عيسي
04/10/2009, 12:03 PM
الرد على دعوى جواز نسيان النبي القرآن أو إسقاطه عمدًا

شكَّك بعض الْملاحدة في الأصل الذي قام عليه أمر كتابة القرآن الكريم وجمعه ، وهو حفظ النبي للقرآن بدعوى جواز النسيان على النبي ، واستدلوا على ذلك بدليلين :
الأول : قوله تعالى : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ } ( 1 )
والثاني : ما رواه البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللهُ عَنْهَا قَالَتْ : سَمِعَ النَّبِيُّ قَارِئًا يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ فِي الْمسْجِدِ فَقَالَ : يَرْحَمُهُ اللهُ ، لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهَا مِنْ سُورَة كَذَا وَكَذَا . وفي رواية : أُنْسِيتُها . ( 2 ) .
فزعموا أن هذين الدليلين يدلان - بطريق الاستثناء - على أن محمدًا قد أسقط عمدًا أو أُنسي آيات لم يتفق له من يذكره إياها ، وتدل أيضًا على جواز النسيان على النبي { صلى الله عليه وسلم } .


*****

وللرد على هذه الشبهة تصدى علماء كثيرون ؛ هذه أقوالهم :
أولاً : قوله تعالى : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى } وعدٌ كريمٌ من الله تعالى ؛ بعدم نسيان ما يقرؤه من القرآن ، إذ إن ( لا ) في الآية نافية ، وليست ناهية ، بدليل إشباع السين ، فأخبر الله فيها بأنه لا ينسى ما أقرأه إياه .
وقيل ( لا ) ناهيةٌ ، وإنما وقع الإشباع في السين لتناسب رءوس الآي ، والقول الأول أكثر.( 3 ) .
قال القرطبي بعد أن ذكر القولين : والأول هو الْمختار ؛ لأن الاستثناء من النهي لا يكاد يكون إلا مؤقتًا معلومًا ، وأيضًا فإن الياء مثبتة في جميع الْمصاحف ، وعليها القراء .( 4 ) .
ومعنى الآية على هذا : سنعلمك القرآن ، فلا تنساه ، فهي تدل على عكس ما أرادوا الاستدلال بِها عليه .
ثانيًا : إن الاستثناء في الآية معلق على مشيئة الله إياه ، ولم تقع الْمشيئة ، بدليل ما مر من قوله تعالى : { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } ، ولأن عدم حصول الْمعلق عليه يستلزم عدم حصول الْمعلق ، ويستحيل أن تتعلق مشيئة الله بعدم بلوغ رسالته .
ثالثًا : الاستثناء في الآية لا يدل على ما زعموا من أنه يدل على إمكان أن ينسى شيئًا من القرآن ، وفي الْمراد بِهذا الاستثناء قولان :
القول الأول : أن الاستثناء صوريٌّ لا حقيقيٌّ ، فهو للتبرك ، وليس هناك شيءٌ استُثني .
قال الفراء : ( 5 ) لم يشأ أن ينسى شيئًا ، وهو كقوله : { خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك } ولا يشاء ، وأنت قائل في الكلام : لأعطينَّك كل ما سألتَ إلا ما شئتُ ، وإلا أن أشاءَ أن أمنعك ، والنية ألا تمنعه ، وعلى هذا مجاري الأيمان ، يُستثنى فيها ، ونية الحالف التمام . ( 6 ) .
وقيل إن الحكمة في هذا الاستثناء الصوري أن يعلم العباد أن عدم نسيان النبي القرآن هو محض فضل الله وإحسانه ، ولو شاء تعالى أن ينسيه لأنساه ، وفي ذلك إشعارٌ للنبي أنه دائمًا مغمور بنعمة الله وعنايته ، وإشعار للأمة بأن نبيهم مع ما خُصَّ به من العطايا والخصائص لم يخرج عن دائرة العبودية ، فلا يُفْتَنُون به كما فُتِنَ النصارى بالْمسيح ( 7 ) .
القول الثاني : أن الاستثناء حقيقي ، وأن الْمراد به منسوخ التلاوة فيكون الْمعنى أن الله تعالى وعد بأن لا ينسى نبيه ما يقرؤه ، إلا ما شاء - سبحانه - أن ينسيه إياه بأن نسخ تلاوته لحكمة ، أو على أن الْمراد به الترك ، أو ما يعرض للإنسان بحكم الجبلة البشرية ، أو لأجل تعليم الناس وتبيين السنة لهم .
عن الحسن وقتادة { إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ } : أي قضى أن تُرفع تلاوته.
وعن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما : إلا ما أراد الله أن ينسيكه لتَسُنّ َ.
وقال الطبري : وقال آخرون : النسيان في هذا الْموضع : الترك ، قالوا : ومعنى الكلام : سنقرئك يا محمد ، فلا تترك العمل بشيء منه ، إلا ما شاء الله أن تترك العمل به مِمَّا ننسخه . ( 8 ) .
وعلى هذين القولين فلا تعلق لأصحاب تلك الشبهة بِهذه الآيات ، إذ لا يفهم منها أن النبي قد نسي حرفًا واحدًا مِمَّا أمر بتبليغه .
وعن الدليل الثانى وما استند إليه المشككون في الحديث الشريف :
أولا : أن الحديث الذي أوردوه لا ينهض حجةً لهم فيما زعموا من الشكّ في الأصل الذي قامت عليه كتابة القرآن وجمعه ، إذ إن الآيات التي أنسيها النبي ثم ذكرها كانت مكتوبة بين يدي النبي { صلى الله عليه وسلم } ، وكانت محفوظة في صدور أصحابه الذين تلقوها عنه ، والذين بلغ عددهم مبلغ التواتر- والذين منهم هذا الذي ذكَّرَه، وإنما غاية ما فيه الدلالة على أن قراءة ذلك الرجل ذكرت النبيَّ بالآيات ، وكان قد أُنسيها ، أو أسقطها نسيانًا ، وليس في الخبر إشارة إلى أن هذه الآيات لم تكن مِمَّا كتبه كتَّاب الوحي ، ولا ما يدل على أن أصحاب النبي كانوا نسوها جميعًا ، حتى يخاف عليها الضياع . ( 9 )
ثانيًا : أن روايات الحديث لا تفيد أن هذه الآيات التي سمعها الرسول من أحد أصحابه كانت قد انمحت من ذهنه الشريف جملةً ، بل غاية ما تفيده أنَّها كانت غائبة عنه ثم ذكرها وحضرت في ذهنه بقراءة صاحبه ، وليس غيبة الشيء عن الذهن كمحوه منه ، فالنسيان هنا بسبب اشتغال الذهن بغيره ، أما النسيان التام فهو مستحيل على النبي { صلى الله عليه وسلم } ؛ لإخلاله بوظيفة الرسالة والتبليغ . ( 10 ) .
قال الباقلاني ( 11 ) وإن أردت أنه ينسى القدرَ الذي ينساه العالْم الحافظُ بالقرآن ، الذي لا يُنسَب صاحبه إلى بلادة ٍ، فإن ذلك جائز بعد أدائه وبلاغه ، والذي يدل على جوازه أنه غير مفسدٍ له ، ولا قادح في آياته ، ولا مفسد لكمال صفاته ، ولا مسقط لقدره ، ولا منزل له عنه ، ولا معرضٍ بتهمته . ( 12 ) .
ثالثًا : أن قوله : ( أسقطتها ) مفسرةٌ بقوله في الرواية الأخرى : ( أُنْسِيتُها ) ، فدل على أنه أسقطها نسيانًا لا عمدًا ، فلا محل لما أوردوه من أنه قد يكون أسقط عمدًا بعض آيات القرآن .
قال النووي : قوله { صلى الله عليه وسلم } : " كنت أُنْسِيتُها " دليل على جواز النسيان عليه فيما قد بلَّغه إلى الأمة . ( 13 ) .
أقوال العلماء حول مسألة وقوع النسيان من النبي :
وقوع النسيان من النبي { صلى الله عليه وسلم } يكون على قسمين :
الأول : وقوع النسيان منه فيما ليس طريقه البلاغ . فهذا جائز مطلقًا لما جُبل عليه من الطبيعة البشرية .
والثاني : وقوع النسيان منه فيما طريقه البلاغ . وهذا جائز بشرطين :
الشرط الأول : أن يقع منه النسيان بعد ما يقع منه تبليغه ، وأما قبل تبليغه فلا يجوز عليه فيه النسيان أصلاً .
قال النووي في شرح قوله : " كنت أُنْسِيتُها " : دليل على جواز النسيان عليه فيما قد بلَّغه إلى الأمة . ( 14 ) .
الشرط الثاني : أن لا يستمر على نسيانه ، بل يحصل له تذكره : إما بنفسه ، وإما بغيره . ( 15 ) .
وقال القاضي عياضٌ ( 16 ) - رحمه الله ـ : جمهور الْمحققين على جواز النسيان عليه ابتداءً فيما ليس طريقه البلاغ ، واختلفوا فيما طريقه البلاغ والتعليم ، ولكن من جوز ذلك قال : لا يُقَرُّ عليه ، بل لا بد أن يتذكره أو يُذَكَّره . ( 17 ) .
ونسيان النبي لشيء مِمَّا طريقه البلاغ يكون على قسمين أيضًا :
قال الإسماعيلي : ( 18 ) النسيان من النبي لشيء من القرآن يكون على قسمين :
أحدهما : نسيانه الذي يتذكره عن قربٍ ، وذلك قائم بالطباع البشرية ، وعليه يدل قوله في حديث ابن مسعود في السهو : إنَّما أنا بشرٌ مثلكم أنسى كما تنسون . ( 19 ) .
وهذا القسم عارضٌ سريع الزوال ، لظاهر قوله : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } . ( 20 ) .
والثاني : أن يرفعه الله عن قلبه على إرادة نسخ تلاوته ، وهو الْمشار إليه بالاستثناء في قوله تعالى : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ } ، ( 21 ) على بعض الأقوال .
وهذا القسم داخل في قوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } . ( 22) ، ( 23) .

------------------

( 1 ) سورة الأعلى ، الآية 6 ، وبعض الآية 7 .
( 2 ) رواه البخاري في صحيحه ، انظر صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري (5/312) كتاب الشهادات ح : 2655، و(8/702-705) كتاب فضائل القرآن ح : 5037 ، 5038 ، 5042 ، و(11/140) كتاب الدعوات ح : 6335 ، ورواه مسلم في صحيحه ، صحيح مسلم بشرح النووي كتاب صلاة الْمسافرين ، باب الأمر بتعهد القرآن (6/75) ، وأبو داود في سننه : كتاب الصلاة - باب رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل (2/37) ح : 1331، وفي أول كتاب الحروف والقراءات (4/31) ح : 3970.
( 3 ) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 312 ، وفتح القدير (5/420) ، تفسير القرآن العظيم (4/500) .
( 4 ) الجامع لأحكام القرآن (20/14) .
( 5 ) هو أبو زكريا يحيى بن زياد الأسدي مولاهم ، العلامة صاحب التصانيف ، إمام النحاة ، وصاحب الكسائي ، توفي بطريق الحج سنة 207هـ . سير أعلام النبلاء (1/118 )، وتذكرة الحفاظ (1/372) .
( 6 ) معاني القرآن للفراء (3/256) .
( 7 ) مناهل العرفان (1/267-268 ).
( 8 ) تفسير الطبري (30/154) ، وفتح القدير (5/422) ، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/702) .
( 9 ) مناهل العرفان (1/265) .
( 10 ) مناهل العرفان (1/266) .
( 11 ) هو القاضي محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر ، الإمام العلامة ، سيف السنة ولسان الأمة ، الْمتكلم على لسان أهل الحديث ، صاحب التصانيف ، وكان يُضرب الْمثل بفهمه وذكائه ، وكان ثقة إمامًا بارعًا . صنف في الرد على الرافضة والْمعتزلة وغيرهم من الفرق ، مات في ذي القعدة سنة 403هـ . سير أعلام النبلاء (17/190) .
( 12 ) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 312 .
( 13 ) شرح النووي على صحيح مسلم (6/76) .
( 14 ) شرح النووي على صحيح مسلم (6/76)
( 15 ) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/703) .
( 16 ) أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض ، الإمام العلامة الحافظ شيخ الإسلام ، استبحر في العلوم ، وجمع وألف ، وسارت بتصانيفه الركبا ن، وهو إمام الحديث في وقته ، وأعرف الناس بالنحو واللغة وكلام العرب ، من مؤلفاته الشفا بتعريف حقوق الْمصطفى ، ومشارق الأنوار . توفي سنة 544هـ . سير أعلام النبلاء (20/212) .
( 17 ) الشفا بتعريف حقوق الْمصطفى (2/161) ، وشرح النووي على صحيح مسلم (6/76) .
( 18 ) هو الإمام الحافظ الفقيه الحجة شيخ الإسلام ، أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس الإسماعيلي الشافعي ، صنف تصانيف تشهد له بالإمامة في الفقه والحديث ، وكان واحد عصره ، وشيخ الْمحدثين والفقهاء . توفي سنة 371. سير أعلام النبلاء (16/292) .
( 19 ) رواه البخاري في صحيحه كتاب الصلاة بَاب التَّوَجُّهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ حَيْثُ كَانَ . (1/600) ح 401.
( 20 ) الآية 9 من سورة الحجر .
( 21 ) الآية 6 وبعض الآية 7 من سورة الأعلى .
( 22 ) من الآية 106 من سورة البقرة .
( 23 ) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/703) .

عبد المنعم جبر عيسي
04/10/2009, 12:11 PM
سلام الله عليك

أبارك هذا التوجه المحمود للمشرف الكريم الأستاذ عبد المنعم جبر عيسى

وما أحوج القراء ليعرفوا تفاصيل هذه الشبهات ليحصنوا أنفسهم من أباطيلها

وأذكر هنا أن كثيراً من المستشرقين ومن لف لفيفهم
يعتمدون إثارة البلبلة والضوضاء في مواضيع شتى متشابهة
وأداتهم فيها التأويل
والتأويل علم مستقر في تراثنا
ولا بد من اقتفاء هذ العلوم والوقوف عند الشبهات و الرد عليها بأحسن ما يكون

و الصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

وبارك الله بك أستاذنا الكريم ..
هو من فضل الله أولا .. ثم بفضل توجيهكم ..
نسأل الله العلى القدير أن يتمه علينا جميعا ، ثم يتقبله منا خالصا لوجهه الكريم ..
تحياتى وتقديرى .

عبد المنعم جبر عيسي
04/10/2009, 12:15 PM
سلام الله عليك ..

الأستاذ الفاضل عبدالمنعم جبر عيسى
نعم هو موضوع مهم وخطير..فقد تعرضوا للقرآن الكريم بما ليس لهم به علم فألقوا الشبه من تشكيك بأنه كلام أعجمي وكلام مكرر ومتناقض وما يزعمونه من أن فيه أخطاء تاريخية بل إن المنصرين الغربيين والمستشرقيين وجهلة اللغة العربية تهجموا على بعض الصور النحوية والبلاغية التى لا يفهمونها فى القرآن الكريم ، سواء أكان هذا عن عمد أم عن جهل،والمصيبة الكبرى أن المغرضين والمشككين عملوا على إضلال عوام المسلمين بإثارة الشبهات حول القرآن،ولتتصور عظم هذا الخطب يُنقل أن المنصرين الغربيين يقومون بتأليف آلاف الكتب سنويا ضد الإسلام وتضليل المسلمين حول القرآن الكريم..والأدهى والأمرّ أن من يعينهم هم أبناء الإسلام أو من يحسبون على الاسلام فكم من كتاب ألفوه ضد دينهم وأغووا به عوام المسلمين ..وأصبحوا منتشرين بكثرة في المنابر الإعلامية يفصلون ويفسرون ساعين إلى تضليل الأمة..لكن الحقيقة واضحة والشمس لاتغطى بغربال.
ولاريب أن جهود علمائنا إزاء هذا الإضلال و التضليل مباركة، غير أننا بحق نحتاج إلى المزيد من الدراسة و البحث بما يتناسب مع
خطورة هذا الموضوع.
وجزيت خير أستاذي الفاضل على هذا الموضوع القيم
أسأل الله ألا يحرمك أجره..

دمت بخير


الأخت الكريمة زرقاء اليمامة ..
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ..
اللهم آمين .
والشكر موصول لك ..
حضور شذى بهى يثلج الصدر ..
ومتابعة وتشجيع أسعد بهما وأفخر ..
لك تحياتى .

عبد المنعم جبر عيسي
04/10/2009, 12:17 PM
جزيت الجنان أخي عبدالمنعم،،،

موضوع رائع يستحق التقييم،،،

متابعة لك،،،


اللهم آمين ..
وإياك أيتها الأخت الفاضلة ..
وشكرا جزيلا على التققييم ..
خالص التحية والتقدير .

عبد الكريم الجاسم
04/10/2009, 03:01 PM
الاستاذ الفاضل عبد المنعم
جزاك الله عنا خير الجزاء فقد افد تني كثيرا
خصوصا في مراحل خلق الانسان الاولى
وأن سنة التدافع بين الخير والشر ماضيه منذ الازل ألى يومنا هذا
و تمثلت بقول ورقة بن نوفل ألى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما سألته خديجه عن الناموس الذي نزل عليه
بانه سيكون لك أعداء وانه ما جاء أحد بمثل ماجئت به الاعودي
,الىيومنا هذا نرى الدعاة الى الله الذين يسيرون على الهدي النبوي ويدعون الناس الى الخير في ضيق من أمرهم بسبب المصاعب التي يواجهونها لانهم ظاهرين على الحق
لكن الفلاح أن شاء الله لاهل الخير لانهم اهل الحق
( وقل جاء الحق وزهق الباطل ان الباطل كان زهوقا)

عبد المنعم جبر عيسي
06/10/2009, 07:55 PM
الاستاذ الفاضل عبد المنعم

جزاك الله عنا خير الجزاء فقد افد تني كثيرا
خصوصا في مراحل خلق الانسان الاولى
وأن سنة التدافع بين الخير والشر ماضيه منذ الازل ألى يومنا هذا
و تمثلت بقول ورقة بن نوفل ألى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما سألته خديجه عن الناموس الذي نزل عليه
بانه سيكون لك أعداء وانه ما جاء أحد بمثل ماجئت به الاعودي
,الى يومنا هذا نرى الدعاة الى الله الذين يسيرون على الهدي النبوي ويدعون الناس الى الخير في ضيق من أمرهم بسبب المصاعب التي يواجهونها لانهم ظاهرين على الحق
لكن الفلاح أن شاء الله لاهل الخير لانهم اهل الحق

( وقل جاء الحق وزهق الباطل ان الباطل كان زهوقا)

وجزاكم الله خيرا أستاذ عبد الكريم ..
والحمد لله أولا وآخرا أن نال هذا الموضوع استحسانك ..
وفى الحقيقة البحث فى هذا الجانب من ديننا نافع ومفيد ..
نسأل الله تعالى أن يثبتنا على الحق حتى نلقاه عليه .. إنه ولى ذلك والقادر عليه .
وهذا أخى هو قدر الدعاة إلى الحق ..
وما ضيق الدنيا بشىء أمام جنات عرضها السماوات والأرض .. اعدت للمتقين .
والدنيا سجن المؤمن .. وعلى قدر المشقة يكون الجزاء والأجر الجزيل المضاعف ..
فليصبر كل داع إلى الحق وليحتسب .
والله المستعان .

