المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المواوية



محمد العدوي
26/08/2009, 07:14 AM
يسبقها صوتها إلى البيت الذي تعزم طرقه: "جاية من عند سيدي الحاج محمد أبو إبراهيم شيخ تجار البحر الصِّغير واداني جبة وقفطان لسلامة ابني ولحمة وفطير وجبنة كتير"


فإذا فُتح لها انصرفت تدعوا بحسنات كثيرة مسجوعة تختمها بقولها: "والدعا الطيب من نصيب ابني سلامة"

وحين تقارب بيتا تعلم أنه لا يفتح لها يكون من قولها: " يجري ورا الفار مشوار ويقول دا فردة حمام".. وإن قلت العطية عما اعتادته فـ "الفلفل بالوقية والجير بالقنطار" .. وإذا أغلق دونها باب تنصرف تعدد من سيئات أهله ما عهد عنهم وما لا يعمله إلا هي.

وأم سلامة تعلم أين يخبئ القرد ولده. تحصي على الناس أعمالهم الظاهرة والباطنة. الحسن والسيئ وتذكر ذلك كله حين ينساه أصحابه.

وأكثر ما يظهر منها ذلك في المياتم التي لا تفوتها أبدا. تبدؤها بتعديد حسنات قليلة يتشابه فيها الناس جميعا ثم يكون التعديد على حسب العطية التي تأخذها. وأم سلامة لا تحفظ لسانها عن عرض أحد مهما كان ولو علم الناس صلاحه واستقامته مادامت العطية لا تملأ عينها.

وقد سمعتها مرة في مأتم شاب أعرفه تولول: "امشي يا ولية يا جعانة يا عدمانة. يا اللي بتاكلوا التلاتة في رغيف وبتتغطوا الأربعة بلحاف. هو ميتكوا هيورد على جنة. دا كان طول النهار يعاكس بنات الناس ع الكوبري وكان زانق البت بنت أبو ...."

وإزاء ذلك تنحو بها الخادمة وهي تسألها : جرا إيه يا أم سلامة، الناس ف إيه ولا ف إيه؟!

"ياختي .. هو أنا بشحت، هو سلامة ابني مقامه نص فطيرة برضو .. أنا عاوزة فطيرتين وجبنة فلاحي وجبنة م الدكان ومِش وعسل أسمر."

"طب خلاص .. أقعدي هنا لحد ما أجيبهملك".

وتسرع تعد لها طلبها الذي تأخذه وهي تقول: " شايفاه وهو رايح يصلي الفجر من يومين وقاللي يا خالة أم سلامة ادعيلي .. مقامه كبير قوي عند ربنا"

كأنها كتاب أعمال الناس حي بين أعينهم. تعرف الرجال الذين يترددون على بيت صباح العالمة، والذين يسهرون عند عبده القهوجي. تعرف الذين يصلون الفجر والذين يسرقون أحذية الناس يوم الجمعة. تعرف ماذا يأكل الناس في بيوتهم وماذا يشربون. بل وتعرف أيضا متى تحيض النساء ومتى يصافين أزواجهن.

وكل الناس يتقينها خشية لسانها فلا تبدو لأحد إلا بادرها بعطية يشتري بها صمتها إن لم يشتري كلمة حسنة من لسانها.


وأم سلامة لم تترك بيتا إلا دهلته بلسانها إن لم تدخله بقدمها. ورغم أن الناس كانت تعلم أن حديثها أوله من معدتها وآخره من خيالها إلا أنه كان يجد مكانا بارزا في حكايات المجالس بعد ذلك. فابنة محسن العطار كانت مع ابن هنيدي في الزراعة ساعتين فعلا فيها وفعلا. ومحمود الذي يزرع أرض العنانية يسرق من محصولها ما لا يدركه أحد. وحسن تزوج في البندر من غازية تعرفها. وعلى ذلك كان الناس مولعين بحكاياتها وهم يخافون أن يمسهم منها شيء.

ولما كبر سنها وعجزت عن التنقل بين البيوت والمآتم كنا نراها عند الجسر أول النهار توزع دعواتها على الركاب الذين ينتظرون السيارة تقلهم إلى المدينة. فكان الناس يخشون دعاءها وهم على سفر وتواردت الحكايات أن من تطلب منه أم سلامة المبروكة طلبا يرده فإنه لا يصل سالما إلى بغيته. فيتحاشاها السائقون والركاب جميعا ويكثرون لها العطايا حين تبدو لهم ولو من بعيد.

وفي الليل كانت تعس بين الحقول تجمع أخبار الذين ضاقت بهم البيوت ووجدوا في الحقول سترا لهم وأمانا، وكثيرا ما انقضت ليلتها بلا فضيحة تصطنع التستر عليها لقاء أجر معلوم فتنام عند باب المسجد حتى توقظها حركة المصلين عند الفجر.

ولما ثقل لسانها ولم تعد قادرة على توزيع الدعوات وغابت عنها الحكايات التي كانت تصنعها والأخبار التي كانت تجمعها، بقي لها وجه لا تزيده الأيام إلا خشونة وعين حمراء غائرة تلمع بين طياته وظهر محني وساق مجهدة جعلتها لا تغادر أبواب السيارات المسافرة على الجسر ولا يراها أحد إلا مد لها يده بشيء خوفا من دعوة صامتة تطلقها إلى السماء عينها الحمراء الغائرة.

* * * * * * * * *


ماتت بعد سنين أم سلامة .. والذين يمرون على القرية اليوم يقرؤون الفاتحة ويطلبون التوفيق عند القبر الذي بني حوله الجامع الكبير. وقليلون هم الذين يعرفون أن أم سلامة الولية المبروكة التي بني حولها المقام إنما هي أم سلامة المواوية التي خاضت في سيرهم جميعا ولم يستطع أحد أن يخوض في سيرتها حتى بعد موتها خشية غضبتها المبروكة.

خليد خريبش
30/08/2009, 06:36 PM
مرحبا بك أخي الكريم،أهلا وسهلا محمد العدوي.نشكرك على هذه المساهمة.