المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : آخر قفزات السلمون



كاظم الحمامي
14/09/2009, 12:09 AM
على ضفاف شط العرب




آخر قفزات السلمون





نشر الموضوع في جريدة الزمان بعددها 3397 في 13/9/2009




كاظم فنجان الحمامي

شاءت الأقدار أن التحق بصفوف المدرسة المهنية البحرية في بداية نشأتها عام 1972, وهي أول مدرسة بحرية عراقية نموذجية من كل الوجوه, وربما يصاب المرء بالذهول من غرابة وقسوة نظامها الداخلي المتشدد, فقد انقطعت صلتي بالعالم منذ اليوم الأول, وكانت إدارتها تسمح لنا بزيارة عائلاتنا في نهاية الأسبوع لسويعات قليلات فقط, ثم نعود بعدها للمبيت في المدرسة, وكأننا نعود من شواطئ المدينة لنلتحق بسفينتنا المهيأة للإبحار بأشرعتها المرفوعة بوجه الريح لمواصلة رحلتها التعليمية الطويلة, التي امتدت لأكثر من حولين كاملين, من دون أن تتوقف ولو للحظات في محطات الاستراحة, كان جدولنا اليومي مزدحما بالدروس والواجبات من الصباح الباكر وحتى منتصف الليل, كنا ننهض قبيل بزوغ الشمس, لنمارس الهرولة والرياضة الصباحية في رحاب مدينة المعقل, التي تتدثر في الفجر ببقايا أريج ملكة الليل, وعطور أزهار الدفلى, نجري في الهواء الطلق, فنسابق الريح, ونتحرر قليلا من قيود المدرسة وضوابطها الصارمة, ثم نعود إلى مختبرات التدريب العملي, وقاعات التعليم المكثف, بإشراف رجال أكفاء حملوا راية العلم والمعرفة, وآمنوا بتربة العراق وقدرات شبابه الواعدة.
http://www.up.6y6y.com/uploads/a09d3afd82.bmp (http://www.up.6y6y.com)