عبد المنعم جبر عيسي
13/10/2009, 05:20 AM
حتى لا ننسى :
أول الطاعنين فى القرآن
رُوي عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْر ، قَالَ : قَالَ لِي عُمَرُ : هَلْ تَعْرِفُ مَا يَهْدِمُ الْإِسْلامَ ؟ قَالَ : قُلْتُ : لا . قَالَ : يَهْدِمُهُ زَلَّةُ الْعَالِمِ ، وَجِدَالُ الْمُنَافِقِ بِالْكِتَابِ ، وَحُكْمُ الْأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ (1) .
وقد تحقق الكثير مما تنبأ به رضوان الله عليه ، بعد أن استُبْعِدَ الكتاب عن التحكيم بين الناس ، واستبدل بقانون الغرب ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فيما رُوى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « خذوا العطاء ما دام العطاء لله ، فإذا صار رشوة على الدين فلا تأخذوه ولستم بتاركيه ، يمنعكم الفقر والحاجة ، ألا إن رحى الإسلام دائرة فدوروا مع الكتاب حيث دار ، ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب ، ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم مالا يقضون لكم ، فإذا عصيتموهم قتلوكم ، وإن أطعتموهم أضلوكم ، قالوا : يا رسول الله كيف نصنع ؟ قال : كما صنع أصحاب عيسى ابن مريم نُشروا بالمناشير ، وحملوا على الخشب ، موتُُ في طاعة الله خير من حياة في معصية الله » (2) .

*****
ووجود الإشكال في فهم القرآن والطعن فيه موجود منذ نزوله ؛ لأن القرآن ينقسم إلى أربعة أقسام : قسم لا يجهله أحد ، وقسم تعرفه العرب من لغتها ، وقسم يعرفه الراسخون في العلم ، وقسم لا يعلمه إلا الله ، كما ورد عن ابن عباس رضى الله عنهما (3) .
ولعل أقدم نص لوحظ فيه حدوث الإشكال على الفهم ، والطعن في القرآن ، واتهامه بالتعارض مع الحقائق ، هو حديث الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : لَمَّا قَدِمْتُ نَجْرَانَ سَأَلُونِي فَقَالُوا : إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ ( يَا أُخْتَ هَارُونَ .. وَمُوسَى قَبْلَ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا ... ) ، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : « إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ » (4) .
وقد حكى القرآن عن كثير من طعونات الطاعنين وشبهاتهم حوله ، ورد عليها ردا واضحا بينا مفحما .. فبعضهم ادعى أنه يستطيع أن يأتي بمثل هذا القرآن ( إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا ..(َ .. [الأنفال :31] ؛ فتحداهم الله تعالى أن يأتوا بمثله فعجزوا ، فتحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله فعجزوا ، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا أيضا ..
وبعضهم زعم أن هذا القرآن إنما هو من قصص الأولين وأساطير السابقين ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) .. [النحل :24] ، فرد الله عليهم أنه أمىُّ لا يقرأ ولا يكتب ، فكيف ينقلها ؟‍!‍ ثم إن هذه الأساطير ـ لو صدق زعمهم ـ ليست خاصة بمحمد وحده ، بل هي كتب متاحة للجميع ، فلماذا لا تحضرون لنا هذه الكتب التي نقل منها ؟
وبعضهم قال : إنه تعلَّمه من غلام نصراني ، فقال الله تعالى : ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) .. [النحل :103] .. وهكذا كلما أتوا بشُبْهَةً ، وطعنوا طعنا ، رد الله عليهم بحجة واضحة لا تخلو من تحدٍ .
وفي زمن ( عمر ) كان في أجناد ( عمرو بن العاص ) ؛ رجل يقال له ( صبيغ ) (5) ، كان يسأل عن متشابه القرآن ، كأن يقول : ما المرسلات عرفا ؟ ، ما العاصفات عصفا ؟ ؛ تشكيكا وتعنتا ، فأرسل به ( عمرو ) إلى الفاروق ، فلما علم عمر بقدومه أمر رجلا أن يحضره وقال له : إن فاتك فعلت بك وفعلت ، وجهز له عراجين من نخل ، فلما جاءه سأله عن أشياء ثم قال له : من أنت ؟ فقال : أنا عبد الله ( صبيغ ) . فقال : وأنا عبد الله ( عمر ) . فضربه حتى أدماه ، ثم تركه حتى شفي ، ثم ضربه حتى أدماه ، ثم تركه حتى شفي ، ثم ضربه حتى أدماه ، ثم تركه حتى شفي ، ثم أُحضره فقال صبيغ : يا أمير المؤمنين إن كنت تريد قتلي ، فاقتلني قتلا جميلا ، وإن كنت تريد أن تداويني ، فقد والله برئتُ . فأرسله عمر إلى البصرة ، وأمر واليها ( أبا موسى الأشعري ) بمنع الناس من مجالسته ، فاشتد ذلك على الرجل ، فأرسل ( أبو موسى ) إلى ( عمر ) أن الرجل تاب حسنت توبته ، فكتب ( عمر ) أن يأذن للناس بمجالسته ، فلما خرجت الحرورية قيل لـ ( صبيغ ) : إنه قد خرج قوم يقولون كذا وكذا ، وقد مات ( عمر ) . فقال : هيهات وقد نفعني الله بموعظة العبد الصالح ـ يعني ( عمرا ) ـ (6) .
ولقد صنفت كتب مثل كتاب ( مشكل إعراب القرآن ) (7) لـ ( القيسي ) (8 ) ، و( إعراب مشكل القرآن ) (9) لـ ( ثعلب ) (10) ، للرد على كل إشكال لغوي ونحوي أثاره المشككون حول القرآن ، ولعل أول الطعون اللغوية ما اشتُهرت باسم مسائل ( ابن الأزرق ) (11) مع ( ابن عباس ) :
فعن حميد الأعرج ، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد ، عن أبيه قال بينما عبد الله بن عباس جالس بفناء الكعبة ، قد اكتنفه الناس يسألونه عن تفسير القرآن فقال ( نافع بن الأزرق ) لـ ( نجدة بن عويمر ) : قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به ، فقاما إليه فقالا : إنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله ، فتفسرها لنا ، وتأتينا بمصادقة من كلام العرب ؛ فإن الله تعالى إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين .
فقال ابن عباس : سلاني ما بدا لكما .
فقال نافع : أخبرني عن قول الله تعالى : (عن اليمين وعن الشمال عزين ) ؟
قال : العزون الحِلق الرقاق .
قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟
قال : نعم أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول :
فجاؤوا يُهرعون إليه حتى ** يكونوا حول منبره عزينا
قال : أخبرني عن قوله : ( وابتغوا إليه الوسيلة ) ؟
قال : الوسيلة الحاجة .
قال وهل تعرف العرب ذلك ؟
قال : نعم ، أما سمعت عنترة وهو يقول :
إن الرجال لهم إليك وسيلة ** إن يأخذوك تكحلي وتخضبي
قال : أخبرني عن قوله : ( شرعة ومنهاجا ) ؟
قال : الشرعة الدين ، والمنهاج الطريق .
قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟
قال : نعم ، أما سمعت أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهو يقول :
لقد نطق المأمون بالصدق والهدى ** وبين للإسلام دينا ومنهاجا
قال : أخبرني عن قوله ( إذا أثمر وينعه ) ؟
قال : نضجه وبلاغه .
قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟
قال : نعم ، أما سمعت قول الشاعر :
إذا ما مشت وسط النساء تأودت ** كما اهتز غصن ناعم النبت يانع
قال : أخبرني عن قوله تعالى : ( وريشا ) ؟
قال : الريش المال .
قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟
قال : نعم ، أما سمعت الشاعر يقول :
فرشني بخير طالما ما قد ريتني** وخير الموالي من يريش ولا يبري
قال : أخبرني عن قوله تعالى : ( لقد خلقنا الإنسان في كبد ) ؟
قال : في اعتدال واستقامة .
قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟
قال : نعم ، أما سمعت لبيد بن ربيعة وهو يقول :
يا عين هلا بكيت أربد إذ ** قمنا وقام الخصوم في كبد
قال : أخبرني عن قوله تعالى : ( يكاد سنا برقه ) ؟
قال : السنا الضوء .
قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟
قال : نعم ، أما سمعت أبا سفيان بن الحارث يقول :
يدعو إلى الحق لا يبغي به بدلا ** يجلو بوء سناه داجي الظلم
قال : أخبرني عن قوله تعالى : ( وحَفَدَةً ) ؟
قال : ولد الولد ، وهم الأعوان .
قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟
قال : نعم ، أما سمعت الشاعر يقول :
حفد الولائد حولهن وأسلمت ** بأكفهن أزمة الأجمال
قال : أخبرني عن قوله تعالى : ( وحنانا من لدنا ) ؟
قال : رحمة من عندنا .
قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟
قال : نعم ، أما سمعت طرفة بن العبد يقول :
أبا منذرٍ أفنيتَ فاسْتَبقِ بعضنـا ** حنانيك بعض الشرِ أهونُ من بعضِ
قال : أخبرني عن قوله تعالى : ( أفلم ييأس الذين آمنوا ) ؟
قال : أفلم يعلم بلغة بني مالك .
قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟
قال : نعم ، أما سمعت مالك بن عوف يقول :
لقد يئـس الأقوامُ أني أنا ابنـُه ** وإن كنتُ عن أرضِ العشيرة نائبًا
قال : أخبرني عن قوله تعالى : ( مثبورا ) ؟
قال : ملعونا محبوسا من الخير .
قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟
قال : نعم ، أما سمعت عبد الله بن الزُّبَعْرَي يقول :
إذ أتاني الشيطان في سنة النو ** م ومن مال ميله مثبورا
قال : أخبرني عن قوله تعالى : ( فأجاءها المخاض ) ؟
قال : ألجأها .
قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟
قال : نعم ، أما سمعت حسان بن ثابت يقول :
إذ شددنا شدة صادقة ** فأجأناكم إلى سفح الجبل
قال : أخبرني عن قوله تعالى : ( نَدِيَّا ) ؟
قال : النادي المجلس .
قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟
قال : نعم ، أما سمعت الشاعر يقول :
يومان يوم مقامات وأندية ** ويوم سير إلى الأعداء تأويب
إلى آخر تلك المسائل ، التى جاءت في كتاب ( الإتقان ) للسيوطي في أكثر من ثلاثين صفحة (12) .
الجمع بين قوله : ( لا مبدل لكلماته ) ، [ الكهف : 27 ] مع ما حصل من النسخ .. والجمع بين قوله : ( في يوم كان مقداره ألف سنة ) ، [ السجدة : 55 ] مع قوله : ( في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ) .. [ المعارج : 4 ] .. والجمع بين قوله : ( لا أقسم بهذا البلد ) .. [ البلد : 1 ] وقوله : ( وهذا البلد الأمين ) .. [ التين : 3 ] إلى غير ذلك من المسائل والتى سأذكر الكثير منها فى هذا الموضوع بإذن الله تعالى .
فقد أَخْرَجَ عَبْد بْن حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيق عَلِيّ بْن زَيْد ، عَنْ أَبِي الضُّحَى ، أَنَّ ( نَافعَ بْنَ الْأَزْرَق ) وَ ( عَطِيَّةَ ) أَتَيَا اِبْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَا : يَا اِبْنَ عَبَّاس ، أَخْبِرْنَا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ( هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ ) .. [ المرسلات : 35 ] وَقَوْله : ( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) .. [ الزمر : 31 ] ، وَقَوْلهِ :( وَاَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) .. [ الانعام : 23 ] وَقَوْلهِ : ( وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّه َحَدِيثًا ) .. [ النساء : 42 ]. قَالَ : وَيْحَكَ يَا ابْنَ الْأَزْرَقِ ، إِنَّهُ يَوْمٌ طَوِيلٌ وَفِيهِ مَوَاقِفُ ، تَأْتِي عَلَيْهِمْ سَاعَةُ لَا يَنْطِقُونَ ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَخْتَصِمُونَ ، ثُمَّ يَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ يَحْلِفُونَ وَيَجْحَدُونَ ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهمْ ، وَتُؤْمَرُ جَوَارِحُهمْ ، فَتَشْهَدُ عَلَى أَعْمَالِهْم بِمَا صَنَعُوا ، ثُمَّ تَنْطِقُ أَلْسِنَتُهُمْ فَيَشْهَدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا صَنَعُوا ، وَذَلِكَ قَوْله : ( وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّه حَدِيثًا ) .. [ النساء : 42 ] .
كما َرَوَى اِبْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : قُلْت لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ : أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ ( هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ ) .. [ المرسلات : 35 ] ؟ فَقَالَ : إِنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ حَالَاتٌ وَتَارَاتٌ ، فِي حَال لَا يَنْطِقُونَ وَفِي حَال يَنْطِقُونَ . (13) .
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ لابْنِ عَبَّاسٍ : إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ ؛ قَالَ ( فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ) .. [ المؤمنون : 101 ] وقال : ( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ) .. [ الصافات : 27 ] ، وقوله ( وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ) .. [ النساء : 42 ] ( وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) .. [ الانعام : 23 ] فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ ؟ ، وَقَالَ : ( ... أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ) .. [ النازعات : 27 ] إِلَى قَوْلِهِ : ( ... دَحَاهَا ) .. [ النازعات : 30 ] فَذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ خَلْقِ الْأَرْضِ ثُمَّ قَالَ : ( أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ) .. [ فصلت : 9 ] إِلَى قَوْلِهِ : ( طَائِعِينَ ) .. [ فصلت : 11 ] فَذَكَرَ فِي هَذِهِ خَلْقَ الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ ؟.
وَقَالَ : ( وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) .. [ الفتح : 14 ] ( عَزِيزًا حَكِيمًا ) .. [ الفتح : 19 ] ( سَمِيعًا بَصِيرًا ) .. [ النساء : 58 ] فَكَأَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَضَى ؟
فَقَالَ ابن عباس : ( فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ ) .. [ المؤمنون : 101 ] فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ( .. فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ) .. [ الزمر 68 ] فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ ، ثُمَّ فِي النَّفْخَةِ الْآخِرَةِ ( أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ) .
وَأَمَّا قَوْلُهُ ( مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) .. [ الانعام :23 ] ( وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ) .. [ النساء : 42 ] فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِخْلاَصِ ذُنُوبَهُمْ ، فقَالَ الْمُشْرِكُونَ : تَعَالَوْا نقُلْ لَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ ، فَخُتِمَ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ ، فَتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ عُرِفَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُكْتَمُ حَدِيثًا ، وَعِنْدَهُ ( يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لو كانوا مسلمين ) .. [ الحجر : 2 ] ، وَخَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ ، ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ ؛ وَدَحْوُهَا أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى ، وَخَلَقَ الْجِبَالَ ، وَالْجِمَالَ ، وَالْآكَامَ ، وَمَا بَيْنَهُمَا فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ : ( دَحَاهَا ) وَقَوْلُهُ : ( خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ) .. [ فصلت : 9 ] فَجُعِلَتِ الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا مِنْ شَيْءٍ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ، وَخُلِقَتِ السَّمَوَاتُ فِي يَوْمَيْنِ .
( وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) .. [ الفرقان : 70 ] سَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ أَيْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا إِلَّا أَصَابَ بِهِ الَّذِي أَرَادَ ، فَلَا يَخْتَلِفْ عَلَيْكَ الْقُرْآنُ ، فَإِنَّ كُلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (14) .
----------------------------
(1) أخرجه الدارمي ( المقدمة باب : في كراهية أخذ الرأي ، رقم : 214) .
(2) أخرجه الطبراني في الصغير (2/42) والكبير (20/90) وفي مسند الشاميين(1/379) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/228 ) : ( رواه الطبراني ويزيد بن مرثد لم يسمع من معاذ ، والوضين بن عطاء وثقه ابن حبان وغيره ، وبقية رجاله ثقات ) .
(3) أخرجه ابن جرير الطبري مسندا كما ذكر ذلك ابن كثير في تفسيره (1/7) ولم أجده في تفسير ابن جرير بعد البحث في مظانه ، وانظر : الإتقان (3/7) .
(4) أخرجه مسلم (كتاب الآداب ، باب : النهي عن التكني بأبي القاسم ، وبيان ما يستحب ، رقم : 213).
(5) قال ابن منظور : (صبِـيغٌ : اسم رجل كان يَتَعَنَّتُ الناسَ بسُؤَالات فـي مُشْكل القرآن ، فأَمر عمر بن الـخطاب بضربه ، ونفاه إِلى البَصرة ، ونَهي عن مُـجالَسَتِه ) ، لسان العرب (8 /439) .
(6) أخرجه مالك في الموطأ(2/455) تحقيق فؤاد عبدالباقي ، مصر ، دار إحياء التراث ، ومعمر بن راشد في جامعه (11/426) تحقيق حبيب الأعظمي ، بيروت ، المكتب الإسلامي ، الطبعة الثانية ، 1403 ، والدارمي في سننه (1/66) تحقيق زمرلي ، بيروت ، دار الكتاب العربي ، الطبعة الأولى ، 1407 ، وإسناد القصة صحيح والقصة مشهورة ، وانظر : الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي(2/152) دار الفكر ، بيروت ، 1414 ، فقد جمع أطراف القصة ورواياتها .
(7) في مجلدين تحقيق ياسين السواس ، طبع دار المأمون للتراث ، دمشق .
( 8 ) والقيسي هو : أبو بكر محمد مكي بن أبي طالب حموش بن حمد بن مختار القيسي المقرئ أصله من القيروان ، وانتقل إلى الأندلس ، وسكن قرطبة ، وهو من أهل التبحر في العلوم خصوصا القرآن ، كثير التصنيف والتصانيف عاش اثنين وثمانين سنة ، ورحل غير مرة وحج وجاور ، وتوسع في الرواية ، وبعد صيته وقصده الناس من النواحي لعلمه ودينه ، وولى خطابة قرطبة ، وكان مشهورا بالصلاح والخلق جيد الدين والعقل ، توفي سنة ثمانية وسبعين وخمسمائة . انظر : شذرات الذهب ( 2/260 ) .
(9) ذكره القزويني في التدوين في أخبار قزوين (2/152) ، تحقيق عزيز الله العطاردي ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1987 .
(10) ثعلب هو : أبو العباس ثعلب أحمد بن يحيي بن يزيد الشيباني ، مولاهم العبسي البغدادي ، علامة الأدب ، شيخ اللغة والعربية ، حدث عن غير واحد ، وعنه واحد منهم الأخفش الصغير ، وسمع من القواريري مائة ألف حديث فهو من المكثرين ، وسيرته في الدين والصلاح مشهورة ، صنف التصانيف المفيدة ، منها كتاب الفصيح وهو صغير الحجم كبير الفائدة ، وكتاب القراءات ، وكتاب إعراب القرآن وغير ذلك ، توفي سنة تسع وثلاثين ومائة . انظر : شذرات الذهب ( 1/207 ) .
(11) هو : نافع بن الأزرق الذى ينتسب إليه الأزارقة أحد زعماء الخوارج ، قتل في جمادى الآخرة سنة 65هـ بالبصرة ، الكامل في التاريخ ، بتحقيق عبد الله القاضي ، ( 4 / 15 ) ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، الطبعة الثانية ، 1995م .
(12) انظر : الإتقان للسيوطي (2/55-88 ) تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم .
(13) فتح الباري لابن حجر العسقلاني (8/555) .
(14) أخرجه البخاري معلقا (كتاب تفسير القرآن ، باب : سورة حم السجدة (فصلت) ) ، وقال الحافظ ابن حجر كما في الفتح (8/418 ) : وصله الطبري وابن أبي حاتم بإسناد على شرط البخاري في الصحة .

عبد المنعم جبر عيسي
15/10/2009, 08:42 PM
من شبهات القرآنيين ( 1 )
لا حاجة لنا بالسُنَّة !
فالقرآن بيَّن الشريعة ، وهو كافٍ في بيان قضايا الدين وأحكامه ، ما ترك شيئًا ولا فرط في شيء ، ومن ثم فلا حاجة لمصدر ثان للتشريع !!
بدليل :
قوله تعالى : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } [ الأنعام 38 ] .
وقوله تعالى : { مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ يوسف 111 ] .


*****
الرد على الشبهة وتفنيدها : ( 2 )
إن القول بهذه الشبهة يدل على جهل بالقرآن المجيد ، وعدم فهم لآياته ، بل يدل على سوء قصد لدى القائلين بها ، فإن الأمة مجمعة على أن القرآن العظيم قد اشتمل الدين مجملًا في كثير من جوانبه وأحكامه ، ومفصلًا في جوانب أخرى ، وقد جاءت السُنَّة النبوية المطهرة فبينت المجمل وفصلته ، والنَّبِـي صلى الله عليه وسلم وهو يبين ويفصل إنما ينفذ أمر الله تعالى ويؤدي ما وكله الله تعالى إليه من بيان القرآن المنزل على الخلق ، تطبيقًا واستجابة لأمر الله تعالى في قوله : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [النحل44] .
فالقرآن المجيد قد اشتمل على قضايا الدين ، وأصول الأحكام الشرعية ، أما تفاصيل الشريعة وجزئياتها فقد فصل بعضها وأجمل جمهرتها ، وإنما جاء المجمل في القرآن بناء على حكمة الله تعالى التي اقتضت أن يتولى رسوله صلى الله عليه وسلم تفصيل ذلك المجمل وبيانه ، وهذا هو ما قام عليه واقع الإسلام ، وأجمعت عليه أمته ، ومن ثم فلا وزن لمن يقول بغير ذلك أو يعارضه ، لأن معارضته مغالطة واضحة وبهتان عظيم ، وإذا كان أصحاب هذه الشبهة يزعمون أن القرآن المجيد قد فصل كل شيء ، وبين كل صغيرة وكبيرة في الدين ؛ فلنحتكم وإياهم إلى عماد الدين الصلاة ؛ أين في القرآن الكريم عدد الصلوات ، ووقت كل صلاة ابتداء وانتهاء ، وعدد ركعات كل صلاة ، والسجدات في كل ركعة ، وهيئاتها ، وأركانها ، وما يقرأ فيها ، وواجباتها ، وسننها ، ونواقضها ، إلى غير ذلك من الأحكام التى لا يمكن أن تقام الصلاة بدونها ؟ ومثل ذلك يقال في أحكام العبادات كافة ، إن القرآن العظيم قد ورد فيه الأمر بالصلاة والزكاة والصيام والحج ، فأين نجد منه الأنواع التي تخرج منها الزكاة ، ومقدار كل نوع ، وأين نجد أحكام الصيام ؟ وأين نجد مناسك الحج ؟ إن الله سبحانه قد وكل بيان ذلك إلى رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال ( 3 ) : { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } ، ولم يقل : كما تجدون في القرآن ، لأن القرآن قد خلا من تفصيل الأحكام وبيانها .
ولعل من حكمة الله سبحانه في ترك التفاصيل والبيان لرسوله صلى الله عليه وسلم ؛ أن تفصيل الأحكام وبيان جزئياتها ، وتوضيح دقائقها ، إنما يكون بالطريق العملي أولى وأجدى ، ولو أن الأحكام فصلت قولا نظريًا ، لما استغنت عن بيان عملي واقعي .
ولعله من الحكمة وراء ذلك أيضًا بيان ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم من منزلة سامية لا يشاركه فيها غيره ، ومكانة رفيعة عالية لا يرقى إليها أحد سواه ، وذلك بإسناد الله تعالى تفصيل الأحكام وبيانها إليه صلى الله عليه وسلم ، إذ لو كان كل شيء مفصلًا مبينًا لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل غيره من الناس مطبقًا لما هو قائم فعلا ، لكنَّ الله تعالى اختصه صلى الله عليه وسلم بتفصيل الأحكام وبيان مجمل القرآن تكريمًا لشأنه وإعلاء لمنـزلته ، وليس ذلك أمرًا قائمًا بذاته ، بل هو مبني على ما سبق أن بيناه من حِكَم .
أما هؤلاء الذين أثاروا هذه الشبهة فقد ارتكبوا عددًا من الأخطاء ، أول هذه الأخطاء أنهم لم يحاولوا أن يفهموا الموضوع في إطار القرآن الكريم كله ، وإنما أخذوا آية واحدة أو آيات وركزوا كلامهم فيها ، وبنوا مذهبهم الفاسد عليها ، وتركوا القرآن المجيد كله بما فيه من آيات واضحات تتصل بالموضوع اتصالًا مباشرًا، ومن هنا فقد حمَّلوا الآيات التي اختاروها ما لا تحتمل ، ووجهوا معناها الوجهات الخطأ التي أرادوها هم ، وليس التي تنطق بها الآيات ، ومن البديهيات التي يعلمها عامة الناس وبينهم العلماء أن القرآن يفسر بعضه بعضا ، وأن آياته إنما يفهم بعضها في إطار البعض الآخر ، وأن تفسير بعض الآيات بعيدًا عن بقية الكتاب الكريم قد يكون خطأ يؤدي إلى محظورين خطيرين ؛
الأول : عدم فهم المراد من الآيات فهمًا صحيحًا .
الثانى : أن يضرب القرآن بعضه ببعض ، وأن تتعارض بعض آياته بالبعض الآخر ، وهذا جرم عظيم ، لا يرتكبه إلا مجرم أثيم ، وهؤلاء قد اعتمدوا آية أو بضع آيات من القرآن ، ثم عزلوها عن بقية ما في القرآن المجيد من آيات بينات في نفس الموضوع ، ثم حمَّلوها من المعاني مالا تحتمل ، عن سوء قصد وتعسف ، ولعل تفنيد شبهتهم هذه يقتضينا إلى جانب ما ذكرنا توضيح معاني الآيات التي استدلوا بها ، حتى تبطل شبهتهم هذه بتمامها ، وتنهار من أساسها .
إن عمدتهم في الاستدلال على ما ذهبوا إليه هو قول الله تعالى : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } [الأنعام38] ، مدعين أن هذه الآية تعني أن الكتاب الكريم قد احتوى تفصيل كل صغيرة وكبيرة وبيانها ، ومن ثم فلا حاجة إلى السُنَّة التي تبينه وتفصله ، وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن المراد بالكتاب في الآية الكريمة ، إنما هو اللوح المحفوظ ، وليس القرآن الكريم ، وسياق الآية كاملة يرجح هذا ، فالآية الكريمة كاملة : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } [الأنعام39] ، فالآية تتحدث عن عظيم علم الله تعالى ، وإحاطته بكل شيء في الوجود من دواب وطيور وغيرها ، وقد شمل علم الله سبحانه كل شيء ، وقدر ما يقع لكل منها ، ثم إليـه يحشر الكل ، وذلك كقوله تعالى : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [الحديد22] ، فالكتاب الذي احتوى كل شيء كان أو كائن أو يكون إنما هو اللوح المحفوظ وعلى تفسير الكتاب بأنه القرآن الكريم ، فقد قال المفسرون أن معنى الآية ؛ إن الله تعالى قد ضمن القرآن الكريم كل ما يحتاج إليه المكلفون من أوامر ونواه ، وعقائد وشرائع ، وبشارة وإنذار ، إلى غير ذلك ، وليس معنى ذلك أنه لا يحتاج إلى السُنَّة المبينة له ، فهو وحي ، والسُنَّة وحي ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى ، وقد قال عنه ربه سبحانه وتعالى : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } [النجم3-4] ، فالله سبحانه الذي ضمَّن القرآن العظيم قضايا الدين وأصول الأحكام مجملة ، هو سبحانه الذي وجه الناس وأرشدهم إلى الطريق الذي يحصلون منه على تفصيل ذلك المجمل وبيانه ، وقد جاء التوجيه في القرآن نفسه فقد قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } [محمد33] ، وقال تبارك وتعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } [الحشر7] ، وغير ذلك آيات كثيرة تأمر المؤمنين بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والأخذ عنه ، وبذلك يتضح معنى الآية الكريمة : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } [الأنعام38] ، وأن الكتاب لو فسر بأنه القرآن ، فإن الله تعالى قد ضمنه كل شيء يحتاج إليه المكلف ، فما كان فيه من تفصيل كفى ، وما كان فيه من إجمال ، فقد وجه القرآن المؤمنين إلى الطريق الذي يجدون فيه تفصيل ذلك المجمل ، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبذلك يكون القرآن المجيد قد اشتمل كل شيء ، وصدق الله القائل : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } [الأنعام38].
" أما الذين يقولون إننا لا حاجة لنا إلى السُنَّة النبوية ، اكتفاءً بالبلاغ القرآنى ، الذى لم يفرط فى شىء ، فإننا نقول لهم ما قاله الأقدمون - من أسلافنا - للأقدمين من أسلافهم : إن السُنَّة النبوية هى البيان النبوى للبلاغ القرآنى ، وهى التطبيق العملى للآيات القرآنية ، التى أشارت إلى فرائض وعبادات وتكاليف وشعائر ومناسك ومعاملات الإسلام ، وهذا التطبيق العملى ، الذى حوّل القرآن إلى حياة معيشة ، ودولة وأمة ومجتمع ونظام وحضارة ، أى الذى " أقام الدين " ، قد بدأ بتطبيقات الرسول للبلاغ القرآنى ، ليس تطوعًا ولا تزيّدًا من الرسول ، وإنما كان قيامًا بفريضة إلهية نص عليها القرآن الكريم { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [النحل44] ، فالتطبيقات النبوية للقرآن - التى هى السُنَّة العملية والبيان القولى الشارح والمفسر والمفصّل - هى ضرورة قرآنية ، وليست تزيّدًا على القرآن الكريم ، هى مقتضيات قرآنية ، اقتضاها القرآن ، ويستحيل أن نستغنى عنها بالقرآن ، وتأسيًا بالرسول صلى الله عليه وسلم ، وقيامًا بفريضة طاعته التى نص عليها القرآن الكريم : { قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } [آل عمران32] .. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ } [النساء59] .. { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ } [النساء80] .. { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [آل عمران31] .. { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } [الفتح10] ، تأسيًا بالرسول صلى الله عليه وسلم وطاعة له ، كان تطبيق الأمة - فى جيل الصحابة ومن بعده - لهذه العبادات والمعاملات ، فالسُنَّة النبوية ، التى بدأ تدوينها فى العهد النبوى ، والتى اكتمل تدوينها وتمحيصها فى عصر التابعين وتابعيهم ، ليست إلا التدوين للتطبيقات التى جسدت البلاغ القرآنى دينًا ودنيا فى العبادات والمعاملات .
فالقرآن الكريم هو الذى تَطَلَّبَ السُنَّة النبوية ، وليست هى بالأمر الزائد الذى يغنى عنه ويستغنى دونه القرآن الكريم .
أما العلاقة الطبيعية بين البلاغ الإلهى - القرآن - وبين التطبيق النبوى لهذا البلاغ الإلهى - السُنَّة النبوية - فهى أشبه ما تكون بالعلاقة بين " الدستور " وبين " القانون " ، فالدستور هو مصدر ومرجع القانون ، والقانون هو تفصيل وتطبيق الدستور ، ولا حُجة ولا دستورية لقانون يخالف أو يناقض الدستور ، ولا غناء ولا اكتفاء بالدستور عن القانون .
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليس مجرد مبلّغ فقط ، وإنما هو مبلّغ ، ومبين للبلاغ ، ومطبق له ، ومقيم للدين ، تحوّل القرآن على يديه إلى حياة عملية ، أى إلى سنة وطريقة يحياها المسلمون .
وإذا كان بيان القرآن وتفسيره وتفصيله هو فريضة إسلامية دائمة وقائمة على الأمة إلى يوم الدين ، فإن هذه الفريضة قد أقامها - أول من أقامها - حامل البلاغ ، ومنجز البيان ، ومقيم الإسلام صلى الله عليه وسلم.
" والذين يتصورون أن الرسول صلى الله عليه وسلم مجرد مبلِّغ إنما يضعونه فى صورة أدنى من صورتهم هم ، عندما ينكرون عليه البيان النبوى للبلاغ القرآنى ، بينما يمارسون هم القيام بهذا البيان والتفسير والتطبيق للقرآن الكريم ! .. وهذا " مذهب " يستعيذ المؤمن بالله منه ومن أهله ومن الشيطان الرجيم .! " ( 4 ) .

-----------------------
( 1 ) بدأ إنكار السُنَّة النبوية والشغب عليها على هيئة فردية في حالات نادرة لا اعتبار بها ، وكان ذلك في حياة النبي S( راجع قصة الزبير - فى تفسير النساء 65) ، أما إنكار السُنَّة على هيئة مؤثرة فى التاريخ ، فقد بدأ على أيدى الخوارج والشيعة ، ثم انضم إليهم طوائف من المتكلمة وبخاصة من المعتزلة .
أما نشأتها في العصر الحديث فكانت فى الربع الأول من القرن الرابع عشر الهجري في شبه القارة الهندية على يد زمرة من أبناء تلك البقعة ، وزعمت تلك الطائفة الاعتماد على القرآن وحده ، وطرح السُنَّة النبوية المطهرة .
( 2 ) شبهات حول السنة والسيرة النبوية ، ا / عماد حسن أبو العينين ، وشبهات القرآنيين حول السُنَّة النبوية ، أ . د . محمود محمد مزروعة ، بتصرف شديد ، راجع أيضًا حجية السُنَّة ، د / عبد الغنى عبد الخالق ص 384 ، وأيضًا : دفاع عن السُنَّة ، أ . د / محمد أبو شهبة .. أيضًا : مقالة أ . د / موسى شاهين لاشين بالموسوعة الإسلامية العامة ص501 .
( 3 ) ( صحيح ) : البخارى 631 ، مسلم 674 ، أبو داود 589 ، الترمذى 205 ، النسائى 634 ، ابن ماجة 979 ، أحمد15171.
( 4 ) موقع الأزهر الشريف ، http://www.alazhr.org/Qadaia/Default.asp.