التقطت لي هذه الصورة عام 1974 في ريو دي جانيرو


أذكر منهم الكابتن عصام عمسو بغليونه المشبع بنكهة التبغ الكوبي الفاخر, والكابتن طارق عبد الصمد النجم بتقاطيعه الحازمة, وأوامره العسكرية الفولاذية, والكابتن مثنى القرطاس بحكمته المعهودة, ونظرته الثاقبة, والكابتن ماجد عبد القادر بأفكاره المستفيضة عن كيمياء النار وسلامة السفن, والكابتن جبار سعيد حسون بعذوبته ولطافته, والكابتن هاشم فاضل بأسلوبه الساخر المشوب بالجدية المفتعلة, ورئيس المهندسين يشار رفيق خورشيد بلكنته التركمانية الساحرة, وأسلوبه الفريد في تبسيط نظريات المكائن والمحركات, ومنظومات الدفع في السفن القديمة والحديثة, والكابتن وفاء الجنابي ومتابعاته اليومية الدقيقة, والكابتن سمير الركابي وروحه الشبابية, والدكتور ألبير كريكور ومحاضراته عن الوقاية الصحية. إنهم فرقة زلزالية اختيروا من خيرة الرجال الأفذاذ, الذين كان لهم الفضل الكبير في إعداد وتأهيل أربع دفعات من الكتائب الفتية المخلصة, والملاكات التخصصية الجاهزة للعمل على السفن المتنوعة.
كان الخريجون يعملون كأسراب اسماك السلمون, ويندفعون دائما إلى الأمام في إصرار عجيب نحو تسجيل المآثر والبطولات, فجاءت النتائج شهدا طيبا تذوقته أساطيلنا في العقود الأخيرة من القرن الماضي, ثم واصلوا تعليمهم الجامعي في الكليات والمعاهد البحرية, ونالوا ارفع الدرجات العلمية في الفنون البحرية والملاحية والهندسية. فتحملوا المسئوليات الجسام, وتسلقوا سلم التفوق الوظيفي, وامتطوا قمم المناصب القيادية العليا والوسطية, وكان لهم الدور الفاعل في تخطي العقبات, وتشغيل الأسطول البحري العراقي وإدارته. فمنهم من حصل على درجة الدكتوراه في العلوم البحرية (د. محمد صابر الموسوي, د. حسن علي موسى), ومنهم من صار مديرا عاما لأقدم وأكبر المؤسسات البحرية العراقية (الكابتن أحمد هاشم عباس, مديرا عاما للنقل المائي والموانئ), ومنهم من صار مديرا لأكبر الموانئ العراقية (حميد ثامر حليحل, وعادل خلف لفتة, وعبد الكاظم مزيد مهاوي, وناجي منصور يعقوب, وحامد بخيت عبد الله), ومنهم من أصبح ربانا دوليا مرموقا (شهاب حمزة عباس, ورياض جاسب), خاض غمار البحار والمحيطات البعيدة بفطنته ومهارته, ومنهم من أصبح مديرا للدراسات والبحوث, ومحاضرا في جامعة البصرة (عبد الحسن جاسم علي), ومنهم من يعمل الآن خبيرا في الدول الأوربية (محمد سعيد العاتي, ورياض عبد الصمد الجبوري), ومنهم من كان متميزا في تشغيل وإدارة الناقلات, والسفن الكبيرة, والقوارب الخدمية, وأحواض التسفين, وورش الصيانة, وواصل أغلبهم رحلة التدريب والتعليم العالي بخطوات ثابتة, فنجحوا, وتفوقوا, واستحقوا الامتيازات العالية, التي ارتقت ببعضهم إلى مراتب مشرفة, وشهدت لهم بهذا انجازاتهم الرائعة, وقدراتهم المتميزة على تحمل الصعاب, وكانوا جنودا مجهولين, افنوا زهرة شبابهم في الأعمال الشاقة, وقدموا أنموذجا طيبا للخبرات المحلية الفذة, وكان لهم الدور الكبير بانتشال الموانئ العراقية من مأزقها الذي مرت به في منتصف عقد السبعينات من القرن الماضي. وما واجهته من أزمات خانقة اضطرتها للتعاقد مع الربابنة والمهندسين العرب, لإشغال الفراغ الذي خلفته هجرة الملاكات البحرية المحلية, وتغطية حاجتها لتطقيم سفن أسطول الحفر الجديدة. فانبرى أبناء المدرسة المهنية البحرية لهذه المهمة الصعبة, واستطاعوا بجرأتهم ونباهتهم المعهودة التصدي للمسئولية الجديدة, ثم ظهرت منهم شريحة متفوقة في إرشاد السفن الأجنبية الوافدة, وشريحة أخرى انفردت بتشغيل وإدارة سفن القطر والسفن الخدمية, ومجاميع أخرى أخذت على عاتقها إدارة أسطول صيد الأسماك في السواحل الموريتانية والمياه اليمنية, وشرائح أخرى راحت تواصل جهودها الاستثنائية في صيانة المحركات البحرية الجبارة.
http://www.arabswata.org/up//uploads/images/watafea7df1309.jpg (http://www.arabswata.org/up//uploads/images/watafea7df1309.jpg)


لم أغادر مقاعد الدراسة منذ تخرجي


أما أنا فلم أغادر مقاعد الدراسة منذ تخرجي, ومازلت أواصل البحث والدراسة والمراجعة والتنقيب والكتابة, وأتوق لمغادرة المياه المالحة نحو الشلالات العذبة رغم صخبها وضجيجها, وأحيانا أسبح منفردا ضد التيارات العنيفة كما السلمون في صعوده إلى منابع الأنهار العليا, هكذا كنت أحث الخطى لأغترف من انهار المعرفة وعيونها ومنابعها الصافية, لكنني استجمع قوتي الآن استعدادا للقيام بآخر القفزات نحو محطات إيقاظ الوعي البحري الوطني المغيب.