عبد المنعم جبر عيسي
22/10/2009, 05:44 PM
الإسلام .. ونظام الطبقات ( * )
" والله فضل بعضكم على بعض في الرزق .. " سورة النحل [71] .
" ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات .. " سورة الزخرف [32] .
أليس هذا وارداً في القرآن أيها المسلمون ؟ فكيف تزعمون بعد هذا أن الإسلام لا يعترف بنظام الطبقات ؟

* * * * *
نحتاج أولاً أن نعرف ما هو نظام الطبقات ، لنعرف إن كان الإسلام يبيحه أم لا يبيحه .. فإذا استعرضنا تاريخ أوربا في العصور الوسطى مثلاً وجدنا طبقات النبلاء أو الأشراف ، ورجال الدين ، والشعب ، طبقات متميزة محدَّدة المعالم يختلف بعضها عن بعض ، بحيث لا يخطئ الإنسان معرفتها بمجرد النظر .
فرجال الدين لهم ثيابهم الخاصة التي تميزهم ، وكان لهم في تلك العصور سطوة كبرى ، فكان البابا سلطة مناوئة للملوك والأباطرة ، يريد أن يزعم أنه هو الذي يمنحهم السلطان على الشعوب ، ويريدون هم أن ينسلخوا من سلطته ويستقلوا بأنفسهم . وكانت لهم كذلك أموال طائلة من الأوقاف التي وقفها عليهم المتدينون ، ومن الإتاوات التي يفرضونها هم على الناس ، بل كانت للكنيسة جيوش كاملة في بعض الأحيان .
أما الأشراف فكانوا طبقة تتوارث الشرف بعضها عن بعض . بحيث يولد المرء منهم شريفا ، ويظل شريفاً حتى يـموت ، بصرف النظر عن الأعمال التي يقوم بها في حياته ، وقربها أو بعدها من هذا الشرف المزعوم !
أما امتيازاتهم فكانت في عهد الإقطاع سلطاناً مطلقاً على " الشعب " الموجود في الإقطاعية : هم السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية ، وكانت أهواؤهم ونزواتهم هي القانون الذي ينفذ على الشعب ؛ تتكون منهم المجالس النيابية التي تشرع للبلاد ، فكانت تشريعاتهم بطبيعة الحال تهدف إلى حمايتهم والاحتفاظ لهم بامتيازاتهم وإضفاء صفة القداسة عليها .
أما الشعب فهو ذلك الهمل الذي لاحقوق له ولا امتيازات ، وإنما عليه الواجبات كل الواجبات ؛ يتوارث الذل والفقر والعبودية جيلاً بعد جيل .
ثم حدثت تطورات اقتصادية هامة في أوربا أنشأت طبقة جديدة تنازع الأشراف امتيازاتهم ومكانتهم ، هي الطبقة البرجوازية .. وبقيادة هذه الطبقة وعلى أكتاف الشعب ، قامت الثورة الفرنسية التي ألغت - في الظاهر - نظام الطبقات ، وأعلنت - نظرياً - مبادئ الحرية والإخاء والمساواة .
وفي العصر الحديث قامت هذه الطبقة الرأسمالية مقام طبقة الأشراف القديمة ولكن من وراء ستار ، ومع بعض التعديلات التي اقتضاها التطور الاقتصادي ، ولكن الجوهر لم يتغير ، فهي طبقة تملك المال والسلطان والقوة التي تسيِّر بها دفة الحكم ، وعلى الرغم من مظاهر الحرية التي تتمثل في الانتخابات " الديمقراطية " فإن الرأسمالية تعرف طريقها إلى البرلمانات ودواوين الحكومات ، وتنفذ بوسائلها الملتوية ما تريد تنفيذه تحت مختلف المسميات .
بل ما يزال في إنجلترا - أم الديمقراطية كما كان يقال لنا - مجلس يسمى بصفة رسمية " مجلس اللوردات " ، وما زال فيها قانون إقطاعي يقضي بأن يحرم جميع الأبناء والبنات من الميراث فيما عدا الابن الأكبر ، منعاً لتفتيت الثروة ، أي محافظة على ثروات " الأسر " لكي تبقى قائمة لا تزول ، ويظل لها كيانها الموروث كما كانت طبقة الإقطاعيين في العصور الوسطى .
هذا هو نظام الطبقات ، يتلخص في حقيقة أساسية هي أن الطبقة التي تملك المال تملك السلطان .. تملك وسائل التشريع بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ، فتشرع لحماية نفسها ، ولإبقاء الشعب خاضعاً لسلطانها ، محروماً من كثير من حقوقه إرضاء لشهوات الطبقة الحاكمة .
فإذا أدركنا ذلك فهمنا على الفور أنه لا يوجد نظام طبقات في الإسلام ، فليست هناك أولاً مزايا تؤخذ بالميراث كما كان الحال في طبقة الأشراف في أوربا ، ونخرج من حسابنا بطبيعة الحال وراثة العرش بغير بيعة حرة وقيام " طبقة " من الأمراء والنبلاء فذلك كله ليس بالإسلام ، ووجوده في الإسلام لا يزيد على وجود مسلمين يشربون الخمر أو يلعبون الميسر أو يتعاملون بالربا ، ومع ذلك لا يمكن أن يزعم أحد أن الإسلام أباح الخمر والميسر والربا في يوم من الأيام .
وليس هناك ثانياً قوانين تحتفظ بالثروة في يد قوم معينين يتوارثونها ولا تخرج من أيديهم ، فقد كره الإسلام ذلك وقال صراحة : " كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم " ، ووضع من جهة أخرى قوانين لتفتيت الثروة بصفة دائمة ، وإعادة توزيعها في المجتمع بنسب جديدة على الدوام ، تلك هي قوانين الميراث التي توزع الثروة على عدد كبير من الأشخاص فلا يمر جيل حتى تكون قد تفرقت بين الناس ، والحالات النادرة التي يرث فيها الثروة كلها ولد واحد لا إخوة له ولا أقرباء حالات شاذة لا يجوز الحكم بها ولا اعتبارها قاعدة ينتقد النظام كله من أجلها ، ومع ذلك فإن الإسلام لم يتركها تمر اعتباطاً ، فقد جعل في التركة نصيباً للمحرومين من غير أولي القربى يشبه ضريبة التركات في العصر الحديث : " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولاً معروفاً " سورة النساء [8] .
وبهذه الطريقة يعالج تكتل الثروات ، ويجعل أصحاب الثروات أفراداً لا طبقة ؛ أفراداً لا يلبثون أن يجتمعوا حتى يتفرقوا ، بحكم توزع الثروة على نسب جديدة ، والتاريخ الواقعي يشهد أن الثروات كانت دائمة الانتقال في المجتمع الإسلامي ، وأن الغني اليوم قد يفتقر غداً ، والفقير اليوم قد تهبط عليه الثروة من أي سبيل ، فلا تقوم الحواجز المصطنعة بين أي شخص وبين الغنى أو الفقر حسب تصرفه الخاص وملابسات حياته الخاصة ..
وأهم ما يعنينا إثباته هنا هو ما ألمعنا إليه في الفصل السابق من أن التشريع الإسلامي ليس ملكاً لطبقة معينة ، ولا يملك أحد أن يشرع على مزاجه في الدولة الإسلامية ، لأن الشريعة السماوية المنزلة هي التي تحكم الجميع بلا محاباة لأحد ولا ظلم لأحد ، ومن هنا ينتفي تماما وجود طبقات في الإسلام ، لأن وجود الطبقات مرتبط ارتباطاً لا ينفصم بمزية التشريع ، فإذا بطلت هذه المزية ، ولم يكن في وسع أحد أن يصنع لنفسه قانوناً يحمي به مصالحه على حساب شخص آخر ، فماذا بقي من نظام الطبقــات ؟
وإذاً فما معنى الآيتين اللتين أثبتناهما في مقدمة هذا الفصل ؟
إنهما لا تزيدان على إثبات الأمر الواقع في كل الأرض ، في ظل الإسلام وفي غير الإسلام : أن الناس متفاوتون في المراتب والأرزاق ، وإلا فلنأخذ روسيا مثلاً : هل جميع الناس يتناولون أجراً واحداً ، أم إن بعضهم مفضل على بعض في الرزق ؟ وهل جميعهم هناك رؤساء أم جميعهم مرؤوسون ؟ أو هل جميعهم ضباط أو جميعهم جنود ؟ أم إن بعضهم قد رفع درجات فوق بعض ؟ إن هذا أمر لا معدي عنه ، وهو حقيقة واقعة في كل مكان ، والآيتان لا تشرحان سبباً معيناً للتفضيل ، ولا تقيدان الناس كذلك بسبب معين ، فهما لا تقولان إن التفضيل بسبب الرأسمالية أو بسبب الشيوعية أو بسبب الإسلام ، ولا تقولان إن آثاره تكون دائماً عادلة بمقياس الأرض أو تكون ظالمة .. لا شيء من ذلك كله ، إنهما فقط تقولان إن هذا هو الأمر الواقع في كل مكان ، وكل ما على الأرض بطبيعة الحال داخل في إرادة الله ، وإلا هل يعتقد الشيوعيون أن نفوذ الله - سبحانه - محدود بالعالم الإسلامي ، كما كان بنو إسرائيل يعتقدون في سذاجة غبية أن نفوذ الله محدود بمصر وفلسطين ، وأن ما يقع في بقية الأرض خارج عن نفوذ الله وإرادة الله ؟!

* * *
شيء واحد من نظام الطبقات كان في الإسلام بتصريح القرآن ، هو وجود طبقة الأرقاء ، ولكنا تحدثنا عنهم بما فيه الكفاية ، وقلنا إن الرق كله كان نظاماً اقتضته ظروف وملابسات معينة ، ولكن الإسلام ليس حريصاً على إبقائه ، فهو ليس أصلاً من أصول المجتمع الإسلامي ، ولكنه يوجد بصورة عارضة ، ثم يسعى الإسلام دائماً إلى تحريره ، ومع ذلك فكيف كان يعامل الإسلام الرقيق ؟
لسنا في حاجة إلى تكرار ما قلناه في فصل الرق ، ولكنا نذكِّر بالحادثة الشهيرة التي وضع بها عمر أساس " الطبقات " في الإسلام !
تلك قصة الشريف الذي ذهب للحج ، يجر أذيال الكبر ، ويتيه على عباد الله في عنجهية جاهلية لم يطهره منها دخوله - بالاسم - في الإسلام : " قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " ، وفي أثناء الطواف وقعت قدم " عبد " على طرف ثوبه الطويل الذي تتمثل فيه العنجهية والكبرياء ، فما كان من الشريف إلا أن لطم العبد على وجهه جزاء وقاحته ! فذهب العبد إلى عمر يشكو له فعل الشريف .. فهل قال له عمر : لا عليك ! فهذا شريف وأنت عبد ، هو من طبقة وأنت من طبقة ! هو يملك من الحقوق ما لا تملك ! هل استصدر عمر تشريعاً يحمي به طبقة الأشراف من أن يدوس على ثيابها العبيد ، أو تشريعاً يلزم العبيد بقبول لطمات السادة ؟!
كلا .. إن ما حدث معروف في التاريخ ، فقد أصر عمر على القصاص ؛ على أن يلطم العبد هذا الشريف المتكبر ليرده إلى شريعة الله التي لا تفرق بين بشر وبشر في التشريع ، حتى حين يتفاوتان في الرزق أو في الوضع الاجتماعي لسبب من الأسباب .
وعلم الشريف فكبرت عليه نفسه ؛ وأخذته العزة بالإثم ، وظل يحاول أن ينجو من حكم الشريعة الصارم الذي يسوي بينه وبين كل نفس آدمية في الوجود ، فلما يئس فر من وجه عمر ، وارتد في النهاية عن الإسلام !!
هذا هو الإسلام .. لا طبقات ولا مزايا تشريعية للطبقات .
أما الثروة واختلاف الناس فيها فموضوع آخر لا يجوز أن يختلط في أذهاننا بمسألة الطبقات ، ما دامت لا ترتب لمالكيها حقوقاً تشريعية أو قضائية ليست لبقية طوائف الشعب ، وما دامت الشريعة - في واقع الأمر لا في المثل والخيالات - تطبق بطريقة واحدة على جميع الناس .
وقد رأينا أن الملكية الزراعية لم ترتب للملاك في الإسلام حقوقاً يستعبدون بها الآخرين أو يستغلونهم ، وكذلك الحال في الملكية الرأسمالية لو وجدت في مجتمع إسلامي صحيح ، ذلك أن الحاكم لا يستمد نفوذه من تأييد طبقة الملاك ، وإنما من انتخاب الأمة له وقيامه بتنفيذ شريعة الله .
يضاف إلى ذلك كله ما ذكرناه من قبل من أنه لا يوجد مجتمع في الأرض كلها قد تساوت الثروة فيه بين جميع السكان ، حتى المجتمع الشيوعي الذي يقول - صادقاً أو كاذباً - إنه ألغى نظام الطبقات ، وأبقى طبقة واحدة هي التي تملك وتحكم ، وتفني غيرها من الطبقات !
--------------
( * ) شبهات حول الإسلام ، للأستاذ / محمد قطب – بتصرف يسير .

عبد المنعم جبر عيسي
01/11/2009, 04:28 PM
شبهات حول عدالة الصحابة والرد عليها ( * )

الشبهة الأولى :
قوله تعالى { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } ( الجمعة : 11) قالوا أنها نزلت في أكثر الصحابة الذين تركوا الرسول صلى الله عليه وسلم وانفضوا عنه وقت خطبة الجمعة لأجل العير التي جاءت من الشام ، وهذا يدل على عدم ديانتهم .
الرد :
1- أن هذه الحادثة وقعت في بدء زمن الهجرة ولم يكونوا حينها قد وقفوا على الآداب الشرعية كما ينبغي ، كما أن كبار الصحابة كأبي بكر وعمر كانوا واقفين عنده كما ثبت في الأحاديث الصحيحة ، لذلك لم يعدهم الله عزوجل بعذاب ولم يعاتب النبي صلى الله عليه وسلم في الآية .
2- ورد في بعض الأخبار أن ذلك الانفضاض كان وقت الخطبة عندما كان صلى الله عليه وسلم يقدم الصلاة على الخطبة ورجح ذلك ابن حجر تحسينا للظن بالصحابة وأنهم ظنوا أنه لا شيء في ترك الجمعة .
وعلى تقدير أن الانفضاض كان وقت الصلاة فإن ذلك كان قبل النهي ، فلما نزلت الآية فهم الصحابة الكرام الذم في ذلك فاجتنبوه ، وقدم بعدها النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة .
فلا يصح الطعن فيهم لمجرد هذه الحادثة التي وقعت من بعضهم في اوائل أمرهم وتبعها عبادات لا تحصى منهم .

الشبهة الثانية :
نسبة النفاق إلى الصحابة بدعوى أنه كان في المدينة منافقين وأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق عليهم لفظ الصحابة " معاذ الله ! أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي "
الرد :
1- أن إطلاق لفظ الصحابة على المنافقين يعتبر إطلاقا لغويا وليس اصطلاحيا وهو نظير { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ } ( الأعراف : 184) { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } ( النجم : 2) فإضافة صحبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكافرين إنما هي صحبة الزمان والمكان لا صحبة الإيمان .
2- لا يمكن أن يدخل المنافقون في معنى الصحابة الاصطلاحي لأن الله تعالى نفاه عنهم { وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } ( التوبة : 56)
3- أن المنافقين كانوا معروفين في مجتمع الصحابة فهم فئة معلومة وليست الأكثرية ، ولا يخفى أمرهم على أحد بعد ذكر الله تعالى أوصافهم في سورة التوبة .

الشبهة الثالثة:
{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } ( آل عمران : 155) { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } ( التوبة : 25) دلت الآيات على فرار بعض الصحابة يوم الزحف في حنين وأحد وهو من الكبائر .
الرد:
1- في الآية نفسها { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ ..... } لأنها عتاب من الله تعالى ثم ختم العتاب بقوله تعالى : { وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } ولا طعن ولا تعيير بعد عفو الله تعالى عن الجميع .
2- وكذا يوم حنين بعد العتاب يمتن الله عزوجل عليهم بالسكينة : { ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ } ( التوبة : 26) والسكينة ينزلها الله تعالى على أهل الإيمان والتقوى ليزيدهم ويثبتهم { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } ( الفتح : 4) ولا تعيير لهم بعد هذه الشهادة بأنهم أهل الإيمان والتقوى .

الشبهة الرابعة :
قوله صلى الله عليه وسلم : " ... ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : يارب أصيحابي ، فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك . .... فيقال : إن هؤلاء لا يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم " .
فاستدلوا به على وصف الصحابة بالردة .
الرد :
1- المراد بالأصحاب ليس المعنى الاصطلاحي إنما المراد بهم مطلق المؤمنين المتبعين لشريعته صلى الله عليه وسلم كما يقال على سبيل المثال لمقلدي مذهب الإمام الشافعي : أصحاب الشافعي . ولو كانوا بعده بسنين وهكذا ..
وكونه عرفه صلى الله عليه وسلم فهذا لإمارات تلوح عليهم هو يعرفها كما في حديث الذين يردون حوضه يعرفهم لأنهم يأتون غرا محجلين .
2- إن افترضنا أنهم الأصحاب في زمنه صلى الله عليه وسلم فالمراد بهم الذين صحبوه صحبة الزمان والمكان مع نفاقهم كما سبق ، وعلى هذا فالمراد بالمرتدين من أصحابه في الحديث هم الذين ارتدوا من الأعراب في عهد ابي بكر الصديق رضي الله عنه .
3- ولا يمكن القول أن قوله " أصيحابي " يقصد به المعنى الاصطلاحي لأن المرتد يخرج من الصحابة ولا يعد منهم ، كما أن التصغير في اللفظ إشارة لقلة عددهم ـ من وقع لهم ذلك - فقصد به جفاة الأعراب ولم يقع من أحد من الصحابة المشهورين ( وهذا قول الخطابي ) .

الشبهة الخامسة :
قوله صلى الله عليه وسلم : " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض "
قالوا تقاتل الصحابة في صفين والجمل ، حتى اتهم كثير من الرافضة معاوية بأنه أساس فرقة المسلمين حتى الآن بسبب خروجه عن طاعة الإمام علي كرم الله وجهه .
الرد ( من عدة وجوه ) :
1- قوله " لا ترجعوا بعدي " جاء على صيغة النهي والتحذير من قتال المؤمن .. وإطلاق الكفر على قتال المؤمن مبالغة في التحذير لينزجر السامع وليس ظاهر اللفظ هو المراد ، أو أنه على سبيل التشبيه لأن ذلك فعل الكافر أن يقتل أخاه .
2- قيل معنى " كفارا " أي كفارا بحرمة الدماء وحرمة المسلمين وحقوق الدين ، وقيل : كفارا بنعمة الله ، وقيل : اللفظ بظاهره للذي يستحل قتال أخيه المسلم .
3- ما جرى بين الصحابة من قتال لم يكن عن استحلال له حتى يحمل الحديث على ظاهره ، فالقرآن بين فقه هذا المعنى في الآية : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) ـ الحجرات } فسماهم إخوة ووصفهم بالإيمان مع وجود الاقتتال بينهم والبغي على بعض .
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم عن الحسن " إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " يقول ابن تيمية : " والذين قاتلوا الإمام علي لا يخلوا : إما أن يكونوا عصاة أو مجتهدين مخطئين أو مصيبين ، وعلى كل تقدير فهذا لا يقدح في إيمانهم ولا في عدالتهم ولا يمنعهم من دخول الجنة " .. وبذلك لا تفسق أي طائفة منهم وإن كانت إحداها باغية ، فالبغي إن كان بتأويل أنه مجتهد مصيب فلا يكفر ولا يفسق .
4- جمهور الصحابة وسادتهم تأخروا عن الفتن ، قال محمد بن سيرين : " هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله عشرة آلاف فما حضر منهم مئة بل لم يبلغوا ثلاثين " وقال ابن تيمية : ان إسناد هذه الرواية أصح إسناد على وجه الأرض .
وعن معاوية : عندما سئل الإمام أحمد عن رجل تنقص معاوية وعمرو بن العاص أيقال له رافضي ؟ قال : إنه لم يجترئ عليهما إلا وله خبيئة سوء ، ما تنقص أحدٌ أحداً من الصحابة إلا وله داخلة سوء .
وقال عمر بن عبد العزيز : " تلك دماء طهر الله منها سيوفنا فلا تخضب بها ألسنتنا " .
.. وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
--------------------------------
( * ) اعداد : جهاد الكندري ، عن كتاب ( السنة النبوية في كتابات أعداء الله ) .

عبد المنعم جبر عيسي
29/11/2009, 07:40 PM
الرد على طعن الْملاحدة في تواتر القرآن

تعلق بعض الْملاحدة بحديث أنس في حصر من جمع القرآن في عهد النبي ؟
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : مَاتَ النَّبِيُّ ، وَلَمْ يَجْمَعِ الْقُرْآنَ غَيْرُ أَرْبَعَةٍ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو زَيْدٍ قَالَ : وَنَحْنُ وَرِثْنَاهُ . (1)
وفي رواية قتادة قَالَ : قُلْتُ لأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ؟ قَالَ أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الأَنْصَارِ : أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يُكْنَى أَبَا زَيْدٍ . (2)
فقالوا : كيف يكون القرآن متواترًا، مع ما يروى عن أنس مِن حَصْر مَن جمع القرآن في هؤلاء الأربعة .
وتعلقوا أيضًا بأن أسانيد القراء تدور على ثمانية فقط من أصحاب النبي ، فقالوا : إن هذا العدد لا يبلغ مبلغ التواتر .

وقد رد العلماء على هذه الشبهة ، بعدة وجوه :
أولها : الجواب بأن الحصر في كلام أنس إضافي ، لا حقيقي .
أي أن قول أنس ( أَرْبَعَةٌ ) لا مفهوم له ؛ وليس الحصر في كلامه حقيقيًّا ، بل هو حصر إضافي ، أي : بالإضافة إلى غيرهم ، وإلا فأين الخلفاء الأربعة ، وأين سالْم مولى أبي حذيفة ، وأين أبو موسى وغيرهم . على ذلك ثلاثة أدلة :
الأول : كثرة الحفاظ من الصحابة :
فقد روي حفظ جماعات من الصحابة في عهد النبي ، وثبت في الصحيح أنه قُتِل يوم بئر معونة سبعون مِمَّن جمع القرآن ،( 3 ) وروي أنه قتل في وقعة اليمامة ( 4 ) مثلهم .
فهؤلاء الذين قتلوا من جامعيه يومئذ ، فكيف الظن بِمن لم يُقتل مِمَّن حضرها ، ومن لم يحضرها وبقي بالْمدينة أو بمكة أو غيرهما .
الثاني : استحالة إحاطة أنس بحال كل الصحابة وأنَّهم لم يجمعوا القرآن كله .
أي بتقدير أنه لا يعلم أن سواهم جمعه ، وإلا فكيف له الإحاطة بكل من جمع القرآن مع كثرة الصحابة وتفرقهم في البلدان ، وهذا لا يتم إلا إن كان لقي كل واحد منهم على انفراده ، وأخبره عن نفسه أنه لم يكمل له جمع القرآن في عهد النبي ، وهذا في غاية البعد في العادة . وقد يكون مراده : الذين علمهم من الأنصار أربعة ، وأما غيرهم من الْمهاجرين والأنصار الذين لا يعلمهم فلم ينفهم ، ولو نفاهم كان الْمراد نفي علمه ، وإذا كان الْمرجع إلى ما في علمه لم يلزم أن يكون الواقع كذلك .
كما أنه لم يذكر في هؤلاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ونحوهم من كبار الصحابة ، الذين يبعد كل البعد أنَّهم لم يجمعوه ، ( 5 ) مع كثرة رغبتهم في الخير وحرصهم على ما دون ذلك من الطاعات ، وكيف نظن هذا بِهم ، ونحن نرى أهل العصور اللاحقة يحفظ القرآن منهم في كل بلدة ألوف ، مع بعد رغبتهم في الخير عن درجة الصحابة مع أن الصحابة لم يكن لهم أحكام مقررة يعتمدونَها في سفرهم وحضرهم إلا القرآن ، وما سمعوه من النبي ، فكيف نظن بِهم إهماله ؟ فكل هذا وشبيهه يدل على أنه لا يصح أن يكون معنى الحديث أنه لم يكن في نفس الأمر أحد جمع القرآن إلا الأربعة الْمذكورون . ( 6 )
الثالث : اختلاف الرواية عن أنس في تحديد الأربعة
فمِمَّا يدل على إرادة الحصر الإضافي اختلاف الرواية عن أنس في تحديد الأربعة ، ففي رواية : أبي ومعاذ وزيد وأبو زيد ، ( 7 ) وفي رواية أخرى أبو الدرداء مكان أبيٍّ ، ( 8 ) وهذا دليل على عدم إرادة الحصر الحقيقي ، فهو صادق في كلتا الروايتين ؛ لأنه ليس معقولاً أن يكذب نفسه ، فتعين أن الْمراد بالحصر هنا حصر إضافي ، بأن يقال : إن أنسًا تعلق غرضه في وقت ما بأن يذكر الثلاثة ، ويذكر معهم أبي بن كعب دون أبي الدرداء ، ثم تعلق غرضه في وقت آخر بأن يذكر الثلاثة ، ويذكر معهم أبا الدَّرْداء دون أُبَيِّ بن كعبٍ . ( 9 )
كما اختلف العلماء في تحديد أبي زيدٍ الْمذكور في هذا الحديث ، فبعضهم يَجعله سعد بن عبيد الأوسي ، وبعضهم يجعله قيس بن السكن الخزرجي ، وبعضهم يصحح أنَّهما جميعًا جمعا القرآن على عهد رسول الله ( 10 ) وبعضهم يجعله قيس بن أبي صعصعة . ( 11 )
والاختلاف في تحديد الْمعدود الْمحصور يدل على عدم إرادة الحصر الحقيقي .
ثانيًها : الجواب بتقدير مراد أنس بالحصر الإضافي ، وذلك بوجوه :
الأول : أن الْمراد به : لم يجمعه على جميع الوجوه والقراءات التي نزل بِها إلا أولئك .
الثاني : أن الْمراد : لم يجمع ما نسخ منه بعد تلاوته ، وما لم ينسخ غيرهم .
الثالث : أن الْمراد بجمعه : تلَقِّيهِ من فِي رسول الله بغير واسطة ، بخلاف غيرهم ، فيحتمل أن يكون تلقى بعضه بالواسطة .
الرابع : أنَّهم تصدوا لإلقائه وتعليمه ، فاشتهروا به ، وخفي حال غيرهم عمن عُرف حالهم ، فحصر ذلك فيهم بحسب علمه .
ثالثهًا : مع التسليم بثبوت كلام أنس على الحصر الحقيقي ، فإن ذلك لا يقدح في تواتر القرآن .
فلو ثبت أنه لم يجمعه إلا الأربعة ، لم يقدح ذلك في تواتر القرآن ؛ فإن أجزاءه حفظ كلَّ جزءٍ منها خلائق لا يحصون ، يحصل التواتر ببعضهم ، وليس من شرط التواتر أن ينقل جميعُهم جميعَه ، بل إذا نقل كل جزء عدد التواتر صارت الجملة متواترة بلا شك ، ولم يخالف في هذا مسلمٌ ولا ملحدٌ.( 12 )
أما دوران أسانيد القراء على ثمانية من الصحابة فقط ، فيجاب بأن هؤلاء الثمانية هم الذين نقل إلينا قراءتهم ، ولا ينفي ذلك إقراء غيرهم ، ومعرفتهم بقراءة هؤلاء ، وإقرارهم عليها ، كما أن تواتر القرآن يختلف عن تواتر الحديث ، فعند علماء الحديث من أقسام الْمتواتر : تواتر الطبقة ، ومثلوا له بتواتر القرآن ، فقد تلقاه جيل عن جيلٍ ، فهو لا يحتاج إلى إسناد . ( 13 )



----------------------

(1) رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبي ح 5004 (8/663). وقد صرح أنس في هذه الرواية بصيغة الحصر ، قال الحافظ : وقد استنكره جماعة من الأئمة. ( يعني التصريح ) ، انظر فتح الباري (8/668) .
(2) رواه البخاري في كتاب الْمناقب باب مناقب زيد بن ثابت . صحيح البخاري مع فتح الباري (7/159) ح 3810، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أبي بن كعب. انظر صحيح مسلم مع شرح النووي (16/19) ح 2465.
(3) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير باب من يُنْكَب في سبيل الله. صحيح البخاري مع فتح الباري (6/23) ح2801، ومسلم في كتاب الإمارة باب ثبوت الجنة للشهيد ح 677. صحيح مسلم مع شرح النووي (13/46-47).
(4) اليمامة من حروب الردة ، وقعت سنة 11 هـ .
(5) والذين منهم من كان يقول : وَاللهِ الَّذِي لا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ إِلاَّ أَنَا أَعْلَمُ أَيْنَ أُنْزِلَتْ وَلاَ أُنْزِلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ إِلاَّ أَنَا أَعْلَمُ فِيمَ أُنْزِلَتْ وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنِّي بِكِتَابِ اللهِ تُبَلِّغُهُ الإِبِلُ لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ. كما روى البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبي ـ (8/662) ح 5002.
(6) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 67، وفتح الباري (8/667-668)، وشرح النووي على صحيح مسلم (16/19)، والإتقان (1/200).
(7) رواه البخاري في كتاب الْمناقب باب مناقب زيد بن ثابت ح 3810. صحيح البخاري مع فتح الباري (7/159)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أبي بن كعب. انظر صحيح مسلم مع شرح النووي (16/19) ح 2465.
(8) رواه البخاري في فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبي . انظر الصحيح مع فتح الباري (8/663) ح 5004.
(9) مناهل العرفان (1/243-245).
(10) أسد الغابة في معرفة الصحابة (6/128).
(11) ذكره ابن أبي داود فيمن جمع القرآن. انظر فتح الباري (8/669).
(12) شرح النووي على صحيح مسلم (16/20)، وفتح الباري (8/668)، والإتقان (1/200).
(13) تعليقات اليماني على نزهة النظر ص 22.

أبو شامة المغربي
01/12/2009, 11:41 AM
http://www.ss1ss.com/albumsm/111100.gif

عبد المنعم جبر عيسي
28/12/2009, 02:38 PM
شكرا جزيلا أستاذنا الدكتور عبد الفتاح ..
للحضور الكريم والتشجيع المميز ..
وبإذن الله نواصل قريبا ما بدأناه سويا ..
لك تحياتى

عبد المنعم جبر عيسي
07/01/2010, 11:33 AM
يوضح القرآن أن الله لا يغفر أن يشرك به ( النساء : 48 . و مع ذلك فقد غفر الله لإبراهيم ، عليه السلام ، بل جعله نبياً رغم أنه عبد النجوم و الشمس و القمر ( الأنعام : 86-87 . فما الإجابة ؟

الجواب :
وقد تصدى للرد على هذه الشبهة فضيلة الدكتور / محمد عمارة ، فى كتابه : ( شبهات حول القرآن الكريم ) ، فقال رحمه الله :
الشرك محبط للعمل : { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ } (الزمر : 64-66) ، { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } (النساء : 48 .
و الأنبياء و الرسل هم صفوة الله من خلقه ، يصطفيهم و يستخلصهم ، و يصنعهم على عينه ، و ينزهم - حتى قبل البعثة لهم و الوحي إليهم - عن الأمور التي تخل بجدارتهم للنبوة والرسالة . . و من ذلك الشرك ، الذي لو حدث منهم واقترفوه لكان مبرراً لغيرهم أن يقترفه ويقع فيه . . و لذلك ، لم يرد في القرآن الكريم ما يقطع بشرك أحد الأنبياء و الرسل قبل بعثته . . بمن في ذلك أبو الأنبياء وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام .
أما الآيات التي يشير إليها السؤال . . وهي قول الله ، سبحانه و تعالى : { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ 78 إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } ( الأنعام : 74-83) .
أما هذه الآيات ، فليس فيها دليل على أن إبراهيم عليه السلام ، قد مر بمرحلة شرك ، و حاشا له أن يقع في ذلك ، وإنما هي تحكي كيف آتى الله إبراهيم الحجة على قومه . . حجة التوحيد ، و دحض الشرك . . فهي حجاج و حوار يسلم فيه إبراهيم جدلاً - كشأن الحوار - بما يشركون ؛ لينقض هذا الشرك ، و يقيم الحجة على تهاوي ما به يحتجون ، و على صدق التوحيد المركوز في فطرته . . ليخلص من هذا الحوار و الحجاج و الاحتجاج إلى أن الخيار الوحيد المتبقي - بعد هذه الخيارات التي سقطت - هو التوحيد . . فهو حوار التدرج من توحيد الفطرة إلى التوحيد القائم على المنطق و البرهان والاستدلال ، الذي فند دعاوى و حجج الخصوم . . الاستدلال اليقيني - { و ليكون من الموقنين } - و ليس فيه انتقال من الشرك إلى التوحيد . . تلك هي الحقيقة التي رجحها المفسرون :
فالقرطبي ، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (671ه 1273م) يقول في تفسيره ( الجامع لأحكام القرآن ) - مورداً الآراء المختلفة حول هذا الموضوع :
قوله تعالى : " قال هذا ربي " اختلف في معناه على أقوال ؛ فقيل : كان هذا منه في مهلة النظر وحال الطفولية وقبل قيام الحجة ؛ وفي تلك الحال لا يكون كفر ولا إيمان .. وقال قوم : هذا لا يصح ؛ وقالوا : غير جائز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى موحد وبه عارف ، ومن كل معبود سواه بريء . قالوا : وكيف يصح أن يتوهم هذا على من عصمه الله وآتاه رشده من قبل ، وأراه ملكوته ليكون من الموقنين ، ولا يجوز أن يوصف بالخلو عن المعرفة ، بل عرف الرب أول النظر . قال الزجاج : هذا الجواب عندي خطأ وغلط ممن قال ؛ وقد أخبر الله تعالى عن إبراهيم أنه قال : " واجنبني وبني أن نعبد الأصنام " " إبراهيم : 35 " وقال جل وعز : " إذ جاء ربه بقلب سليم " " الصافات : 84 " أي لم يشرك به قط .
لقد قال " هذا ربي " على قول قومه ؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر ؛ ونظير هذا قوله تعالى : " أين شركائي " " النحل : 27 " وهو جل وعلا واحد لا شريك له . والمعنى : ابن شركائي على قولكم .
وقيل : إنما قال " هذا ربي " لتقرير الحجة على قومه فأظهر موافقتهم ؛ فلما أفل النجم قرر الحجة وقال : ما تغير لا يجوز أن يكون ربا . وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها ويحكمون بها . وقال النحاس : ومن أحسن ما قيل في هذا ما صح عن ابن عباس أنه قال في قول الله عز وجل : " نور على نور " [النور: 35] قال : كذلك قلب المؤمن يعرف الله عز وجل ويستدل عليه بقلبه ، فإذا عرفه أزداد نورا على نور؛ وكذا إبراهيم عليه السلام عرف الله عز وجل بقلبه واستدل عليه بدلائله ، فعلم أن له ربا وخالقا . فلما عرفه الله عز وجل بنفسه ازداد معرفة فقال : " أتحاجوني في الله وقد هدان " [الأنعام: 80].
وقيل : هو على معنى الاستفهام والتوبيخ ، منكرا لفعلهم . والمعنى : أهذا ربي ، أو مثل هذا يكون ربا ؟ فحذف الهمزة . وفي التنزيل " أفإن مت فهم الخالدون " [الأنبياء : 34] أي أفهم الخالدون ؟ . (1)
و مع هذا الرأي ايضاً الزمخشري ، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي (467-538هـ/1075-1144م) صاحب تفسير ( الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ) .. الذي يقول في تفسير هذه الايات :
" وكان أبوه آزر وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب ، فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم ، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال ، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤدّ إلى أن شيئاً منها لا يصحّ أن يكون إلٰهاً ، لقيام دليل الحدوث فيها ، وأن وراءها محدثاً أحدثها ، وصانعاً صنعها ، مدبراً دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها .
{ هَـٰذَا رَبّى } قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطل ، فيحكي قوله كما هو غير متعصب لمذهبه . لأن ذلك أدعى إلى الحق وأنجى من الشغب ، ثم يكرّ عليه بعد حكايته فيبطله بالحجة .
{ لا أُحِبُّ ٱلأفِلِينَ } لا أحبّ عبادة الأرباب المتغيرين من حال إلى حال ، المتنقلين من مكان إلى آخر ، المحتجبين بستر ، فإنّ ذلك من صفات الأجرام .
{ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى } تنبيه لقومه على أنّ من اتخذ القمر إلٰهاً وهو نظير الكوكب في الأفول ، فهو ضال ، وأنّ الهداية إلى الحق بتوفيق الله ولطفه .
{ إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضَ } أي للذي دلت هذه المحدثات عليه وعلى أنه مبتدؤها ومبتدعها . (2)
و على هذا الرأي أيضاً - من المحدثين - الشيخ عبد الوهاب النجار (1278-1360هـ/1862-1941م) - صاحب ( قصص الأنبياء ) - الذي يقول : " لقد أتى إبراهيم في الاحتجاج لدينه وتزييف دين قومه بطريقة التدرج في الإلزام ، أو التدرج في تكوين العقيدة .. " . (3)
ذلك هو موقف إبراهيم الخليل عليه السلام ، من الشرك .. لقد عصمه الله منه .. و إنما هي طريقة في الجدال يتدرج بها مع قومه ، منطلقاً من منطلقاتهم ؛ ليصل بهم إلى هدم هذه المنطلقات ، وإلى إقامة الدليل العقلي على عقيدة التوحيد الفطرية المركوزة في القلوب .
----------------------------------------------------
(1) ( الجامع لأحكام القرآن ) جـ7 ص25 ، 26 . طبعة دار الكتاب العربي للطباعة و النشر – القاهرة سنة 1387 ه سنة 1967 م .
(2) ( الكشاف ) جـ2 ص30 ، 31 طبعة دار الفكر – بيروت – بدون تاريخ – و هي طبعة مصورة عن طبعة طهران " انتشارات آفتاب – طهران " – و هي الأخرى بدون تاريخ للطبع .
(3) ( قصص الأنبياء ) ص80 . طبعة دار إحياء التراث العربي – بيروت – لبنان – بدون تاريخ للطبع .

عبد المنعم جبر عيسي
26/01/2010, 05:38 PM
الرد على شبهة وقوع ابراهيم ( عليه السلام ) فى الشرك


يوضح القرآن أن الله لا يغفر أن يشرك به ( النساء : 48) . و مع ذلك فقد غفر الله لإبراهيم ، عليه السلام ، بل جعله نبياً رغم أنه عبد النجوم و الشمس و القمر ( الأنعام : 86-78) .

*****
وقد تصدى للرد على هذه الشبهة فضيلة الدكتور / محمد عمارة ، فى كتابه : ( شبهات حول القرآن الكريم ) ، فقال رحمه الله :
الشرك محبط للعمل : { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ } (الزمر : 64-66) ، { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } (النساء : 48) .
و الأنبياء و الرسل هم صفوة الله من خلقه ، يصطفيهم و يستخلصهم ، و يصنعهم على عينه ، و ينزهم - حتى قبل البعثة لهم و الوحي إليهم - عن الأمور التي تخل بجدارتهم للنبوة والرسالة . . و من ذلك الشرك ، الذي لو حدث منهم واقترفوه لكان مبرراً لغيرهم أن يقترفه ويقع فيه . . و لذلك ، لم يرد في القرآن الكريم ما يقطع بشرك أحد الأنبياء و الرسل قبل بعثته . . بمن في ذلك أبو الأنبياء وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام .
أما الآيات التي تشير إليها الشبهة . . وهي قول الله ، سبحانه و تعالى : { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } ( الأنعام : 74-83) .
أما هذه الآيات ، فليس فيها دليل على أن إبراهيم عليه السلام ، قد مر بمرحلة شرك ، و حاشا له أن يقع في ذلك ، وإنما هي تحكي كيف آتى الله إبراهيم الحجة على قومه . . حجة التوحيد ، و دحض الشرك . . فهي حجاج و حوار يسلم فيه إبراهيم جدلاً - كشأن الحوار - بما يشركون ؛ لينقض هذا الشرك ، و يقيم الحجة على تهاوي ما به يحتجون ، و على صدق التوحيد المرتكز في فطرته . . ليخلص من هذا الحوار و الحجاج و الاحتجاج إلى أن الخيار الوحيد المتبقي - بعد هذه الخيارات التي سقطت - هو التوحيد . . فهو حوار التدرج من توحيد الفطرة إلى التوحيد القائم على المنطق و البرهان والاستدلال ، الذي فند دعاوى وحجج الخصوم . . الاستدلال اليقيني - { و ليكون من الموقنين } - و ليس فيه انتقال من الشرك إلى التوحيد . . تلك هي الحقيقة التي رجحها المفسرون :
فالقرطبي ، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (671ه 1273م) يقول في تفسيره ( الجامع لأحكام القرآن ) - مورداً الآراء المختلفة حول هذا الموضوع :
قوله تعالى : " قال هذا ربي " اختلف في معناه على أقوال ؛ فقيل : كان هذا منه في مهلة النظر وحال الطفولية وقبل قيام الحجة ؛ وفي تلك الحال لا يكون كفر ولا إيمان .. وقال قوم : هذا لا يصح ؛ وقالوا : غير جائز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى موحد وبه عارف ، ومن كل معبود سواه بريء . قالوا : وكيف يصح أن يتوهم هذا على من عصمه الله وآتاه رشده من قبل ، وأراه ملكوته ليكون من الموقنين ، ولا يجوز أن يوصف بالخلو عن المعرفة ، بل عرف الرب أول النظر . قال الزجاج : هذا الجواب عندي خطأ وغلط ممن قال ؛ وقد أخبر الله تعالى عن إبراهيم أنه قال : " واجنبني وبني أن نعبد الأصنام " " إبراهيم : 35 " وقال جل وعز : " إذ جاء ربه بقلب سليم " " الصافات : 84 " أي لم يشرك به قط .
لقد قال " هذا ربي " على قول قومه ؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر ؛ ونظير هذا قوله تعالى : " أين شركائي " " النحل : 27 " وهو جل وعلا واحد لا شريك له . والمعنى : ابن شركائي على قولكم .
وقيل : إنما قال " هذا ربي " لتقرير الحجة على قومه فأظهر موافقتهم ؛ فلما أفل النجم قرر الحجة وقال : ما تغير لا يجوز أن يكون ربا . وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها ويحكمون بها . وقال النحاس : ومن أحسن ما قيل في هذا ما صح عن ابن عباس أنه قال في قول الله عز وجل : " نور على نور " [النور: 35] قال : كذلك قلب المؤمن يعرف الله عز وجل ويستدل عليه بقلبه ، فإذا عرفه أزداد نورا على نور؛ وكذا إبراهيم عليه السلام عرف الله عز وجل بقلبه واستدل عليه بدلائله ، فعلم أن له ربا وخالقا . فلما عرفه الله عز وجل بنفسه ازداد معرفة فقال : " أتحاجوني في الله وقد هدان " [الأنعام: 80].
وقيل : هو على معنى الاستفهام والتوبيخ ، منكرا لفعلهم . والمعنى : أهذا ربي ، أو مثل هذا يكون ربا ؟ فحذف الهمزة . وفي التنزيل " أفإن مت فهم الخالدون " [الأنبياء : 34] أي أفهم الخالدون ؟ . (1)
و مع هذا الرأي ايضاً الزمخشري ، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي (467-538هـ/1075-1144م) صاحب تفسير ( الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ) .. الذي يقول في تفسير هذه الايات :
" وكان أبوه آزر وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب ، فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم ، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال ، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤدّ إلى أن شيئاً منها لا يصحّ أن يكون إلٰهاً ، لقيام دليل الحدوث فيها ، وأن وراءها محدثاً أحدثها ، وصانعاً صنعها ، مدبراً دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها .
{ هَـٰذَا رَبّى } قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطل ، فيحكي قوله كما هو غير متعصب لمذهبه . لأن ذلك أدعى إلى الحق وأنجى من الشغب ، ثم يكرّ عليه بعد حكايته فيبطله بالحجة .
{ لا أُحِبُّ ٱلأفِلِينَ } لا أحبّ عبادة الأرباب المتغيرين من حال إلى حال ، المتنقلين من مكان إلى آخر ، المحتجبين بستر ، فإنّ ذلك من صفات الأجرام .
{ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى } تنبيه لقومه على أنّ من اتخذ القمر إلٰهاً وهو نظير الكوكب في الأفول ، فهو ضال ، وأنّ الهداية إلى الحق بتوفيق الله ولطفه .
{ إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضَ } أي للذي دلت هذه المحدثات عليه وعلى أنه مبتدؤها ومبتدعها . (2)
و على هذا الرأي أيضاً - من المحدثين - الشيخ عبد الوهاب النجار (1278-1360هـ/1862-1941م) - صاحب ( قصص الأنبياء ) - الذي يقول : " لقد أتى إبراهيم في الاحتجاج لدينه وتزييف دين قومه بطريقة التدرج في الإلزام ، أو التدرج في تكوين العقيدة .. " . (3)
ذلك هو موقف إبراهيم الخليل عليه السلام ، من الشرك .. لقد عصمه الله منه .. و إنما هي طريقة في الجدال يتدرج بها مع قومه ، منطلقاً من منطلقاتهم ؛ ليصل بهم إلى هدم هذه المنطلقات ، وإلى إقامة الدليل العقلي على عقيدة التوحيد الفطرية المركوزة في القلوب .
----------------------------------------------------
(1) ( الجامع لأحكام القرآن ) جـ7 ص25 ، 26 . طبعة دار الكتاب العربي للطباعة و النشر – القاهرة سنة 1387 ه سنة 1967 م .
(2) ( الكشاف ) جـ2 ص30 ، 31 طبعة دار الفكر – بيروت – بدون تاريخ – و هي طبعة مصورة عن طبعة طهران " انتشارات آفتاب – طهران " – و هي الأخرى بدون تاريخ للطبع .
(3) ( قصص الأنبياء ) ص80 . طبعة دار إحياء التراث العربي – بيروت – لبنان – بدون تاريخ للطبع .

عبد المنعم جبر عيسي
04/02/2010, 07:35 PM
السُنَّة ليست وحيًا والنَّبِـي صلى الله عليه وسلم يُصيب ويخطئ

وهذه شبهة أخرى من شبهات القرآنيين .. قالوا : إن السُنَّة النبوية ليست وحيًا من قبل الله - سبحانه وتعالى- على رسوله ، ولكنه اجتهاد وتصرف من النَّبِـي بمقتضى بشريته ، وهو بهذا الاعتبار يصيب ويخطئ ، وبالتالي فهي ليست مُنـزهة عن الخطأ ، لأن المُنـزه عن الخطأ إنما هو الوحي ، ولا وحي إلا القرآن المجيد ، ولسنا ملزمين باتباعها ، والدليل على ذلك أولًا : مسألة نزول جيش المسلمين في غزوة بدر ، حيث أنزله الرسول منـزلًا ثم ظهر خطأ هذا المنـزل ، فانتقل الجيش إلى منـزل آخر بناء على رأى صحابي من أصحابه ، ثانيًا : مسألة أسرى بدر ، حيث استحياهم الرسول ولم يقتلهم ، وأخذ منهم الفداء ، ونزل القرآن مبينًا خطأ ذلك الاجتهاد وإصابة اجتهاد عمر ورأيه في المسألة .

* * * *

وقد تصدى للرد على الشبهة وتفنيدها الأستاذ / عماد حسن أبو العينين ( * ) فقال :
إن هذه الشبهة التي أوردها هؤلاء ما كان ينبغي أن تصدر عن مسلم ، أو عمن يدعي أنه مسلم ، فإن الأمة المسلمة مجمعة سلفًا وخلفًا وإلى أن تقوم الساعة على أن السُنَّة النبوية المطهرة وحي من قبل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن النَّبِـي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى ، وإجماع الأمة المسلمة على ذلك ليس صادرًا عن فراغ أو عن هوى ، ولكنه الحق الذي لا يعارضه إلا غويٌّ مبين . والأدلة على أن السُنَّة وحي من الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم كثيرة وعديدة نستيطع أن نلخص منها الآتى : أولًا : إخبار الله تعالى بذلك في نصوص قاطعة في آيات بينات من القرآن المجيد الذي ينتسب إليه هؤلاء .. من ذلك قوله تعالى عن النَّبِـي صلى الله عليه وسلم : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } [النجم3-4] ومن ذلك قوله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [الحاقة44-47] فهذه الآيات ليس فيها إخبار بأن الرسول لا ينطق إلا بالوحي فقط ، بل فيها إخبار بأنه صلى الله عليه وسلم لو افترى على الله تعالى شيئًا لم يوحه الله إليه لقتله الله وقضى عليه ، وحيث إن الله تعالى لم يأخذ من رسوله باليمين ، ولم يقطع منه الوتين ، أي لم يقض عليه ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ما نطق إلا بما أوحاه الله تعالى إليه . ثانيًا : النصوص القاطعة من كتاب الله المجيد التي يأمر الله تعالى فيها المؤمنين باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يأخذ وما يدع ، وما يأمر وما ينهى ، من ذلك قول الله تبارك وتعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } [الحشر7] وقول الله سبحانه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } [محمد33] ثالثًا : ترتيب الله تعالى الإيمان على طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والرضا بحكمه ، والتسليم لأمره ونهيه في كل ما يراه ويحكم به ، وذلك في قول الله تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } [النساء65] ومن ذلك وصف الله تعالى المؤمنين بأن شأنهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقولوا سمعنا وأطعنا ، وذلك في قوله سبحانه : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [النور51] رابعًا : إجماع الأمة كلها على أن السُنَّة وحي من قبل الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وبخاصة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانوا في حياته الشريفة يحفظون أقواله صلى الله عليه وسلم ويتذاكرونها فيما بينهم ، وكانوا يتحرون الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في كل ما يأتي وما يذر فيما ليس بخصوصية له صلى الله عليه وسلم مستجيبين لتوجيه الله تعالى في قوله لأمة الإسلام : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } [الأحزاب21] وقد كان الذي يعرف الكتابة منهم يكتب لنفسه خاصة ، وقد كان ثمة عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتبون لأنفسهم في حياته الشريفة ، ثم بعد حياته صلى الله عليه وسلم كانت المسألة تُعرَضُ للصحابة رضوان الله عليهم فيبحثون في القرآن ، فإذا لم يجدوا حكمها ، بحثوا في السُنَّة الشريفة وحكموا فيها بما وردت به السُنَّة ، وكان سائلهم يسأل أصحابه وإخوانه قائلًا : أنشدكم الله هل سمع أحدكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا في المسألة ؟ فإذا جاءهم حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على لسان أصحابه أو بعضهم سارعوا إلى تطبيقه والأخذ به . أما ما أثاروه من مغالطات مدعين أنها أدلة على أن السُنَّة النبوية المطهرة ليست وحيًا ؛ فهو كلام ظاهر البطلان ، ونحن نرد عليه رغم وضوح بطلانه إبطالا لمزاعمهم . أولًا : ما أثاروه من منـزل جيش المسلمين في غزوة بدر ؛ فقد كان ذلك بناءً على رأي رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن ذلك عن وحي ، وهذا بيِّن واضح ، فإنه لما سأله أحد أصحابه قائلًا : ( أهذا منزل أنزلكه الله يا رسول الله ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بل هو الرأي والحرب والمكيدة ) ، ولما أشار عليه صاحبه بمنزل أفضل انتقل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكون ذلك ليس عن وحي واضح ، فلا يصح الاستشهاد به في مجال نفي الوحي فيما هو وحي . ثانيًا : أما مسألة الأسرى في بدر ، فهي قد جمعت بين الرأي والوحي ، فقد كان الرأي أولًا ، ثم أعقبه الوحي بعد ذلك ، وقضية الأسرى ببدر توضح لنا أمرًا هامًا قد لا يتوفر في كثير غيرها من قضايا التشريع ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ في أسرى بدر بالرأي ، فاستشار أصحابه رضوان الله عليهم ، فكل أدلى برأيه ، ثم مال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرأي القائل باستحيائهم وأخذ الفداء منهم ، وكان هذا رأي أبي بكر رضى الله عنه ، وكان رأي عمر رضى الله عنه أن يقتل الأسرى جميعًا وبعد أن استقر الأمر على ذلك نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يُبين ما كان ينبغي أن يفعل في مسألة الأسرى ، ويُبين الصواب في القضية ، يقول الله سبحانه في شأن فعل الرسول في أسرى بدر : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلًا طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [الأنفال67-69] فقضية الأسرى بدأت بالرأي ، ثم انتهت بالوحي ، وهذه القضية بجملتها شاهدة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول ولا يفعل فيما يتصل بالدين إلا بوحي من عند الله سبحانه ، وأن الله سبحانه لا يدع رسوله صلى الله عليه وسلم على غير صواب ، حتى في حالة تصرفه برأيه واجتهاده وذلكم هو الأمر الهام الذي نَوَّهنا به قبلًا ، وخلاصته أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله في أمور الدين وحي ، حتى ولو قال برأيه ، لأنه إن قال أو فعل برأيه وكان صوابًا موافقًا لأمر الله أقره الله تعالى على ذلك ، وكان إقرار الله سبحانه له دليلًا على موافقة عمله لمراد الله تعالى فيكون وحيًا ، وإن كان اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم ليس صوابًا موافقًا لمراد الله سبحانه فإن الله تعالى لا يقره على ما قال أو فعل اجتهادًا ، بل يصوب له ويصحح ، وذلك كما حدث في أسرى بدر ، حيث نزل فيها القرآن مصوبًا ؛ وكما حدث في أوائل سورة " عبس " حيث نزل القرآن معاتبًا ، وهكذا يتضح أن واقعة أسرى بدر شاهدة بأن السُنَّة وحي من عند الله تعالى ، وأن الله سبحانه يحيط أقوال وأفعال رسوله بالوحي حتى ولو اجتهد برأيه . وفيصل الأمر في الشبهات التي أثاروها ظانين أنها دليل على أن السُنَّة النبوية ليست وحيًا ؛ أن ما يصدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم نوعان : نوع يفعله بمقتضى بشريته صلى الله عليه وسلم ، دون أن يوحى إليه فيه بشيء ، وهذا النوع لا صلة له بالتشريع ، وذلك في جل شؤونه المعيشية التي لا يتعلق شيء منها بالدين حلًا أو حرمة ومن ذلك رأيه في تأبير النخل ، ومنـزل الجيش ببدر ، ونوع آخر يفعله صلى الله عليه وسلم بمقتضى كونه بشرا رسولًا ، وفعله هذا إنما يقوم على وحي من قبل الله تعالى ، مثل أسرى بدر ، فقد اجتهد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم رأيه وآراء محل مشورته من الصحابة رضوان الله عليهم ، فنزل الوحي مصوبًا ومبينًا الحكم الصحيح .
---------------------------------------------------
( * ) فى كتابه (شبهات حول السنة والسيرة النبوية ) .

عبد المنعم جبر عيسي
13/02/2010, 08:28 AM
قالوا :
( يؤكد القرآن أنه لا يمكن للملائكة أن تعصى الله ( التحريم : 6 ) و مع ذلك فقد عصى إبليس الذي كان من الملائكة ، كما في الآية ( البقرة : 34 ) ؟
أليس فى هذا تناقض ؟ )

*****

الملائكة مخلوقات مجبولة على طاعة الله و عبادته و التسبيح له و به . . فم لا يعصون الله سبحانه و تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ( التحريم : 6 ) .
و مع تقرير هذه الآية أن هؤلاء الملائكة القائمين على النار { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } . . يقرر القرآن الكريم أن إبليس - و هو من الملائكة - في قمة العصيان و العصاة : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } (البقرة : 34) .
قال الدكتور / محمد عمارة :
( هناك إمكانية للجمع بين معاني الآيتين ، وذلك بأن نقول : إن عموم الملائكة لا يعصون الله ، سبحانه و تعالى ، فهم مفطورون ومجبولون على الطاعة . . لكن هذا لا ينفي وجود صنف هم الجن - ومنهم إبليس ، شملهم القرآن تحت اسم الملائكة - كما وصف الملائكة أيضاً بأنهم جنة - لخفائهم و استتارهم - . . و هذا الصنف من الجن ، منهم الطائعون و منهم العصاة .. )
و في تفسير الإمام محمد عبده ( 1265-1323ه / 1849- 1905م ) لآية سورة البقرة : 34 - قال :
( أي سجدوا إلا إبليس ، و هو فرد من أفراد الملائكة ، كما يفهم من الآية و أمثالها في القصة ، إلا أن آية الكهف ناطقة بأنه كان من الجن . . وليس عندنا دليل على أن بين الملائكة و الجن فصلاً جوهرياً يميز أحدهما عن الآخر ، وإنما هو اختلاف أصناف ، عندما تختلف أوصاف . فالظاهر ان الجن صنف من الملائكة . وقد اطلق القرآن لفظ الجنة على الملائكة ، على رأي جمهور المفسرين في قوله تعالى : { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا } ( الصافات : 158 ) وعلى الشياطين في آخر سورة الناس ) (1) .
ونجد هذا الرأي أيضاً عند القرطبي - في تفسيره ( الجامع لأحكام القرآن ) – حيث قال :
( وقال سعيد بن جبير : إن الجن سبط من الملائكة خلقوا من نار وإبليس منهم ، وخلق سائر الملائكة من نور .. والملائكة قد تسمى جنا لاستتارها ، وفي التنزيل : { وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً } ( الصافات : 158) ، وقال الشاعر في ذكر سليمان عليه السلام :
وسخر من جن الملائك تسعة ** قياما لديه يعملون بلا أجر ) (2) .
قال الدكتور عمارة رحمه الله :
فلا تناقض إذاً بين كون الملائكة لا يعصون الله .. وبين عصيان إبليس - وهو من الجن ، الذين أطلق عليهم اسم الملائكة - فهو مثله كمثل الجن هؤلاء منهم الطائعون ومنهم العصاة .
----------------------------------------------------
(1) ( الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده ) ج 4 ص133 . دراسة و تحقيق : د. محمد عمارة . طبعة دار الشروق . القاهرة سنة 1414ه سنة 1993م .
(2) ( الجامع لأحكام القرآن ) ج 1 ص294- 295.

عبد المنعم جبر عيسي
12/05/2010, 03:20 PM
نشر محمدٌ دينه الإسلامي بالسيف
واحدة من شبهات المستشرقين .. قالوا :
( قام الإسلام على السيف ولم يدخل فيه معتنقوه بطريق الطواعية والاختيار، وإنما دخلوا فيه بالقهر والإكراه ، وقد حرض محمد أتباعه على القتال واتخذوا من تشريع الجهاد في الإسلام وسيلة لهذا التجني الكاذب الآثم ، وهذا ليس من صفة الأنبياء .. ! ) .
وقد تصدى للرد على هذه الشبهة وتفنيدها ؛ الأستاذ / عماد حسن أبو العينين ، فى كتابه : ( شبهات حول السنة والسيرة النبوية ) .. وقد بنى رده على عدة محاور ، كان أولها :
{ إن تشريع الجهاد ثابت فى كل الأديان } ، ولابد لأى دين فى الأرض من قوة تحميه ، وتشريع يكون فيه ردع للبغاة ، الذين يتربصون به الدوائر .
والأدلة من الكتاب المقدس على أن الجهاد وحمل السيف والقتال هي من الأمور الربانية غير المسقطة للنبوات وقد أمر بها الرب وأوصى بها :
جاء في الكتاب المقدس قول الرب لموسى ( 1 ) : " هَا أَنَا مُرْسِلٌ مَلاَكِي أَمَامَكَ لِيَحْرُسَكَ طَوَالَ الطَّرِيقِ ، وَيَقُودَكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَعْدَدْتُهَا لَكَ ... إِذْ يَسِيرُ مَلاكِي أَمَامَكَ حَتَّى يُدْخِلَكَ بِلاَدَ الأَمُورِيِّينَ وَالْحِثِّيِّينَ وَالْفَرِزِّيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ الَّذِينَ أَنَا أُبِيدُهُم ْ... إِيَّاكَ أَنْ تَسْجُدَ لآلِهَتِهِمْ ، وَلاَ تَعْبُدْهَا ، وَلاَ تَعْمَلْ أَعْمَالَهُمْ ، بَلْ تُبِيدُهُمْ وَتُحَطِّمُ أَنْصَابَهُمْ " .
وجاء في رسالة بولس إلى العبرانيين ( 2 ) :" أن نبي الله إبراهيم حارب الملوك وقهرهم وأخذ الغنائم منهم "!!
فإذا كان حَمْلُ السيف أمرًا منافيًا للنبوة فلماذا أمر الرب موسى وإبراهيم بحمله ؟
بل إن ما جاء فى الكتاب المقدس لا يخطر على البال من الحروب والإبادة وأخذ الأموال بأمر الرب مما لا يقارن بحال مع ما ينكرونه على المسلمين والدليل من الكتاب المقدس نفسه :
أولا : إباحة قتل الرجال والنساء والأطفال :
جاء في سفر التثنية قول الرب ( 3 ) : " وَحِينَ تَتَقَدَّمُونَ لِمُحَارَبَةِ مَدِينَةٍ فَادْعُوهَا لِلصُّلْحِ أَوَّلًا . فَإِنْ أَجَابَتْكُمْ إِلَى الصُّلْحِ وَاسْتَسْلَمَتْ لَكُمْ ، فَكُلُّ الشَّعْبِ السَّاكِنِ فِيهَا يُصْبِحُ عَبِيدًا لَكُمْ . وَإِنْ أَبَتِ الصُّلْحَ وَحَارَبَتْكُمْ فَحَاصِرُوهَا فَإِذَا أَسْقَطَهَا الرَّبُّ إِلَهُكُمْ فِي أَيْدِيكُمْ ، فَاقْتُلُوا جَمِيعَ ذُكُورِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ . وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالأَطْفَالُ وَالْبَهَائِمُ ، وَكُلُّ مَا فِي الْمَدِينَةِ مِنْ أَسْلاَبٍ ، فَاغْنَمُوهَا لأَنْفُسِكُمْ ، وَتَمَتَّعُوا بِغَنَائِمِ أَعْدَائِكُمُ الَّتِي وَهَبَهَا الرَّبُّ إِلَهُكُمْ لَكُمْ . هَكَذَا تَفْعَلُونَ بِكُلِّ الْمُدُنِ النَّائِيَةِ عَنْكُمُ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ مُدُنِ الأُمَمِ الْقَاطِنَةِ هُنَا . أَمَّا مُدُنُ الشُّعُوبِ الَّتِي يَهَبُهَا الرَّبُّ إِلَهُكُمْ لَكُمْ مِيرَاثًا فَلاَ تَسْتَبْقُوا فِيهَا نَسَمَةً حَيَّةً ، بَلْ دَمِّرُوهَا عَنْ بِكْرَةِ أَبِيهَا ، كَمُدُنِ الْحِثِّيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ كَمَا أَمَرَكُمُ الرَّبُّ إِلَهُكُمْ ، لِكَيِ لاَ يُعَلِّمُوكُمْ رَجَاسَاتِهِمِ الَّتِي مَارَسُوهَا فِي عِبَادَةِ آلِهَتِهِمْ ، فَتَغْوُوا وَرَاءَهُمْ وَتُخْطِئُوا إِلَى الرَّبِّ إِلَهِكُمْ " .
ثانيا : طرد والإبادة ، وعدم قبول العهد والصلح :
جاء أيضًا قول الرب لموسى ( 4 ) : " وَمَتَى أَدْخَلَكُمُ الرَّبُّ إِلَهُكُمْ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَنْتُمْ مَاضُونَ إِلَيْهَا لِتَرِثُوهَا ، وَطَرَدَ مِنْ أَمَامِكُمْ سَبْعَ أُمَمٍ ، أَكْثَرَ وَأَعْظَمَ مِنْكُمْ ، وَهُمُ الْحِثِّيُّونَ وَالْجِرْجَاشِيُّونَ وَالأَمُورِيُّونَ وَالْكَنْعَانِيُّونَ وَالْفِرِزِّيُّونَ وَالْحِوِّيُّونَ وَالْيَبُوسِيُّونَ . وَأَسْلَمَهُمُ الرَّبُّ إِلَيْكُمْ وَهَزَمْتُمُوهُمْ ، فَإِنَّكُمْ تُحَرِّمُونَهُمْ . لاَ تَقْطَعُوا لَهُمْ عَهْدًا ، وَلاَ تَرْفُقُوا بِهِمْ ، وَلاَ تُصَاهِرُوهُمْ . فَلاَ تُزَوِّجُوا بَنَاتِكُمْ مِنْ أَبْنَائِهِمْ ، وَلاَ أَبْنَاءَكُمْ مِنْ بَنَاتِهِمْ ، إِذْ يُغْوُونَ أَبْنَاءَكُمْ عَنْ عِبَادَتِي لِيَعْبُدُوا آلِهَةً أُخْرَى ، فَيَحْتَدِمُ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَيْكُمْ وَيُهْلِكُكُمْ سَرِيعًا . وَلَكِنْ هَذَا مَا تَفْعَلُونَهُ بِهِمْ : اهْدِمُوا مَذَابِحَهُمْ وَحَطِّمُوا أَصْنَامَهُمْ وَقَطِّعُوا سَوَارِيَهُمْ وَأَحْرِقُوا تَمَاثِيلَهُمْ " .
ناهيك عن صور النهب والخديعة التي يُقرها الكتاب المقدس ، واستحضر عدد بني إسرائيل لتعلم مدى الكارثة التي أصابت المصريين في أموالهم ، واستحضر كيف أبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في مكة ليرد إلى المشركين ودائعهم في حادث الهجرة .
أقول ( 5 ) : إن غاية ما فى الأمر أن المستشرقين حاروا في فهم هذه الظاهرة وهى أنه ما كاد يخرج صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجرًا بدينه ، وما انفك العقد الأول من السنين حتى كانت جيوشه تقرع أبواب الروم ، ثم أفل القرن الأول وقد أضحت الأمة الإسلامية في انتشارها على وجه الأرض كالنار سرى في الهشيم ، فقد تحولت الأمم إلى الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجًا ، وامتد الوجود الإسلامي في فترة وجيزة فملأ ما بين الصين ( شرقا ) والأندلس ( غربا ) .
لقد حاروا في فهمها إذ لا تفهم إلا بالاعتراف بأن هذا الدين حق وافق فطرة الناس وعقولهم فأذعنوا له ، وهروبًا من هذه الحقيقة التي نشرت الإسلام في ربوع كانت تُحسب قلاعًا للنصرانية قال النصارى بأن الإسلام دين قام على السيف ، وبه انتشر ، وأرادوا من خلاله طمس تلك الحقيقة الناصعة.
ولننظر إلى واقع تاريخ الدعوة الإسلامية :
لقد مكث صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثة عشر عامًا ، يدعو إلى الله بالحجة والموعظة الحسنة ، وقد دخل في الإسلام في هذه الفترة خيار المسلمين من الأشراف والفقراء ، ولم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من الثراء ما يغري هؤلاء ، وقد تحمَّل المسلمون من صنوف العذاب والبلاء ألوانًا ، فما صرفهم ذلك عن دينهم ، وما تزعزعت عقيدتهم ، وما سمعنا أن أحدًا منهم ارتدّ سخطًا عن دينه ، أو أغرته مغريات المشركين في النكوص عنه .
ثم كان أن هاجر بعضهم إلى بلاد الحبشة هجرتين ، ثم هاجروا جميعًا الهجرة الكبرى إلى المدينة ، تاركين الأهل والولد والمال والوطن ، متحملين آلام الاغتراب ، ومرارة الفاقة والحرمان ، وقد دخل في الإسلام من أهل المدينة قبل الهجرة وبعدها عدد كثير عن رضًا واقتناع ويقين واعتقاد ، وما يكون لإنسان يحترم عقله ويذعن للمقررات التاريخية الثابتة ، أن يزعم أنه كان للنّبِـي صلى الله عليه وسلم والمسلمين في هذه الأربعة عشر عامًا أو تزيد حول أو قوة ترغم أحدًا على الدخول في الإسلام ، إلا إذا ألغى عقله وهدم التاريخ الصحيح .
--------------------------------------------------------
( 1 ) سفر الخروج [23: 22] ، وانظر أيضًا ما جاء فى نفس السفر [34: 11].
( 2 ) رسالة الرسول بولس إلى العبرانيين [7: 1، 2].
( 3 ) سفر التثنية [20: 10].
( 4 ) سفر التثنية [7: 1].
( 5 ) الأستاذ / عماد حسن أبو العينين ، فى كتابه : ( شبهات حول السنة والسيرة النبوية )



( يُتَّبَعْ )

عبد الله نفاخ
12/05/2010, 11:21 PM
شكراً لك سيدي لهذا الموضوع ... و أنا أعترف لك بأني مهتم للغاية بهه القضايا و الشبهات التي يتعمد البعض اليوم إعادة إثارتها بطرق أشنع بكثير من طرق المستشرقين رغبة بإثارة الفتنة بين مسلمي العالم الإسلامي و مسيحييه التي يبدو أنها خطة الأعداء للمرحلة المقبلة ،و لكني كنت أرغب أن تعمدوا إلى توضيح حقيقة الجهاد الإسلامي القائمة على رد العدوان و دفع الخيانة و التسامح و الرحمة و الامتناع عن قتل النساء و الأطفال و الشيوخ و تخريب ممتلكات الغير إلا في حال الاضطرار كما في غزوة بني النضير ، فذلك في رأيي خير من البحث عن ما عند غيرنا و كأننا نعترف بكلامهم علينا و نسعى لتسويغه .... مع خالص الاحترام و الشكر لكم أستاذنا الفاضل

عبد المنعم جبر عيسي
17/05/2010, 02:36 PM
شكراً لك سيدي لهذا الموضوع ... و أنا أعترف لك بأني مهتم للغاية بهه القضايا و الشبهات التي يتعمد البعض اليوم إعادة إثارتها بطرق أشنع بكثير من طرق المستشرقين رغبة بإثارة الفتنة بين مسلمي العالم الإسلامي و مسيحييه التي يبدو أنها خطة الأعداء للمرحلة المقبلة ،و لكني كنت أرغب أن تعمدوا إلى توضيح حقيقة الجهاد الإسلامي القائمة على رد العدوان و دفع الخيانة و التسامح و الرحمة و الامتناع عن قتل النساء و الأطفال و الشيوخ و تخريب ممتلكات الغير إلا في حال الاضطرار كما في غزوة بني النضير ، فذلك في رأيي خير من البحث عن ما عند غيرنا و كأننا نعترف بكلامهم علينا و نسعى لتسويغه .... مع خالص الاحترام و الشكر لكم أستاذنا الفاضل



أخى الكريم أستاذ / عبد الله ..

أرحب بك بداية ؛ والشكر الجزيل لك أيضا .. كقارىء واع وكاتب واعد ..

وأسعد بمتابعتك لما أنقل وأكتب .. كما أسعد بإهتمامك بهذا الجانب من جوانب حياتنا ، وما نعانيه بسبب الهجوم على الإسلام العظيم والكيد له ؛ بإثارة الشبهات حوله .. وأتمنى لو تجد الوقت للكتابة فيه ودحض مثل هذه الافتراءات .. وفضح مثل هذا الفكر القاصر الشاذ .

وعن استفسارك أبشرك بأن رد الأستاذ عماد قد احتوى هذا الجانب الذى تفضلت وأشرت إليه .. وبإذن الله تعالى تجد فى المشاركات القادمة ما يثلج صدرك ..

لك منى خالص التحية والتقدير ..

أخوك .

عبد المنعم جبر عيسي
17/05/2010, 03:16 PM
وكان المحور الثانى الذى اعتمده الأستاذ / عماد حسن أبو العينين ، فى كتابه : ( شبهات حول السنة والسيرة النبوية ) ، فى معرض تفنيده لشبهة ( نشر محمد صلى الله عليه وسلم للإسلام بالسيف ) : { إن تشريع الجهاد في الإسلام لم يكن لإرغام أحد على الدخول في الإسلام كما زعموا } وإنما كان للدفاع عن العقيدة وتأمين سبلها ووسائلها ، وتأمين المعتنقين للإسلام ، وردِّ الظلم والعدوان ، وإقامة معالم الحق ، ونشر عبادة الله في الأرض ، فلما تمالأ المشركون على المسلمين أمرهم الله بقتالهم عامة ، ثم ماذا يقول هؤلاء المغرضون في قوله تعالى : { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَإِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [ الممتحنة 8 - 9 ] .
فالإسلام لم يقف عند حدِّ أن من سالمنا سالمناه ، بل لم يمنع من البر بهم والعدل معهم ، وعدم الجور عليهم ، وكذلك كان موقف القرآن كريمًا جدًا مع الذين قاتلوا المسلمين ، وأخرجوهم من ديارهم ، أو ساعدوا عليه ، فلم يأمر بظلمهم أو البغي عليهم ، وإنما نهى عن توليهم بإفشاء الأسرار إليهم أو نصرتهم وإخلاصهم الودِّ لهم ، فإن حاربونا حاربناهم ، وصدق الله { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } [ البقرة 190 ] .
ونصوص القرآن والسُنَّة الصحيحة تردان على هذا الزعم وتكذِّبانه ، وقد صرح الوحي بذلك في غير ما آية قال تعالى : { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ } [ البقرة 256 ] .
" فالإسلام وهو أرقى تصور للوجود وللحياة وأقوم منهج للمجتمع الإنساني ينادى بأن لا إكراه في الدين وهو الذي يبين لأصحابه قبل سواهم أنَّهُم ممنوعون من إكراه الناس على هذا الدين " . ( 1 )
وقال تعالى : { أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين َ} [ يونس 99 ]
وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان واحترام إرادته وفكره ومشاعره وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه وهذه هي أخص خصائص التحرر الإنساني .
فالله تعالى لم يَبْنِ أمر الإيمان على الإجبار والقسر وإنما بناه على التمكن والاختيار .
وقضية العقيدة كما جاء بها هذا الدين قضية اقتناع بعد البيان والإدراك وليست قضية إكراه وغصب وإجبار ، ولقد جاء هذا الدين يخاطب الإدراك البشرى بكل قواه وطاقاته يخاطب العقل المفكر والبداهة الناطقة ويخاطب الوجدان المنفعل كما يخاطب الفطرة المستكنة يخاطب الكيان البشرى كله والإدراك البشرى بكل جوانبه في غير قهر حتى بالخارقة المادية التي قد تُلْجِئُ مشاهدها إلجاءً إلى الإذعان ولكن وعيه لا يتدبرها وإدراكه لا يتعقلها لأنَّهَا فوق الوعي والإدراك .
وإذا كان هذا الدين لا يواجه الحس البشرى بالخارقة المادية القاهرة فهو من باب أولى لا يواجهه بالقوة والإكراه ؛ ليعتنق هذا الدين تحت تأثير التهديد أو مزاولة الضغط القاهر والإكراه بلا بيان ولا إقناع ولا اقتناع .
فإنه لم يكن المسلمون قبل الهجرة قادرين على مجابَهَةِ الكفار أو إكراههم وبعد أن تقووا في المدينة وعلى مدى القرون الماضية لم يُكْرِهُوا أحدًا على الإسلام ، كما يفعل أتباع الملل والنحل الأخرى ، وقد نزلت هذه الآية في بداية السنة الرابعة من الهجرة حيث كان المسلمون أعزاءً أقوياء .
ولم يلجأ المسلمون إلى الحرب أو الجهاد إلا لرد العدوان والتمكين من حرية التدين ومنع تعسف السلطة الظالمة الحاكمة من استعمال المسلمين حقهم في الدعوة إلى الله ونشر الإسلام في أنحاء الأرض بدليل قبول المعاهدات والصلح على دفع الجزية وتخيير العدو بين ذلك وبين الاحتكام إلى القتال .
ولم يمنع النَّـبِيّ صلى الله عليه وسلم يهوديًّا من دخول النصرانيَّة ولا نصرانيًّا من الدخول في اليهوديَّة ، وكان علي عهد النَّـبِيّ صلى الله عليه وسلم أبناء للأنصار دخلوا في اليهودية ، كما رواه ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ( 2 ) : كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَكُونُ مِقْلَاتًا ( 3 ) فَتَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ فَقَالُوا لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الْغَيِّ } .
قال صاحب ( معالم التنزيل ) ( 4 ) : فقال النَّبِـي صلى الله عليه وسلم عند ذلك : « قد خير أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم وإن اختاروهم فأجلوهم معهم » .
وأخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال ( 5 ) : نزلت { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّين ِ} في رجل من الأنصار من بنى سالم يقال له : الحصين كان له ابنان نصرانيَّان وكان هو مسلمًا فقال للنّبِـي صلى الله عليه وسلم : ألا استكرهما فإنَّهما قد أبيا إلا النصرانية ، فأنزل الله الآية .
وفي رواية أنه حاول إكراههما فاختصما إلى النَّبِـي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أيدخل بعضى النار وأنا أنظر؟ فنزلت الآية فخلاهما .
ولم يمنع النَّبِـي صلى الله عليه وسلم وثنيًّا دخل في دين أهل الكتاب بل ولا يهوديًّا تنصر أو نصرانيًّا تَهَوَّدَ أو مجوسيًّا دخل في التهوُّد والتنصُّر ، بل جمهور الفقهاء يُقِرُّوَنُه على ذلك كما هو مذهب مالك وأبِي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات عنه .
وما أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم نصارى نجران يدل على ذلك أيضًا فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال َ( 6 ) : ( صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ نَجْرَانَ ..... عَلَى أَنْ لَا تُهْدَمَ لَهُمْ بَيْعَةٌ وَلَا يُخْرَجَ لَهُمْ قَسٌّ وَلَا يُفْتَنُوا عَنْ دِينِهِمْ مَا لَمْ يُحْدِثُوا حَدَثًا أَوْ يَأْكُلُوا الرِّبَا ..... ) .
---------------------------------
( 1 ) سيد قطب ، فى ظلال القرآن : 1/ 291.
( 2 ) ( صحيح ) : انفرد به أبو داود 2682، صحيح سنن أبى داود 3/58.
( 3 ) قَالَ أَبُو دَاوُد : الْمِقْلَاتُ الَّتِي لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ .
( 4 ) تفسير البغوى : 1/ 314.
( 5 ) تفسير الطبري : 3/ 14.
( 6 ) ( ضعيف ) : انفرد به أبو داود 3041، ضعيف سنن أبى داود 3/167.

عبد المنعم جبر عيسي
26/05/2010, 11:38 PM
وكان المحور الثالث ؛ الذى استند إليه الأستاذ / عماد حسن أبو العينين ، فى رده لهذه الشبهة هو : { أنه لم تعرف عصور الإسلام أنَّ المسلمين أكرهوا ذميًّا على ترك دينه } .
والكفر رأس الظلم ، فلا يتوهمن أحد أن حمل الآية على التخيير وعدم الإكراه يشعر بإباحة الكفر أو الرضا به ، حاشا لله أن يكون هذا ، ولعل خوف هذا التوهم هو الذي حدا بكثير من المفسرين على حمل الآية على التهديد والوعيد ، حتى مثَّل علماء البلاغة للأمر الذي يراد به التهديد بهذه الآية ، فالآية بنصها تخيير ، ولكنه تخيير يستلزم تهديدًا ووعيدًا لا محالة في حال اختيار الكفر على الإيمان ، وهي نصوص صريحة في عدم الإكراه على الإسلام .
وأما السُنَّة فقد جاءت مؤيدة لهذا المعنى : فعن بريدة قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ( 1 ) : « اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَمْثُلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ » ، وهكذا ترى أن النَّبِـي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالقتال إلا بعد أن تستنفد الوسائل السلمية ، وليس بعد استنفادها إلا أنهم قوم مفسدون أو يريدون الحرب ، و في هذا السياق فإن الجزية ليست للإرغام على الإسلام ، وإنما هي نظير حمايتهم وتأمينهم وتقديم شتى الخدمات لهم ، وليس أدل على هذا مما رواه البلاذري ( 2 ) : أنه لما جمع هرقل للمسلمين الجموع ، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لواقعة اليرموك ، ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الجزية وقالوا : ( قد شُغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم ) فقال أهل حمص : ( لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم ، ولندفعن جند هرقل - مع أنه على دينهم - عن المدينة مع عاملكم ) ، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود .
وقالوا : إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنا عليه ، وإلا فإنا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد .
وقد يقول قائل فما تقول في حديث ابْنِ عُمَرَ( 3 ) : « أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ » .
قلنا : المراد بالحديث فئة خاصة ، وهم وثنيو العرب ، أما غيرهم من أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهم على التخيير بين الأمور الثلاثة التي نص عليها الحديث .
على أن بعض كبار الأئمة كمالك والأوزاعي ومن رأى رأيهما يرون أن حكم مشركي العرب كحكم غيرهم في التخيير بين الثلاثة : الإسلام ، أو الجزية ، أو القتال ، واستدلوا أيضًا بالحديث السابق .
وإذا نظرنا بعين الإنصاف إلى الذين حملوا حديث المقاتلة على وثنيي العرب ، لا نجدهم جافوا الحق والعدل ، فهؤلاء الوثنيون الذين بقوا على شركهم لم يدعوا وسيلة من وسائل الصد عن الإسلام إلا فعلوها ، ثم هم أعرف الناس بصدق الرسول ، فهو عربي من أنفسهم والقرآن عربي بلغتهم ، فالحق بالنسبة إليهم واضح ظاهر ، فلم يبق إلا أنهم متعنتون معوِّقون لركب الإيمان والعدل والحضارة عن التقدم .
هذا إلى أن الشرك مذهب فاسد ، والمذاهب الفاسدة تحارب ويحارب دعاتها بكل الوسائل ، من قتل أو نفي أو سجن ، وهذا أمر مقرر في القديم والحديث . وها هي دول الحضارة اليوم في سبيل سلامتها ، بل وفي سبيل إرضاء نزواتها وأهوائها تزهق الآلاف من الأرواح ، ويغمض الناظرون أعينهم عن هذا ولا يعترض المعترضون ، فهل هذا حلال لهم ، حرام على غيرهم ؟!.
فالإسلام حينما لم يقبل من مشركي العرب المحاربين إلا الإسلام بعد ما تبين لهم الحق ، وأصبحوا قلة تعتنق مذهبًا فاسدًا بجانب الكثرة الكاثرة من العرب التي أسلمت طواعية واختيارًا لم يكن متجنيًا ولا ظالمًا ، فالحديث كيفما فهمناه لا ينهض دليلًا للمفترين على الإسلام .
ويرد هذه الفرية ويقتلعها من أساسها ما التزمه الرسول صلى الله عليه وسلم في سيرته من التسامح مع أناس أُسروا وهم على شركهم ، فلم يلجئهم على الإسلام ، بل تركهم واختيارهم .
فقد أسر سيد بني حنيفة - ثُمامة بن أثال - فأتوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفه وأكرمه ، وأبقاه عنده ثلاثة أيام ، وكان في كل يوم يعرض عليه الإسلام عرضًا كريمًا فيأبى ويقول : إن تسأل مالًا تُعطه ، وإن تقتل تقتل ذا دمٍ ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، فما كان من النَّبِـي صلى الله عليه وسلم إلا أن أطلق سراحه .
ولقد استرقت قلب ثمامة هذه السماحة الفائقة ، وهذه المعاملة الكريمة ، فذهب واغتسل ، ثم عاد إلى النَّبِـي صلى الله عليه وسلم مسلمًا مختارًا ، وقال له : ( يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كُلِّهِ إِلَيَّ وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ كُلِّهَا إِلَيَّ َّ) ( 4 ).
وقد سُر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه سرورًا عظيمًا ، فقد أسلم بإسلامه كثير من قومه ، ولم يقف أثر هذا التسامح في المعاملة عند إسلام ثمامة وقومه بل كانت له آثار بعيدة المدى في تاريخ الدعوة الإسلامية ، فقد ذهب مكة معتمرًا ، فهمَّ أهلها أن يؤذوه ولكنهم ذكروا حاجتهم إلى حبوب اليمامة ، فآلى على نفسه أن لا يرسل لقريش شيئًا من الحبوب حتى يؤمنوا ، فجهدوا جهدًا شديدًا فلم يرَوا بُدًّا من الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم ( 5 ) .
ترى ماذا كان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم ؟ أيدع ثمامة حتى يلجئهم بسبب منع الحبوب عنهم إلى الإيمان ؟ لا ، لقد عاملهم بما عرف عنه من التسامح ، وأن لا إكراه في الدين ، فكتب إلى ثمامة أن يخلِّي بينهم وبين حبوب اليمامة ، ففعل ، فما رأيكم أيها المفترون ؟ .
ولما فتح النَّبِـي صلى الله عليه وسلم مكة ودخلها ظافرًا منتصرًا كان صفوان بن أمية ممن أهدرت دماؤهم ؛ لشدة عداوتهم للإسلام ، والتأليب على المسلمين ، فاختفى وأراد أن يذهب ليلقي بنفسه في البحر ، فجاء ابن عمه عمير بن وهب الجمحي وقال : يا نبي الله ، إن صفوان سيد قومه ، وقد هرب ليقذف نفسه في البحر فأمِّنه ، فأعطاه عمامته ، فأخذها عمير حتى إذا لقي صفوان قال له : ( فداك أبي وأمي ، جئتك من عند أفضل الناس وأبر الناس ، وأحلم الناس ، وخير الناس ، وهو ابن عمك ، وعزه عزك ، وشرفه شرفك ، وملكه ملكك ) فقال صفوان : إني أخافه على نفسي ، فقال عمير : هو أحلم من ذلك وأكرم ، وأراه علامة الأمان و هي العمامة ؛ فقبل برده ، فرجع إلى رسول الله فقال : إن هذا يزعم أنك أمنتني ، فقال النَّبِـي :" صدق " . فقال صفوان : أمهلني بالخيار شهرين ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بل أربعة أشهر ) ، ثم أسلم بعد وحسن إسلامه ( 6 ) .
فهل بعد هذه الحجج الدامغة يتقوَّل متقوِّل على الإسلام زاعمًا أنه قام على السيف والإكراه ؟!.
----------------------------
( 1) ( صحيح ) : أحمد 22469، مسلم 1731، أبو داود 2612، الترمذى 1408، ابن ماجة 2858.
( 2 ) فتوح البلدان 129.
( 3 ) ( صحيح ) : البخارى 25، مسلم 22، أبو داود 1556، الترمذى 2609، النسائى 2443، أحمد 68.
( 4 ) ( صحيح ) : البخارى 462، مسلم 1764، أبو داود 2679، النسائى 189، أحمد 9523.
( 5 ) راجع قصة إسلامة ، ابن كثير البداية والنهاية 5/45، ابن هشام السيرة النبوية 6/35
( 6 ) راجع قصة دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة ، ابن كثير البداية والنهاية 4/306، ابن هشام السيرة النبوية 3/213.

عبد الله نفاخ
27/05/2010, 01:46 PM
وإذا نظرنا بعين الإنصاف إلى الذين حملوا حديث المقاتلة على وثنيي العرب ، لا نجدهم جافوا الحق والعدل ، فهؤلاء الوثنيون الذين بقوا على شركهم لم يدعوا وسيلة من وسائل الصد عن الإسلام إلا فعلوها ، ثم هم أعرف الناس بصدق الرسول ، فهو عربي من أنفسهم والقرآن عربي بلغتهم ، فالحق بالنسبة إليهم واضح ظاهر ، فلم يبق إلا أنهم متعنتون معوِّقون لركب الإيمان والعدل والحضارة عن التقدم .

جزاك الله كل خير......
فهذا المعنى على غاية في الروعة للحديث .............. فهؤلاء المشركون ليسوا مشركين فحسب ........... بل هم الأعداء الذين لا يتركون وسيلة لمحاربة الإسلام إلا يفعلونها ............. و هنا ينبغي ربط الحديث بظرفه التاريخي .............. و بصراحة أنا أتوقف كثيراً عند قوله عليه الصلاة و السلام (أمرت) مع أنه في أحاديثه الأخرى عادة لا يستعمل أسلوب المتكلم المفرد في الأوامر، بل يستعمل صيغة الجمع المخاطب و الجمع المتكلم .......... أرجو أن تصححوا لي إن رأيتم في كلامي خطأ ...... و الرسول عليه الصلاة و السلام قبل الجزية من مجوس هجر كما في صحيح البخاري ......... و كما يقول ابن القيم و ليس دين المجوس بخير من دين مشركي العرب ، بل هو أشنع ، فهؤلاء يعبدون النار ، أما أولئك فيعبدون الله و يجعلون له شركاء ....... على كل لست أهلاً للكلام في هذا و ما أقوله ليس إلا تصورات أرجو تصحيحها منكم إن لمستم فيها أخطاء ............. و كل الشكر و المودة لكم

عبد المنعم جبر عيسي
01/06/2010, 05:58 PM
وعن المحور الرابع والأخير الذى اعتمده الأستاذ عماد حسن أبوالعينين ؛ فى دحضه لفرية انتشار الإسلام بالسيف قال : ثم { إن من أُكره على شيء لا يلبث أن يتحلل منه إذا وجد الفرصة سانحة له } بل ويصبح حربًا على هذا الذي أكره عليه ، ولكن التاريخ الصادق يكذب هذا ، فنحن نعلم أن العرب - إلا شرذمة تسور الشيطان عليها - ثبتوا على ما تركهم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحملوا الرسالة ، وبلَّغوا الأمانة كأحسن ما يكون البلاغ إلى الناس كافة ، ولم يزالوا يكافحون ويجاهدون في سبيل تأمين الدعوة وإزالة العوائق من طريقها حتى بلغت ما بلغ الليل والنهار في أقل من قرن من الزمان ، ومن يطَّلع على ما صنعه العرب في حروبهم وفتوحاتهم لا يسعه إلا أن يجزم بأن هؤلاء الذين باعوا أنفسهم رخيصة لله .
ثم ما رأي هؤلاء المفترين على الإسلام في حالة المسلمين لمَّا ذهبت ريحهم ، وانقسمت دولتهم الكبرى إلى دويلات ، وصاروا شيعًا وأحزابًا وتعرضوا لمحن كثيرة في تاريخهم الطويل كمحنة التتار ، والصليبيين في القديم ، ودول الاستعمار في الحديث ، وكل محنة من هذه المحن كانت كافية للمُكرَّهين على الإسلام أن يتحللوا منه ويرتدوا عنه ، فأين هم الذين ارتدوا عنه ؟ أخبرونا يا أصحاب العقول !!.
إن الإحصائيات الرسمية لتدل على أن عدد المسلمين في ازدياد على الرغم من كل ما نالهم من اضطهاد وما تعرضوا له من عوامل الإغراء ، وقد خرجوا من هذه المحن بفضل إسلامهم وهم أصلب عودًا وأقوى عزيمة على استرداد مجدهم التليد وعزتهم الموروثة .
بل ما رأي هؤلاء في الدول التي لم يدخلها مسلم مجاهد بسيفه ؟ وإنما انتشر فيها الإسلام بوساطة العلماء والتجار والبحّارة كأندونيسيا ، والصين ، وبعض أقطار إفريقيا ، وأوروبا وأمريكا ، فهل جرَّد المسلمون جيوشًا أرغمت هؤلاء على الإسلام ؟ ألا فليسألوا أحرار الفكر الذين أسلموا من أوروبا وغيرها ، وسيجدون عندهم النبأ اليقين .
لقد انتشر الإسلام في هذه الأقطار بسماحته ، وقربه من العقول والقلوب ، وها نحن نرى كل يوم من يدخل في الإسلام ، وذلك على قلة ما يقوم به المسلمون من تعريف بالإسلام ، ولو كنا نجرد للتعريف به عشر معشار ما يبذله الغربيون من جهد ومال لا يحصى في سبيل التبشير بدينهم وحضارتهم ، لدخل في الإسلام ألوف الألوف في كل عام ، ولن ترى - إن شاء الله - من يحل عروة الإسلام من عنقه أبدًا مهما أنفقوا في سبيل دعاياتهم التبشرية ، وبعثاتهم التعليمية والتنصيرية "( 1 ) .
" ومن أعظم الردود فى هذا المضمار لغة الأرقام والحصر ؛ فالذى يحصى عدد حروب الرسول صلى الله عليه وسلم فسيجدها عشرين ؛ ما بين سرية وغزوة وبعث ، على مدار عشر سنوات هى عمر الدعوة فى المدينة ، وسيجد أن عدد القتلى من الجانبين ؛ المسلمين والمشركين لا يتعدى 386 قتيلاً !! ، وهذا العدد لا يتعدى قتلى حوادث المرور فى قرية صغيرة فى أمريكا خلال شهر أو شهرين .
فى حين كان عدد القتلى بين طائفتين فى الديانة المسيحية ؛ وهما الكاثوليك والبروتستانت فى أوربا فى القرون الوسطى وعلى مدى قرنين من الزمان بلغ عشرة ملايين طبقًا لإحصاء فولتير !! " ( 2 ) .
فأى حديث بعد حديث الأرقام والواقع يمكن أن يقال ؟!!
----------------------------------
( 1 ) د/ منقذ السقار ، موقع www/haridy.com فى 25/12/2001.
( 2 ) هذا الإحصاء مستفاد من د/ محمد عمارة .